الفصل الحادي عشر

كفاحي في الصحافة

سأكتب هذا الفصل لا على أني رجل خطير في الصحافة المصرية، بل للتمثيل على عدد كبير من الصحفيين الذين هدفوا من الصحافة إلى الكفاح، فخدموا الشعب وعوَّدُوهُ الفكرة والأسلوب والهدف في مكافحة الاستعمار الأجنبي والاستبداد الداخلي. وإذا كنت أكتب عن نفسي بدلًا من أن أكتب عنهم فلأني أعرف نفسي أكثر، وليس لأني خدمت أكثر.

في ١٩١٤ أنشأت أُولى المجلات الأسبوعية في مصر، وهي مجلة «المستقبل»، وكنت في بداية العقد الثالث من عمري قد أسكرتني الحضارة الأوروبية كما شاهدتها واختبرتها في عواصم أوروبا، فدعوت — في وجه المعارضة الاجتماعية قبل المعارضة الحكومية — إلى الأخذ بالآراء العصرية والحريات العصرية، وعُطِّلَتْ مجلة المستقبل في بداية الحرب الكبرى الأولى.

ثم عملت محررًا في مجلات دار الهلال وجريدة البلاغ، وكانت دعوتي — كما هي الآن — الأخذ بالعلوم العصرية والصناعات العصرية، كما يتضح ذلك من الكتب التي ألَّفتها فيما بين ١٩٢٤ و١٩٣٠ مثل: «مختارات سلامة موسى» و«نظرية التطور وأصل الإنسان» و«اليوم والغد» و«العقل الباطن» إلخ. وجميعًا تصطبغ بالصبغة العلمية وتهدف إلى التغيُّر الفكري، كما أن معظمها كان قد نشر مقالات مستقلة في الجرائد والمجلات التي عملت فيها.

وفي أواخر ١٩٣٠ أخرجت مجلتين، إحداهما شهرية وهي «المجلة الجديدة»، والأخرى أسبوعية وهي «المصري»، ولم تكد تظهر الأعداد الأولى حتى كانت الانقلابات التي دبرها إسماعيل صدقي بشأن إلغاء الدستور بإملاء فؤادٍ الملكِ وقتئذٍ، وكان هذا الأخير — لجهله وفساد ذهنه — يتعقد أن من حقه أن يحكم مصر حكمًا منفردًا لا شأن للأمة فيه.

وكان وراء هذه الحركة الاستعمار الذي أراد معاقبة الوفد الهيئة الوطنية المتماسكة الوحيدة وقتئذٍ لأنه رفض عقد معاهدة ترسخ أقدام الإنجليز في بلادنا؛ وعندئذ وجدتني في غمرة كفاح عنيد ضد ثلاثة أعداء، هم:
  • المستبدون: فؤاد وإسماعيل صدقي ومن انضم إليهما.
  • المستعمرون: الإنجليز.
  • الرجعيون: الذين لا يأخذون بالآراء العصرية ولا يدركون قيمة الصناعات العصرية التي هي علة التفوق الأوروبي على الشرقيين، ولا علة غيرها.

فأما المستبدون فقد كافحتهم على صفحات المصري كفاحًا مريرًا، ثم بعد تعطيل المصري ثابرتُ على الكفاح في نحو اثنتي عشرة مجلة أسبوعية، كنا نستأجرها من أصحابها ونصدرها في صورة مجلة «المصري» ورسمه، إلى أن أصدر إسماعيل صدقي قانونًا جديدًا للصحافة وقفَنا عن هذا النشاط، وذلك في ١٩٣١.

وأذكر أني كتبت في مجلة «المصري» بتاريخ ٤ ديسمبر مقالًا افتتاحيًّا بعنوان «تربية الملوك»، يفهم منه القارئ أنه موجَّه إلى «فؤاد» الملكِ وقتئذٍ، وصفت فيه الخديو إسماعيل ثم الخديو توفيق بأنها كانت تنقصها التربية، وبرهان ذلك أن الأول عمد إلى خمسة أو ستة من المجرمين، الذين لم تستطيع محكمة إثبات ما اتهموا به، فدس لهم السم في السجن، فماتوا.

وذكرت توفيق بأنه كان يقف على سطح قصره بالإسكندرية ليرى ضرب الإنجليز للإسكندرية، فكان يفرح ويهلل كلما أصابت إحدى قنابل أسطولهم منازل المدينة. وإليك بعض الكلمات التي وردت بالمقال:

… وقد رأينا في تاريخنا الماضي كيف توفيق باشا آثر دخول الإنجليز مصر وخيانة الوطن على أن يقسر نفسه أو يذللها للروح الدستورية ويخضع لمجلس النواب الذي اختارته الأمة، ولو أن هذا الرجل كانت قد أُحْسِنَتْ تربيته منذ الصغر، وأنشأه أبوه على الإقلاع عن طبيعة الاستبداد والتطبع بالروح الدستورية، لما جنينا كل هذا الذي جنيناه من المصائب.

… وقد ذكرت الصحف كيف أن إسماعيل باشا الخديو كان يأمر أحد المديرين بتسميم المتهمين بالإستركنين كما تسمم الكلاب الضالة الآن، وهذا العمل هو على فظاعته ليس إلا نتيجة هذه الطبيعية الاستبدادية التي نشأ عليها إسماعيل، حتى إنه لم يكن يستطيع أن يروض نفسه على الصبر ومحاكمة المتهمين أمام المحاكم؛ لأن استبداده كان يدفعه إلى التعجيل بالقضاء عليهم، وكل أمة في العالم كائنة ما كانت تسمح للملك المتولي الحكم عليها أن يستبد بها، جديرة بأن تجد منه مثلما وجدنا من توفيق أو إسماعيل: الأول ينضم إلى العدو على البلاد، والثاني يستخدم رجال يسمون الناس بالإستركنين.

ونشرت خمس صور لخمسة ملوك مخلوعين، وقلت إن السبب لخلعهم أنهم لم ينزلوا على إرادة الشعوب، وكان الهدف المقصود واضحًا، ولو بالبناء للمجهول.

ولم يكن عدد واحد من مجلة «المصري» يخلو من الهجوم على إسماعيل صدقي الذي ألغى دستور ١٩٢٣ وألَّف دستورًا ينكر سيادة الشعب ويفتح الأبواب للغش والخدعة في الانتخابات للبرلمان.

هذا هو كفاحي السياسي الذي أستطيع أن أقول إني خدمت به الشعب فنبهته إلى حقوقه وإلى ضرورة المقاومة لطغيان المستبدين.

ثم كان لي أيضًا في ١٩٣٠ كفاح آخر للمستعمرين، وقد جعلته إيجابيًّا بنائيًّا، وذلك بإنشاء «جمعية المصري للمصري».

ذلك أن فهمي للاستعمار كان وما يزال ينطوي على أنه نظام يقوم لاستغلال المستعمرات، وذلك بتشجيع أبنائها على الإنتاج الخام في استخراج المواد الخامة زراعية أم معدنية، ثم حرمانها الصناعة، وعندئذٍ تشتري الأمة المسلطة منتجات المستعمرة الخامة بأتفهِ الأثمان، ثم تعود فتبيعها لها، بعد استصناعها، بأغلى الأثمان. وألفت جمعية «المصري للمصري» كي نضرب الاستعمار البريطاني في أساسه هذا، وكان قانون الجمعية يشترط على أعضائها ألَّا يشتروا سلعة أجنبية ما دام هناك ما يقابها من السلع المصرية، وأن يقاطعوا المصنوعات الإنجليزية، وأن يتجروا مع التجار المصريين دون التجار الأجانب.

ودعوت إلى إيجاد متجر مصري في شارع ٢٦ يوليو (فؤاد كما كان يُسَمَّى وقتئذٍ) ولم يكن به متجر مصري واحد، واحد فقط.

هل تصدق هذا أيها القارئ؟ هل تصدق أنه لم يكن في هذا الشارع متجر مصري واحد في ١٩٣٠؟

واستطاعت جمعية «المصري للمصري» أن تحمل بنك مصر على إنشاء «محل بيع المصنوعات المصرية» في هذا الشارع، وكان عرضنا الأول على المرحوم طلعت حرب مبلغًا مقداره ألف جنيه قدَّمه وكيل الجمعية (وكنت أنا الرئيس) شيكًا باسم هذا المتجر، وكان هذا الشيك بداية المشروع.

وسارت حركة «المصري للمصري» فيما يشبه الالتهاب، وانتشر الوعي الاقتصادي بين الشعب، فصار «التاجر المصري» هو المقصود الأول، وكان من أعضائها الوزير فتحي رضوان والوزير نور الدين طراف وأحمد حسين.

وكان هذا كفاحي للاستعمار.

ثم كان لى كفاح ثالث هو الرجعية، التي تستسلم للغيبيات، ولا تسلم بحرية المرأة، ولا تقبل على الآراء العصرية، ولا تحتضن العلم، وكان من أثر هذا الكفاح أن شيخ الأزهر وقتئذٍ (١٩٣٠) كتب إلى وزارة المعارف يحذرها من خطري، وأنها يجب ألَّا تشترك في «المجلة الجديدة» التي كنت أنشرها، وأطاعته الوزارة في جبن وجهل.

هذه هي أنواع الكفاح الثلاثة كما مارستها في ١٩٣٠، وقد أدت إلى تعطيل مجلاتي جميعها: ما كنت أملكه وما كنت أستأجره، فهل فشلت؟ إن النظرة السطحية توهم الفشل، ولكن النظرة العميقة توضح النجاح كما يجب أن يكون.

ذلك أنه كان في مستطاعي أن أجعل مجلاتي «متفرجة» محايدة، تُنْشَرُ الخبر والصورة والمقالة والقصة، وتُقرأ للتسلية والترويح على المقهى أو في القطار، ينصفها القارئ فلا يجد ما يبعث فيه حزنًا أو غضبًا أو حافزًا على عمل أو جهد أو باعث على اتجاه وتسديد إلى هدف، وعندئذٍ يكون النجاح العرفي نجاح المال والاقتناء.

ولكن الصحافة رسالة، وهي كفاح، وقد كافحت من أجل الدستور، وكافحت الإنجليز بالعمل الإيجابي الصالح الباقي، وهو الدعوة إلى التجارة والصناعة المصريتين، وكافحت الرجعيين الذين يكرهون العلم، ويحتقرون المرأة، ويسبون الشباب.

واعتقادي أني نجحت في كل ذلك، وإن كانت مجلاتي قد ماتت.

كان نجاحي صحفيًّا، ولكني فشلت ماليًّا، بل إني بعت بعض ممتلكاتي كي أتجاوز الأزمة التي أحدثها لي إسماعيل صدقي في ١٩٣٠.

ولكني عندما أسير الآن، في ١٩٥٦، في شارع ٢٦ يوليو (فؤاد سابقًا) وأرى على صفيه متاجر مصرية كبيرة وصغيرة أحس بالفرح بل الطرب يغمرني، حين أذكر أني كنت أسير في هذا الشارع في ١٩٣٠ وقبلها فلا أجد متجرًا مصريًّا واحدًا؛ لأن التجارة المصرية وقتئذٍ كانت محدودة محصورة، بل محبوسة، في خان الخليلي، لا نزيد على بعض التحف من النحاس الأصفر وفسيفساء العظم أو الصدف، وكان الإنجليز قد نجحوا في إيهامنا بأن «بلادنا زراعية»، حتى إن مقاعد التلاميذ في المدارس كانت تُسْتَوْرَدُ من إنجلترا، وكان المصنع المصري لا يجد تعريفًا في قوانيننا غير أنه «محل مقلق للراحة أو مضر بالصحة أو خطر».

•••

وفي بداية هذا العام قدم إلى القاهرة أديب إنجليزي من الطراز الاستعماري القديم هو سومرست موم، وقد حزن عندما رأى متاجرنا في شارع ٢٦ يوليو، وأسف على أننا تركنا خان الخليلي.

وبعض الفضل في أسفه الاستعماري — إن لم أقل كل الفضل — لجمعية المصري للمصري التي أرصدت صحفي في ١٩٣٠ لخدمتها والدعوة لها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤