الفصل الثالث

إخراج الأرنب من القبعة

إذا أردت أن تختبر ذاكرتك، فحاول اليوم أن تتذكر ما كنت قلقًا حياله منذ عام مضى.

مصدر مجهول

سوف يتناول هذا الفصل كيفية الوصول إلى المعلومات من الذاكرة؛ وسأعرض الفارق الأساسي بين إمكانية الوصول إلى المعلومات وإتاحة المعلومات، الذي سبق وألمحنا إليه في الفصل الثاني. وبشكل أكثر تحديدًا، سأوضح أن كثيرًا من الصعوبات اليومية التي نواجهها مع ذاكرتنا مرتبط بمواقف ربما استقبلنا فيها المعلومة واحتفظنا بها، ولكننا نعجز عن استرجاع هذه المعلومة عندما نريد ذلك. يبدو دور السياق هنا مهمًّا بصفة خاصة: ففي حال تساوي جميع العوامل الأخرى، فإننا نميل إلى تذكر المعلومات بشكل أفضل إذا كنا — في الوقت الذي نريد فيه استرجاع المعلومة — في سياق مادي وحالة وجدانية مماثلَيْن للوقت الذي تعرضنا فيه لهذه المعلومة. كما سنستعرض أيضًا باستفاضة في هذا الفصل «ظاهرة طرف اللسان». على سبيل المثال: قد نعرف في حفلة ما الحرف الأول من اسم (شخص أو مكان) نحاول أن نتذكره، أو ما يبدو عليه صوت الاسم، ولكننا قد لا نستطيع الوصول إلى الاسم نفسه.

(١) استخلاص الذاكرة من السلوك

كما رأينا في الفصل الثاني، توجد أشكال عديدة من السلوك تشير إلى أن الذاكرة قد استثيرت لاستحضار حدث ماضٍ. افترض أنك سمعت أغنية جديدة في وقت سابق؛ قد تتذكر فيما بعد كلمات الأغنية، أو تتعرف على الكلمات عندما تسمعها مجددًا. أو بدلًا من ذلك، إذا سمعت الأغنية مجددًا، قد تبدو الكلمات مألوفة دون أن تتعرف عليها بوضوح. في نهاية المطاف، قد يكون سلوكك أو حالتك العقلية متأثرَيْن بشكل غير معلن برسالة الأغنية، دون أي حس بالتذكر أو التعرف أو الألفة تجاه الأغنية نفسها بصورة واعية.

كل يوم نصادف كمًّا هائلًا من المعلومات، ولكننا نتذكر جزءًا منه فقط. فبعد تشفيرنا وتخزيننا للمعلومات التي عالجتها حواسنا، يجب أن نكون بعدئذٍ قادرين على استرجاعها بكفاءة؛ كما رأينا عندما استعرضنا المكونات المنطقية الأساسية للذاكرة في الفصل الأول. ويبدو أن الأحداث التي نتذكرها تعتمد على دلالتها الوظيفية. فمثلًا: خلال ماضينا التطوري، ربما نجا البشر من المخاطر بتذكر المعلومات التي توحي بالخطر (مثل ظهور حيوان مفترس محتمل) أو المكافأة (مثل اكتشاف مصدر غذاء محتمل).

يعتمد ما نستطيع استرجاعه اعتمادًا كبيرًا على السياق الذي تم فيه تشفير المعلومة أو تصنيفها في الأساس، وإلى أي مدى يتطابق هذا مع سياق الاسترجاع، وهو ما نسميه «مبدأ خصوصية التشفير». على سبيل المثال: العديد منا يشعر بالإحراج بعض الشيء حين نعجز عن التعرف على أصدقائنا أو معارفنا عندما نلقاهم في سياق غير مألوف. فإذا كنا نرى بشكل معتاد شخصًا في العمل أو المدرسة يرتدي ثيابه بشكل معين، فقد نفشل في التعرف عليه لو رأيناه مرتديًا ثيابه بشكل مختلف في حفل زفاف أو في مطعم. سوف نستعرض هذا المبدأ بالتفصيل فيما بعد، ولكن دعونا الآن نستعرض بعض الطرق الأساسية لتقييم الذاكرة.

(٢) الاسترجاع: التذكر مقابل التعرف

«تذكُّر» المعلومة يعني استحضارها إلى العقل؛ في العادة يوجد «تلميح» يحفز و/أو يسهل التذكر. مثلًا: تحتوي أسئلة الامتحان في العادة على تلميحات من المحتوى الدراسي توجِّه تذكُّرنا إلى المعلومات المرتبطة بأهداف ممتحننا. وتحتوي أسئلة حياتنا اليومية مثل: «ماذا فعلت مساء يوم الجمعة؟» على تلميحات زمنية. تكون مثل هذه التلميحات عامة للغاية، ولا تقدم الكثير من المعلومات. وعادةً ما يسمى التذكر عند استجابته لهذه الأنواع من التلميحات غير المحددة ﺑ «الاستدعاء الحر». كما قد تكون بعض التلميحات محملة بمزيد من المعلومات وتوجهنا إلى أحداث أو معلومات محددة. سؤال مثل: «أين ذهبت مساء الجمعة بعد أن تركت قاعة السينما؟» يختلف عن السؤال السابق، المذكور عاليه، بتزويدنا بمزيد من المعلومات في محاولة لاستخلاص مادة محددة. وعندما تزداد التلميحات توجيهًا، يصبح اسم عملية التذكر «الاستدعاء التلميحي».

إليك بعض الأمثلة الأخرى: عند دراسة الاسترجاع في سياق تجريبي، قد تُقدَّم معلومات للأفراد — مثل قصة — خلال ما نسميه جلسة التعلم، ثم قد نطلب منهم أن يتذكروا جوانب معينة من القصة. و«الاستدعاء الحر» هو حين نطلب من الأفراد تذكر أكبر قدر ممكن من القصة، دون أي مساعدة، وتوضح «ظاهرة طرف اللسان» (المذكورة في الفصل الثاني) طبيعة إحدى المشكلات الشائعة في الاستدعاء الحر، حيث إنه غالبًا ما يتاح لنا وصول جزئي إلى المعلومات التي نحاول استرجاعها. وبالمقارنة، فإن «الاستدعاء التلميحي» هو حين نقدم محفزًا (مثل تصنيف، أو الحرف الأول من الكلمة) لكي نسترجع معلومة معينة. مثلًا، قد نقول: «أخبرني بجميع أسماء الأشخاص التي تبدأ بحرف J، والتي كانت في القصة التي قرأتها عليك بالأمس.» ويُعد الاستدعاء التلميحي على الأرجح أسهل بعض الشيء على المجيبين مقارنةً بالاستدعاء الحر. وقد يكون هذا لأننا نقدم للفرد مزيدًا من الدعم والسياق؛ أي إننا نقوم فعلًا بجزء من «عمل الذاكرة» من أجله بتقديمنا هذه التلميحات. جدير بالملاحظة أن التلميحات قد تكون مفيدة في استرجاع المعلومات، ولكنها قد تقدم أيضًا تحريفًا وتحيزًا، كما سنرى بالتفصيل عندما نستعرض موضوع شهادة شاهد العيان في الفصل الرابع.

تُسمى قدرتنا على تمييز معلومة أو حدث سابق معين عند تقديمه أمامنا مجددًا ﺑ «التعرف». مثلًا: خلال الاختبارات، عادة ما تستهدف أسئلة الصواب والخطأ والاختيار من متعدد قدرة الطالب على التعرف على المعلومة بشكل صحيح. وفي الحياة الواقعية، تقدم أسئلة مثل: «هل خرجت لتناول الطعام بعد أن غادرت قاعة السينما؟» حدثًا أو معلومة معينة وتسأل الشخص الذي طُرح عليه السؤال ما إذا كانت المعلومة المُقدمة تتوافق مع حدثٍ فعله في الماضي. «التعرف» هو أسهل أنواع الاسترجاع؛ لأن جزءًا من مادة الذاكرة «المستهدفة» مقدم بالفعل، وعليك أنت — المجيب — أن تتخذ قرارًا حياله. و«التعرف بالاختيار الجبري» هو حين يُقدم لك — مثلًا — عنصران؛ أحدهما فقط سبق أن رأيته، ثم تُسأل: «أخبرني أي هذين العنصرين رأيته من قبل؟» هذا اختيار جبري، حيث إنك مجبر على اختيار أحد العنصرين. يمكن مقارنة هذا ﺑ «التعرف بنعم/لا» حيث أعرض عليك سلسلة من العناصر واحدًا تلو الآخر وأسألك: «هل رأيت هذا العنصر من قبل؟» في هذه الحالة، عليك ببساطة أن تجيب ﺑ «نعم» أو «لا» على كل عنصر. وقد أشارت التجارب المنهجية إلى أن هناك عمليتين مستقلتين يمكن أن تساهما في التعرف وهما:

(٢-١) الاسترجاع السياقي

يعتمد هذا على «الاسترجاع الصريح» للزمان والمكان؛ مثلًا: قد تتعرف على أحد بأنه الشخص الذي رأيته في الحافلة لدى عودتك إلى بيتك من العمل يوم الجمعة الماضية. لذا فبالنسبة إلى هذا النوع من التعرف، يجب أن تكون قادرًا على تحديد تجربتك السابقة زمانًا ومكانًا.

(٢-٢) المألوفية

fig7
شكل ٣-١: قد تكون قادرًا على تذكر هوية هذه الشخصية فورًا، أو قد تحتاج إلى تلميح (مثل: «مغنية» أو «فنانة»). إذا عجزت عن تذكر اسم هذه الشخصية، فقد تكون قادرًا على التعرف على ما إذا كان الاسم هو شير أم مادونا؟ ويُعد الاستدعاء التلميحي على الأرجح أسهل بعض الشيء على المجيبين مقارنةً بالاستدعاء الحر، في حين يُعتبر التعرف أسهل من كل من الاستدعاء الحر والاستدعاء التلميحي.1

قد ترى شخصًا يبدو مألوفًا بشكل غير واضح، وأنت تعلم أنك رأيته من قبل، ولكنك لا تستطيع أن تتذكر فعلًا متى أو أين رأيته. ويبدو أن ما يعزز هذا النوع من تجربة التعرف هو «عملية المألوفية»، ولكن لا يوجد فيها استرجاع صريح للمقابلة السابقة. لذا فإن هذا شكل أقل تفصيلًا من التعرف (مشابه للغاية لنوع الاستجابة ﺑ «المعرفة» الذي ناقشناه في الفصل الثاني). ويمكن ملاحظة العوامل المؤثرة على المألوفية دون القدرة على استحضار حدث سابق إلى العقل (أي: تذكره أو التعرف عليه). وربما تكون أنت نفسك قد مررت بهذه التجربة في العديد من المناسبات: أي إنك قابلت شخصًا بدا مألوفًا، رغم أنك كنت عاجزًا عن التعرف عليه بوضوح. وفي واقع الأمر، إحدى الآليات الداعمة لنجاح الدعاية هي أنها تجعل منتجات بعينها مألوفة أكثر، والناس تميل إلى تفضيل الأشياء المألوفة عن الأشياء غير المألوفة. (رجاء الرجوع إلى «تأثير التعرض البحت» المذكور في الفصل الثاني). من هنا جاء المثل القديم: «كل دعاية غاية.»

توجد ظاهرة لافتة تعرَّض لها غالبيتنا، وقد تكون معتمدة اعتمادًا جوهريًّا على شعور بمألوفية في غير موضعها: وهي خداع «ديجا فو»؛ بمعنى شوهد من قبل. تحدث هذه الظاهرة عندما يشعر الناس أنهم قد شاهدوا شيئًا من قبل، دون أن يستطيعوا فعلًا تحديد الحدث السابق أو تقديم أي دليل آخر يؤكد أن الحدث أو الواقعة تمت بالفعل. يبدو أنه في حالة خداع ديجا فو، قد تحدث آليات المألوفية بالخطأ، فينشأ شعور المألوفية بسبب مشهد أو شيء جديد. علاوة على ذلك، أشار بعض الباحثين إلى أن خداع ديجا فو يمكن تحفيزه بالتنويم المغناطيسي. لذا يبدو ممكنًا أن آليات المخ الداعمة لتجربة خداع ديجا فو قد تحفزها آليات مختلفة عن تلك التي تعمل عادةً عندما نكون متيقظين كليةً.

(٣) تأثير السياق على الاسترجاع والتعرف

يمكن أن يكون الاسترجاع عُرضة بعض الشيء لتأثيرات السياق، ولكن عادةً ما يكون التعرف أقل عرضة. ظهر هذا — مثلًا — لدى الغواصين الذين طُلب منهم تذكر المعلومات تحت الماء أو على اليابسة، ثم تم اختبار ذاكرتهم، سواء في نفس المكان أو في مكان مختلف.

في دراستين شهيرتين، طلب جودين وبادلي من الغواصين تذكر المعلومات سواء على اليابسة أو تحت الماء، ثم خضع الغواصون للاختبار سواء (١) في نفس السياق أو (٢) في سياق مختلف.

أثبتت هاتان الدراستان أن ذاكرة الاسترجاع لدى الغواصين كانت متأثرة بشكل قوي بما إذا كان السياق الذي شفروا فيه المعلومات هو نفس السياق الذي كانوا فيه خلال اختبار الذاكرة أم لا. لهذا تذكَّر الغواصون معلومات أكثر عندما طُلب منهم التعلم تحت الماء ثم خضعوا للاختبار تحت الماء، أو عندما طُلب منهم التعلم على اليابسة وخضعوا للاختبار على اليابسة. ولكن حين اختلف سياق التعلم والاختبار — تحت الماء ثم على اليابسة، أو على اليابسة ثم تحت الماء — عندئذٍ تراجع مستوى أداء الذاكرة لدى الغواصين بوضوح. خلاصة الأمر أن الغواصين واجهوا صعوبة في الاسترجاع عندما اضطروا إلى تذكر المعلومات في مكان مختلف، وليس عندما تذكروا المعلومات في نفس المكان الذي تعلموا فيه.

إلا أن هذا كان جليًّا فقط في حالة الاسترجاع، وليس في حالة ذاكرة التعرف. لذا يبدو كأن التلميحات المقدمة بالتواجد في نفس السياق عند التعلم والاختبار ضرورية للاسترجاع الفعال، ولكنها أقل تأثيرًا في التعرف.

الأمر الشائق أن أداء الاسترجاع يتأثر أيضًا بحالة المرء الفسيولوجية والنفسية. مثلًا: إذا تعلم شخص شيئًا وهو هادئ للغاية ثم خضع للاختبار وهو قلق أو منفعل، فعندئذٍ يميل مستوى أداء التذكر إلى التراجع. ولكن لو تعلَّم وهو هادئ وخضع للاختبار وهو هادئ، أو تعلم وقت انفعاله وخضع للاختبار وقت انفعاله، فعندئذٍ يميل الأداء إلى أن يكون أفضل. هذا مهم بالنسبة إلى الطلاب الذين يذاكرون من أجل الامتحانات: إذا راجعت من أجل الامتحان وأنت هادئ للغاية، ولكنك شعرت بالتوتر أو الانفعال الشديد خلال الامتحان الفعلي، فعندئذٍ ربما لا تتذكر المعلومات جيدًا في الامتحان (مقارنةً بشخص كان مزاجه أكثر هدوءًا خلال المذاكرة والامتحان). لذا قد تُنصح بالعلاج بالاسترخاء في مثل هذه الحالات، لتحاول أن تضمن أنك في حالة فسيولوجية ونفسية تتشابه في وقت الامتحان مع حالتك في وقت المراجعة.

لوحظ أن الكحوليات والمخدرات وغيرهما من العوامل التي تؤثر على الحالة النفسية للفرد لها آثار مماثلة. ومن ناحية غير موضوعية، تناول هذه النقطة جيدًا الممثل الكوميدي والفنان بيلي كونولي، في مقابلة بالتليفزيون الأسترالي عام ٢٠٠٦:

نعم، أتذكر الآن أين كنت، نعم أتذكر قيامي بهذا وأتذكر قيامي بذاك، ثم تنتقل إلى المرحلة التالية المليئة بتعتيمات لا تتذكرها، ولهذا فلكي تتذكرها عليك أن تثمل مجددًا كي تحظى بذاكرتين. ستحظى بذاكرة واعية وذاكرة ثملة لأنك صرت شخصين …

نص قناة إيه بي سي في البرنامج
التليفزيوني «الحبل على الغارب»

وهكذا نلاحظ هذه الآثار للذاكرة والنسيان «المعتمدة على الحالة»، بالإضافة إلى الآثار المادية «المعتمدة على السياق». ويبدو أن الآثار الواقعة على الذاكرة والمعتمدة على الحالة تحدث في ظل عدة ظروف مختلفة، ولكنها — في الدراسات التجريبية المنهجية — لا توجد أيضًا بانتظام إلا عندما تُختبر الذاكرة باستخدام الاستدعاء الحر. عند اختبار أيٍّ من الاستدعاء التلميحي أو التعرف، فإن تأثير التغيرات في الحالة أو السياق يكون متفاوتًا كثيرًا.

رغم أن الأمر تصعب دراسته علميًّا، فمن المحتمل أن أحد أسباب استصعابنا تذكر محتويات الأحلام يرتبط بالنسيان المعتمد على الحالة. ومع هذا، إذا استيقظنا خلال الحلم فعلًا، فإننا في العادة نجد سهولة نسبية في تذكر جزء من الحلم، ربما لأن بعضًا من محتوى الحلم على الأقل لم يزل مختزنًا في الذاكرة العاملة.

قد تفسر عدة عوامل حساسية الاستدعاء الحر المعتمد على الحالة. على سبيل المثال: قد تؤدي حالات مختلفة نفسية فعَّالة إلى تبني الناس استراتيجيات غير معتادة للتشفير أو الاسترجاع تتعارض مع تلك التي يستخدمونها عندما لا يكونون في تلك الحالات. نشوة الماريجوانا — مثلًا — تجعل الناس تعقد روابط غير عادية استجابةً لعامل مُنبه. قد يكون هذا مهمًّا في تحفيز الاستدعاء الحر؛ لأن المشارك هنا عليه أن ينتج معلومات أو تلميحات سياقية مناسبة لمساعدته على التذكر. ولكن في حالة الاستدعاء التلميحي والتعرف، يُقدم للمجيب بعض المعلومات بالفعل عن العناصر المستهدفة؛ وبالتالي فإن احتمالية عدم التوافق بين عمليتي التشفير والاسترجاع تتضاءل بشكل ملحوظ؛ لأن قدرًا معينًا من المعلومات التي تم تقديمها في وقت التعلم يعاد تقديمه في وقت الاختبار (ومن ثم تكون المعلومات ثابتة).

علاوة على ذلك — كما رأينا سابقًا — غالبًا ما تتمتع ذاكرة التعرف بمكوِّن «مألوفية» قوي، لا يعتمد على السياق؛ وبالتالي ليس عرضة لتغيرات السياق (رغم أنه — كما في الاسترجاع — قد تؤثر تغيرات الحالة والسياق المادي كثيرًا في مكون «الاسترجاع الصريح» لذاكرة التعرف الذي ذكرناه آنفًا).

(٤) التأثيرات غير الواعية على الذاكرة

حتى في غياب الاسترجاع أو التعرف أو مشاعر المألوفية، قد تظل الذاكرة ملحوظة. وكما أشرنا في الفصل الثاني، لو صادفنا المعلومة سابقًا، فإن المصادفات اللاحقة لنفس المعلومة قد تكون مختلفة بسبب المصادفة السابقة، حتى في غياب أية إشارات صريحة للذاكرة. ولكن التأثيرات غير الواعية للذاكرة قد تمثل مشكلة. مثلًا: حللت الدراسات الرسمية ما إذا كان من المحتمل أن يصدق الناس تأكيدات مثل «أطول تمثال في العالم موجود في التبت.» حتى عندما تكون هذه التأكيدات عارية عن الصحة. وقد اكتُشف أنه من المحتمل أن يصدق الناس هذه التأكيدات إذا صادفوها في تجربة ذاكرة سابقة، حتى لو لم يستطع الناس تذكر هذه التأكيدات بأي شكل آخر. قد تكون هذه التأثيرات اللاواعية للذاكرة مسئولة عن فاعلية بعض الأساليب السلوكية المستخدمة في سياق اجتماعي، مثل الدعاية.

كما رأينا في الفصل الثاني، يصف «التنشيط» التأثير السلوكي (اللاواعي غالبًا) الناتج من حدث سابق علينا. ويمكن قياسه بمقارنة السلوك الذي يعقب حدثًا ما بالسلوك الذي ينشأ إذا لم يقع هذا الحدث. في المثال المذكور عاليه، فإن تصديق تأكيدات معينة (مثلًا: عن موقع أطول تمثال في العالم) قد تنشِّطه مصادفتنا سابقًا لهذه التأكيدات. إذا قورن بين مجموعتين من الأشخاص — تتكونان من بعض الأشخاص الذين صادفوا تأكيدًا وبعض الأشخاص الذين لم يصادفوه — فعلى الأرجح أن الاختلاف في الاعتقادات يمثل مقياسًا لدرجة التنشيط الناتجة عن المصادفة السابقة. وهذا مثال آخر للتنشيط: تأمل مقطع الكلمة _i_c_o_e. قد يقيس باحث مقدار الوقت الذي يستغرقه الأفراد لحل أو إكمال المقطع وصولًا إلى كلمة إنجليزية حقيقية (أي أن يقولوا disclose)، ثم يقارن الوقت الذي استغرقه (١) الأفراد الذين صادفوا حديثًا الكلمة أو الفكرة بالوقت الذي استغرقه (٢) الأفراد الذين لم يصادفوها. حتى عندما صادف الأفراد كلمة disclose مؤخرًا ولكنهم لا يتذكرون تجربة مرورهم بها، فإنهم يستطيعون عادةً حل مقطع الكلمة أسرع من الأفراد الذين لم يمروا بهذه التجربة سلفًا. (وكما رأينا في الفصل الثاني، يستطيع الأفراد المصابون بفقدان الذاكرة ممارسة هذا النوع من المهام جيدًا.) الفارق في الوقت اللازم للاستجابة للتلميح هو مثال للتنشيط، وهو أحد أنواع أدلة ذاكرة التجربة السابقة (أي: أثرها المستمر).

(٥) التصنيفات مقابل المتسلسلات

قد ننظر إلى السلوكيات التي نستدل منها على الذاكرة بصفتها موجودة بصورة متسلسلة: الاستدعاء الحر، الاستدعاء التلميحي، التعرف، الشعور بالمألوفية، الأثر السلوكي اللاواعي. تشير هذه النظرة إلى أن الاختلافات وسط هذه المظاهر المتنوعة للذاكرة ناتجة عن أن للذكريات مواطن قوى مختلفة أو درجات إتاحة مختلفة. يستتبع هذه النتيجة أنه كلما كانت الذاكرة قوية ومتاحة، يكون الاستدعاء الحر ممكنًا، إلى جانب جميع إثباتات الذاكرة الأخرى. ولكن كلما ضعفت الذاكرة أو لم تكن متاحة بطريقة أو بأخرى، لن يحدث الاستدعاء الحر، ولكن قد تظل الذاكرة ملحوظة عند مستويات إتاحة أو مواطن قوى «أقل» (أي: التعرف، المألوفية، التأثير اللاواعي).

هذا المنهج جذاب في بساطته، ولكن توجد صعوبات محتملة في المنهج المتسلسل البسيط. مثلًا: القدرة على استرجاع المعلومات لا تعني دومًا أن المعلومات سيتم التعرف عليها بشكل صحيح. علاوة على ذلك، بعض المتغيرات لها تأثير عكسي على أداء الاسترجاع والتعرف، مثل تكرار الكلمة. فالكلمات متكررة الاستخدام — مثل «منضدة» — أسهل في استرجاعها من الكلمات الأقل تكرارًا مثل «مرساة». مع هذا، فالكلمات الأقل تكرارًا أسهل في التعرف عليها. إلى جانب هذا، فالمعلومات التي تم تعلمها عمدًا أسهل عمومًا في استرجاعها من المعلومات التي تُكتسب بالصدفة، لكن المعلومات التي يتم تعلمها دون قصد تكون أسهل أحيانًا في التعرف عليها. النقطة الأساسية هنا هي أنه قد يتم التوصل إلى نتائج مختلفة (وربما غير متوقعة) بناءً على ضوابط محددة للذاكرة عندما تتم معالجة تشفير الذاكرة مباشرةً؛ مما يشير إلى أن تأثيرات الذاكرة لا يحفزها نظام أو عملية وحيدة مباشرة تعمل إلى جانب تسلسل وحيد.

(٦) الربط بين الدراسة والاختبار

حسبما رأينا في هذا الفصل، يعتمد ما نستطيع استرجاعه اعتمادًا كبيرًا على السياق الذي تم فيه تشفير المعلومة أو تصنيفها في الأساس، وإلى أي مدى يتطابق هذا مع سياق الاسترجاع. ذكرنا أن تولفينج طور «مبدأ خصوصية التشفير»، مؤكدًا العلاقة بين ما يحدث في وقت التعلُّم (التشفير) وما يحدث في وقت الاختبار (الاسترجاع). فما يتم تشفيره في أي موقف تشفيري بعينه يحدث بشكل انتقائي؛ أي تحدده المتطلبات المفروضة على الفرد في وقت التعلم. وطبقًا لتولفينج، يعتمد ما سيتم تذكره لاحقًا على التشابه بين ظروف اختبار الذاكرة وظروف التعلم الأصلية. رأينا مثالًا على هذا عند استعراض تجارب جودين وبادلي مع الغواصين الخاضعين للاختبار على اليابسة أو تحت الماء.

توضح تجربة أخرى أجراها باركلي وزملاؤه خصوصية التشفير بمزيد من التفصيل. طلب هؤلاء الباحثون من المشاركين دراسة مجموعة من الجمل تحتوي على كلمات مفتاحية. وهكذا، على سبيل المثال، قُدمت كلمة «بيانو» في واحدة من جملتين: «عزف الرجل البيانو» أو «رفع الرجل البيانو». عند الاسترجاع، تم التلميح إلى الجملتين بعبارات كانت إما (١) مناسبة أو (٢) غير مناسبة للسمات الخاصة بالكلمة المستهدفة (البيانو). وعند الاختبار، تذكر المشاركون الذين تلقوا الجملة التي تتحدث عن عزف البيانو كلمة «بيانو» عندما تم التلميح إليهم بعبارة «أداة موسيقية». على النقيض من ذلك، كان المشاركون الذين درسوا الجملة التي تتحدث عن رفع البيانو أقل قدرة على تذكر كلمة «بيانو» بعد تلقيهم تلميح «أداة موسيقية». (حسب مبدأ خصوصية التشفير، حدث هذا لأنه — بالنسبة إلى هذه المجموعة — لم يتم التركيز على الجانب الموسيقي للبيانو في الجملة خلال وقت التعلم.) على العكس، فإن المشاركين الذين درسوا الجملة التي تتحدث عن رفع البيانو في وقت التشفير تم التلميح لهم بكفاءة أكبر خلال الاختبار بعبارة «جسم ثقيل» بدلًا من تلميح «أداة موسيقية».

توضح هذه التجربة جانبين مهمين عن خصوصية التشفير:
  • (١)

    وحدها تلك العناصر في الحدث الأصلي التي يتم تفعيلها على وجه الخصوص من خلال موقف التعلم هي التي تُشفر بكل تأكيد.

  • (٢)

    لاسترجاع المعلومات على النحو الأفضل، لا بد أن تستهدف تلميحات الاختبار الجوانب المحددة للمعلومة التي تم تشفيرها في الأصل. بعبارة أخرى: يعتمد التذكر على التطابق بين ما تم تشفيره وما يتم التلميح به.

وهكذا، للاسترجاع على النحو الأمثل، يجب أن يتطابق نوع المعالجة المستخدم وقت التعلم بالشكل المناسب مع نوع المعالجة المطلوب في وقت الاختبار. أوضح موريس وزملاؤه تأثير «معالجة النقل المناسبة» كامتداد لتجارب كريك وتولفينج عن «مستويات المعالجة» والتي أشرنا إليها في الفصل الثاني. في الدراسات الأصلية لكريك وتولفينج، حُث المشاركون خلال التشفير على التركيز على الجوانب: (١) المادية، أو (٢) الصوتية (مثل التقفية)، أو (٣) الدلالية للكلمة المطلوب تذكرها. ومثلما رأينا في الفصل الثاني، ففي ظروف اختبارية عادية، أدت المعالجة الدلالية خلال التشفير إلى أفضل مستوى من الاسترجاع خلال الاختبار. ولكن في دراسة أجراها موريس وزملاؤه، أُضيف ظرف آخر في مرحلة الاختبار، والذي وفقًا له اضطر المشاركون إلى تحديد الكلمات التي على وزن الكلمات المقدمة سابقًا خلال التشفير. وبالنسبة إلى ظرف الاسترجاع الجديد «المقفى» هذا، كان هناك تطابق شديد بين: (١) مهمة التقفية خلال ظرف التعلم و(٢) التطابق المقفى المطلوب في وقت الاستجابة. وفي الاختبار، لوحظ أن أفضل استرجاع للكلمات المقفَّاة لدى المشاركين حدث عندما كانت التقفية (أي المعالجة الصوتية) هي محور مهمة التعلم.

هوامش

(1) © Herbie Knott/Rex Features.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤