الفصل الخامس

إجابة إقبال المعترضين على فلسفته في أوروبَّا

ترجم الأستاذ نكلسون منظومة أسرار خودي إلى الإنكليزية، وكتب لها مُقدِّمة أثبت فيها ما كتبه إقبال إليه إيضاحًا لفلسفته،١ فاهتم بها بعض المتفلسفين هناك.

وكتب بعضهم نقدًا لآراء إقبال، واعترض بعضهم على فلسفته بأنها فلسفة قائمة على تعظيم القوة والدعوة إليها، كفلسفة نطشه الفيلسوف الألماني، وبأنها فلسفة ليست إنسانية عامة، بل تُخاطب أمة من الناس هي أمة المسلمين.

وأجاب إقبال موضحًا مذهبه، رادًّا على من قرنوه بنطشه ومن عابوا على فلسفته أنها تخص المسلمين.

وأجمع جواب في هذا الموضوع ما كتبه إقبال إلى الأستاذ نكلسون، فسأكتفي به، ثم أكتفي منه بخُلاصته: يبدأ إقبال الكتاب بالإعراب عن سروره باهتمام المفكرين بكتابه حين تُرجم إلى الإنكليزية.

ثم يقول: إن بعض النُّقاد الإنكليز رأوا مشابهة ظاهرية بين أفكاره وأفكار نطشه، فوقعوا في غلطٍ كبيرٍ. ويرد على من زعم أنه أخذ نظرية الإنسان الكامل من نظرية نطشه في الإنسان الذي سمَّاه فوق البشر Superman.

ويقول إنه كتب قبل ثلاثين سنة، مقالًا عن الإنسان الكامل عند الصوفية، ولم يكن حينئذ اطلع على كتب نطشه ولا سمع باسمه.

ويمضي إقبال إلى أن يقول في خطابه إلى الأستاذ نكلسون: أعجبني نقد دِكسُن أكثر من كل نقدٍ، فأنا أعالج المسائل الآتية في نقده:

المسألة الأولى

يتبين مما كتبه مستر دِكسُن إليَّ أنه يرى أني أحث على السعيِ إلى القوة المادية بل أبلُغ في تعظيمها درجة العبادة. والحق أن هذا غلطٌ محضٌ. فدعوتي إلى القوة الروحية لا القوة المادية.

أرى أنَّ محاربةَ أمةٍ أمةً لحماية الحق والخير فرض أخلاقي عليها، ولكن محاربتها لأجل «جوع الأرض» حرامٌ في رأيي.٢
وحقٌّ قولُ دكسن إن الحرب مدمرة سواء أكانت لنصرة الحق أم لبسط السلطان، فيجب تجنب الحرب. ولكن التجارب تُرينا أن المؤتمرات والمعاهدات ووسائل أخرى لا تمنع الحرب، وإن منعت الحرب ظاهرًا بإحدى الوسائل اتخذت الأمم ذوات المطامع ذرائع أخرى لاستعباد أمم أضعف منها. فلا بد لنا من شخص يحل مشاكلنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ويفصل في خصوماتنا بالعدل ويُقيم الأخلاق الدولية على قواعد أثبت وأمتن.٣

المسألة الثانية

ثم يذكر دِكسُن فلسفة الكدح التي تدعو إلى الرجولة والصلابة، وهذه الدعوة قائمةٌ على معنى الحقيقة الذي بينتُه في المنظومة. أرى أن الحقيقة هي مجموعة الشخصيات أو «الذاتيات»، وأن تأليفها الاجتماعي ينشأ من الجِلاد. ومن هذا الجلاد ينشأ الانتظام والائتلاف آخرًا.

هذا الجِلاد ضروريٌّ للبقاء الشخصي، وهو أعلى درجات الحياة. نطشه يُنكر البقاء الشخصي. وغلطه في هذا نتيجة غلطه في تصور الزمان أو الدهر. هو لم يبحث في مسألة الزمان من الجانب الإنساني … وأنا، على خلافه، أعتقد أن البقاء الشخصي أعظم الآمال، ولا بد له من الجد والجهد الكاملين؛ لهذا دعوت إلى الحركة والجد والكدح وكل ضروب العمل، بل الحرب، حتى تستحكم الذات. ولهذا نهيتُ كل النهي عن جمود الصوفية وسكون الرهبان.

وهذا الجلاد الذي أدعو إليه هو في حقيقته أخلاقي لا سياسي. ولم يَقصد نطشه إلا إلى معناه السياسي.

المسألة الثالثة

واعترض مستر دِكسُن على فلسفتي بأنَّ دائرتَها محدودة وإن كانت أصولها عامة «يعني أن إقبالًا خاطب المسلمين، وطَبَّق فلسفته عليهم وحدهم.»

حقٌّ إن الفلسفة والشعر ينبغي أن تكون لهما مقاصد إنسانية عامة، ولكن هذه المقاصد إذا أريد تحقيقها في أعمال الحياة لم يكن بد من تحقيقها أول الأمر في جماعة بعينها لها مسلك معين ومذهب مستقل، ولكن طرائقها في العمل تتسع بالدعوة والتبليغ إلى غير نهاية. وعندي أن هذه الجماعة هي الأمة الإسلامية. فالإسلام عدوٌّ لعصبيات الألوان والأجناس. وهي أصعب العقبات في سبيل اتحاد أمم العالم — قد غلط رينان حين قال إن الإسلام والعلم ضدان والحق أن الإسلام وعصبية الأقوام لا يجتمعان، إن أكبر أعداء الإسلام، بل الإنسانية، هذه العصبية. فعلى مُحبي الإنسانية أن يُجاهدوا جهد طاقتهم هذه العصبية التي اخترعها إبليس.

قد رأيت أن عالم الإسلام كذلك سَرَت فيه القومية والوطنية القائمتان على عصبية الأمة والوطن، ورأيتُ المسلمين يغفلون عن مقاصدهم العامة ويقعون في شباك القومية والوطنية، فرأيتُ فرضًا عليَّ، بأنِّي مسلم أو مُحب للإنسانية، أن أوجِّهَهم إلى مقاصدهم الحق.

لا أُنكر أن عصبيات القبائل والأمم نافعة، إلى حين، في نشوء الحياة الاجتماعية وارتقائها، فلستُ أعترض على الاهتمام بهذه العصبيات من هذه الجهة، ولكن إذا عدت القومية أعلى درجات الرُّقي الإنساني فهي عندي أكبر لعنة على الإنسانية.

لا ريب أني أحب الإسلام وأَهيمُ بحبه، ولكن خطأ قول دِكسُن أني خصصت المسلمين بكلامي عصبية لوطنٍ أو أمة. لم يكن لي وسيلة أخرى لتطبيق هذه الفلسفة. إذ رأيتُ الجماعة الإسلامية أكثر الجماعات ملاءمةً لمقصدي.

ثم الإسلام ليس من الضيق كما يتوهَّم دِكسُن؛ فالتعليم الإسلامي لا يخصُّ قبيلًا دون قبيل، ولكن يقصد إلى أخوَّة البشر كافةً. فهو يدعو الناس أجمعين إلى التعاون والتآخي، وأن يُغفل في هذه السبيل ما بينهم من اختلاف جزئي: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ.

وأكبر الظن أن مستر دِكسُن لا يزال في أسر الوهم القديم، وهم أهل أوروبَّا أن الإسلام يدعو إلى القتل وسفك الدماء. والحق أن سلطان الله على الأرض، لا يخص المسلمين بل يمكن أن يعم الناس أجمعين، على أن يتركوا عبادة الأصنام، أصنام النسب واللون والقوم والوطن. لا تستطيع إسعاد الناس معاهدات الصلح ومجالس الأمم، وأوامر الملوك. لن يُستطاع هذا إلا بالاعتراف بحرية الناس وتساويهم دون نظر إلى نسب أو وطن …

لا أُنكر أن المسلمين كغيرهم خاصموا أو حاربوا أو سخَّروا الأقطار، وأن بعض سلاطينهم ألبسوا مطامعهم لباس الدين، ولكني على يقين أن الفتح والتسخير ليسا من مقاصد الإسلام، بل أعتقد أن الفتوح عاقت نماء النظام المبارك، نظام الشورى الذي نجد أصوله في القرآن والحديث. ولم يكن للمسلمين بد من إقامة الممالك العظيمة في أرجاء الأرض، ولكنهم اضطروا في سبيلها إلى العدول عن بعض سننهم القويمة. وغلب على أغراضهم السياسية مسحة غير إسلامية. فأغمضوا عيونهم عن سعة المقاصد الإسلامية وعمومها.

لا ريب أن الإسلام قصد إلى دخول الناس فيه ولكن دون إكراهٍ … إن العقائد الإسلامية يسيرة معقولة. فهي تُوافق العقل السليم، وتَسْلم من تعقيد الفلسفة.

إن في فطرة الإسلام مزايا تُيسِّر له أن يبلغ أوج الظفر. انظر إلى الصين مثلًا، فيها من المسلمين عشرات الملايين دخلوا في الإسلام بالدعوة، وما كان للمسلمين في الصين سلطانٌ سياسي، وفي هذا برهان على أن الإسلام يفتح القلوب بغير سلطان سياسي ودون إكراه.

قد طالعت فلسفة العالم أكثر من عشرين سنة، ففي وسعي أن أُدلي برأيي بريئًا من التعصب، وأن أنقد حوادث العالم غير متحيز.

إني أقصد في دواويني إلى أن أضع أمام أعين الناس مُثلًا عالية عمرانية شاملة، ولكني لم أستطع حين صورت هذه المقاصد، أن أغض البصر عن نظام اجتماعي مقصده أن يمحو بين الناس فروق الأشخاص والدرجات والأنساب والألوان، ودعوته أن يعمل الإنسان لدنياه ويعلو على مطامع هذه الدنيا ما استطاع ولا يرجو إلا رضاء الله. إن الإسلام يدعو إلى أن يأخذ الإنسان نصيبه من الدنيا، ثم يدعو أن تُهجر كل لذات الدنيا في سبيل مقاصد الحياة العليا.

وإن أوروبا محرومة من هذا التعليم، هذا الكنز الثمين. وتستطيع أن تأخذ عنا هذا المتاع النفيس الذي لا يُقوَّم.

•••

ثم مسألة أخرى أختم بها: إن الأقوال التي بعثتُها إليك فأدرجتُها في مقدمة أسرار خودي، قد بيَّنتُ مذهبي في ضوء آراء مُفكِّري الغرب ومذاهبهم. وإنما اخترتُ هذه الطريقة لأُيسِّر لقرَّاء الإنكليزية فقه آرائي. ولو شئت لاستشهدت بالقرآن الحكيم، وأقوال الصوفية الكرام، وحكماء المسلمين، كما فعلتُ في المقدمة التي أثبتُّها في الطبعة الأولى لأسرار خودي.

إني أدَّعي أن فلسفة أسرار خودي مأخوذة من آراء صوفية المسلمين وحكمائهم، وأن أبحاث برجسون٤ في الزمان والوقت ليست جديدة عند صوفيَّتنا. قد بيَّنتُ هذه المسائل في كتب التصوف بطرائق مختلفة.

القرآن المجيد ليس كتاب فلسفة أو إلهيات، ولكن فيه هدي إلى مقاصد الحياة ورُقيِّها، وفيه أصول فلسفية يقينية. ولو أن مُسلمًا مُتفلسفًا بيَّن المسائل القرآنية في ضوء الأفكار والتجارب الحديثة ما صح اتهامه بأنه يُقدم شرابًا جديدًا في زجاجة قديمة، كما يقول مستر دِكسُن. أنا لا أعرض أفكارًا جديدة في ثياب قديمة، ولكني أُبين حقائق قديمة في ضوء الأفكار الجديدة.

ما أشد أسفي لجهل أهل الغرب الإسلام والفلسفة الإسلامية!

ليت الفرصة تتاح لي فأكتبُ في هذا الموضوع كتابًا ضخمًا فأُعلم حكماء الغرب الحقيقة، فَيَرَوْا مقدار التشابه بين فلسفتنا وفلسفتهم.

١  بَيَّنَّا هذا في الفصل الأول من هذا الباب.
٢  انظر أسرار خودي، والفصل الثاني من هذا الباب [مقصد حياة المسلم إعلاء كلمة الله والجهاد للاستيلاء على الأرض حرام] وما بعدها.
٣  انظر فصل النيابة الإلهية في أسرار خودي، وفي هذا الكتاب [الباب الثاني: الفصل الأول – تربية الذات] و[الباب الثانى: الفصل الثاني – مراحل تربية الذات].
٤  Bergson.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤