الفصل الأول

أسرته

يرجع نسب أسرة محمد إقبال إلى براهمة كشمير. أسلم أحد أجداده قبل ثلاثة قرون في عهد الدولة المغولية، كُبرى الدول الإسلامية التي قامت في الهند. أسلم هذا الجد على يد الشيخ شاه همداني أحد أئِمة المسلمين في ذلك العصر.

وهاجر محمد رفيق جد محمد إقبال من قرية لوهَر في كشمير إلى مدينة سِيالَكوت من ولاية بنجاب. وكثير من أهل كشمير يهاجرون إلى سِيالَكوت طلبًا للرزق؛ إذ كانت أقرب المدن إلى بلادهم، ومنها ينتشرون في أرجاء الهند. فكثيرٌ من أهل سِيالَكوت يرجعون إلى أصول كشميرية.

حلَّ محمد رفيق في سِيالَكوت ومعه أخوة ثلاثة، أحدهم الشيخ محمد رمضان وكان صوفيًّا ألَّف كتُبًا كثيرةً باللغة الفارسية.

وسعى محمد رفيق في طلب الرزق يُعينه ابنُه محمد نور أبو محمد إقبال.

وقد ذكر إقبال في مواضع من شعره أنه من سلالة البراهمة، لا يفخر بهذا الأصل بل يفخرُ بأنَّ رجلًا من سلالة البراهمة أدرك من حقائق الإسلام وأسراره ما أدرك.

يقول في ضرب كليم يُخاطب «سيدًا مُصابًا بالفلسفة»:

وإنني في الأصل سُومَناتي
إلى مناةٍ نسبي واللاتِ
وأنت من أولاد هاشمي
وطِينَتي من نسل برهَمي

ويقول في أبياتٍ أُخرى عنوانها: إلى أُمراء العرب:

هل يُسعِدُ الكافِرَ الهنديَّ منطقُه
مخاطبًا أمراء العرب في أدبِ

ويقول في پيام مشرق:

انظر إليَّ فما ترى في الهند غيري رجلًا من سلالة البراهمة عارفًا بأسرار الروم وتبريز.

وفي شعرٍ آخر:

قد قامر الأمراء بالدين والقلب في حَلْبَة السياسة، فما ترى غير ابن البرهمن مَحرمًا للأسرار.

ويقول في بال جبريل في قصيدة مسجد قرطبة:

أنا كافرٌ هندي فانظر إلى شوقي وذوقي، ملء قلبي الصلاة والسلام، وعلى شفتيَّ الصلاة والسلام.

ويقول في هجرة أسرته من كشمير:

لقد هجر الدُّرُّ أرضَ اليمن
ونافجةُ المسك أرضَ الخُتن
وبُلبل كشمير في الهند ثاو
بَعيدًا من الروض خارَ الوطن

والدا إقبال

كان والداه صالحيْنِ تقيَّيْنِ؛ فأما أبوه فكان متصوِّفًا عاملًا كادحًا في كسب رزقه يعمل لدينه ودنياه.

ويُؤثر عنه أنه قال لإقبال حين رآه يُكثر قراءة القرآن: إن أردتَ أن تَفقه القرآن فاقرأه كأنه أُنزل عليك.

وهذه قصة نظمها إقبال في كتاب رموز بي خودي:

سائلٌ كالقضاء المبرم. طرق بابنا طرقًا مُتواليًا. فثُرْتُ غضبًا وضربته بعصًا على رأسه؛ فتبعثر ما جمعَه بسؤاله. والعقل أيام الشباب لا يفرق بين ضلال وصواب. ورآني والدي فاغتمَّ واربَدَّ وجهه وتأوَّه، وسال الدمعُ من عينيْه. واضطربتْ روحي الغافلة وطار لُبِّي.

قال أبي: تجتمع غدًا أمَّة خير البشر، تجتمع أمام مولاها، ويُحشر غزاة الملة البيضاء وحكماؤها والشهداء، وهم حجة الدين وأنجم هذه الأمة، والزهاد والوالهون والعلماء والعصاة.

ويأتي هذا السائل المسكين صائحًا في هذا المحشر شاكيًا.

فماذا أقول إذ قال لي النبيُّ: إنَّ الله أودعك شابًّا مُسلمًا، فلم تؤدِّبه بأدبي، بل لم تستطع أن تجعله إنسانًا.

فتمثَّلْ عتاب النبيِّ الكريم ومقامي في خجلي بين الخوف والرجاء. تفكَّرْ قليلًا يا بُنيَّ. اذكُر اجتماعَ أمةِ خير البشر.

انظر يا بُنيَّ إلى شيْبي، واضطرابي وقلقي. ولا تقسُ على أبيك ولا تفضحْه أمام مولاه. إنك كِمٌّ في غصن المصطفى، فكن وردةً من نسيمِ ربيعِه. خذ من ربيعه نصيبًا من الريح واللون. لا بد لك أن تظفر من خُلُقِه بنصيب.

وأم إقبال كانت تقيَّة ورعة حتى كانت تتحرَّج أن تأكل من وظيفة زوجها؛ إذ كان يعمل مع رئيسٍ عُرف بأكل بالرشوة، ولم تكن وظيفة زوجها من مال هذا الرئيس، ولكن كذلك كان ورعها.

ولإقبالٍ في أمه قصيدةٌ طويلةٌ من ديوانه «بانگث درا» يقول فيها:

ساميْتُ النجمَ بتربيتك، وكان فخر الآباء والأجداد بيتُك. كانت حياتك صفحة مُذْهبة في كتاب الكون، كانت قدوة في الدين والدنيا.
عُمِّر محمد نور والد إقبال زهاء مائة سنة، وكُفَّ بصره في سن الثمانين، وتوفي ١٧ آب سنة ١٩٣٠، وتوفيت والدة إقبال في ١٤ تشرين الثاني سنة ١٩١٤ وسنُّها ثمانٍ وسبعون سنة.١

مولد إقبال

في هذا البيت الطاهر وُلد وليد سمَّته أمه محمد إقبال. ويُروى أن والده رأى قبل مولده حمامة بيضاء ناصعة تطير فتقع في حجره وتسكن إليه، وعُبِّرت الرؤيا أنه سيُرزق ابنًا عظيم الجدِّ والإقبال يعلو على الناس.

وُلد محمد إقبال في الرابع والعشرين من ذي الحجة سنة ١٢٨٩ﻫ / ٢٢ شباط سنة ١٨٧٣م. ولم يأبَه أحد بمولد هذا الطفل إلَّا كما تَأبه أسرةٌ فقيرة بمولد ابن فيها.

ولكنَّ الله تعالى كان يعلم يوم مولد إقبال أن قد وُلِد في هذا البيت الصغير من مدينة سيالكوت رجل يعلو فكره وقلبه على حدود الأوطان والأزمان، أن قد ولد فيلسوف نابغ وشاعر مبدع من الذين يَهبهم الله البشر في العصر بعد العصر؛ ليخلقوا ويجددوا ويَهْدوا على هذه الأرض.

إنَّ لهذا الطفل الوليد لأثرًا باقيًا في تاريخ أمته وتاريخ المسلمين وتاريخ البشر أجمعين.

١  كتب إلي بتاريخ وفاة الوالدين وسنهما حفيدُهما إعجاز أحمد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤