عشرة كتب في الأدب

قبل أكثر من عشر سنوات ألفت كتابًا بعنوان «تربية سلامة موسى» وصفت فيه دراسات شكسبير بأنها «لهو فني».

وكان قصدي من هذا التعريف أني تسليت به، ولكني لم أجد فيه ما يخصب حياتي أو يربيني أو يغيرني، وإن كان فيه الكثير مما يطرب ويلذ ويعجب.

ولكنَّ هناك أدباء عالميين، نحس بعد قراءة مؤلفاتهم أننا قد تغيرنا، بل هم أحيانًا يزيدون عندنا إحساس النمو والإخصاب، كأن وجداننا قد زاد، وآفاقنا قد تراحبت، وكأن حياتنا قد صارت أحيا مما كانت.

وهذه كتب عشرة في الأدب ما زلت أذكرها؛ لأن كلًّا منها كان بمثابة العلم الذي غيَّر طريق حياتي، واعتقادي أن هذه الكتب جديرة بأن تحدث ثورة في قلوب القراء العرب وعقولهم إذا نقلت إلى اللغة العربية، ولست أنسى هنا أن أشيد بأدباء بيروت ودمشق الذين ترجموا أو شرعوا في ترجمة بعضها.

وأول هذه الكتب درامةً، أحب أن أسميها مأساة المرأة، ألفها هنري أبسن بعنوان «لعبة البيت»؛ فقد كان أثرها في نفسي قبل نحو خمسين سنة ساحرًا، بل لا يزال كذلك، وكثيرون قد قرءُوا هذه الدرامة، ولكن الظروف التي رأيتها فيها ممثلة على المسرح، ثم حين قرأتها وتأملت معانيها ومراميها، كانت تختلف من ظروف الوقت الحاضر.

ذلك أننا كنا، حوالي ١٩١٠، نحيا حياة الحجاب المظلمة؛ فلم يكن أحدنا يقعد إلى فتاة، فضلًا عن أن يصادقها، وكانت عندما تزور سيدة صديقة لها، كانت هذه الصديقة تحتاط وتحذر من أن يرى زوجها أو ابنها هذه الزائرة.

كنا في حجاب دامس، كنا نحيا فرادى بلا مجتمع.

وخرجت من هذا الظلام إلى أوروبا فوجدت المرأة السافرة الحرة، وكان سفورها دهشة لي، لا أتعب من استطلاع حدوده والمقارنة بين المرأة الأوروبية وبين المرأة المصرية، ثم أعقب هذه الدهشة تفكير عميق في معنى الوجود البشري وفلسفة الحياة.

فقد أحالني هنريك أبسن إلى فيلسوف.

هذه المرأة الأوروبية التي كنت أزعم أنها حرة، ليست كذلك؛ إذ هي «لعبة البيت»، يتزوجها الرجل، ويزينها، ويلهو بها، كالزوج الشرقي، مع فرق في الدرجة فقط، وسفورها ليس كبير القيمة؛ لأنها حرمت الاختبارات والاقتحامات في الدنيا، وهي لذلك تحيا محمية مصونة، وهذه الحماية، وهذه الصيانة، تنتهيان بفرض الجهل عليها وإنكار حقوقها الإنسانية.

والقصة تنتهي بخروج الزوجة كي تشرع في تربية شخصيتها.

وما أكتبه إلى الآن عن المرأة في مصر قد ألهمني معظمه هنريك أبسن، وخلاصة ما أبغيه أن نرفع المرأة من الأنثوية إلى الإنسانية.

•••

والكتاب الثاني الذي أخصب حياتي وديني وأدبي هو «حياة المسيح»، عرفته وأنا في المراهقة، حين يتطلع الذهن إلى التفريج عن الكظم الجنسي بالبحث عن الآداب والفنون، وقرأت هذا الكتاب باللغة العربية موجزًا بقلم العظيم فرح أنطون، ثم عدت فقرأته بالفرنسية.

وكشف لي فرح أنطون بهذا الكتاب أدبًا جديدًا لم أكن أعرفه في اللغة العربية، بل لا أزال إلى الآن، بعد خمسين سنة، أفتقده فلا أجده، هو أدب الإحساس الذكي الذي نجده على أعلاه في دستوفسكي، كما هو أدب الإنسانية. بل إن رينان، مؤلف هذا الكتاب، قد ربط بين الأدب والدين، وغرس في نفسي الغرس الأول، وهو أن الثقافة البشرية، بعلومها وآدابها وفنونها، هي الدين، بل هي من صميم الدين.

•••

ثم «الإنسان والسبرمان» هذا الكتاب العلمي الذي ألفه الأديب برنارد شو، وهو علمي في الخيال وليس في التخطيط.

ونحن نقرأ هذه الأيام قصصًا علمية توافر محصولها عقب الاكتشافات الذرية، ولكن أهدافها في الأغلب لهو علمي، مثل اللهو الفني الذي نجده في شكسبير، أما برنارد شو فقد فتح لنا في هذه الدرامة العالية نوافذ نطل منها على المستقبل البشري بعد آلاف وملايين السنين، حين يتطور الإنسان إلى ما هو فوق الإنسان: إلى السبرمان.

هو درامة عن التطور، وعن مصداق كلمة نيتشه: «الإنسان جسر تعبر عليه الطبيعة من القرد إلى السبرمان.»

وظني أن هذه الدرامة يمكن أن تغير العقول الشرقية العتيقة المستسلمة وتحيلها إلى عقول عصرية متسائلة، بل هي أشبه الأشياء بالسائل المعقم الذي يقتل، يمحو العادات المتعفنة التي تحول دون الاجتراء على التفكير البكر، هذا التفكير البكر الذي نجده في إخناتون حين رفض الإيمان بعقائد أسلافه، وعقائد السذج من العامة، والمكرة من الكهنة، وأعلن بأنه يؤمن بإله واحد لا يشاركه آخر.

إننا في حاجة إلى الاجتراء، وهذه الدرامة تجرئنا.

•••

وكتاب آخر يمكن أن نترجمه، بل قد ترجم بعضه في بيروت، هو قصة «الإخوة كارامازوف» للمؤلف الروسي دستوفسكي.

وهو أعظم قصة كتبها أديب، وهي قصة الإحساس الذكي، والديانة الإنسانية، واستقطار السعادة من الألم، والنظرة الإخائية للبشر، والحب للطبيعة والإنسان.

ولكن وصفي لها بهذه الكلمات هو أتفه وصف؛ لأن الواقع أننا نعجز عن وصف الفن الرائع، وقصارى ما نقول عنه أننا لم نعرف شيئًا أسمى منه؛ إذ نقف معجبين ذاهلين نتنهد ونتأمل.

هو قصة تجري حوادثها بين أشخاص عقلاء ومرضى أو مجانين، نجد فيها الإجرام والفلسفة، والعقل والبلاهة، والقداسة التي تعود إلى النجاسة.

ماذا أقول؟

هل يمكن إنسانًا أن يرتفع إلى القمم الإنسانية حتى يتقدس إلا بعد أن يكون قد هوى إلى حضيض الحيوانية حتى تدنس؟!

خلاصة ما أقول أن هذه القصة هي أعظم ما قرأت في حياتي، ولكني أعجز عن تعليل هذه العظمة.

•••

و«اعترافات» جان جاك روسو من الكتب التي كان يجب أن تترجم إلى لغتنا قبل ١٠٠ أو ١٥٠ سنة، ولو أن هذا كان قد تم، لكان فهمنا للأدب غير ما نفهم في هذه السنين.

إننا نسمع في أيامنا من أدبائنا الناهضين أن الأدب للحياة، وأنه اختبارات شخصية ينقلها المؤلف من حياته، أو من خياله المنتزع من حياته، ويرسم منها صورة تنير أو تثير، فتزيد بصيرتنا بالدنيا والعيش أو تحفزنا إلى التغيير في القيم الأخلاقية.

وكل هذا أفكار وكلمات كان يفهمها جان جاك روسو، باعث الحركة الرومانسية أو الرومانتية في أوروبا، وهذه الكلمة تعني العامية.

أدب روسو هو أدب الشعب، بلغة الشعب التي هذبها الفن.

لقد تغيرت أوروبا بأفكار هذا الأديب، ونستطيع أن نعزو جميع الثورات التي حدثت في القارة الأوروبية إلى مؤلفاته التي تتلخص في كلمات معدودة، هي: الطبيعة حسنة والإنسان طيب، ولكنهما يفسدان بالحكومة السيئة والمجتمع السيئ.

ما أحوج الأمم العربية إلى هذه الخمائر!

•••

الاعترافات هي بدعة ابتدعها جان جاك روسو حين وقف عاريًا يقول للناس: هأنذا بكل ما في نفسي من نقائصَ وفضائلَ.

وقد ظهرت مئات من الكتب الاعترافية بعد ذلك توثقت بها الصلة بين الأدب والحياة، وأصبح بها الكتاب وسيلة للتجاوب بين الاجتماع والأدب، والإنسانية والفن.

ومن الكتب الخالدة في الاعترافات كتاب مكسيم جوركي الذي وضعه في ثلاثة مجلدات: طفولتي، في العالم، جامعاتي.

وهو لم يدخل قط جامعة، ولكن الدنيا كانت جامعته، بل جامعاته التي تعلم فيها، وهو أكثر صراحة من جان جاك روسو حين يعترف؛ فقد خرج هذا الأديب الروسي من الطين والوحل، وما زال ينظف نفسه ويطهرها حتى وصل إلى قمة الإنسانية.

وحسبي أن أقول إننا حين نقرؤه نحب الإنسان، أي الإنسانية التي تعلو على تقاليد التاريخ والاختلافات المذهبية أو العنصرية.

جوركي إنسان يدعو إلى ديانة الإنسانية، مثل دستوفسكي وتولستوي.

والقارئ العربي الذي يجهل هذا الكتاب إنما يجهل دنيا عظيمة من الشرف والخير والكفاح والجمال.

•••

ومؤلف آخر يجب أن نعرف جميع مؤلفاته، وكل كلمة كتبها؛ هو تولستوي، ومع ذلك أنا لم أتأثر بمؤلفات هذا الأديب العظيم قدر ما تأثرت بحياته، حياة الكفاح الروحي، كي يفهم معنى الحياة ومعنى الموت، وكي يوفق بين أسلوب عيشه وأسلوب تفكيره؛ ذلك أنه استنبط لنفسه ديانة خاصة هي مزيج من فلسفة الإنجيل وفلسفة جاك روسو، وقد طردته الكنيسة الروسية لاجترائه على أن يفكر ويستنبط بدلًا من أن يعتقد ويستسلم.

وحاول أن ينقل أفكاره أو فلسفته إلى أسلوب عيشه في البيت والمجتمع، فاصطدم بزوجته، وبقي على خلاف معها، خلاف فلسفي، حتى فر منها، ومات بعد بضعة أيام في مكان ناءٍ عن بيته.

ولم يحل مشكلة الحياة والموت، وهل يمكن أن تُحَلَّ؟!

إن قصص تولستوي، من حيث الفن، تنزل على القمم في الأدب، ولكن حياته قصة، بل علياءة، تسمو على كل ما كتب.

ونحن حين نقرؤه نتحمل همومه، ونحزن معه، وهذا حسن؛ لأننا نجد في هذه الهموم والأحزان تربية، والأدب الحق ليس حلويات نتمصص عصيرها ونتمزز طعمها، وإنما هو هم وكفاح من أجل الفهم أو الخير أو السلام أو الشرف.

•••

ومؤلف آخر حبيب إلى قلبي هو أناطول فرانس.

وهو صديق وأنيس، أحس وأنا أقرؤه كأني أتغامز معه على الشهوات المشتركة بين عقلينا، وهو من أبناء القرن العشرين لا شك في ذلك، يكره الألغاز التي يضعها البله والمغفلون ويتحدون بها العقلاء كي يحلوها لهم.

وهو كاتب ممتاز، بذكاء فرنسي، يتهكم أكثر مما يضحك، ولكن تهكمه يحمى أحيانًا حتى ليشوي به العادات والعقائد المتعفنة، ولكن هذا الساخر الضاحك يذوب حنانًا عندما يذكر الفقراء والمغلوبين.

هو عدو الاستعمار والاستغلال كما هو عدو الكبرياء الشامخة التي تحيا على الغش والمكر، وهو يكافح الجهلة والمغفلين ويمزق أوهامهم بذكائه الذي يقطع كالسكين، ولو سئلت: ما هي مميزات أناطول فرانس؟ لقلت إن له ميزة وحيدة هي أنه داعية الذكاء.

ولذلك نحن ننتفع كثيرًا بترجمة مؤلفاته: «جزيرة البنغوين»، و«ثورة الملائكة»، و«الآلهة عطشى».

وما أحوجَ المغرورين في الأقطار العربية، أولئك الذين يزعمون أنهم يفهمون، إلى أن يقرءُوا هذه المؤلفات وغيرها حتى يتعلموا الفهم، والفهم فقط.

•••

هؤلاء ثمانية من الأدباء الذين انتفعت بهم في تربيتي وتكوين شخصيتي الأدبية، والذين أعتقد أنه يجب أن تترجم مؤلفاتهم، كاملة بلا تلخيص، إلى لغتنا، وأسوأ شيء في الأدب هو التلخيص.

وثمَّ اثنان آخران ليسا معدودين من الأدباء، مع أنهما في صميم الأدب، من حيث أن الأدب هو الحياة، بل هو الكفاح من أجل الحياة الفاضلة، ولم يكافح أحد مثلهما، وقد حاباني القدر حين جعلني أحيا في هذه الدنيا وأعاصرهما.

هما: غاندي، ونهرو.

حياة غاندي بقلمه هي كتاب مقدس آخر.

وحياة نهرو أيضًا هي كتاب مقدس آخر.

حياتهما اعترافات، لها قوة اعترافات روسو أو جوركي.

وأحسن ما أحب فيهما أنهما كانا يحاربان الاستعمار، وقد نجحا في محوه من الهند، ولكنهما مع ذلك لم يجبنا عن محاربة التقاليد والديانات الرجعية في بلادهما.

وكلٌّ منهما «مسفسط» من حيث أنه قد اختبر ودرس مركبات المدنية، وعرف نوازع الشر، ووقف على الأسرار التي تختبئ في الظلام، ولكنه مع ذلك يؤثر السذاجة في العيش والرضا باللقمة الجافية مع الفكرة العالية.

إنها لجريمة في حق العرب أن تبقى مؤلفاتهما بعيدة عن الشعب، بل عن العامة.

•••

لقد مضى عليَّ أكثر من نصف قرن وأنا أقرأ المئات من المؤلفين الأدباء، ولكن هؤلاء المؤلفين العشرة هم الذين أصطفيهم الآن لأن تنقل مؤلفاتهم إلى لغتنا؛ لأني وجدت فيهم التربية والإخصاب، زيادة على ما وجدت من اللذة والإعجاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤