مقدمة الكتاب

محمد إقبال شاعرٌ نابغة، وفيلسوف مبدع، احْتُفِلَ في باكستان وغيرها في نيسان الماضي بالذكرى الرابعة عشرة لوفاته. وذِكْره يَشيع، وصِيتُه يَذيع على مرِّ الأيام، ولا سيما منذ نشأت دولة باكستان، وهي حقيقة تخيَّلها والناس منه يضحكون، ويقظة حلم بها واليائسون به يتفكهون.

احتفى الناس بذكراه كل عام، وكثرت المجامع في كل ذكرى تُشيد بدعوته، وتدعو إلى رسالته، وشرع أدباء الأمم يعنون بترجمة شعره إلى لغاتهم.

وقد سُئِلت أن أكتب في سيرته وفلسفته وشعره كتابًا مجملًا، أجعله مقدمة لتفهم دواوينه التي ترجمتها إلى اللغة العربية. فأجبت على العِلَّات، وعلى كثرة الشواغل.

وأنا لا أُدْعَى إلى إقبال إلا لَبَّيْت؛ استجابة لما في نفسي من عشقٍ وإكبارٍ لهذا الشاعر الفيلسوف المؤمن.

وهذه مقدمة أُقدِّمها تعريفًا به. أُقدِّم فيها ما يُقَرِّبُ إلى القارئ صورتَه ويُجمِل له دعوته؛ ليتهيَّأ لقراءة هذا الكتاب طلبًا للتفصيل، ورغبةً في المزيد، وشوقًا إلى شعرٍ بِدْع وفلسفةٍ أُنف، وإعجابًا بالفكر المحلِّق، والمفكِّر الحر، والفيلسوف الذي لا يَسير مع الزمان، ولا يخضع لِتقلب الحدثان، والشاعر الذي يَنفخ الحياة في المَوات، ويبعث في القفر ألوان النبات، ويُشعِل الجمر الخامد، في الرَّماد الهامِد.

أُبيِّن في هذه الكلمات كيف سمعتُ بإقبالٍ اسمًا مُبهمًا وقولًا مُعجمًا، وكيف زادت معرفتي به على مرِّ الزمان حتى وقعتُ في بحره وسبَحتُ في لُجِّه، ثم أويتُ إلى الساحل أنظر العبابَ الزاخر، والآذيَّ الثائر، وأصف ما أرى لمن لم يعرفه معرفتي، ولم يولَع به وَلوعي.

سمعتُ وأنا في بلاد الإنكليز، قبل وفاة الشاعر بأكثر من عشر سنين، أن في الهند صوفيًّا اسمه إقبال له نظراتٌ في التصوُّف، وله فلسفة في النفس، وأنَّ ذكره جاء في بعض المجلات الأوروبية، وكلامه نُشر فيها. وأنا نزَّاعٌ إلى الصوفية منذ نشأتُ. وزادني معرفةً بها ورغبةً فيها وحبًّا في المزيد منها؛ أنْ تعلمتُ اللغة الفارسية وقرأت الشعر الفارسي. وأعلامُ شعراء الفرس وأشدُّهم استيلاءً على النفوس واستحواذًا على القلوب هم الصوفية منهم. وقد أثَّروا تأثيرَهم في الشعر الفارسي حتى لا يخلو شاعرٌ فارسيٌّ من نفحة صوفية.

لبثتُ متشوقًا إلى إقبال؛ أخباره وشعره وفلسفته. على قِلَّة ما سمعتُ عنه، وعلى غموضه وعلى كثرة شواغلي.

وما أحسب علمي به زاد على هذه النُّتَفِ من الأخبار، حتى صحبتُ الصديق الشاعر محمد عاكف رحمه الله — وكان صديقي ورفيقي وأنيسي في حُلوان دارِ إقامتِنا، وفي جامعة القاهرة — فأراني يومًا ديوان پيام مشرق أحد دواوين الشاعر إقبال، وما قرأت من قبل ولا سمعتُ من شعر إقبال كثيرًا ولا قليلًا.

وقال محمد عاكف: إن صديقًا — وأحسبُه سفير تركيا في أفغانستان يومئذٍ — أرسلَه إليَّ. فأقبلنا على الديوان نقرأ معًا فنُعجَب بالفكر والشعر، وننتقل في روضة أنُف تَلقى العينَ والنفسَ بهجتَها من النُّوَّار والزهَر، مختلف الألوان والأشكال، مُؤتلف الرَّونق والجمال.

عرَفتُ إقبالًا في كلامه يومئذ، ولكنها معرفةُ مَن قرأ قليلًا من كلامه، غير خبيرٍ بعباراته. ولا عارفٍ بإشاراته ولا مدرك فلسفته ومذاهبه ودعوته ومقاصده.

ولا تزال نسخةُ پيام مشرق التي أعارني إياها الصديق محمد عاكف عندي عليها علاماته في مواضع الإعجاب. أو مواضع السجود من الشعر كما قال الفرزدق،١ وهي عند ذكرى اللقاء الأول، لقاء إقبال في ديوان رسالة المشرق، وذكرى شاعر الإسلام محمد عاكف.

ثم أَهدى إليَّ أحد مسلمي الهند — وقد عرف حبِّي إقبالًا وحرصي على الاستزادة من كلامه — المنظومتين: أسرار خودي ورموز بي خودي. فرأيت فيهما أسلوبًا بِدْعًا من الفلسفة التي سمَّاها فلسفة خودي «الذاتية»، وطريقةً عَجَبًا في الشعر، ومذهبًا مُعجِبًا في التأليف بين مذهبه وبين الإسلام؛ عقائِدِه وفلسفتِه وحضارتِه وتاريخِه. وما زال أصحابي في بلاد العرب والعجم يُتحفونني بما تناله أيديهم من دواوين إقبالٍ، فأزداد معرفةً به وإعجابًا وحبًّا وغرامًا.

وشَرَعْتُ أنْشرُ ترجمةً منثورة لشعره في مجلة الرسالة. ولا أدري كم واليت نشر قِطَع من شعر إقبال وعرَّفت به. وقد دُعيتُ قبل وفاة الشاعر ببضع سنين وأنا في مدينة الإسكندرية إلى التحدث عنه. وكان الأدباء في بلاد العرب عَرَفوه بي، وعَرفوني به. فتحدثتُ بما راع السامعين من فلسفة الشاعر وشعره.

وشرعتُ سنة ١٩٣٦م أنظمُ منظومة سَمَّيتها اللمعات، وأهديتها إلى إقبالٍ ونشرت مُقدمتها في مجلة الرسالة.٢

وكان من سعادة الجَدِّ وغِبطةِ العين والقلبِ، أنْ قدِم إقبال مصر في طريقه إلى المؤتمر الإسلامي الذي اجتمع في المسجد الأقصى سنة ١٩٣١م.

ودَعَتْ جمعية الشبان المسلمين إلى الاحتفال بالرجل العظيم. واقترح أستاذنا الشيخ عبد الوهاب النجار — رحمه الله — أن أُقدِّم محمد إقبال إلى الحضور؛ إذ كنتُ — على ضآلة معرفتي — أعْرفُ الحاضرين به. وكان هذا شرفًا لي وسرورًا، وفاتحةً من عالم الغيب لصحبةٍ طويلةٍ، صحبة المُريدِ للمُرشد، والتلميذ للأستاذ، ومُقدمةً لجهدٍ مديد في الكتابة عن الشاعر والحديث عنه، وترجمة دواوينه إلى العربية.

تحدثْتُ ما وسعت معرفتي، وأنشدْتُ أبياتًا من ديوان رسالة الشرق عَلِقتْ بذهني.

وهي بالعربية فيما أتذكرُ:

يا من يطلب في المدرسة المعرفة والأدب والذَّوق! إن أحدًا لا يشرب الخمر في مصنع الزجاج
قد زادت دروس حكماء الفرنج عقلي، وأنارت صحبة أصحاب البصائر قلبي
أخرج النغمة التي في قرار فطرتك. يا غافلًا عن نفسك! أخلِها من نغمات غيرِك.

وكذلك أنشدتُ هذه الشطرات:

يا لك من يراعة
تصورت من نور
مسيرها سلسلة
الغياب والحضور
وسنَّة الظهور

وقلتُ له حين انفضَّ المجلس: لا تؤاخذني، ليس في وسعي أن أنشد شعرك خيرًا مما أَنشدت. فقال: حسن! أنشدتَ صحيحًا. ووقف إقبالٌ بعد أن عَرَّفتُ الحاضرين به تعريفًا موجزًا، فتكلم بالإنكليزية في أحوال المسلمين وتطور الفكر الإسلامي، وأفاض ما شاء علمه وبيانه. ومما وعيتُه من هذا الكلام قوله عن الصوفيَّة: إنَّهم علماء النفس بين المسلمين.

وقد وُكل إلى الأستاذ محمد الغمراوي أن يسجِّل خلاصة خطاب إقبالٍ ويقرأها على الحضور. فكتب وحاول أن يترجم ما كتب ارتجالًا، ثم رأى أن يترجم على روِيَّة وينشر الترجمة في مجلة الشبان المسلمين. وقد حرصت على لقاء الشاعر من بعد، ولكن ضِيق الوقت قبل سفره إلى القدس لشهود المؤتمر الإسلامي لم يُبلِّغني ما حرصتُ عليه إلا لقاء للوداع في محطة القاهرة.

ولبثتُ أكتبُ عن إقبالٍ، وأترجم من شعره ما وسع وقتي، وعلى قدر فقهي وعلمي بسيرته حتى نُعِيَ إلينا في نيسان من سنة ١٩٣٨م.

فكان كما قال أبو تمَّام: أصم بك النَّاعي وإن كان أسمعًا.

وقد احتفلت جماعة الأُخوة الإسلامية بتأْبينه — وكنت يومئذٍ رئيس الجماعة — فكان لها حفلتان بقبة الغوري وجمعية الشبان المسلمين، وتكلمتُ في الحفليْن وأنشدتُ من منظومة اللمعات التي نظمْتُها وأهديْتُها إلى إقبالٍ. وأنشدت قصيدةً ترجمتُها من ديوانه «بانگ درا». وكان مما قلت في أحد خطاباتي في تأبين الشاعر العظيم:

في اليوم الحادي والعشرين من شهر نيسان/أبريل سنة ١٩٣٨م، والساعة خمسٍ من الصباح، في مدينة لاهور، مات رجلٌ كان على هذه الأرض عالمًا روحيًّا يُحاول أن يُنشِّئ الناس نشأة أُخرى، ويسنَّ لهم في الحياة سُنَّة جديدة.

وسكنَ فكرٌ جوَّال جمع ما شاءت له سعته من معارف الشرق والغرب، ثم نقدها غير مستأسر لما يُؤثَر من مذاهب الفلاسفة، ولا مستكين لما يُروَى من أقوال العظماء.

ووقف قلبٌ كبير كان يحاول أن يصوغ الأمة الإسلامية من كل ما وعى التاريخ من مآثر الأبطال وأعمال العظماء.

وقرت نفسٌ حرة لا يحِدُّها زمان ولا مكان، ولا يأسِرُها ماضٍ ولا حاضرٌ. فهي طليقة بين الأزل والأبد، خفَّاقة في ملكوت الله الذي لا يُحَدُّ.

مات محمد إقبال الفيلسوف الشاعر الذي وهب عقله وقلبه للمسلمين وللبشر أجمعين، الرجل الذي يُخيَّلُ إليَّ — وأنا في نشوة شعره — أنه أعظم من أن يموت وأكبر من أن يناله حتى هذا الفناء الجثماني.

فاضت روح الرجل الكبير المحبوب في داره بلاهور، ورأسه في حجر خادمه القديم علي بخش، وهو يقول: إني لا أرهب الموت، أنا مسلمٌ، أستقبل المنيَّة راضيًا مسرورًا.

قرأتُ كلام إقبال في الحياة والموت، ورأيت استهانته بالحِمام واستهزاءه بالذين يَرهبونه. ما كان هذا خُدعة الخيال ولا زخرف الشعر؛ فقد صدَّق إقبالٌ دعوته في نفسه حين لقِيَ الموتَ باسمًا راضيًا.

جدَّ المرضُ بإقبالٍ وكان يقترب إلى الموت وهو مُتَّقِد الفكر قويُّ القلبِ، يَصوغ عقله كلمات يُوقظ بها النفوس النائمة، وينثر قلبه شررًا يُشعل به القلوب الخامدة. وكان في شغلٍ بنَظْم ديوانه الأخير «أرمغان حجاز»؛ هدية الحجاز، وكان قلب الشاعر يهفو إلى الحجاز. وكم تمنى أن يموت فيه. وقد ضمَّن هذه الأمنية دعاءه في كتابه رموز بي خودي.

ومما قال في أشهره الأخيرة:

آية المؤمن أن يلقى الردى
باسم الثغر سرورًا ورضى

وقد أنشد هذين البيتين — وهما مما أنشأ أخيرًا — قبل الموت بعشر دقائق وترجمتهما:

نغمات مضين لي هل تعود
أنسيمٌ من الحجاز يعود؟
آذنت عيشتي بوشك رحيل
ألعلم الأسرار قلب جديد؟

وقد زرتُ من بعدُ قبرَه وداره. ولقيت ولده جاويد وخادمه علي بخش وسيقرأ القارئ هذا في الفصول الآتية.

ولمَّا سافرتُ إلى مدينة دلهي عام ١٩٤٧م، عزمتُ على السفر إلى لاهور، على بُعد المشقة وظهور الفتن والقلق في أرجاء الهند. وما كان مثلي، وقد قَدِمَ الهند، ليصبرَ عن زيارة ضريح إقبالٍ ودارِه. فأعددتُ للسفر إلى لاهور، ونظمت أربعة أبيات، وسألتُ نقَّاشًا في دلهي القديمة أن ينْقُشَها على لوْح من الرخام، وحملتها معي وسلمتها إلى القُوَّام على ضريح إقبالٍ لتوضع هناك. والأبياتُ:

عربيٌّ يَهدي لروضك زهرًا
ذا فخارٍ بروضه واعتزازِ
كلماتٍ تضمَّنت كل معنى
من ديار الإسلام في إيجاز
بلسان القرآن خطت ففيها
نفحات التنزيل والإعجاز
فاقبلنها، على ضآلة قدري
فهي في الحق «أرمغان الحجاز»

و«أرمغان الحجاز» في البيت الأخير معناها هدية الحجاز، وهو اسمُ آخِر منظومةٍ نَظَمها إقبالٌ. وقد نُشرت بعد وفاته.

وكان من عجائب الاتفاق أن بَلَغْتُ لاهور قبل ذكرى وفاة إقبال بيومين، ولم أكن أعرف موعد هذه الذكرى، وكانت حفلة لي ولوفد من إيران رئيسه الصديق علي أصغر حكمت، عند ضريح إقبال، وكانت حجرة الضريح لم تُكمل بناء.

وقد ألقيت كلمة في هذا الاحتفال جاء فيها:

إقبال!

يا شاعر الإسلام! أنرت مقاصده، وجلوْت فضائله وأضأْتَ سِراجَه، وأوضحت منهاجه، ودعوتَ المسلمين إلى المجد الذي يُكافئ دعوتهم، ويلائم سنتهم، ويناسب تاريخهم.

إقبال!

يا شاعر الشرق! أَشدتَ بمآثره، وفخرت بروحانيته، وأخذت على الغرب المادية الصماء، والغرور والكبرياء، ونقدتَ قادته، وزيَّفت سادته، دحضت باطلَهم، وأبطلت سحرهم، ووقفتهم للحساب العدل، وأبنت ما لهم وما عليهم، وما أحسَنوا وما أساءوا.

إقبال!

يا شاعر الحياة! عرفت معناها وكشفت عن قُواها، وبصُرت بمجراها ومنتهاها، وأوضحت منارها وصُواها.

إقبال!

يا شاعر النفس! أثرت خفاياها، وأظهرت خباياها، وأبنْت ما في «خودي» من كهرباء، فيها القوة والنار والضياء، ودعوت إلى إثارة معادنها، واستخراج دفائنها. وقلت:

أخرج النغمة التي في قرار فطنتِك، يا غافلًا عن نفسك! أخليها من نغمات غيرك.

إقبال!

يا شاعر بيخودي! أوضحت كيف يكون الإيثار، وكيف ينظم الفرد في الجماعة.

إقبال!

يا شاعر الحرية! أشَدت بذكرها، وأكبرت من قدرها، ودعوت إليها كاملة، وأردتها شاملة، وأبغضت العبودية في شتَّى مظاهرها، ومختلف صورها.

إقبال!

يا شاعر الجهاد والدَّأب، والكدْح والنصَب. قُلتَ إنَّ الحياة جهادٌ مستمر، وكفاح لا يَستقر، وإنَّ الحياة في الموج الهائل، والموت في سكون الساحل.

إقبال!

يا شاعر التجديد والتقدم! قلت إنَّ الحياة مجدَّدة تَكره التكرار، ومُقدِمة تأبى التقهقر. ودعوتَ الإنسان أن يمضي قُدمًا في الحياة مُقدِمًا، له كل حين فكرة، وفي كل ساعةٍ نغمة. وبَيَّنْتَ أن الإقدام والابتكار، هما فرقٌ ما بين العبيد والأحرار.

إقبال!

يا شاعر الجمال!

صورته في الأرض والسماء، واليبَس والماء، وفي الصحاري الجرداء، والحدائق الغنَّاء، وفي الصبح والمساء، والضياء والظَّلماء، وصوَّرته في كلِّ خُلُق كريم، ومنهَج قويم.

إقبال!

يا شاعر الجلال! جلوته في الخالق والخليقة، وفي الهمم العالية، والعزائم الماضية، والأماني الكبيرة والمقاصد الجليلة.

إقبال!

أيها الشاعر المُلهَم! بانت لك الأسرار، ورُفِعت عن الغيوب لك الأستار. فرأيت الباطن كالظاهر، وأدركتَ المستقبل كالحاضر.

إقبال!

يا شاعر الإسلام، ويا شاعر الشرق، ويا شاعر الحياة، ويا شاعر الإنسانية، ويا شاعر الحرية والجهاد والتقدم والإقدام، ويا شاعر الجمال والجلال!

لقد حيَّيْتُك على بُعد الديار وشَطِّ المزار، وأشدتُ بذكرك وعرَّفتُ بقدْرِك وأهديتُ إليك اللمعات، جوابًا لمنظومتيْك «أسرار خودي» و«رموز بي خودي».

وأنا اليوم أُحيِّيك على القرب. وسيَّان في عَظمَتِك القريب والبعيد. إن هذا الضياء لا يَقيس المسافات، ولا تَبعد عليه الغايات.

إن هذا الفكر الذي يطوي الآفاق، ويخترق السَّبع الطباق، لا تختلف عنده الأرجاء، فالداني والنائي لديه سواء.

كان مُناي أن أزورك في حياتك، ثم تمنَّيت أن أزور ضريحَك بَعد مماتك. وهأنذا أَشرُفُ بأن أُلقِي أمامك هذه الكلمات، وأَوْدِع ضريحك هذه الزهرات:

عربي يهدي لروضك زهرًا
ذا فخار بروضه واعتزاز

«الأبيات المُثبتة [سابقًا]».

لقد ضَمنتْ لك آثارُك الخلودَ في هذه الدنيا، وعند الله جزاؤك في الأُخرى، جزاء المجاهدين المخلصين.

وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ.

ثم ذهبتُ أنا والصديق علي أصغر حكمت إلى دار إقبال، التي سكنَها آخر عمرِه ومات فيها، وهي دار صغيرة المبنى كبيرة المعنى، تأخذُها العينُ في نظرة، ويسافر فيها الفكر إلى غير نهاية.

وقابلنا هناك جاويد، وهو ابن الشاعر. ذكره في كثير من شعره، وأعرب عن أمله فيه، ورجائه في مخايله، وسَمَّى باسمه المنظومة الرائعة «جاويد نامه». وجاويد معناه الخالد.

ورأينا حجرةً كان الشاعر الخالد يكتب فيها شعره ومقالاته، وفيها فاضت روحه. وهي حُجرةٌ يستطيع شاعرٌ بليغٌ أن يُفصِّلَها أبياتًا خالداتٍ، وقصائد سائرات.

لبثنا حِينًا في الدار ذات الذِّكَر والعِبَر نُحدِّث جاويد. وأهدى إلينا صورة والده. وإنها لذكرى عظيمة: صورة إقبال يهديها ابن إقبالٍ في دار إقبالٍ.

وكان علمي بإقبالٍ يزداد على مر الزمان، فيزداد شغفي به، وإكباري إياه، وإيماني بمذهبه في هذه الحياة. فترجمتُ من شعرِه، وهممتُ بأن أترجم ديوانًا من دواوينه، فلم يتَّسع وقتي، ولا تسنَّى مطلبي.

ولما بُعثت إلى باكستان سفيرًا لمصر هاج نفسي القُرب، ولقيت بين الحين والحين من يُحدِّث عن إقبال ومن رآه؛ فزحزحتُ الشواغل عن ساعاتٍ من الوقت شُغِلت فيها بإقبال. فترجمتُ ديوانيْن من دواوينه؛ ترجمتُ «رسالة المشرق» وطبعتُها في كراجي حين الذكرى الثالثة عشرة لوفاة الشاعر، ثم ترجمتُ «ضرب الكليم» ونشرته في القاهرة حين الذكرى الرابعة عشرة. وأُترجم اليوم — والله المستعان — ديوانيْن: «أسرار خودي» و«رموز بي خودي». وقد قاربت الفراغ منهما والحمد لله. وكم شاركت في الاحتفال بإقبال فقلت وسمعت، وكم جالست أحباء إقبال ومنهم من عاشره ووعى عنه عن كَثَب، وعرف معيشته في داره، ومجالسه بين أصحابه وسمَّاره.

ولا تزال مجالس أصدقاء إقبال تجتمع عندي كل أسبوع مرة أو مرتين، فنقرأ شعره ونروي أخباره، ونستمع إلى حديث العارفين بفلسفته، المتوفرين على استكناه حقائقها واستجلاء أسرارها.

وكثيرًا ما سمعت من هؤلاء الأصدقاء الذين سميتهم دراويش إقبال؛ أن هذه المجالس أحب شيء إليهم في هذه الدنيا، وأنها عندي لكذلك.

هذه كلمة أردت أن أعرِّف بها القراء إقبالًا كما عرفتُه؛ ليقبلوا على قراءة تاريخه وفلسفته وشعره في الفصول الآتية.

١  يُروى أن الفرزدق سمع بيت لبيد:
وجلا السيول عن الطلول كأنها
زُبُرٌ تجد متونها أقلامها
فسجد. فسُئل عن السجود فقال: إنَّا معشر الشعراء نعرف مواضع السجود في الشعر.
٢  نشرت من بعد مع ترجمة رسالة المشرق في كراجي سنة ١٩٥٠م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤