مقدمة للأعمال الكاملة للكاتب والمترجم طلعت الشايب

حينما طلبَت مني دار النشر «هنداوي» كتابةَ مقدمةٍ لأعمال والدي الكاملة وإسهاماته في مجال الترجمة، قفزَت إلى ذهني مُباشَرةً صورتُه في جلسته الدَّءُوبة لساعاتٍ طويلة في غرفة مكتبه مُحاطًا بعشرات الكتب والمَراجع والقواميس.

كان أبي قارئًا نَهِمًا ومُتابِعًا دقيقًا لكل الإصدارات الحديثة لمعظم الكُتاب والمُفكرين والأُدباء العرب والأجانب، لكنَّ أمتعَ لحظاته على الإطلاق تلك التي يَقضيها في ترجمةِ عملٍ ونقله من لُغته الأم إلى اللغة العربية. ينشغل لأيام في العثور على التعبير المناسب أو الكلمة الدقيقة أو المقابل اللغوي الصحيح الذي يَنقل روحَ النص وليس المعنى الحرفي؛ مهمةٌ لم تكن أبدًا سهلة، خاصةً عند ترجمة الشعر أو الأدب الذي كان مُولَعًا بهما في الأساس.

احترف أبي الترجمةَ من وحي احترافه القراءةَ والنقد في زمنٍ لم تكن فيه مصادرُ البحث عبر الإنترنت متوافرةً كما هي الآن؛ بكبسةِ زرٍّ تستطيع العثورَ على مصطلحاتٍ أو معلومات أو تفاصيل عن حدَثٍ تاريخي.

كان عليه البحث في المَراجع والكتب لأيام للعثور على مُرادفٍ له مدلولٌ ثقافي أو معلومات عن حدثٍ تاريخي ورَدَ في كتابٍ يقوم بترجمته.

وتنتهي رحلةُ ترجمة الكتاب بشراء عشرات الكتب الأخرى التي استعان بها أثناء الترجمة.

كان يصف ترجمةَ الشعر والأدب بالمُغامَرة المحفوفة بالمخاطر. المهمة هنا أشد صعوبةً لأنك لا تنقل أفكارًا أو معلومات، بل أحاسيس ومشاعر وأجواءً وروح نص؛ أعمال مثل: «اتَّبِعي قلبك»، و«أصوات الضمير»، و«بقايا اليوم»، و«هوس العمق»، و«الخوف من المرايا»، و«فتاة عادية»، وغيرها.

عليك، بصفتك مُترجِمًا، مهمة الحفاظ على روح الكاتب الأصلي وموسيقى النص ليصل المعنى بدقةٍ للقارئ، وكأنه يقرأ العمل بلُغته الأصلية، وكأن العمل له كاتبان؛ الكاتب الأصلي والمُترجِم.

في أعوامٍ لاحقة اقترب أبي من التكنولوجيا أكثر، واستخدم الإنترنت التي اختصرَت عليه عمل أيام وشهور، لكنه لم يَتنازل أبدًا عن استعمال أقلام الرصاص لنقل ما بذهنه على الورق. ترقد الأقلامُ مصفوفةً أمامه بعضها إلى جوارِ بعضٍ على المكتب مَبريَّة وجاهزة للكتابة، وكأنها سلاحه الأمين.

يكتب بسرعةٍ بخط جميل مُنمَّق على أكثر من مرحلة لم تكن إحداها أبدًا الكتابة على الكمبيوتر. كان يُفضِّل المسودات الورقية، وإدخال التعديلات بالأسهم أو الشطب على الكلمة وكتابة غيرها؛ لتظل أمامه مراحلُ التفكير في الكلمات واستبدالها بأخرى.

يقول لي: أُحب أن تظل أمامي الكلمات «تخايلني»، ربما أعود لها مرة أخرى. لا أُفضل الإلغاء التام أو المسح النهائي الذي توفره أجهزة الكمبيوتر. المسودة بكل هوامشها هي عمليةُ ولادةِ النص المُترجَم.

أبي كان راهبًا في مِحراب الترجمة، شغوفًا برحلته مع كل كتاب، تلمع عيناه في نهاية يومِ عملٍ شاق بما اكتشفه في رحلته من أفكارٍ وثقافات يَتحدَّث عنها بحماسِ وسعادةِ مَن يُعيد اكتشاف ذاته كلَّ مرة.

وتبقى الجملة الأجمل بالنسبة له عندما يَلتقيه قارئٌ ويُخبره أنه لم يشعر أبدًا أنه أمامَ عملٍ مُترجَم لسلاسة الترجمة وانسيابية الكتابة.

هذه دعوة للغوص في مجموعةٍ من أهم ما قدَّمه مُفكرون ومُؤرخون وشُعراء ومجالات أخرى متنوعة تناسب كلَّ الأذواق، من بينها كُتبٌ غيَّرت مجرى التاريخ، مثل: «صدام الحضارات»، و«الحرب الباردة الثقافية»، و«فكرة الاضمحلال في التاريخ الغربي»، و«الاستشراق الأمريكي»، وغيرها من الأعمال الهامة.

رحلة عبْرَ ترجماتِ والدي، المُترجِم والكاتب «طلعت الشايب»، وأَعِدُكم بمتعةٍ تضاهي متعةَ قراءةِ العمل الأصلي بلُغته الأم.

منى الشايب

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤