مقدمة

اشتهر الكاتب الأميركي «آرثر ميللر» (٨٢ سنة) ككاتب مسرحي منذ أن قُدمت أولى مسرحياته «الرجل الذي أوتي الحظ كله» في برودواي سنة ١٩٤٤م، بعد ذلك شق طريقه بهدوء وثقة نحو قمة المسرح الأميركي مع «يوجين أونيل» (١٨٨٨–١٩٥٣م) و«تينسي وليامز» (١٩١١–١٩٨٣م) … والثلاثة هم أبرز الكتاب الذين ظهروا على خريطة المسرح الأميركي بعد الحرب العالمية الثانية.

وإذا كانت مسرحية «ميللر» الأولى لم يستمر عرضها سوى أربعة أيام فإن مسرحيته الثانية «كلهم أبنائي» قد نجحت نجاحًا كبيرًا، فحصلت على جائزة نُقاد الدراما في نيويورك سنه ١٩٤٧م، كما جذبت اهتمام «إيليا كازان» الذي أخرج له فيما بعد مسرحية «وفاة بائع جوال»، والتي حصلت أيضًا على جائزة النقاد وجائزة «بوليترز» سنة ١٩٤٩م (ترجمها إلى العربية ميخائيل رومان).

ومنذ ذلك توالت أعماله المسرحية المعروفة لكل المهتمين بالمسرح العالمي مثل «البوتقة» (١٩٥٣م) و«مشهد من فوق الجسر» (١٩٥٥م) (قدمها المسرح القومي المصري سنة ١٩٦٥م، بترجمة محمد بدر الدين وإخراج كمال عيد) و«بعد السقوط» (١٩٦٣م) و«الثمن» (١٩٦٨م) و«الزمن الأميركي» (ترجمها شوقي فهيم) و«الزجاج المكسور» (١٩٩٠م).

ولكن الذي لا يذكره كثيرون هو أن «ميللر» كتب في سنة ١٩٤٥م رواية بعنوان «البؤرة» كانت على قائمة الكتب الأكثر مبيعًا في ذلك الوقت، وإن كان نجاح مسرحية «كلهم أبنائي» قد غطى عليها.

كما نشر في عام ١٩٦٧م مجموعة قصصية بعنوان «لم أعد في حاجة إليك»، كما كتب الشعر في مطلع حياته وعمل بالإخراج وكتابة السيناريو وأدب الأطفال ونشر سيرة ذاتية ضخمة (٦٠٠ صفحة) في عام ١٩٨٧م بعنوان «انعطافات الزمن».

و«آرثر ميللر» ليس أول من لبس أكثر من قبعة أو حمل أكثر من بطيخة (بتعبير إميل حبيبي) فنحن نعرف مسرحيات لكل من «ييتس» و«ت. س. إليوت» و«جوزيف هيللر»، ونعرف شعرًا ﻟ «جون أبدايك» و«هارولد بنتر» و«جراهام جرين» وكلها إنجازات حقيقية، ومن المؤكد أننا نتذكر «تشيكوف» — وميللر من أشد المعجبين به — الذي أبدع في كتابة المسرحية والقصة القصيرة.

شهدت مسيرة «ميللر» الحياتية والإبداعية فترات انتشار إعلامي واسع النطاق — فاق شهرته ككاتب مسرحي — كما حدث عندما ظهر الرجل بقوة وسط ديكور ثقافي وسياسي عالمي أمام لجنة «مكارثي» للتحقيق معه واستجوابه عن الكُتاب والفنانين المتهمين بمزاولة نشاط معادٍ لأمريكا ورفضه ذكر اسم أحد … واضطراره إلى الخروج من الولايات المتحدة والإقامة في منفاه الاختياري في إنجلترا.

ثم ظهوره بشكل أكثر درامية وسط أضواء إعلامية مبهرة عندما تزوج نجمة السينما العالمية «مارلين مونرو» وعندما طلقها وعندما انتحرت وعندما اتخذ من نهايتها التراجيدية مضمونًا لمسرحيته «بعد السقوط». كما أن أحدًا لا ينسى مواقفه الصلبة المعارضة لحرب فيتنام.

ولا يعرف عالم الأدب سوى قلة من المبدعين الذين واصلو تألقهم الإبداعي حتى سن متأخرة نسبيًّا، و«ميللر» أحدهم؛ إذ نجد أنه منذ عام ١٩٨٣م — وكان يقترب من السبعين — يقدم مجموعة جديدة من المسرحيات وينشر سيرته الذاتية في كتاب ضخم ويخرج مسرحيته «وفاة بائع جوال» في الصين، ويحضر بروفات وعروض أعماله في لندن عندما احتفلوا في «الوست إند» بعيد ميلاده الثمانين بتقديم «مشهد من الجسر» و«الزجاج المكسور» … وحتى يومنا هذا لا يتوقف عن السفر والتنقل واستقبال وفود الصحفيين ومراسلي المحطات الفضائية الذين يتوافدون على بيته في «كونيكتكت» حيث يعيش مع زوجته الثالثة المصورة «إنجي موراث»، محتفظًا بنشاطه وجاذبيته الشخصية وشباب عقله ويتحدث عن رحلته الطويلة في الفن والحياة.

في عام ١٩٩٢م فاجأ «ميللر» عالم الأدب براوية قصيرة جديدة بعنوان «فتاة عادية» لا تزيد عن خمسين صفحة، قال فيها كل ما يريد أن يقوله باختصار وبإحكام شديدين من خلال مجموعة قليلة من الشخصيات التي رسمها بعناية فائقة. تبدأ أحداث الرواية في السبعينيات عندما تستيقظ «جانيس» من نومها في شقتها في نيويورك لتكتشف أن زوجها الثاني «تشارلز» قد مات أثناء نومه … وهكذا تشعر بقبضة الحياة القوية تضرب رقبتها من الخلف. ورغم أن الرواية تبدأ بحالة موت وتنتهي ﺑ «جانيس» وهي تراقب إزالة أحد فنادق نيويورك الذي شهد ذكريات جميلة لها إلا إن حالتها المعنوية متفائلة ومبتهجة.

هذا الرحيل المفاجئ لزوجها الأعمى الذي جعلها تؤمن بإمكانية العيش في الحاضر، هو نفسه الذي يجعلها تقوم بجردة حساب لحياتها في نيويورك الثلاثينيات والأربعينيات، وهي السنوات التي شهدت الكثير من الاضطراب السياسي والاقتصادي.

«جانيس» تنحدر من أسرة يهودية جاءت من بولندا، ولكنها تمردت على تطلعات الثلاثينيات البرجوازية لتشق طريقها في دوائر «مانهاتن» الراديكالية، ومن الأشياء الأولى التي تكتشفها في نفسها هو أنها فتاة عادية جدًّا، ليست جميلة ولذلك لن يكون الجمال عبئًا تتحمله ويثقل كاهلها … ولكنها كانت تعرف أن لها وسامتها الخاصة فقد اقتنعت بذلك ذات يوم … وعلى الأقل بجسدها المحكم ورقبتها الطويلة الرائعة وسخريتها اللاذعة «كانت تعرف كيف تدير ردفيها بحركة رشيقة أثناء المشي». «جانيس» تتزوج من «سام فنك» تاجر الكتب الشيوعي الذي يرقب الصراع الطبقي في كل مكان، ورغم أنها لا تشاركه حماسه السياسي إلا أنها تعترف بأنه وبالتزامه الشيوعي الصارم يقرباها من المستقبل ويبعداها عن خصومها التقليديين: التفاهة والهوس البرجوازي بتملك الأشياء المترفة … إلا أنها تدرك في نفس الوقت أن التحرر من الماضي وسطوته لا يكفي لأنْ يكون أساسًا متينًا للزواج.

«سام» المهووس بالمستقبل الأفضل وبمحاربة الفاشية مشغول عنها تمامًا، وعن كل ما تحتاج إليه من متع حسية … هو باختصار لا يراها! ولذلك عندما يذهب إلى الحرب تشعر بالتحرر إلى حدٍّ ما — كانت قد شعرت بذلك أيضًا عندما مات والدها — فتواصل دراستها للفن التشكيلي وتقيم علاقة مع أستاذ تاريخ الفن المهاجر، وعندما يعود زوجها تكتشف أنها باقية معه فقط بدافع من الشفقة والواجب. ولكن زواجهما ينتهي فجأة، كما انتهت المرحلة التي جمعتهما معًا فجأة.

وبعد سنوات قليلة تلتقي «جانيس» ﺑ «تشارلز»، ذلك الموسيقي الأعمى لتكتشف أنه أول حب حقيقي في حياتها … وأول من تمكن من النظر — رغم عماه — إلى ما وراء العادي فيها … يخترق القناع ببصيرته وينفذ إلى الإنسانة غير العادية بداخلها … ولعل من أجمل أجزاء الرواية عندما نجده يستخدم حواسه الأربع السليمة ليقول لها كل شيء عن نفسها، ويتضح لنا أنه إنسان قادر على قراءة وجهها بقبلاته وجسدها بلمساته.

حكاية بسيطة منسوجة برقة شديدة تتداخل فيها خيوط السرد والتذوكر وتتقاطع مع تفاصيل كثيرة في حياة «ميللر»، فهو أيضًا مثل «جانيس» ينحدر من أسرة يهودية هاجرت من بولندا، واختياره لفتاة تنتمي لليسار الأمريكي مع زوجها يذكرنا بماضيه واختياراته السياسية، وكما كانت «جانيس» نقيض شقيقها المولع بشراء العقارات واستغلال الظروف الاقتصادية للثراء، كان «ميللر» أيضًا نقيض شقيقه الذي تحول إلى رجل أعمال.

«ميللر» الذي يعتقد أن قصص هيمنجواي القصيرة أفضل من كل رواياته الطويلة، استطاع هو أيضًا أن يقدم في هذا العمل القصير رواية محكمة لا مكان فيها لأي ثرثرة غير ضرورية.

المترجم

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤