فتاة عادية

١

استيقظت «جانيس» من نومها صباح ذلك اليوم … الإثنين … وهي تشعر بالبرد. شيء غريب، كأن ريحًا تهب عليها وهي خارجة إلى السطح من أعماق النوم!

تتذكر أننا كنا في شهر «يونيو» … وبالأمس فقط كان الجو دافئًا في «سنترال بارك». عندما فتحت عينيها عليه كالعادة لاحظت أن وجهه كان شاحبًا بدرجة غريبة، رغم احتفاظه بما كانت تسميه ابتسامة النوم، وما يوحي بالسعادة على زوايا فمه المليئة بالتجاعيد. ولأنه كان يبدو ثقيلًا على الفراش عرفت في الحال، ورفعت يدها لتلمس خده … نهاية القصة الطويلة!

«ولكنه في الثامنة والستين …» كانت تلك أول فكرة تطرأ لها وكأنها تعتذر بها عن خطأ ما … خوف ولا دموع … خوف داخلي … ضربة ثقيلة على رقبتها من الخلف … للحياة قبضة قوية.

آه! زفرتها بصوتٍ عالٍ وهي تضم راحتيها وتلمس الأصابع بشفتيها. آه! انحنت عليه وشعرها الحريري يلمس وجهه … ولكنه لم يكن هناك.

«آه يا تشارلز!». قليل من الغضب وقليل من الحيرة! ها هو الآن يرقد أمامها على هذا النحو المروع!

آه! لو أنها كانت قد تكلمت معه … سألته … أو أخبرته … ولكن بمَ؟ بذلك الشيء في قلبها … الحيرة! أنه قد أحبها وأنه لم يرها أبدًا طوال الأربعة عشر عامًا من حياتهما معًا. دائمًا وبرغم كل شيء، كان شيء ما بداخلها يحاول أن يحرك نفسه في خط رؤيته، وكأنها بنظرةٍ خاطفة منها سوف توقظ عينيه المرتعشتين من نومهما الأبدي.

ماذا أفعل الآن؟ تشارلز … يا عزيزي! ماذا أفعل بالبقية الباقية؟ شيء ما لم يكتمل. قالت لنفسها … ربما في السينما فقط … عندما يعود الضوء ويتركك تنظر بصعوبة وأنت تسير على رصيف الشارع. مرة أخرى تحركت لتلمسه ولكنه بالفعل ليس هناك … ليس لها … ليس شيئًا. سحبت يدها وجلست مدليةً ساقًا من على المرتبة.

كانت تكره وجهها كفتاة، ولكنا كانت تعرف أن لها وسامتها الخاصة، واقتنعت بذلك ذات يوم على الأقل … بجسدها المحكم ورقبتها الطويلة الرائعة … ثم بسخريتها اللاذعة … نعم!

كانت تحب أن تكون نفَّاجة، وكانت كذلك بالفعل، كما كانت تعرف كيف تدير ردفيها بحركة رشيقة أثناء المشي … وجهها يبدو مشدودًا وشفتها العليا طويلة … وعندما وقعت عينها على صورة «دزرائيلي» في أحد الكتب المدرسية اعتقدت أنها كانت تشبهه إلى حدٍّ ما، وجبهة بارزة جدًّا.

(كانت ترفض أن تتغاضى عن أي شيء سلبي)، تصوَّرت أنهم ربما كانوا قد جذبوها من رحم أمها فاستطالت بين أيديهم، أو أن زرافة كانت قد روعت أمها وهي حامل بها. في كثير من الحفلات التي كانت تحضرها كانت تلاحظ كيف تتملك المفاجأة الذين يقتربون منها من الخلف عندما تدير وجهها إليهم، ولكنها كانت تعرف أيضًا كيف تهز شعرها البني الطويل الناعم، وتطلق عليهم ابتسامتها الدفاعية الساخرة كاعتذار صامت عن اختفائهم الحتمي. كان لها سحرها الخاص. وكان يكفي — وإن لم يكن تمامًا — في طفولتها، كانت أمها تمسك بإعلانات التجميل أمام وجهها وتقول لها بحب واختيال: «هذا جميل.» وكأنها يمكن أن تصبح مثل واحدة من أولئك البنات، مع طول النظر إلى الإعلان.

كانت آنذاك تشعر باللوم. وهي في الخامسة عشرة كانت تعتقد أن المسافة بين كاحليها وصدرها شهية ومثيرة، كتلك عند «بيتي جرابل» تقريبًا. وكانت لها لثغة مثيرة كذلك، خاصة بالنسبة للرجال الذين تستهويهم الأفواه! في السادسة عشرة قالت لها عمتها «عايدة» التي جاءت من مصر لزيارتهم: «لك طلة مصرية … المصريات كلهن حرارة!» تذكُّرها تلك الأشياء الغريبة يجعلها تضحك، وكان يرفع من روحها المعنوية حتى في ستينياتها بعد موت «تشارلز». ذكريات كثيرة. من بينها الاستلقاء على السرير صباح أيام الأحد وهي تستمع سعيدة إلى ضوضاء شوارع نيويورك في الخارج. همست ذات مرة في أذن «تشارلز»: «كنت أفكر مثلًا ولمدة سنة على الأقل بعد انفصالنا أنا و«سام» أنني كنت أشعر بحرج شديد أن أذكر ذلك … حتى بعد أن تزوجنا أنا وأنت، وعندما أريد أن أشير إلى «زوجي الأول» … كيف كان ذلك يجعلني أشعر بالارتباك وكأنه عار أو هزيمة … كنا جيلًا ناقص العقل.»

كان «سام» أقل منها — بالمفهوم الطبقي — إلى حدٍّ ما، وكان ذلك جزءًا من جاذبيته في الثلاثينيات عندما كان ميلاد المرء لأسرة غنية يعتبر عارًا ودليلًا على اللاجدوى. وكان الذين في مثل عمرها — بداية العشرينيات — يبحثون عن التميز من خلال القيام بالأعمال الخيرية، حضور الاجتماعات الطارئة مرتين في الأسبوع في مؤسسات بعيدة، أو جمع التبرعات وشراء سيارات الإسعاف للجمهوريين الإسبان، كما كانوا متأثرين لدرجة الغضب الحقيقي ضد الفاشية التي كانت نظامًا أبويًّا إلى حدٍّ ما، كما كانت تعتبر اغتصابًا للعقل.

أما بالنسبة للشباب، لمثلها، فلم يكن أمامهم سوى الأمل الاشتراكي، ولم يكن أي أب إلا ويخشى جماله المدمر. على أية حال، كان أهلها أناسًا أغبياء … يهود يصفون الكلب باسم جديد غريب خلعه عليهم مفتشو الهجرة في القرن الماضي؛ لأن الاسم الروسي الأصلي للجد الكبير كان من الصعب أن يلفظوه بألسنتهم الأيرلندية، وهكذا كان اسم العائلة هو «سيسونز»، ولكن «سام» كان «فنك»، وكان لذلك نكهة سخرية بالنسبة لوالدها.

أرمل من زمن، ومريض الآن رغم أنهم يستشيرونه بالتليفون كخبير في المرافق. كان ذلك عندما تزوجت.

وعندنا قرأ — بينما كان يحتضر — أن هتلر دخل «فيينا» همس ساخرًا عبر سرطان الحلق «… ولكنه لن يبقى» … «الألمان أذكى بكثير من ذلك الأبله».

في ذلك الوقت كانت قد أصبحت أكثر إدراكًا، وتعرف أن عالمًا كان ينتهي … وأنها لن تُفاجأ بجنود قوات العاصفة الأمريكيين وهم يسيرون في «برودواي» ذات مساء وسيورهم الجلدية تحت ذقونهم!

كان من الخطر بالفعل أن تسير في «يورك فيل» — آبر إيست سايد — حيث كان الألمان يتجمعون في زوايا الشوارع لمطاردة اليهود والهتاف ﻟ «هتلر» في ليالي السبت صيفًا.

لا يبدو واضحًا عليها أنها من أصول سامية، ولكنها كانت تخاف خوف الفريسة وهي تمر من أمام الرجال ذوي الرقاب الغليظة في شارع ٦٨.

الأب رجل أنيق، له رأس طويل … نبيل … وعقل من طراز قديم، أو لعلها كانت تراه هكذا في غمار استقلالها الثوري الذي اكتشفته حديثًا. عندما كانت تلمس بيدها، ملاطفة، يده الباردة في كآبة شقة «وست إند أفينيو» كانت تشكر حظها، أو لعله ذكاؤها الحاد، ذلك الذي ساعدها على أن تنصرف عن كل تلك الآنية الفضية الأوروبية الثقيلة والمقاعد المكسوَّة ببذخ، والسجاد الشرقي، وعبء تلك المقتنيات والثقة المضحكة التي عبرت عنها ذات مرة.

إن لم تكن جميلة، فهي على الأقل قوية، متحررة من أوهام «بابا» الشديدة، ولكن الآن … وهو ضعيف وعيناه مغلقتان معظم الوقت، فإنها تترك نفسها تعترف بأنها كانت تشاركه أسلوبه المتغطرس، شديدة الاكتراث وتدعي غير ذلك، على عكس أمها التي كانت تصرخ وتدعي الاهتمام بينما هي غير ذلك تمامًا. ولكن «بابا» بالطبع كان يقبل ظلم الحياة ويراه شيئًا طبيعيًّا مثل الأشجار … أما هي فكانت ترى ذلك شيئًا لا يُحتمل.

رجل تقليدي في الظاهر، سريع الملل من الناس الواضحين، ربطها به بسخريته الشديدة، سخريته السرية من التماثل الذي كان يشعل تمردها على أمها.

قبل موته بيوم ابتسم لها وهو يقول: «لا عليك يا «جانيس» … أنتِ جميلة بما يكفي، ستكونين على ما يرام … ولا تعوزك الجسارة.» ولكن ليت «ما يرام» كان كافيًا! لا بد أن تكون صلاة الحاخام المختصرة قد تمت لكي تلائم أوقات الإفلاس هذه، والناس يضنون بشعائر الوداع الجنائزية لكي يعودوا بسرعة إلى همومهم اليومية بعد الصلاة، ومرتل الجنازة الذي كان يشبه «ﻫ. ل. منسكن» بشعره المفروق من المنتصف، ألقى بكمَّي الرداء مسرعًا وتناول صندوق الرماد الصغير وناوله لشقيقها السمين «هيرمان» الذي نظر إليه فجأة وكأنه عبوة ناسفة على وشك الانفجار.

بعد ذلك خرجوا إلى الشارع الغارق في ضوء الشمس، وساروا معًا. «إدنا» البدينة زوجة «هيرمان» تسير ببطء في الخلف، تنظر إلى واجهات محلات الأحذية القليلة التي بقيت في المباني المهجورة على طول «برودواي».

نصف نيويورك تقريبًا معروض للإيجار، وعلى جميع المساكن تقريبًا لافتات تعلن أنها خالية. «هيرمان» يحرك قدميه بتثاقل وهو يسير مثل الفقمة ويتنفس بصعوبة، ثم قال وهو يلوح بيده: انظري … المبنى بأكمله!

قالت: العقارات لا تهمني في الوقت الحاضر.

– لا تهمك؟ ربما يكون الأكل هو الذي يهمك بما أنه وضع الكثير من أموالك فيه.

بعد ذلك جلسوا في بار أيرلندي خافت الإضاءة في شارع ٤٨ في مواجهة «برودواي»، أمامهم مروحة تنفخ الهواء في وجوههم.

– هل سمعت؟ يُقال إن «روزفلت» مصاب بالزهري!

– من فضلك … دعيني أشرب هذا!

في تحدٍّ سافر للخرافة الرأسمالية وللشعائرية كانت «جانيس» ترتدي «جيب» بيج، وبلوزة من الحرير الأبيض اللامع وحذاءً عالي الكعب، بينما كان «سام» في «سيراكوس» يحاول أن يشتري مكتبة مهمة من أحد المزادات.

قالت لأخيها: لا بد أن تكون آخر يهودي جمهوري في نيويورك!

تنفس «هيرمان» بصعوبة محدثًا صفيرًا، حرك الصندوق الصغير أمامه على البار وهو شارد الذهن، كأنه يحرك آخر قطعة شطرنج محاصرة في دور لا أمل فيه، حركه لمسافة ثلاث بوصات تقريبًا في اتجاه … ثم بوصة أخرى في اتجاه آخر … كان يرتشف البيرة وهو يتكلم عن «هتلر»، وصيف هذا العام القائظ، والعقارات …

– اللاجئون يتدفقون وسوف يشترون «أمستردام أفينيو».

– وماذا في ذلك؟

– المفروض أنهم معدمون … لا يملكون شيئًا!

– تريدهم أكثر عوزًا؟ … ألا تفهم شيئًا؟! الآن وبعد انتصار «فرانكو» فإن «هتلر» سوف يهاجم روسيا وستكون حربٌ كبيرة … ومع ذلك لا تفكر إلا في العقارات!

– وماذا لو هاجم روسيا؟

– يا إلهي! أنا عائدة إلى البيت!

انتابها القرف، نظرت إلى الصندوق الصغير وجرعت كأس المارتيني الثانية بسرعة. قدر مشئوم بالفعل!

إنسان بكامله داخل هذا الصندوق من الكرتون الذي لا يزيد حجمه عن بوصات معدودة … صندوق يتسع بالكاد لعدد قليل من الفطائر.

– لو شاركتِني بجزء من نصيبك نستطيع أن نشتري مباني لا مثيل لها بمبالغ قليلة، هذا الكساد لن يدوم طويلًا … وسوف نبرأ منه ذات يوم.

– أنت فعلًا تجيد اختيار الوقت المناسب للحديث عن «البزنس».

كان له كل جشع «بابا» ولكن بوجه طفل، ولا شيء من جاذبيته. انزلقت من مقعدها وابتسمت بغضب، خبطته على رأسه بكيس نقودها، قبلت خد «إدنا» الممتلئ وانصرفت وكعبا حذائها يدقان أرضية الشارع … ووراءها كان «هيرمان» ما زال يدافع عن حقه في الاهتمام بالعقارات.

في التاكسي، وفي منتصف الطريق إلى المنزل تذكرت أنه كان قد أعطاها صندوق الرماد … فهل تذكر أن يأخذه من البار؟ اتصلت به، قال بصوتٍ حاد وهو مصدوم: معنى ذلك أنك أضعته!

أنهت المكالمة قاطعة الحديث مذعورة … لقد نسيت «بابا» في البار! شعرت بضعف وانهيار وبخوف خرافي يداهمها، كل إلحادها وإنكارها للدين انهار في لحظة وكان عليها أن تفكر بتعقل من جديد.

وفكرت … على أية حال … ما الجسد؟ المهم الفكرة عن الشخص … و«بابا» موجود في قلبي.

في الحمَّام، وهي تقترب من التحليق مرة أخرى في البقية الباقية من سديمية المارتيني الأصفر، لمحت في المرآة المغطاة بالبخار وجهها الذي لا يتغير … ومرة أخرى أضحى الجسد مهمًّا … ولكنه في نفس الوقت ليس مهمًّا … حاولت أن تستدعي إلى الذاكرة أحد الفلاسفة القدامى الذين حاولوا الجمع بين الحقيقتين ولكن المحاولة أرهقتها. وبعد أن أدركت أنها كانت قد تحممت قبل ساعات قليلة … أغلقت الصنبور وبدأت في ارتداء ملابسها ثانية. وجدت أنها كانت مسرعة وعرفت أن عليها أن تستعيد الرماد، لقد أتت شيئًا مرعبًا بتركه هناك … اقترفت ما يشبه الخطيئة … وللحظة عاد أبوها حيًّا يوبخها بنظرةٍ حزينة … إلا أنه أمر مضحك في نفس الوقت … مضحك ولا طعم له.

عامل البار رجل نحيف، طويل الذراع … لا يتذكر ذلك الصندوق … سألها إن كان بداخله شيء ذو قيمة!

قالت: لا!

ثم نطحها الذنب الذي اقترفته مثل عنز غاضب: «والدي … أقصد رماده!»

– يا إلهي!

اتسعت عينا الرجل لهذا الفأل السيئ، وجعلها شعوره الفياض تنخرط في البكاء، كانت تلك المرة الأولى، وشعرت بالامتنان له، كما شعرت بالخجل من نفسها لإحساسه ﺑ «بابا» أكثر منها. ربت على ظهرها بيده وقادها إلى تواليت السيدات الكئيب … نظرت فلم تجد شيئًا … كان عامل البار لا رائحة له مثل الفازلين! كأنها تحلم … حدقت في كل مكان في التواليت! يا إلهي! ماذا لو كان أحدهم قد أفرغ رماده هنا!

عادت إلى البار، لمست ساعد الرجل المغطى بالوشم وهي تقول: لا شيء يهم!

أما هو فأصر على أن يقدم لها كأسًا، أخذت مارتيني وراحا يتحدثان عن صور الموت المختلفة. المفاجئ منه والبطيء … موت الكبار وموت الصغار … حروف عينيها حمراء. كان عاملان من عمال شركة الغاز يسترقان السمع إليهما من ركنٍ قصي في البار، وكان من المريح لها دائمًا أن تكون بين رجال غرباء، أكثر من أن تكون بين نساء لا تعرفهن. ترك عامل البار مكانه وجاء ليصحبها حتى الباب … ودون تفكير قبلته في خده … «شكرًا»!

فكرت … لم يحدث أبدًا أن سعى أحد إليها … أو طلبها. كانت هي التي تعطي نفسها دائمًا، سارت في «برودواي» غاضبة … نادمة لزواجهما … وصلت إلى زاوية الشارع … كانت تحبه، أو على الأقل تشفق عليه مرة أخرى.

وهكذا قضى «بابا»، وبعد عدد قليل من البنايات شعرت بالارتياح لملامح الحِداد فيها. وهم الصلة بالماضي. ولكن يا للغرابة … من المحتمل أن تكون تلك العاطفة قد أثارها فيها أيرلندي كاثوليكي يميني … بل ومن المحتمل جدًّا أن يكون من أنصار «فرانكو» ولا يطيق اليهود! كل شيء كان مجرد إحساس، لا وضوح لشيء … ولكن إلى حدٍّ ما، فإن هذا الاصطدام غير المتوقع بالشعور الحقيقي لعامل البار يلقي بعض الضوء؛ رأت أنها حقيقة لا بد أن تتوقف عن انتظارها لأن تكون شخصًا آخر. هي «جانيس» … وإلى الأبد! يا لها من فكرة مثيرة! لو استطاعت أن تواصلها فلربما قادتها إلى أرضية صلبة. كانت مثل الكساد نفسه، الكل ينتظر أن ينتهي وفي نفس الوقت ينسى أن يعيش … ولكن …. لنفرض أنه استمر إلى الأبد!

لا بد أن تبدأ الحياة.

ولا بد أن يتوقف «سام» عن التفكير باستغراق في الفاشية وتكوين الاتحادات وبقية تلك الأجندة الثورية المكرورة التي لا نهاية لها … ولكن لا يجب أن تفكر هي بتلك الطريقة … صححت نفسها وهي تشعر بالذنب! ابتسمت، تذكرت تحررها اليتيم الجديد … وفي خلال دقائق قليلة أثناء سيرها في «برودواي» كانت ترى شيئًا مثيرًا للدهشة على هيئة رجل رسمي صعب إرضاؤه مثل «ديف سيسونز» وقد تركوه في صندوق في أحد البارات … يمكن أن تراه محبوسًا هناك، صغيرًا غاضبًا، أحمر الوجه … يدق على الغطاء لكي يخرج … فكرة غريبة داهمتها؛ إن الجسد أكثر تجريدًا من الروح التي لا تضيع أبدًا!

«سام فنك» … ابتسامة دافئة وأنف معقوف، وكما تقول: كانت تحاول منذ سنوات أن تحبه.

كان له نفس طول «جانيس» تقريبًا. خمس أقدام وسبع بوصات، كانت عندما تقف أمامه وجهًا لوجه تتذكر تحذير أمها الكريه … المتكرر … إياك أن تتزوجي رجلًا وسيمًا. ولكن «سام» الذي لم يكن وسيمًا كان له جماله الخاص: رؤية اجتماعية معينة، وقورة، خالية من الأنانية، وإخلاص تام لها. «سام» والتزامه الشيوعي قرَّباها من المستقبل وأبعداها عن خصوماتها الرهيبة: التفاهة والهوس البرجوازي بالأشياء. ولكن كان يؤلمها أن تنظر إلى اللوحات الفنية وهو إلى جوارها — كانت قد تخصصت في تاريخ الفن في «هنتر» — وألا تسمع شيئًا عن «بيكاسو» سوى تحوله إلى الحزب أو إلى الرموز السرية المعادية للملكية المدفونة في رسوم «تيتيان»، أو مجازات الصراع الطبقي عند «رمبرانت»: «ليسوا واعين بها بالطبع ولكن العظماء كانوا في حالة صراع مع الطبقة الحاكمة.»

«ولكن لا علاقة لذلك كله يا عزيزي بالرسم.»

ثم يقول بلهجة مدرس يحدث طفلًا — وعنف أولي في عينيه — «إلا أن له علاقة بكل ما في الفن، قناعاتهم هي التي رفعتهم فوق الجميع … «الرسامون» … لا بد أن تعرفي ذلك يا «جانيس» … الاقتناع مهم.» مرهوبة بعبوسه، وبإيمانه الذي ينكر ذاته، ولكنها واثقة من نفسها وهي تدس ذراعها تحت ذراعه وهما يسيران. كانت تعتقد أن معظم المتزوجين لم يتزوجوا عن حب، وإنما لكي يجد كلٌّ منهم تبريرًا لدى الآخر … ولم لا؟ وهي تلقى نظرة سريعة على أنفه القوي ورأسه الأصلع، شعرت بالقوة مع طبيعته الأخلاقية وبالأمان مع روحه المعنوية، ولكنها لم تكن لتستطيع أن تتخلص دائمًا من طيف فراغ يحيط بهما … كآبة مظلمة … قد يقفز إليها ذات يوم شيء مرعب!

معرفته المدهشة بالكتب هي التي ساعدت على تسكين شكوكها. عدد الكتب الرهيب الملم بها، تواريخ المؤلفين … وأين عاشوا … سواء في أمريكا أو إنجلترا … وكان زبائنه يهتمون على نحوٍ خاص بالكُتاب الأمريكيين والبريطانيين. هو واحد من قلة من تجار الكتب الذين يقرءون ما يبيعون، يمكنه أن يلتقط من الهواء أسماء أشهر المؤلفين في شتَّى الموضوعات … من الشطرنج إلى تاريخ الصين … وهو يضعها بنشاط وحيوية أمام زبائنه؛ الذين كانوا يغفرون له غطرسته بسبب معرفته الموسوعية. كان يعرف كذلك مواقع القصور القديمة في نيويورك وكونيكتكت وماسا شوستس ونيوجيرسي، حيث ما تزال بعض الأسر العريقة تحتفظ بمكتباتٍ قيمة سوف تبيعها عند وفاة عم أو عمة وحيدة أو وريثٍ آخر.

كان يخرج مرتين في الشهر بسيارته القديمة إلى الريف، ثم يعود بعد يوم أو يومين بحقيبة ضخمة مكدسة بالكتب ومقعد السيارة الخلفي مزدحم بمجموعات من أعمال «ديكنز» و«ثاكري» و«ميلفل» و«هاوثورن» و«شيكسبير» وتحت إبطيه كتب متنوعة قرضت الفئران حوافها مثل: طبعة سنة ١٨٦٨م من كتاب التاريخ الأدبي للرحم، الأواني الصينية المطلية بالميناء ١٩٠٥م، الألحان الأيرلندية الخالدة لسنة ١٨٨٤م، حوليات طب العيون أو جراحة الحنجرة، تجلس «جانيس» معه على الأرض في غرفة المعيشة المظلمة في «٢٣ إيست إند ستريت»، وهي تتخيل الحياة الصامتة المغلقة لتلك الأسرة الريفية التي انتزعت تلك الكتب من عزلتها، والتي كانت ذات يوم تأتي لهم بأنباء العالم الواسع خلف وخارج أبواب بيوتهم الأرجوانية.

وفي نفس الوقت، كان هو — وبكل نهم — يقوم بتسجيل تاريخ نشر كل كتاب وحالته وأي معلومات ذات صلة قد يطلبها الزبائن، في دفترٍ مدرسي.

حبه الخالص لكتبه ولعمله هو الذي كان يحرك حبها له، كان يحب الكتب ذاتها وقد ينقل منها أجزاء … خاصة من «ترولوب» أو «هنري جيمس» أو «فرجينيا وولف» أو الشيوعي «أراجون» أو «ريتشارد رايت» الصغير ليقرأها لها بسعادة بالغة كأنه مؤلفها … ومثلها كان متنفجًا … ولكنه على العكس منها كان ينكر ذلك. أحسَّت وهو جالس أمامها على السجادة الشرقية متصالب الساقَين أن له طلعة روحانية لراهب جذاب … نفس الرأس الحليق المستدير، وكان هناك شيء رهباني في تظاهره أنه لم يلحظ — عندما اتكأت على مرفقَيها إلى الخلف، إحدى ساقيها مثنية تحتها والجيب مرفوعة تكشف عن نصف فخذها — أنها كانت تطلب أن يأخذها …. على الأرض. وعندما رأته يحمر خجلًا وينتقل إلى تحليل الأخبار اليومية فقدَت الأمل.

إلا أنها مع تلك الديمقراطيات المزعومة التي تغازل الفاشية لم تستطع أن تطلب منه أن يطلق رغبتها المحمومة ويقدمها على الأشياء المهمة. مرتان في الأسبوع على الأقل كانت تخرج وحيدة في المساء إلى حفلات خاصة، تعبر «إيست سايد» الميت إلى شارع ٦ حيث البنايات الحقيرة والبارات المُتربة وتعود متعبة، تستمع إلى تسجيلات «بيني جودمان» وتدخن كثيرًا حتى يبلغ بها التوتر أقصى مدى.

وعندما يعود «سام» ليفسر بحماس أقوال «ستالين» الأخيرة عن المستقبل الاشتراكي الذي يحمل الخير في النهاية، والذي كان يتحرك نحوهم بعناد مثل موج البحر … كانت هي تكاد تغرق في نكرانها الخاص، ولا يهدِّئ من روعها سوى حلم العدالة الذي كان يسهر على حراسته مع ذلك الجيش من الرفاق المنتشرين في كل بلاد العالم.

في صباح أحد آخر، وهي في السرير مع «تشارلز» قالت وهي تحاول أن تتخيل نفسها: «لا أستطيع أن أحدد بالضبط ذلك الذي استولى عليَّ، كان ذلك تقريبًا بعد أربع سنوات من زواجنا، كنا عادة نعود من حفلة سينمائية في «إيرفنج بليس» ونذهب إلى السرير … وهكذا … في تلك المرة قررت أن أعد لنفسي كأسًا من المارتيني ثم جلست على الأريكة أستمع إلى بعض التسجيلات الموسيقية.

بعد عشرين دقيقة تقريبًا جاء «سام» من غرفة النوم ووقف المسكين بابتسامته المتوترة، اتكأ على إطار باب غرفة النوم مثل «همفري بوجارت» وقال: «وقت النوم»، كان ذلك عندما خرجت من فمي عبارة: «اذهب ونم مع المستقبل».»

ارتعش جفنا «تشارلز» وضحك معها وضغط بيده داخل فخذيها …

ضحك وخجل كما تعرف … لأنني لفظت الكلمة، وقال: ما معنى هذا؟

– معناها اذهب ونم مع المستقبل!

ثم سمعت رنين قهقهتها، كما تتذكر دائمًا ذلك الإحساس بالانطلاق.

– لا بد أن يكون لذلك معنى!

– معناه أنه لا بد أن يكون هناك شيء ما يحدث الآن … شيء مهم وجدير بالتفكير به … والآن تعني الآن!

ابتسم وهو لا يفهم.

– الآن دائمًا تعني الآن.

– لا … هي عادة تعني حالًا … أو ذات يوم ولكن الآن تعني … هذه الليلة!

غضب وزادت حمرة خجله لتغطي جبهته كلها. فتحَت الخزانة الخشبية وأعدَّت لنفسها كأسًا أخرى من المارتيني وضحكت لنكتة سرية تذكرَتها … ثم ذهبت إلى السرير وشربت الكأس عن آخرها!

شعر بأنها أهملته ولم يكن أمامه سوى أن يواصل ابتسامته المثالية … رجل! شجاع!

يسند مرفقه على الوسادة ويحاول أن يقبض على ما يدور بعقلها المشغول.

– عشت ووالدي في وقتٍ ما بهذا المنزل البرتقالي على الشاطئ لمدة شهر … كان ذلك بعد أن ماتت ماما. وكنت كثيرًا ما أراقب تلك الطباخة وهي قادمة عبر التلال الرملية حاملة الخضراوات الطازجة وسمكة في السلة لكي أفحصها قبل أن تطبخها لنا … كانت تسير مجهدة متعثرة في الرمال حتى تصل إليَّ … وكان كل شيء هو تلك السمكة والتي كانت دائمًا ما تزال رطبة من البحر.

– وماذا عنها؟

– حسن … تنتظر … وتنتظر وتراقبها قادمة وفي النهاية تجدها سمكة رطبة.

ضحكت وضحكت لدرجة هيستيرية ثم طبعت قبلة انصراف على معصم «سام»، وراحت في نوم منفرد وهي تبتسم يملؤها إحساس بانتصار غير مؤكد!

الآن … ها هي تمرر إصبعًا على أنف «تشارلز» بهدوء.

– هل كان أي شيء من ذلك كله له معنى بالنسبة لكِ؟ أقصد اليسار.

– كنت أدرس الموسيقى في الثلاثينيات.

– رائع! مجرد دراسة الموسيقى؟

– وكأنك ترى ذلك كله مضيعة … هل كان كذلك في رأيك؟

– لا أعرف بعد، حينما أفكر بالكُتَّاب الذين كنا نعتقد جميعًا أنهم مهتمون … والآن لم يعد أحد يذكر أسماءهم … أقصد العسكريين … كل ذلك الأدب ضاع … ذهب!

– كان موضة في تلك الأيام … ومعظم الموضات ينهار ويختفي.

قالت وهي تقبل شحمة أذنه: ماذا تحاول أن تقول لي؟

– يبدو أنكِ كنت في حاجة لأن تسخري من نفسك آنذاك … ولا أعتقد أنك يجب أن تفعلي ذلك. معظم الماضي مزعج دائمًا … إذا كان لديك درجة من الحساسية.

– ولكن ليس بالنسبة لك.

– لدي الكثير من اللحظات.

– التي تخجل منها؟

هز رأسه، شعرَت أنها كانت تحمر خجلًا من أجله فلم تواصل الضغط عليه … لم تكن تريد أن تشوه نُبله، ولا بد أنه سوف يخبرها ذات يوم!

والواقع أنها كانت تدرك أنها لا تعرف عن حياته سوى القليل.

– يظن الراديكاليون أنهم يريدون الحقيقة، ولكن ما يتمنونه فعلًا هو شخصيات ذكية تتطلع إليهم.

– ليس الراديكاليون فقط يا «جانيس»، الناس لا بد أن يعتقدوا في الخير.

عندما يكون في حالة إثارة كان جفناه يرتعشان بسرعة أكثر، والآن ها هما مثل أجنحة الطيور.

– إنهم يشعرون بخيبة الأمل معظم الوقت، ولكن كل شخص بدائي في بعض معتقداته … حتى أكثرهم شكًّا … والذكريات عن بدائية أي شخص تكون موجعة دائمًا. ولكن هل هذا يهم؟ هل تفضلين ألا تكون لك أية معتقدات بالمرة؟

دفنَت وجهها في لحمه، كانت تشعر بأن ما يقوله لها يشبه المد … الفيضان.

من أسوأ الأيام التي تتذكرها، ذلك اليوم عندما انفجرت الأخبار في الراديو معلنة أن «ستالين» قد عقد حلف عدم اعتداء مع «هتلر». كان «ستالين» دائمًا هو الحصن الحصين ضد النازيين أعداء العقل، كما هو ضد نَفَّاجي الطبقات العليا … الطبقات الفاسدة في بريطانيا وفرنسا والذين كانوا يتوقون في السر لمشاهدة الفاشية في بلادهم.

هذا الحلف الذي أبرمه «ستالين» مع «هتلر» أمطر تهديدًا جديدًا من الجنون على عقولٍ كثيرة في المدينة … في العالم.

سألت «سام»: وكيف حدث ذلك؟

كانا يجلسان في محل «باركلي» في «شارع ٨» حيث ثمن وجبة العشاء تسعون سنتًا … وكانت القرية في حالة ذهول والكل يحاول أن يستكشف ما كان يدور بعقل «ستالين». بالنسبة لها كان «ستالين» بعد أن لمس «هتلر» هكذا، قد أصبح مثل الإله الذي أصبح يمارس الجنس ويأكل ويفسو! كان السوفيت هم النقيض السامي ﻟ «وست إند أفينيو»، للسجاد والفضة ولا جدوى الحياة الجافة في مدينة الطبقة الوسطى.

ضرب «سام» جانب أنفه مع غمزة عين وابتسامة هادئة … أسلوب يريد أن يتخلص به من قلقه.

– لا داعي للقلق … «ستالين» يعرف ماذا يفعل؛ وهو لا يساعد «هتلر» بذلك … لا يدعم ألمانيا.

– ولكنه يفعل … أليس كذلك؟!

– لا … إنه يرفض فقط أن يُخرج الكستناء الفرنسي والإنجليزي من النار. ظل يرجوهم لمدة خمس سنوات لإقامة حلف ضد «هتلر» ولكنهم أخَّروه بالمواربة والحيلة متمنين أن يهاجم «هتلر» روسيا، وها هو يقلب مباراة الشطرنج.

حدقت حولها في المطعم، معظم الجالسين في العشرينيات … وقلة قليلة في منتصف العمر. في الماضي كان من المعتاد أن يجيء صاحب المطعم أو أحد المعارف من الزبائن ليسأل «سام» عن شيء، أو يستمع إلى تحليلٍ لأمر سياسي ما؛ كان الناس يتلمسون ثقته الأكيدة … ولكن الآن لا يتوقف أحد عنده، وأثناء خروجهما من المطعم لوح لهما صاحبه بضعف من ركنه البعيد. تعتقد أن لا أحد يعرف فيم يفكر … ولا يظنون أن «سام» يعرف أيضًا!

في هذه الفترة التي استمرت سنة ونصف السنة، في هذه الفترة المرهقة الجافة حتى الظمأ … كانت تجد «سام فنك» يُجهد نفسه لكي يبرر الحلف لها ولأصدقائهما. وعندما أصبح معروفًا للجميع — ولا سبيل للإنكار — أن القمح الروسي والنفط يُشحنان بالفعل إلى ألمانيا التي كانت تحتل فرنسا، توقف شيء ما بداخلها … توقف بلا حراك خلف عينيها مذهولًا. ولأنها كانت معتادة على التفكير العاقل في اتجاه الأمل، راح عقلها يغوص في الشك … وفي النهاية خبأت كل المسألة في ذلك الجزء من كيانها الذي كانت — بكل وعيها — تسميه: «غرفة الإنكار» … ذلك المكان الذي كان قد بدأ في الامتلاء!

والآن … كان أسوأ ما في الأمر هو عدم ثقتها في قيادة «سام»، لم يعد شكاكًا أكثر منها … ولكن بم يمكن أن تسمي إغلاقهما لعيونهما وتعاميهما عن الحقائق؟

الرفاق القُدامى ينسحبون، والآمال في الاتحاد السوفيتي تنهار.

ذات ليلة على العشاء تجرأت وقالت: بصراحة … أنا معظم الوقت أخجل أن أقول إنني لست ضد السوفيت!

وبدأ هو في سخريته: جنود الصيف، ووطنيو الشمس المشرقة.

– ولكنهم يساعدون «هتلر» يا «سام»!

– القصة لم تنتهِ بعد.

لمدة خمس وعشرين سنة تعود إلى تلك المناقشة بينهما وتتذكرها وهي مدركة أنها كانت تفقد احترامها لقيادة «سام»، وكيف أنه كان من الغريب أن يحدث ذلك بينهما بسبب حلف يبعد عنهما عشرة آلاف ميل!

– ولكن ألا يجب أن نعترض … ألا يجب عليك؟ في تلك اللحظة وبدلًا من أن يجيب كان فمه يبدأ في تشكيل ابتسامة تبدو لها أنيقة — ابتسامة اعتداد بالنفس — ويهز رأسه بإشفاق. عندما حدث ذلك … كان بمثابة أول حصة من الكراهية له … أول إحساس بالإهانة. ولكنها بالطبع استمرت كما كان يفعل المرء في تلك الأيام، بل إنها تظاهرت — ليس أمامه وإنما أمام نفسها — بأنها قد استوعبت درسًا آخر من دروسه بعيدة النظر.

ولكن جزءًا ما لم يكن تظاهرًا … أدركت أن أفضل ما في «سام» إخلاصه النبيل الذي كان يواجه تحديًا، وكان عليها أن تحترم ذلك حتى وإن كان لمجرد طمأنة نفسها. شعرت بالعجز … بالشلل … كيف يمكن أن تدين ما ينبع من طيبته حتى وإن كانت تدرك أنه لدعم الخطأ؟ بدا لها أنها يمكن أن تحبه بجنون لو أنه فقط استطاع أن يقر بمعاناته في تلك الورطة … وكانت متأكدة أنه فعلًا في ورطة … وعندما قالت له ذلك قال: لا أرى أي ورطة، «ستالين» يصافح الشيطان لكي ينقذ بلده … وهذا ليس خطأ.

في تلك الليلة ذهبا إلى السرير باردَين … عن وعي … ورياح العالم تهب على وجهَيهما … فكرت: «لا بد أن هذا فصل بالنسبة لنا … وقد يتغير قريبًا.» لو أنه يعترف بجرحه!

الغريب أنها كانت تشعر بالحاجة إلى علاجه، بالحاجة لأن تكون محبوبة … بالحاجة إلى الجنس … ولكنه كان يبدو سعيدًا في نومه … لا شك أنه فصل! أغمضت عينيها واستدعت «كاري جرانت» لينحني عليها … ويتحدث بسخرية وهو يفك ربطة عنقه ويخلع ملابسه … ربما كان من الأسهل على حياة زوجية أن تتحمل شخصَين يكذبان عن أن تتحمل شخصًا واحدًا … وحتى الآن فقط كانت هي المغتربة … النافرة … والآن أيضًا لا بد أن يشعر هو الآخر بزيف حياتهما معًا … هكذا فكرت … ولكنه كان ينام في نُكرانه التام!

إلا أن القرية عرفت الاسترخاء ثانية بعد عام ونصف العام عندما كسر «هتلر» الاتفاق وهاجم روسيا … كان كل شيء على ما يرام الآن بعد أن عادت الفاشية لتكون هي العدو. كان الروس أبطالًا، ومرة أخرى كانت «جانيس» تشعر بنفسها جزءًا من أمريكا … لم تعد خجلة بسبب المشاركة مع «هتلر».

قدَّم «سام فنك» نفسه لمكتب تجنيد البحرية في «٩٠ تشيرش ستريت» بعد أسبوع من «بيرل هاربور» ولكن لا اسمه ولا أنفه كانا مناسبَين ليكون ضابطًا في البحرية … وهكذا ذهب إلى الجيش الأكثر ديمقراطية … كان الرفض مربكًا ولكنه كان متوقعًا في ظل الرأسمالية، خاصة أنه ومنذ سنوات كان على كثير من الطلاب اليهود أن يذهبوا إلى المدارس الطبية الأسكتلندية والبريطانية طبقًا لنظام الحصص المقرر أو النسب المحددة في المؤسسات الأمريكية. في البداية تدرب «سام» في «كنتكي»، ثم في مدرسة الضباط في «فورت سيل-أوكلاهوما» بينما كانت «جانيس» تنتظر في الثكنات الخشبية شديدة الحرارة على مبعدة من القاعدة.

كانوا يقولون إن الحرب سوف تستمر ثماني أو عشر سنوات، ولكن لا داعي للشكوى، ولا بد أن تضع في اعتبارها قصف «لندن» ومحنة «يوغوسلافيا» الأليمة.

وفي محاولة للتغلب على الوحدة علَّمَت نفسها الاختزال والطباعة على الآلة الكاتبة، إذ ربما تجد عملًا في أحد المكاتب أو دُور النشر التي تقدمت إليها، والتي كان موظفوها قد ذهبوا إلى الحرب.

هي الآن في الثامنة والعشرين … وفي الليالي السيئة كان وجهها الضجر — وجه الحصان الصغير كما تقول — يجعلها على وشك البكاء … بعدها تمسك بدفتر صغير وتحاول أن تسجل خواطرها … «لا لأنني أشعر بأنني لست جميلة، فأنا أعرف ذلك جيدًا، وإنما لأنني إلى حدٍّ ما مبعدة عن أي شيء مهم يحدث.» مع ذبول حبها ﻟ «سام» بدأ الوقت يفقد معناه، ولم تعد تفهم سببًا لعمل أي شيء. معجزة منقذة أصبحت أقل من فكرة غريبة … «إلى حدٍّ ما … عندما أنظر إلى نفسي فإن حدوث شيء خارق يبدو ممكنًا أكثر وأكثر … أم تراها تلك الغرفة الحارة الخانقة هي التي تدفعني إلى الجنون!»

عندما تسمع رتلًا من الدبابات يهدر على الطريق، تخرج إلى مدخل الثكنة وتلوح للضباط الذين تظهر الأجزاء العليا من أجسامهم مثل السنطور، بارزة من فتحات الدبابات. وعندما يمرون ويهبط الغبار لامعًا مع أشعة القمر تقف مستغربة: «هل يتمسك كلانا بالآخر … لأننا نشعر أن لا ضرورة لنا؟» هذه الإهانة الكريهة بمجرد أن سكنت عقلها جعلتها تعود كثيرًا إلى الزجاجة، وبعد كأسَين تترك العنان لأسوأ العبارات التي يمكن أن تنطلق من بين شفتيها … «إنه يمارس الجنس كأنه يرسل خطابًا بالبريد الجوي.» ثم تمزق ما تكتب وتلقي به في التواليت وتسحب عليه الماء.

كان غضبها مثل أي شيء آخر في زمن الحرب، معتقلًا من أجل الاستمرار. كانت تحب «النيويوركر»، خاصة «بيرلمان» و«ثاربر» وغطرسة سخريتهما المستترة.

كم هو رائع أن يستطيع المرء أن يعبِّر عن رأيه هكذا … عن شخصيته … فجأة بدا لها أن أسوأ ما في هذه الحرب ومن قبلها الكساد، وكل الحياة التي عاشتها، هو أنها تجعلك تكبح كل شيء إلا ما فيك من خير … عادت إلى الثكنة الخشبية، جلست فوق المرتبة الثقيلة وراحت تفكر في «سام» وهي تشعر بالذنب … «سام» المسكين في المعسكر … في العراء … ينام على الأرض الرطبة في غابات الصنوبر … قالت بصوتٍ عال: «يا لي من جاحدة! … كلبة!» ثم ألقت بنفسها على الوسادة الرطبة … «هتلر الكلب» وانقلبَت لتنام على غضبها لتنام.

٢

عندما تذكرت كل شيء فيما بعد، كان اصطدامها ﺑ «ليونيل ماير» يبدو أمرًا مؤلمًا … عاديًّا، ولكنه في ذلك الوقت كان يلقي بها خارج مدار حياتها القديمة. هو وزوجته «سيلفيا» كانا أصدقاء لهما منذ سنوات، «ماير» صحفي يساري وكان قد عُين ضابطًا صحفيًّا في فرقة «سام».

في هذا الخريف كان «سام» قد صدرت له الأوامر بأن يذهب في معسكر خارجي لمدة خمسة أيام، ورأى أن يصحبها «ليونيل» للعشاء في «لافلوك» متخليًا عن ادعائه بأن زوجته كانت سعيدة بالتجول بين ثكنات الجيش. لم تكن «جانيس» متحمسة للموعد أما «ليونيل» الذي كان يطمح لأن يكون نجم تمثيل بعد الحرب فكان يصغرها بأربع سنوات.

كان يبدو وكأنه يستثير فضولها نحوه بشعره الأسود الكثيف ويديه القويتين وروحه المفعمة بالحيوية والانطلاق، وكانت تلاحظ أنه يفقد صوابه عندما يحملق في النساء، وأن من السهل عليها أن تجعله يقوم بالأداء أمامها بحكاياته وطرائفه الطائشة.

كان يرغب في ممارسة الجنس معها … اكتشفت ذلك، وهو أمر من الصعب أن تجمع بينه وبين طبيعته ذات المبادئ وخجله مع زوجته … إلى أن فكرت في سلوكها هي. لم تكن قد رافقته قبل ذلك إلى مكان غريب، وعلى العشاء كان إنسانًا مختلفًا، يمسك بيدها على الطاولة وكأنه يعرض نفسه بنظراته المحدقة … المشحونة. حسبت المخاطرة فبدت لها بسيطة، ومن الواضح أنه لا يريد أن يخرب زواجه … ولا هي تريد … قال وفي عينيه جوع أكيد، كانت تراه مضحكًا … وضروريًّا: عيناك رماديتان.

– كلاهما … نعم!

انفجر ضاحكًا، استراح لأنه لم يضطر لأن يكمل اللعبة. وهما عائدان من المطعم إلى محطة الباص شاهدا لافتة «فندق رايس» فوق رأسيهما، فالتقت نظراتهما وابتسما … تهاوت أحشاؤها بداخلها كالرمال … لو أن أحدًا رآها وهي تصعد معه درجات السلم الخشبي العريض … فليكن! قررت وهي شبه مخدرة ألا توقف تلك القوة التي كانت تدفعها للخروج من حياة ميتة!

لقد نزل «ليونيل» عليها مثل موجة البحر، تصرعها … تغزوها كلها، تحطم ماضيها إلى قطع صغيرة. كانت قد نسيت وخز اللذة النائمة في حناياها وأي أحاسيس يمكن أن تغمر عقلها.

راحت بعد ذلك في الثكنة الخشبية تتأمل وجهها المشبع في مرآة الحمام ولاحظت كم كانت مليئة بالأنوثة، (سرًّا وبخبث) … غمزت بعينيها وهي سعيدة.

وبرقت في ذهنها فكرة أنها تشعر مرة أخرى بالحرية، مثلما حدث عندما مات والدها.

عندما كانت تُقبل «سام» مودعة وهو مسافر بالبحر إلى إنجلترا، لاحظت أنه لم يبدُ وسيمًا على هذا النحو من قبل … كما يبدو الآن في زيه الرسمي وعلامات الرتبة على كتفيه.

ولكن … مع القضية المقدسة التي كانت تلمع بنبل على وجهه وفي عينيه وبابتسامته الرجولية العريضة، أدركت حزينة أنها لن تستمر معه مدى الحياة … ومهما كانت صورته جميلة فلن يكون ذلك كافيًا للاستمرار.

صمم على أن تبقى في الشقة وألا تصحبه حتى السفينة … والآن … وبرزانة في نظرته غير مألوفة: «أعرف أنني لست الشخص المناسب لك ولكن …» لطمها الشعور بالذنب … «ولكنك كذلك …. أنت كذلك …» يا له من شيء يُقال وهو ذاهب ربما إلى حتفه!

«ربما استطعنا أن نحسم كل شيء عندما أعود»، «يا حبيبي».

وحاولت التعلق به أقرب مما كانت تريد دائمًا، أما هو فقبَّلها في فمها … وبطريقة لم يفعلها من قبل.

كان من الصعب عليه أن يتكلم رغم أنها ربما تكون آخر لحظة لهما معًا.

«أرجو ألا تعتقدي أنني غافل عما يحدث.»

ونظر إلى الجدار ليهرب من عينيها.

«لم آخذ حياتنا على محمل الجد كما يجب … أقصد بمعنى معين … وأنا آسف لذلك.»

«أنا فاهمة.»

«ربما ليس تمامًا.»

ينظر إليها الآن مباشرة بابتسامته الدافئة الجسورة … «أعتقد أنني كنت أفكر بك كشريكة في الثورة … شيء من هذا القبيل … وتركت كل شيء آخر … كل شيء تقريبًا … لأن الفاشية كانت هي هاجسي الوحيد … كان ذلك هو شغلي الشاغل.»

لا يا عزيزي، إنه الخوف الجنسي الذي فعل ذلك.

«ولكن أمريكا على الخط الآن، وليس مجرد أمثالي … و«هتلر» انتهى، ولذلك إذا قُدِّر لي أن أعود أود أن نبدو كزوجين … قصدي أنني أريد أن أبدأ الاستماع إليك.» وابتسم تكسوه حمرة الخجل.

مروعة! أيقنت أن لا أمل لهما معًا. كان لطيفًا وحنونًا … ولكن شيئًا لن يوقفه عن الذهاب إلى الاجتماعات بقية حياته، وهي لن تتحمل أن تكون طيبة أكثر من ذلك … كانت تريد المجد!

جذبت رأسه نحو شفتيها، قبلت جبينه كما يفعل الكهنة بعد الصلاة وراحت تفكر … في ظلال الموت … نفترق على حب! ترك يدها تنزلق من بين أصابعه وتقدم صوب الباب … وهناك استدار ليلقي عليها نظرة أخيرة … رومانسية!

وقفت في المدخل تراقبه وهو في الممر ينتظر المصعد، وعندما انفتح بابه رفعت يدها وحركت أصابعها مع ابتسامة ساخرة … «فخورة بك أيها الجندي.»

ألقى إليها بقبلة ودخل إلى المصعد! هل يموت؟! ألقت بنفسها على السرير، عيناها جافتان … تتساءل بينها وبين نفسها … من تكون في هذه الدنيا … هي الممتلئة بحب ذلك الإنسان النبيل؟!

ربما غاب سنة … أو سنتين … لا أحد يعرف.

سجلت في «هنتر» للدراسات العليا في تاريخ الفن … كان كل شيء على ما يرام. زوجها الطيب ذهب إلى الحرب من أجل أنبل قضية، وهي في «نيويورك» — وليس في ثكنة عسكرية مهجورة — تدرس مع البروفيسور «أوسكار كالكوفسكي».

استمرت قبضة الحرب الصارمة على الوقت، وانعكس «مداها» على معظم القرارات، لا يمكن البدء في أي مشروع طويل قبل أن يحل السلام … ربما بعد خمس سنوات … ست سنوات … كما يقولون الآن.

عزاء واحد كان يخفف من الشعور بالإحباط، وهو وجود عذر جاهز لأي شيء يؤجل أو لا يتم إنجازه؛ مثل مواجهة «سام» بطلاق بينما هو يحارب في ألمانيا، وقد يرسل إلى الباسيفيك للهجوم على اليابان.

ولكن القنبلة حلت المسألة فجأة وبدأت عودة الجميع … أين يمكن أن تجد الشجاعة لكي تقول ﻟ «سام» إنها لا يمكن أن تظل معه أكثر من ذلك؟

لا بد أن تجد عملًا، أن تجد استقلالًا تخاطبه منه … سارت بلا نهاية في «مانهاتن»، متوترة، نصف غاضبة ونصف خائفة، تحاول أن تتصور عملًا ممكنًا لنفسها، وأخيرًا ذهبت ذات يوم لترى البروفيسور «كالكوفسكي» … لا لكي تتحدث عن الفن … وإنما عن حياتها. قبل ذلك بشهور، كانت قد تعبت من المشي فتوقفت عند محلات «أرجوزي» في الشارع الخامس لتريح قدميها وتبحث عن شيء للقراءة. كانت تتكلم مع «بيتر بيرجر» ابن صاحب المحل ورئيس «سام» المباشر عندما دخل البروفيسور، وفي الحال جذبها إليه بابتسامته الهادئة الساخرة وإيمانه الذي لا يتزعزع بالقضاء والقدر، تظاهره بالسأم الذي يشي بالمعابثة كان مثيرًا لها. نظرته المحدقة كأنها تنقر ربلتَي ساقَيها … أفضل معالمها … عملاق لطيف بلاتيني الشعر، كان قد جلس ذات مساء في مكتبه بكل الوقار الأوروبي الأكاديمي وراح يتحدث إليها عن حقيقةٍ قام الأطلنطي بتعقيمها قبل أن تصل إلى أمريكا …. غليونه يدخن في يده اليمنى ذات الإصبعين المقطوعَين بفعل تعذيب النازي.

كانت متأكدة أنه قد استراح لها، ومتأكدة أنه لا توجد لديه أي فكرة عن أي مستقبل لأي علاقة بينهما … عيناه الذكيتان، فمه الذي لا يفتر عن ابتسامة، بعض الصلابة في رغبة فيها لا يفصح عنها … وحديثه الهادئ في ذلك اليوم؛ كل ذلك كان يبدو وكأنه يركز اهتمامه على جسدها. ورغم حجمه وأسلوبه كان في شخصيته شيء ما أنثوي … فبدا على خلاف معظم الرجال، غير خائف أو متهيب من الجنس.

«ليس معقدًا يا مسز فنك.» أعجبها عدم استخدامه لاسمها الأول بعد، وتمنَّت أن يظل يدعوها في السرير ﺑ «مسز فنك» لو أنهما مارسا الجنس معًا.

«بعد حرب كهذه، سيكون من الضروري الجمع بين دافعَين متناقضَين، الأول كما تقولين هو كيفية استيعاب الأشكال التعاونية في المجتمع الجديد، وفي نفس الوقت دمج مبدأ اللذة الذي لا شك في أنه سوف يجتاح العالم بعد طول حرمان. معنى هذا: أن تأخذ ما هو معروض عليك، تطلبه إن لم يكن معروضًا … ولا تندم على شيء.

عامل الندم شيء أساسي، أن تقبل اختيارك لأن تكون ما أنت عليه، ورغم أن ذلك قد يبدو غريبًا فإن الندم لن يكون ممكنًا.

كنا عبيدًا لهذه الحرب، وللفاشية، إذا جاءت الشيوعية إلى بولندا وأوروبا فلن تستمر طويلًا في بلاد النهضة. وهكذا فنحن الآن أحرار، العبودية انتهت أو ستنتهي بسرعة … وسوف نتعلم كيف نختار ذواتنا … وبالتالي كيف نكون أحرارًا.»

كانت قد قرأت الفلسفة الوجودية ولكنها لم تتمكن من إغوائها أبدًا لأنها كانت مسلحة بعُقد الماركسية البيوريتانية التي تلت عصر الجاز المخزي … عصر والدها. ولكن كان هناك الكثير الذي يفتنها، الأوروبيون يحبون الكلام عن موضوعات متداخلة ومتصلة أكثر من الكلام عن أحداث منفصلة. وكانت تحب ذلك متصورة أنها يمكن أن تكتشف نفسها من خلال التعميم … مع بعض الدقة … ولكن ذلك لم يحدث أبدًا. وكأنها تعرفه من زمن — على نحوٍ ما — بدأت تحكي عن حياتها.

«أدرك أنني لا أملك أي درجة من النظرة المعيارية … ولكن …» لم يقاطعها بأي تعليق أو إطراء زائف، معنى ذلك أنه يقبلها كما هي … وقد هزمها ذلك باحتمالات مفاجئة.

«ولكن … ولكني نسيت ماذا كنت أقول …» ضحكت … رأسها مليء بالأضواء، تعترف بالجوع لشيء ما يحدث بينهما أبعد من الكلام.

«أعتقد أن ما تقولينه هو أنك لا تشعرين بأنك مارست اختيارًا في حياتك …»

أكيد! كيف عرف ذلك؟ كانت تندفع وتنجرف دون هدف حقيقي. تحسست شعرها معتقدة أنه لا بد أن يكون قد تشوش أو تعقد.

قال: «أعرف ذلك لأنني أدرك قدر ما فيك من تطلع … من توقع …»

نعم! كان ذلك كذلك.

«يمكن احتمال أي قدر من المعاناة تقريبًا، بشرط أن تكوني أنت التي اخترت. كنت في «لندن» عندما هاجموا «بولندا»، وكنت أعرف أنني لا بد أن أعود وكنت أعرف أيضًا مدى خطورة ذلك. وعندما كسرت أصابعي فهمت لماذا كانت الكنيسة قوية، وأنها بُنيت بواسطة رجال اختاروا المعاناة من أجلها … كان ألمي أيضًا اختيارًا … وكما ترين فإن هذا البعد في الاختيار جعل له معنى … لم يضِع هباء … لم يكن لا شيء …»

ثم مد يده ببساطة على مسند مقعده وأمسك بيدها، وجذبها إليه … وقبَّل شفتيها باستغراق شديد.

كان مغمض العينين، كأنها ترمز لشيء بالنسبة له ولمعاناته الأوربية الحكيمة.

وفي الحال، أدركت كنه ألم السنين الطويلة بداخلها … وهو أنها وبكل بساطة؛ لم تختر «سام». فعلًا … كان عبارة عن شيء حدث لها! ولأنها لم تفكر أبدًا في نفسها كامرأة ذات قيمة … تختار أن تمنح نفسها! دس يده برفق داخل ثيابها … وكانت سعيدة! نظرت إليه وهو راكع على الأرض، وجهه مدفون بين فخذيها. قالت: «أحب أن أعرف ما أفعل … وأنت؟»

ثم ضحكت، كان وجهه عريضًا أبيض اللون وعظامه سميكة وقوية. نظر إليها وهو يلوي فمه ضاحكًا: «بدأت مرحلة ما بعد الحرب.»

٣

بعد عودة «سام» في سبتمبر، مرت كل شهور الذنب. مرت قبل أن تجد الشجاعة لتخبره بأنها لا تستطيع أن تتحمل الحياة معه، وجاء ذلك مصادفة.

كان حدوث ذلك صعبًا، لأنه عاد يتصرف وكأن لم تكن هناك مشكلة بينهما أبدًا، كما لم يشفع له إحساسه بأنه كان يستحق التقدير لتدمير الفاشية.

أثبتت ماركسيته التنبئية نفسها في القوة الروسية الجديدة بعد الحرب وانطفاء الفاشية، وجعله ذلك يشعر بأنه قد أسهم في صنع التاريخ! صفة جديدة، شيء ما أقرب ما يكون إلى الغطرسة، صفة كانت تتمناها له في الماضي والآن أصبحت تزعجها … بعد أن افترقت روحاهما.

ما جعلها تنطق، هو إلماحه ذات مساء إلى أنه فرض نفسه على فلاحة ألمانية كانت قد آوته ذات ليلة أثناء عاصفة ممطرة، ابتسمت مفتونة: «خبرني عنها، هل كانت متزوجة؟»

«نعم … بالتأكيد … كان زوجها قد ذهب وكانت تظنه قُتل أو أُسر في ستالينجراد.»

«كم كان عمرها؟ … صغيرة؟»

«في الثلاثين … أو تزيد قليلًا.»

«جميلة؟»

«ممتلئة إلى حدٍّ ما.»

ومن ضحكته الفظة، لاحظت أنه ربما قرر ألا يكون خنوعًا معها أكثر من ذلك. منذ عودته كانت ممارسته للجنس معها مستبدة بدرجة ملحوظة … ولكنها غير بارعة كما كانت من قبل. كان أفضل في التعامل مع جسدها، ولكن مشاعرها لم يكن لها مكان في تفكيره.

«ثم … ماذا حدث؟ … خبرني.»

«حسن! … بافاريا … كنا قد توقفنا محاصرين في تلك المدينة شبه المدمرة، الرياح تعصف من النوافذ وأصبت بنوبة برد قاتلة.

وبعد أن وصلنا إلى المدينة رأيت ذلك المنزل على بعد نصف الميل تقريبًا، كان يبدو سليمًا والدخان يتصاعد من مدخنته … توجهت إليه.

قدمَت لي بعض الحساء، غبية! أخفت العلم النازي المعلق على صورة زوجها … وكان الوقت متأخرًا … وأنا …»

زم شفتيه بشدة، مدد ساقيه وعقد يديه خلف رأسه.

«هل تودين سماع ذلك فعلًا؟»

«هيا يا عزيزي! أنت تعرف أنك تريد أن تحكي …»

«حسن! قلت إنني أريد أن أمضي الليلة، وقادتني إلى غرفة صغيرة باردة بالقرب من المطبخ، قلت: انتبهي أيتها النازية القحبة.

سأنام في أفضل سرير في هذا المنزل.»

ضحكت «جانيس» وهي مستثارة.

«رائع! ثم؟»

«مكنتني من نفسها … وفي سرير زوجها.»

وأنهى القصة عند هذا الحد. كانت تدرك الثغرة التي تركها، فابتسمت ابتسامة عريضة.

«ثم؟ … احكِ … ماذا حدث بعد ذلك؟»

كانت تعلوه حمرة ولكنه يشعر بالزهو.

«هل كانت ساخنة … أم ماذا؟ احكِ … هل كان اغتصابًا لك؟»

«أبدًا! إنها نازية حقيقية!»

«تعني أنك اغتصبتها؟»

«لا أعرف إن كنتِ تسمين ذلك اغتصابًا.»

قال وهو يتمنى أن تعتبر الأمر هكذا.

«هل كانت تريد أم لا؟»

«وما الفرق؟ الأمر لم يكن سيئًا.»

«وكم من الوقت بقيت معها؟»

«بقيت ليلتين … إلى أن تحركنا.»

ابتسمت وقالت: «بعد ذلك … هل كانت ضد النازية؟»

«لم أسأل!»

تفاخُره بذلك واعتزازه ملآها بالحيرة … وبالراحة.

«هل كانت لها ضفائر شقراء وترتدي لباس فلاحات بافاريا؟»

«لم تكن ترتدي لباس فلاحات.»

«ولكن ضفائر شقراء؟»

«بالطبع …»

«صدرها كبير؟»

«كانت …» ثم أمسك عن الكلام لينفجرا ضاحكين. تقدمت نحو مقعده، انحنت عليه وقبلت رأسه الحليق، نظر إليها بحب وزهو بإنجازه.

قالت: سأتركك يا «سام» … في صوتها رنة سخرية ما تزال، فجأة … لم يعد عليها أن تمد يدها لتسنده … سيكون على ما يرام.

وبعد ذهوله وعدم قدرته على التصديق، وصدمته، وغضبه، قالت: «ستكون على ما يرام يا عزيزي.»

أعدت لنفسها كأسًا من المارتيني وصلبت ساقيها تحتها على الأريكة وكأنها مقدمة على ثرثرة لطيفة.

«ولكن أين ستذهبين؟»

صحيح! بوجه مثل وجهها … ورغم ذلك كان هو ميناؤها الوحيد في هذا العالم.

كانت الإهانة أكثر إهانة لأنه لم يكن يعيها … وفي الحال احتدم غضبها وندمها على الوقت الذي أضاعته معه. كانت قد عرفت طريقة للضحك بهدوء عندما يصيبها مكروه أو أذى، أن تقطب ذقنها وتنظر إلى خصمها رافعة حاجبيها ثم تطلق العنان لسخرياتها وكأنها بكرة سلك.

«حيث إنك ذكرت ذلك فلا يهم أين أذهب، لأنني وبكل المقاييس لا أعتبر نفسي موجودة أصلًا.» انتظرت لحظة ثم أكملت: «أليس كذلك يا سام؟»

٤

في نهاية الحرب كان فندق كروسبي «شارع ٧١ في برودواي» ما زال يحتفظ ببقايا جماله القديم وبعض زخارفه الباريسية وكان جميلًا أن تجد غرفة به … جرداء … لا يوجد بها شيء.

ما أجمل ألا يكون لك مستقبل! ها هي حرة مرة أخرى. وإلى حدٍّ ما كان ذلك يذكرها بفندق «فوليتر أون ذا كواي» في سنة ١٩٣٩م عندما كان والدها يدق عليها الحائط من الغرفة المجاورة ليوقظها لتناول الفطور.

تجرأت وطلبت «ليونيل ماير»: «لا أعرف إن كنت في حاجة لطباعة أي شيء!»

كانت تمازحه على التليفون مثل فتاة مراهقة، تدلي نفسها أمامه ثم تجذبها (حين يضغط عليها).

لا حرب توجه حياته، ولذلك كان مثلها ضائعًا. شاب تعس يطرح نفسه مثل رب أسرة … وبسرعة كان يقف، يضغط بتقاطع ساقيه على رأسها وهي جالسة تطبع رسالة له كان قد كتبها لصحيفة «كوليير» عن تجربته في الفلبين.

لم تكن لديها أية أوهام، ولا حتى تلك الحتمية التي كانت تستمر فقط عندما يكون بداخلها … وعندما تصبح بمفردها كان خواؤها يوجعها وكانت تخاف من نفسها … الآن ها هي تتخطى الثلاثين … ولا أحد! ذات مساء جاء «هيرمان» ليعرف كيف كانت تعيش. فقد بعض الوزن.

«لا قطارات الآن … أتنقل بالطائرة … أشتري في شيكاغو … يمكن شراء نصف المدينة بسعر لا يذكر.» جلس وهو يتطلع في ضيق إلى الجزء البعيد من «برودواي».

«هذا مقلب للنفايات يا أختي، لقد اخترتِ مقلبًا للنفايات بالفعل لتبددي حياتك فيه … ماذا كان عيب «سام» … مثقف أكثر من اللازم؟

كنت أعتقد أنك تحبين المثقفين. لماذا لا تجيئين معي ونؤسس شركة. المدن مليئة بالفرص … يمكن أن ندفع عشرة … خمسة عشر بالمائة ونمتلك مبنى، نحصل على قرض لتحسينه ثم نرفع الإيجار كما يحلو لك لتصل أرباحك إلى أكثر من خمسين بالمائة.»

«وماذا يحدث بالنسبة لسكان تلك الأبنية؟»

«يدفعون الإيجار الجديد المرتفع أو فليذهبوا إلى الجحيم ليعيشوا في حدود إمكانياتهم … إنه الاقتصاد يا «جانيس»، البلد يتحرك نحو أكبر ازدهار … اصعدي إلى القارب واخرجي من هذه المزبلة.»

الآن … يرتدي نظارة طبية … عندما يتذكرها، وضعها على عينيه لكي تراها.

«أنا الآن في الثالثة والستين يا بنيتي، ومع ذلك أشعر بأنني رائع … مذهل … ولكن ماذا عنك؟»

«أتوقع أن أكون سعيدة … ولكنني لست رائعة … لست مذهلة حتى الآن … ومع ذلك لن تأخذ نقودي لتطرد الناس إلى الشوارع … آسفة يا عزيزي.»

أرادت أن تغير الجورب، ما زالت ترتدي جوارب حريرية رغم انتشار موضة الجوارب النايلون التي تراها باردة ورديئة. عندما حاولت أن تفتح أحد أدراج التسريحة القديمة انخلع المقبض في يدها.

«كيف تعيشين في هذه المزبلة؟ كل شيء يتداعى!»

«أحب أن يتداعى كل شيء … أهون من أن أكون أنا التي تتداعى.»

«بالمناسبة … هل وجدت الرماد؟»

«وما الذي ذكرك به؟»

«لا أعرف، تذكرته لأن عيد ميلاده مر في شهر أغسطس الماضي.»

هرش رجله الثقيلة ونظر من النافذة مرة أخرى.

«كان يمكن أن يقدم لك نفس النصيحة، كل من له رأس سيصبح مليونيرًا في السنوات الخمس القادمة، العقارات في نيويورك رخيصة جدًّا، والألوف يبحثون عن مساكن فاخرة، وأنا أريد مشاركة شخص أثق به … على فكرة … ماذا تفعلين طوال اليوم؟ أعني ما أقول … إن شكلك يبدو لي مضحكًا يا «جانيس»، كأن عقلك لم يعد يعرف التركيز … هل أنا مخطئ؟»

سحبت الجورب على ساقها حريصة على أن تكون خياطته مستقيمة.

«لا أريد أن أركز في شيء، أريد أن يكون عقلي متفتحًا مستقبلًا لما حولي … هل يبدو ذلك غريبًا … أو شائنًا مثلًا؟ أن أكتشف ما ينبغي عليَّ أن أقوم به لكي أعيش كإنسان، أقرأ كتبًا، أقرأ روايات فلسفية مثل أعمال «كامو» و«سارتر» وأقرأ لشعراء رحلوا مثل «إميلي ديكنسون» و«إدنا سان قانسان ميلاي»! وأيضًا …»

«لا يبدو لي أن لديك أصدقاء … صحيح؟»

«لماذا؟ … هل يترك الأصدقاء علامات؟ ربما لست على استعداد لاتخاذ أصدقاء … وربما لم أولد تمامًا بعد … هكذا يعتقد الهندوس … يقولون إننا نواصل ميلادنا وإعادة ميلادنا …. شيء مثل هذا … الحياة مؤلمة جدًّا بالنسبة لي يا «هيرمان».»

امتلأت عيناها بالدموع. هذا الإنسان الغريب هو أخوها … آخر شخص في العالم يمكن أن تثق به … ومع ذلك كانت تثق به أكثر من كل الذين عرفتهم … سمين … ويبعث على السخرية كما كان دائمًا.

جلست على السرير وهي تنظر إليه في الضوء الرمادي الخافت المتسلل من الشباك القذر … نقطة منتفخة تملؤها المشروعات وسعادة الجشع.

قالت: «أحب هذه المدينة … دون سبب معين، أعرف أن هناك وسائل كثيرة لأكون سعيدة فيها ولكني لم أجد أيًّا منها … وأعرف أنها موجودة.»

انتقلت إلى الشباك الآخر في الواجهة وباعدت بين جزأي الستارة ونظرت إلى «برودواي» …. مطر خفيف في الخارج.

«سوف أشتري كاديلاك جديدة.»

«أليست ضخمة جدًّا؟ … كيف تقود تلك السيارات؟»

«كالحرير … إنها تطفو … رائعة … تحاول أن يكون لنا طفل آخر ولا أريد سيارة تقلقل بطنها.»

«هل أنت بالفعل واثق من نفسك كما تبدو؟»

«تمامًا … تعالي معي.»

«لا أعتقد أنني أريد أن أكون غنية إلى تلك الدرجة.»

«أعتقد أنكِ ما زلتِ شيوعية.»

«أظن ذلك … هناك شيء ما خطأ … الحياة من أجل المال … لا أريد أن أبدأ ذلك.»

«على الأقل تحرري من تلك السندات وانزلي إلى السوق … إنك تخسرين كل ساعة بالفعل.»

«أنا؟ … ولكني لا أشعر بذلك، ولذا لا شيء يهمني.»

رفع ثقله على ساقيه بصعوبة وزرَّ سترته، جذب ربطة عنقه إلى أسفل وأخذ قبعته من على ظهر الكرسي.

«لن أفهمك يا «جانيس».»

«ولهذا نحن اثنان يا «هيرمان».»

«ماذا ستفعلين بقية اليوم … على سبيل المثال؟»

«مثال على ماذا؟»

«على ما تفعلين دائمًا.»

«يعرضون أفلامًا قديمة في شارع ٧٢، قد أذهب إلى هناك حيث يوجد فيلم ﻟ «جاربو».»

«في منتصف يوم العمل؟»

«أحب أن أكون في السينما ورذاذ المطر في الخارج.»

«ألا تودين أن تجيئي معي إلى المنزل للعشاء؟»

«لا يا عزيزي … قد يقلقل ذلك بطنها!»

ضحكت، وقبلته مسرعة لتبطل مفعول لسعة العبارة التي لم تكن مستعدة لها مثله. ولكن الحقيقة أنها لم تكن تريد أطفالًا أبدًا.

«ماذا تريدين من الحياة؟ هل تعرفين؟»

«أعرف بالطبع.»

«ماذا؟»

«وقتًا ممتعًا.»

هز رأسه مرتبكًا، ثم وهو يغادر: «لا تورطي نفسك!»

٥

كانت تحب «جاربو» في أي دور تقوم به، تجلس لتشاهد عرضين … حتى من أقدم أفلامها … وكان ذلك يطلق العنان لسخريتها … تحب أن تطفو وأن تحملها تلك الحكايات الفكهة بعيدًا … وأحواض الاستحمام المبهجة التي لها شكل البجع والصنابير التي تشبه رءوس النسور … وأبوابها ونوافذها وثناياها الباروكية التي يقطر منها الماء.

هذه الأيام، يبهجها ذوقها القديم لدرجة التحليق عاليًا … كما أعاد صلتها ببلدها. يجعلها تريد أن تقف على سطح وتصرخ للنجوم في سعادة عندما تخرج الممثلة من «الرولز رويس» البيضاء في فستانها الطويل الشفاف، استرخاؤها على «الشيزلونج»، الصراعات متقلبة الأطوار مع أبطالها، ثم أخيرًا عندما تغمض جفنيها الخزفيين مستسلمة راضية مرضية لقبلة «باري مور» الطويلة … كان ذلك كله يحملها بعيدًا عن أرصفة الحياة الكئيبة … وبالطبع عظام وجنتي «جاربو»! وبشرتها البيضاء من غير سوء.

كان يمكن أن تستلقي «جانيس» بالساعات على سريرها في الفندق، نظرها إلى السقف لا يطرف لها جفن، ووجه «جاربو» معلق فوق عينيها! كان يمكن أن تقف بالساعات أمام مرآتها التي تعكس صورتها حتى الرقبة فقط، وترى جسدها حيًّا لدرجة مدهشة في انسيابه الجميل، خاصة عندما تنظر إليه من جانب يؤكد تمام فخذيها!

٦

انفتح باب المصعد القديم ذات مساء، رأت رجلًا وسيمًا … في الأربعينيات … وربما في الخمسين، يقف أمامه، في إحدى يديه عصا سير وفي الأخرى حقيبة صغيرة.

دخل إلى المصعد بخطوات هادئة وظهرٍ مستقيمٍ على نحوٍ غريب. لم تدرك «جانيس» أنه كان أعمى إلا عندما وقف على بعد بوصات قليلة منها وأدار نفسه برفع قدمه ليكون في مواجهة الباب … على ذقنه جرح من أثر الحلاقة.

«إلى أسفل … أليس كذلك؟»

«نعم!»

شعرت بجيشان متسارع في صدرها … حرية قريبة … تحرر … عندما حدق في وجهها للحظة دون إبصار. في ردهة الفندق سار إلى الأمام عبر الأرضية المبلطة إلى الباب الخارجي … نحو الشارع.

تقدمت خلفه ودفعت الباب لتفتحه له.

«هل لي أن أساعدك؟»

«شكرًا! نعم، شكرًا جزيلًا.»

سار في الشارع واستدار يمينًا في اتجاه «برودواي» وهي تسير بجانبه.

«هل أنت ذاهب إلى محطة المترو؟ أقصد أنني ذاهبة إلى هناك إن كنت تحب أن أكون معك!»

«سيكون ذلك جميلًا … نعم … شكرًا … رغم أنني أستطيع أن أفعل ذلك بنفسي.»

«ولكن طالما أنا ذاهبة إلى هناك أيضًا …» سارت إلى جواره، لاحظت أن خطواته وسرعته منتظمة بصورة مدهشة، أي حياة في جفنيه المرتعشين! كأنها تسير مع إنسان بصير … ولكن الحرية التي تشعر بها وهي إلى جواره كانت تملأ عينيها بدموع الراحة والامتنان.

وجدت نفسها تصب كل مشاعرها في صوتها الذي كان ينساب من فمها فجأة بكل بهجة البراءة في فتاة صغيرة، صوته خفيض وجاف كأنه لا يُستخدم كثيرًا.

«هل تقيمين في هذا الفندق منذ زمن؟»

«منذ مارس الماضي … منذ طلاقي.» ثم أضافت دون أدنى تردد: «وأنت؟»

«لي خمس سنوات هنا … جدران الطابق الثاني عشر عازلة للصوت تقريبًا كما تعلمين.»

«هل تعزف على آلة موسيقية؟»

«البيانو … أنا مع «ديكا» في القسم الكلاسيكي وأستمع إلى كثير من التسجيلات.»

«هذا شيء مثير للاهتمام.»

أحست بالبهجة لتلك المحادثة، كما كانت تشعر بامتنانه لها وهما يسيران معًا. كان وحيدًا. الناس يتجنبونه … ربما … أو لعله كان رسميًّا جدًّا … ربما.

احتفلت بغريزتها للحظة، لم تشعر من قبل بتلك الثقة … الآن هي أكثر حرية.

على أول درجة من سلم محطة المترو أمسكت بذراعه، قبضة خفيفة … كما لو كان عصفورًا تخشى أن تفزعه. لم يمانع، وعند الباب الدوار أصر على أن يدفع ثمن تذكرتها من العملات الفضية التي كان قد جهزها في يده بالفعل. لم تكن تعرف إلى أين هو ذاهب … أو إلى أين تدَّعي أنها ذاهبة.

«كيف تعرف أنك قد وصلت إلى محطتك؟»

«أعد المحطات.»

«نعم … كم أنا غبية!»

«أنا ذاهب إلى شارع ٥٧.»

«وأنا كذلك.»

«هل تعملين في مكان قريب من هنا؟»

«الحقيقة أنني لم أستقر بعد، ولكني أبحث عن عمل.»

«بالتأكيد لن تكون هناك مشكلة … يبدو أنك صغيرة.»

«الحقيقة أنني لم أكن ذاهبة إلى أي مكان … وأردت فقط أن أساعدك.»

«صحيح؟»

«نعم!»

«ما اسمك؟»

«جانيس سيسونز، وأنت؟»

«تشارلز بكمان.»

كان بودها أن تسأله إن كان متزوجًا، ولكن الواضح أنه لا يمكن أن يكون … لا يجب أن يكون.

شيء ما فيه شديد التنظيم، كما أنه ليس رهينة لأي شيء أو لأحد.

في الشارع توقف عند الإفريز المواجه لوسط المدينة.

«أنا ذاهبة إلى نادي اللياقة البدنية في شارع ٥٩.»

«هل لي أن أسير معك؟»

«بالتأكيد … أمارس الرياضة هناك ساعة قبل المكتب.»

«يبدو أنكِ على درجة عالية من اللياقة.»

«لا بد أن تمارس الرياضة أنت أيضًا … رغم أنني أعتقد أنك لائق.»

«كيف عرفت؟»

«الطريقة التي تنقل بها قدميك.»

«حقًّا؟»

«نعم … وهذا يعني الكثير … دعني آخذ يدك.»

وبسرعة وضعت ذراعها اليسرى في يمناه. ضغط على راحتها بالسبابة والوسطى.

«شكلك جميل … وسيكون جميلًا كذلك أن تمارس السباحة … لن يكون من الصعب عليك.»

شيء ما ارتعش بداخلها فارتعشت معه طربًا لمعرفته الغريبة بها.

«ربما أحاول.»

كانت تكره التمرينات الرياضية لكنها أقسمت أن تبدأ بأسرع ما تستطيع. تحت المظلة الرمادية للنادي الرياضي أبطأ الخطى ثم وقف في مواجهتها … وللمرة الأولى تستطيع أن تنظر وتواصل النظر أكثر من لحظة عبر جفنيه المرتعشين إلى عينيه البنيتين مباشرة.

شعرت أن الفرصة وفرط الامتنان يمكن أن تخنقها، حيث كان ينظر إليها بتلك الحميمية في هذا المكان العام تحديدًا.

وشعرت هي بنفسها تقف منتصبة القامة … أكثر من أي وقت في حياتها.

«أنا في غرفة رقم ١٢١٤ إن رغبت أن تجيئي لتناول مشروب.»

«بكل سرور.»

ضحكت لقبولها الفوري. قالت: «لا بد أن أقول لك إنك أسعدتني لدرجة لا يمكن وصفها.» قالت ذلك وهي تستمع إلى نفسها مرعوبة من الارتباك، ولكنها قررت ألا تجبن أمام الحاجة المتفجرة بداخلها.

«جعلتَني في غاية السعادة.»

كانت الحمرة قد بدأت تكسو وجهه، وأدهشها أن يخترق الارتباك ذلك الوجه الساكن إلا قليلًا.

«لا أعرف لماذا، ولكنك فعلت ذلك. أشعر بأنك تعرفني أكثر من أي شخص آخر … وأعتذر عن أي إزعاج يمكن أن أكون قد سببته لك بسخافتي.»

«لا … لا … أبدًا! أرجوك احرصي على أن تجيئي هذه الليلة.»

«سأجيء.»

شعرَت وكأنها يمكن أن تشب على طرفَي قدميها وتقبل شفتيه، وأنه لا يمانع لأنها جميلة … أو لأن يديها كانتا …

«يمكن أن تطفئي النور إن شئت.»

«لست أدري … ربما كان من الأفضل أن أتركه مضاءً.»

أسقط سرواله التحتي، تحسس السرير بذقنه وتمدد إلى جوارها، وهي تحدق في وجهه الأعمى راحت يده تستكشف جسدها الجميل … السعيد … كانت لمسات نقية، وصدقًا نقيًّا أبلغ من كل كلام … كان كل ما فيها ينساب عبر يديه كالماء، وهي متحررة من حياتها كلها. تقبله بعنف … وبرقة … تقود يديه إلى حيث تحب أن تكونا … تقوده ثم تستسلم لأقل حركة منه.

وفي لحظات هدنة … كان يجري أصابعه على وجهها وهي تكتم نفسها عندما يتوقف نفسه، وهو يتحسس قوس أنفها وشفتها العليا وجبهتها ويضغط على عظمتي خديها برفق … كانت واثقة أنه سيكتشف أن لا شيء غير عادي في ذلك كله … وأن تلك الملامح جميعًا كانت مدفونة في وجه مستدير … أو لعله منقبض على نفسه.

«لست جميلة.» قالت كأنها تسأل أكثر منها تقرر واقعًا.

«أنت جميلة حيث يهمني أن تكوني.»

«هل تتصورني؟»

«نعم … جيدًا.»

«هل كل شيء جميل بالفعل؟»

«وأي فرق عندي؟»

انقلب فوقها، فمه على فمها، ثم راح يحركه على وجهها ويقرؤه بشفتيه … ومرة أخرى كانت لذته تتدفق فيها.

«سوف أموت هنا … قلبي سيتوقف هنا تحتك، لا أريد أكثر من هذا ولا أستطيع أن أتحمل كل هذا.»

«أحب لثغتك.»

«حقًّا؟ ألا تبدو طفولية؟»

«ولذلك أحبها … ما لون شعرك؟»

«هل تتخيل الألوان؟»

«أعتقد أنني أستطيع أن أتخيل اللون الأسود … هل شعرك أسود؟»

«كستنائي … كستنائي يميل إلى الحمرة الحقيقة … وناعم … وطويل على كتفي.

رأسي كبير، وفمي كذلك وبارز الفكين قليلًا، ولكني أمشي بطريقة رشيقة … ربما جميلة لو سألت البعض … وأنا أحب أن أمشي بطريقة مثيرة.»

«مؤخرتك بديعة التكوين.»

«نعم! نسيت أن أذكر ذلك.»

«تملؤني البهجة وأنا ممسك بها.»

«أنا سعيدة … سعيدة …»

وأضافت: «سعادة مثل الصاعقة.»

«وكيف أبدو بالنسبة لك؟»

«أعتقد أنك رجل وسيم … رائع … بشرة سمراء، شعر بني مفروق على اليسار … وذقن قوية. وجهك مثلث الشكل تقريبًا … عليه علامات الثقة والصمت … أطول مني بثلاث بوصات أو أربع … جسمك رشيق وليس نحيفًا … أعتقد أنك رائع!»

ضحك بينه وبين نفسه، أمسكت «…»: «وهذا تمام التمام.» ضحك وقبلها برفق … ثم نام بهدوء … رقدت بجانبه لا تجرؤ على الحركة حتى لا توقظه مرة أخرى للحياة وأخطارها.

في أواخر السبعينيات، وهي تعيش في القرية، قرأت في الصحف أنهم كانوا يزيلون فندق «كروسبي» لإقامة عمارة سكنية في مكانه. الآن تعمل متطوعة في إحدى منظمات الحقوق المدنية، ترصد الانتهاكات في أي مكان شرقًا وغربًا، ثم قررت أن تأخذ ساعة إضافية بعد الغداء وتذهب إلى المدينة لترى الفندق القديم للمرة الأخيرة قبل أن يختفي.

كانت في الستينيات من عمرها الآن … و«تشارلز» مات وهو نائم قبل عام أو أكثر قليلًا.

خرجت من محطة المترو وسارت في الشارع الجانبي، ووجدت أن الطابق العلوي … الثاني عشر … كان قد أزيل … استندت على مبنى في الشارع وراحت تراقب العمال وهم يفكون الجدران بسرعة وبسهولة متناهية.

لم تكن سوى الجاذبية إذن هي التي تمسك بالمباني معًا! كانت ترى داخل الغرف، الألوان المختلفة التي صبغ بها الناس الجدران … والعناية التي كانوا يختارون بها المظلات.

مع كل قطعة تسقط من البناء كانت سحب الغبار ترتفع في الجو. كل جيل ينتزع جزءًا من المدينة … مثل النمل الذي يجر ذرات الطعام … بعد وقت قصير سوف يصِلون إلى غرفتها.

زحف عليها ذهول أجوف، من بين إحدى وستين سنة عاشتها لم يكن هناك سوى أربع عشرة جيدة … وهذا ليس بالأمر السيئ.

تذكرت عشرات الحفلات الموسيقية والعشاء في المطاعم، عظمة حب «تشارلز» واعتماده عليها … هي التي أصبحت عينيه.

لقد قلب كيانها وأخرجه لكي تنظر به إلى العالم، بدلًا من أن تحبس نفسها لينظر إليها العالم ويعترض عليها … سارت واقتربت من أبواب الفندق ووقفت هناك … تحاول عبر الشارع أن تستنشق رائحة الطين الرطبة، رائحة المبنى الذي كان يموت. تحاول أن تستعيد المرة الأولى التي سارت فيها معه في الشارع … ثم إلى محطة المترو … آخر يوم في تشردها. اشترت عطرًا جديدًا كان يتطاير إليها طافيًا عبر الهواء المترب ويجعلها تشعر بالسعادة.

استدارت عائدة إلى «برودواي»، مرت أمام عربات الفاكهة وبقايا الأنقاض والأكل الملقاة في الشوارع … قشر الفاكهة والبذور وفردة حذاء وربطة عنق قديمة وامرأة على الممشى الجانبي تمشط شعرها وأطفال سود يركضون وراء كرة … انفجار الأسباب والأهداف التي كانت تعرفها ذات يوم ولم تعد تملك الشجاعة لاستدعائها من الماضي الذي كان يختفي سريعًا … و«تشارلز» يسير معها هنا ذراعًا في ذراع رابط الجأش … قبعته فوق رأسه ولفاعه القرمزي حول رقبته وهو يصفر بهدوء وقوة تلك الجملة المتكررة في لحن «هارولد في إيطاليا».

«أيها الموت!» قالت بصوتٍ عالٍ وهي تنتظر على الزاوية لكي يتغير الضوء … تنتظر مدهوشة وتتعجب … لقد عاشت كل ذلك الجمال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤