الفصل الثامن

الصحافة المصرية في نصف قرن

أن أول وجداني بالصحافة حوالي ١٨٩٧ أو بعد ذلك بقليل، فقد كان المؤيد واللواء يُباعان ويقرأهما الوطنيون ويتحدثون عنهما، كما كان المقطم مقروءًا من طبقة الموظفين المصريين، وكانوا يقرءونه كي يقفوا منه على أخبار الحكومة من مشروعات أو ترقيات أو تنقلات.

ولم يكن المؤيد واللواء من صحف الأخبار، إذ كان كلاهما يعتمد على المقالة، أما الخبر فكان له المحل الثاني، وكانت مقالة نارية تستفز وتستثير الجمهور بشأن الإنجليز والاستعمار، في حين كان المؤيد وقورًا رزينًا؛ ولذلك كان الإقبال على اللواء عظيمًا من الشبان والطلبة.

وربما كان أعظم ما تتهم به الصحف المصرية في السنين العشر الأولى من هذا القرن تقصيرها في نشر الأخبار الخارجية، بحيث كان القراء يجهلون التطورات العالمية ويعجزون عن وضع مشكلة الاستقلال المصرية في أبعادها العالمية الصحيحة.

وإني لأذكر أني كُلِّفْتُ التحرير في اللواء في سنة ١٩٠٩ ولا أكاد أذكر أنه كان يعاوننا وقتئذٍ مخبرٌ؛ إذ كنا كلنا نكتب المقالات، وعلى كل حال إذا كان هناك في ذلك الوقت مخبرون فإن غيابهم عن ذاكرتي يدل على أنهم كانوا في مكانة ثانوية لا يُلتفت إليهم كثيرًا.

كما أننا لم نكن نُعْنَى بالأخبار الخارجية؛ فإن شركة روتر كانت تزودنا ببعض هذه الأخبار فننشر منها نحو ثلث أو نصف عمود، ولا كنا نُعْنَى برسائل يومية مسهبة من طنطا أو كفر الزيات أو أسيوط.

وظهرت في السنين الأولى من هذا القرن مجلة فكاهية تُدْعَى «حمارة منيتي»، وكان موضوعها الأساسي سب الشيخ محمد عبده؛ لأنه كان على خلاف مع الخديو عباس باشا، ولكن لم تكن بها صورة كاريكاتورية واحدة، وبقينا أكثر من خمس عشرة سنة بلا مجلة كاريكاتورية حتى أخرج المرحوم سليمان فوزي مجلة «الكشكول»، وكان موضوعها الأساسي سب سعد زغلول وكبار الوفديين، وهي أولى المجلات التي صُوِّرَتْ بالألوان، ولكن إخراجها لم يكن متقنًا ذلك الإتقان الذي عهدناه من مجلاتنا المصورة في السنوات العشر الأخيرة.

وفي السنوات الخمس الأولى من هذا القرن كانت الآفاق السياسية والاجتماعية في المجتمع المصري مقصورة على التيارات الجديدة التي أوجدها الشيخ محمد عبده في ضرورة تعميم الروح العصري في الأزهر وفي دعوة قاسم أمين إلى تحرير المرأة وإلغاء الحجاب، ثم في تنبيه الرأي العام إلى مكافحة الإنجليز بقلم مصطفى كامل. ولم يكن القارئ يجد موضوعًا في الصحف يكاد يخرج عن الاهتمامات التي كانت تهم هؤلاء الثلاثة، وكان لنا الحق في ذلك لأن هؤلاء الثلاثة مسوا النفس المصرية في أعماقها وسكبوا الضوء على مشكلاتها الأساسية.

ولكن الوجدان السياسي في ذلك الوقت كان ناقصًا جدًّا؛ فإن كلًّا من مصطفى كامل صاحب اللواء وعلي يوسف صاحب المؤيد كان يفهم الاستقلال على أنه إخراج الإنجليز مع البقاء داخل السلطنة العثمانية.

وكانت رسالة الآستانة أي إستامبول تُنْشَرُ كل يوم تقريبًا في المؤيد أو اللواء، بل إن المؤيد حين أنشئ البرلمان التركي تساءل: لماذا لا نرسل نوابًا مصريين إلى هذا البرلمان؟ وكان هذا حوالي سنة ١٩٠٧. وكان المقطم نفسه ينشر كل يوم مناقشات البرلمان التركي ويملأ بها صفحته الأولى، وكان لا بد إذن من أن يصحح هذا الوجدان السياسي بحيث تتنزه الدعوة إلى الاستقلال من هذا الانحراف نحو الحماية التركية؛ ولذلك وجد أحمد لطفي السيد إقبالًا عظيمًا من الجمهور المستنير عندما دعا إلى أن تكون مصر للمصريين لا للأتراك ولا للإنجليز، ومع أن هذه الدعوة تكاد تكون في وضوحها وصحتها تافهة لا تستحق مناقشة فإنها وجدت مكافحة من كثيرين من القراء الذين لم يسمعوا بها قبل ذلك والذين تعودوا على أن مصر جزء من السلطنة العثمانية اغتصبه الإنجليز.

وكان ظهور الجريدة التي أنشأها أحمد لطفي السيد للدفاع عن هذه البديهة في سنة ١٩٠٧، وقد رَبَّتِ الرأي العامَّ تربية جديدة. وحاولت أن توجد في مصر اتجاهًا في السياسة والاجتماع يشبه ذلك الاتجاه الذي قام به الحريون في أوروبا في القرن التاسع عشر، أي الحكم الدستوري ونشر التعليم العام وحرية الضمير وسفور المرأة، وهذا المذهب هو وسط بين المحافظين والاشتراكيين.

ولكن «الجريدة» ماتت في سنة ١٩١٥ ليس لأنها كان ينقصها القراء، ولكن لأن الأحكام العرفية جعلت بقاءها محالًا، وهنا يجب أن أقول إنه من سنة ١٩١٤ إلى الآن خضعت الصحف المصرية للرقابة التي كانت تمنع نشر سطر واحد غير مصدَّق عليه، ست عشرة سنة كانت فيها سجينة، بل كان الذكاء المصري فيها مقيدًا، وذلك في أثناء الحرب الكبرى الأولى والحرب الكبرى الثانية اللتين خيَّمت فيهما الأحكام العرفية على بلادنا.

وبالطبع لا يمكن أن يُنْتَظَرَ للصحافة تطور أو ارتقاء وهي خاضعة للرقابة قد أُصْلِتَ على رأسها سيف الأحكام العرفية؛ ولذلك يجب أن تقتطع هذه السنين من عمرها كأنها لم تعش فيها، بل يجب أن تُقْتَطَعَ من عمرنا نحن رجال الذهن، وفي الحرب الأولى الكبرى ظهرت أولى المجلات المصورة، وهي «اللطائف» للأستاذ إسكندر مكاريوس، وربما كانت هي الأولى في اتخاذ الفن الصحفي وحده أساسًا لنجاح الصحيفة؛ إذ لم تتخذ دعاية معينة بل كان كل اهتمامها محصورًا في نشر الأخبار والمقالات المصورة.

وأدخل أصحاب «الهلال» آلات الروتوغرافور لأول مرة في مصر حوالي ١٩٢٣، فأحدثوا بذلك نهضة بل وثبة في الطباعة أدت إلى نهضة عامة في الصحافة؛ فإن الارتقاء الفني شرع يجذب إليه جميع الصحفيين، وكان لهذا أثر كبير في توجيه الصحفي وتكوين ثقافته، فإن المقالة غابت عن أنظار القراء وأخذ مكانها الخبر الساذج أو الخبر المصور، بل إن ألوف القراء الذين جذبتهم هذه المجلات المصورة الجديدة لم يكونوا قبل ذلك من قراء الصحف، ولم تكن لهم ألفة بالمناقشات الصحفية والخصومات السياسية؛ ولذلك قنعوا من المجلة المصورة بالصور والتافه من الأخبار، وظهرت عقب ذلك صحف الطرائف التي تنشر خبر الذي يعض الكلب بدلًا من الكلب الذي يعض الرجل.

وهذا عامل آخر لا نستطيع إهماله فإن الدور السينمائية التي جذبت ألوف الأفراد من الشعب، أميين وعاميين وقارئين، هذه الدور بما لها من قوة مالية بالإعلان في الصحف ومن إغراء جنسي لا يمكن التغاضي عنه، هذه الدور السينيمائية قد أثرت في الصحف تطورًا وارتقاء، وقد يكون هناك من يقول عكس ذلك.

فإن الصحف شرعت تجاري الفن السينمائي بنشر الصور الرائعة للممثلات والتحدث عن التمثيل، وليس شيء يساعد على نشر المجلة مثل صورة بالروتوغرافور لإحدى الممثلات المحبوبات التي تجمع بين جمال الوجه وبراعة التمثيل.

والحق أن اعتماد الصحف على الصورة الجميلة قد جعل الكاتب العظيم في المكانة الثانوية، بل أصبح الشاب الذي يرشح نفسه للصحافة ويبغي احترامها يقنع بدراسة موجزة ولا يتعب نفسه بالعمق الثقافي؛ لأنه يعرف أن صاحب المجلة لن يطلبه ولن يكافئه بأكبر الأجر لأنه مثقف وإنما لأنه قادر على جذب القراء وبيع أكبر عدد ممكن من المجلة باختيار الصور المشرقة والأخبار المقلقلة.

وهنا أستطيع أن أذكر — للمقارنة — أن العتبة الأولى التي وضعتُ قدمي عليها كي أحترف الصحافة كانت مقالًا فلسفيًّا في المقتطف عن «نيتشه وابن الإنسان» في سنة ١٩٠٩، وإني واثق أن هناك عشرات من الصحفيين في المجلات الأسبوعية المصورة، بل من رؤساء التحرير لهذه المجلات، لا يدرون شيئًا عن هذا الموضوع الذي كتبت عنه قبل أربعين سنة وجعلته مدخلًا في الصحافة المصرية.

وليس شك في أن الارتقاء الفني في الطباعة بالروتوغرافور قد أحدث إهمالًا إلى حد بعيد للتحرير، وقد تقهقرت مجلة المقتطف، وتغير الهلال من مجلة جديدة لا تبالي أن يبلغ المقال فيها خمس عشرة صفحة من القطع الكبير إلى مجلة مصورة لا يزيد المقال فيها على ثلاث أو أربع صفحات، وماتت مجلة المصري، ومن قبل ذلك ماتت المجلة الجديدة.

وكل هذا لأن هذا الاتجاه الذي ذكرت بشأن الارتقاء الفني قد جعل العناية بالتحرير الذي لا يتصل بالصورة معدوم القيمة، كما أن المقالة قد ألغيت أو أوشكت على الإلغاء من الميدان الصحفي كله، على أنه تلقاء هذا التقهقر في التحرير قد تحققت ميزات جديدة للصحافة المصرية غير ما أشرت إليه من الارتقاء الفني في الطبع، فمن ذلك مثلًا العناية الكبيرة بأنباء العالم، والفضل في ذلك للحربين الأخيرتين؛ فإنهما أثارتا الاستطلاع وأصبحت أخبارهما مُقَدَّمَةً على الأخبار الداخلية، وثبتت من ذلك عادة جديدة عند القراء هي الاهتمام بأخبار العالم، وأصبح الاستقلال أو رقينا السياسي والاجتماعي ينظر إليهما في ضوء هذه الأخبار العالمية، ولم ينقص هذا من روح الكفاح للاستقلال، ولكن الصحيفة القديرة مثل اللواء أو المقطم أو المقطم أو المؤيد قبل سنة ١٩١٠ كانت تُعَدُّ قروية محلية بالمقارنة إلى جرائدنا اليومية الكبرى هذه الأيام.

للأشخاص منطقهم الذي يحكمون به على الأشياء والناس، ولكن للحوادث منطقها الذي يتغلب على منطق الأشخاص، هذا هو ما يجب أن نذكره حين نتأمل صحافتنا في الخمسين أو الستين سنة الماضية، فإن الصحفي قد ينشئ صحيفة يومية أو أسبوعية، وينوي أحسن النيات، ويعتقد أنه سيجعلها الجريدة أو المجلة المثلى، ولكن لا يكاد ينتهي العام الأول من صدورها حتى يجد أن منطق البيع (أي القراء) ومنطق الإعلانات (أي المتاجر) يتغلبان على منطقة هو، ولن يستطيع الصمود إزاء الخسارة إذا رفض الخضوع لهذين المنطقين الآخرين.

ثم هناك الطبقة الجديدة من القراء التي لم تتعلم إلا في المدرس الابتدائية والإلزامية، كيف نغريها بالقراءة؟ إن وسيلة ذلك هي الخبر والصورة وليس المقال والأرقام، إني عندما أقارن بين اللواء (الذي عملت فيه محررًا سنة ١٩١٠) والمؤيد والجريدة، وبين جرائدنا الآن، أحس الفارق العظيم في ارتقاء صحفنا الحاضرة على الرغم من كل ما توصف به من التجارية والمنفعية.

وأعظم ما خدمت به جرائدنا الحاضرة جمهور الشعب عنايتها بالخبر ثم ربطها الخبر بالمقال.

فالمقال خبري والخبر مقالي، وبهذا العمل بعثت بين القراء تَنَبُّهًا جديدًا ووعيًا للحوادث ما كان ليعرفه جمهورنا قبل نصف قرن، واستنار الشعب بذلك.

وظني أن هذا الاتجاه سيزداد قوة واندفاعًا عندما نجد قبل عشر سنوات نحو نصف مليون قارئ للجرائد والمجلات في مصر؛ لأن أربعة أخماس من هؤلاء سيكون من خريجي المدارس الابتدائية الذين يحتاجون إلى الصورة المغرية والخبر والقصير والمقال الموجز المثير.

وعندي أن الصحفي العظيم يجب أن يعرف لغتين أجنبيتين، وأن يَزور نحو عشرة أقطار كبرى ويمكث فيها السنوات للتعلم ولمراسلة الصحف، وأن يتعلم الآداب والعلم والسياسة كما يتعلم كتابة الخبر واستقصاء الخبر، وتُحْسِنُ صحفنا كل الإحسان إذا بعثت بكُتَّابها ومخبريها كل منهم نحو ستة شهور أو سنة كاملة في قطر أجنبي، بل لماذا لا تتبادل الصحف كتابها ومخبريها كما تتبادل الجامعات؟

اعتقادي أن الفكرة حسنة ولكننا لم نرتفع إليها بعد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤