الفصل الثالث

الفرس في الدولة والجماعة الإسلامية

وأما الفرس أنفسهم فقد خلطهم الإسلام بالعرب أي خلط، فالقبائل العربية انتشرت في الأرجاء الفارسية، والفرس انتقلوا إلى البلاد العربية أسارى أو مهاجرين طلبًا للرزق أو العلم أو المناصب. فالمدينة على نأيها كان بها فرس، وهم قتلوا هنالك عمر وسعيد بن عثمان بن عفان.

وسرعان ما تعلم الفرس العربية وشاركوا في العلوم الإسلامية. ولكن كان للفرس قبل قيام الدولة العباسية حال تختلف عن حالهم بعدها كل الاختلاف.

كانت دولة الأمويين عربية وقليل من غير العرب من سَمَوْا فيها إلى الدرجات العالية، ولم تكن هذه سنة الإسلام ولكنها الضرورة. وكان العرب — لأنهم دعاة الدين وأصحاب الدولة ولأنهم الذين أقاموا الملك ونشروا الدين — يرون أنفسهم أجدر بالرياسة وأولى بالشرف على ما كان فيهم من الاعتداد بأنفسهم والفخر بأنسابهم منذ أيام الجاهلية، فسخط الفرس من أجل ذلك عليهم، ولكن الفرس لم يكونوا قد أفاقوا من دهشة الفتح الإسلامي ولم يكونوا قد تمكنوا في الإسلام واللغة وامتزجوا بالعرب امتزاجًا يمكنهم من منافسة العرب. وما كان العرب قد ضعفوا وتغيروا وتفرقوا في الأقطار، بقي الفرس ساخطين لهذا ولعصبيتهم لآل البيت فاستعان بهم الثائرون على الأمويين، فكانوا عونًا للمختار بن أبي عبيد ولعبد الرحمن بن الأشعث، وكان جيش المختار من الموالي إلا قليلًا. وقد عتب العرب عليهِ إذ استعان بالعتقاء من الموالي ثم إعطائهم حظهم في الغنائم. ولما قال رسل عبد الملك لابن الأشتر: أجئت تقاتل جيوش الشام بهؤلاء؟ أجاب: ما هؤلاء إلا أبناء أساورة الفرس.

وإذا نظرنا إلى أن جيش المختار كان أول من ثأر للحسين بن علي وقتل من قتله أو أعان على قتله، عرفنا أحد الأسباب التي جمعت بين التشيع والفرس منذ أمد بعيد.

جاءت الدعوة العباسية وقد تهيأت الأسباب ليأخذ الفرس مكانهم في الأمة الإسلامية، فكانوا أخلص دعاة هذه الدولة وإليهم يرجع الفضل في إقامتها، وقد رأى نصر بن سيار في هذه الدعوة خطرًا على العرب والإسلام فقال فيما قال:

ففرِّي عن رحالك ثم قولي
على الإسلام والعرب السلام

كانت الدعوة العباسية خليطًا من الدين والعصبية والفارسية فأبو مسلم كان فارسيًّا ومسلمًا غيورًا مخلصًا. وقد أسلم من أجله كثير من دهاقين الفرس، وهو الذي قتل المتنبي الفارسي (به آفريد) حين انتهز فرصة الدعوة فقام يحيي الزردشتية، وكان أبو مسلم قد دعاه من قبل فأسلم وسوَّد. وهذه العصبية الدينية تتمثل في تسمية أهل خراسان الرماح التي خرجوا بها لنصرة العباسيين: كافر كوب — أي مضارب الكفار. ومما يتفكه بها هنا قول بعض الشعراء:

وولَّهني وقع الأسنة والقَنَا
وكافر كوبات لها عجر قُفد
بأيدي رجال ما كلامي كلامهم
يسمونني مَرْدا١ وما أنا والمرد؟

ومهما يكن، فلا أخال البيروني قد أخطأ حين سمى الدولة العباسية «دولة خراسانية شرقية».

كان للدعوة العباسية وما عقبها من قيام الدولة نتائج كثيرة، وإنما يعنينا منها ما يتعلق بالفرس.

فقد أنعشت الآمال في نفوسهم ومكنت لهم في الدولة وخلطتهم بالعرب خلطًا تامًّا، وكان من مظاهر هذا الانتصار في بلاد الفرس ظهور دعوات دينية جديدة وثورات: (به آفريد) انتهز الفرصة لوضع دين قريب من الزردشتية فأعجله أبو مسلم وقتله. وقد أُعجب الفرس بأبي مسلم أيما إعجاب، فلما مات أنكر المسلميَّة موته وقالوا: إنه اختفى وسيجيء مهديًّا من بعد.

ومنهم من قال إنه نبي بعثه زردشت، وقد دعا إلى هذا داعية فارسي في بلاد الترك يعرف باسم إسحاق التركي. وقام صديق من أصدقاء أبي مسلم اسمه سنباذ يقول: إن أبا مسلم اختفى في صورة حمامة بيضاء، ثم يعلن أنه سيذهب لهدم الكعبة انتقامًا لصديقه، وقد جمع حوله زهاء مائة ألف ولكن ثورته لم تلبث طويلًا، وتلت ذلك ثورات يوسف البرم والمقنع الخراساني وعلي مزدك، وبابك الخزمي، وأكثرها مصحوب بذكرى أبي مسلم. ثم جاء القرامطة وفعلوا ما فعلوا وكان منهم ابن أبي زكريا الذي شرع لهم أن من أطفأ النار بيده قطعت يده، ومن أطفأها بفمه قطع لسانه وهذا من أثر الزردشتية. كل هذه مظاهر تحتاج إلى شرح واستقصاء ولها دلالتها على بقايا العصبية الدينية والجنسية في نفوس الفرس، هذا في بلاد الفرس. وأما أثرهم في سياسة الدولة وفي حاضرة الإسلام بغداد فقد كان للفرس الرجحان على العرب عند الخلفاء منذ قيام الدولة.

وقد بلغ الأمر غايته حين تنازع الأمين والمأمون، فكان المأمون في مرو من أقصى خراسان أشبه بخليفة فارسي، وقد أعانهُ الفرس على حرب أخيه الذي كان يعتز بالعرب.

وروي أن أول شعر فارسي نظم في مدح المأمون إذ ذاك، فلما غاب المأمون تمت الغلبة للفرس. ثم استمروا مسيطرين على الخلفاء حتى أديل منهم لأتراك المعتصم، حتى إذا قامت الدول الفارسية، ملك بنو بويه بغداد إلى أن كان طور السلطان التركي فأديل منهم للسلاجقة.

ساس الفرس الدولة على قواعد الساسانيين وقلد الخلفاء وغيرهم الفرس في ملابسهم ومساكنهم وطعامهم وشرابهم، أمر الخليفة المنصور أن تلبس القلنسوة الفارسية، واتخذ هو ومن بعده الحلل المذهبة على الأساليب الفارسية، وقد أبقى الزمن من نقود الخليفة المتوكل ما يظهر هذا الخليفة في زيٍّ فارسي كامل. ومن الكلمات الجامعة في هذا ما قاله المتوكل حين أراد إصلاح السنة المالية ورد النيروز إلى مكانه من العام فأحضر الموبذ ليستعين بهِ. قال الخليفة: «قد كثر الخوض في ذلك ولست أتعدى رسوم الفرس.» وسأله رأيه في الإصلاح.

وكان من آثار هذا الاختلاط والتنافس ظهور الشعوبية من فرس وغيرهم، وهم الذين قاموا يردون على العرب دعواهم في فضلهم على الأمم. ولم يقتصر الشعوبية أن يسووا أنفسهم بالعرب، بل تمادى الجدل بهم إلى تفضيل غير العرب عليهم، كان من الشعوبية غير الفرس، وكان من الفرس أنصار للعرب، ولكن النزاع كان في معظمه نزاعًا بين العرب والفرس، وقد تناضل الفريقان عن كثب وأرسلوا الكلام إلى غاياته في غير تحرج، وهذا طبيعي في الأمم إذا خالط بعضها بعضًا وتنافست على السؤدد؛ ولذلك يكثر التفاخر بين فريقي الأمة الواحدة لشدة الاختلاط والتنافس، ونزاع العدنانيين والقحطانيين وتنافسهم كان أقرب إلى القتال والبغضاء من تنافس الفرس والعرب. ولا يتسع المجال لبيان هذا.

فعلان الشعوبي الفارسي، وهو نساخ في بيت الحكمة أيام الرشيد والمأمون، كتب كتاب الميدان الذي «هتك العرب فيه وأظهر مثالبها» كما يقول ابن النديم، وسهل بن هارون صاحب خزانة الحكمة في عهد المأمون كان شديد العصبية على العرب، وقد كتب رسالة في البخل وكأنه أراد بها الزراية بالجود الذي كان عمدة مفاخر العرب، وسعيد بن حميد بن البختكان لم يتحرج وهو على مقربة من الخلفاء أن يكتب كتابًا يسميه فضل العجم على العرب، وأشباه هؤلاء كثيرون. وقد استمرَّ النزاع في الكتب عصورًا طويلة وليس يسعنا أن نستقصيه الآن.

ولكن ينبغي أن يقال: إن صدور الناس وسعت هذا التنافس عن كثب فلم يضطهد أحد من أجله.

أثرهم في الآداب العربية

بعد هذا كله نسأل السؤال الذي يفهم جوابه استنتاجًا مما تقدم: ما أثر الفرس في الآداب العربية؟

مهما تحدث الناس عن النزاع بين العرب والفرس، فإن هذا النزاع لا يشرح لنا كل شيء، كان المتنازعون إما من الرؤساءِ ومن التفَّ حولهم، وإما من الطامعين في الزعامة والمناصب.

وأما العلماء أكثرهم فكانوا كدأبهم في كل زمان يعملون ولا تسمع أصواتهم، وهم الذين تعاونوا على إغناء اللغة العربية بالكتب في شتى الفنون. فقد تقدم الفرس النجباءُ لحمل الأمانة العلمية منذ العهد الأموي وثابروا فإذا هم متقدمون في فنون كثيرة؛ في التفسير والحديث والفقه، حتى علوم العربية من نحو وصرف وعروض، والآداب العربية شعرها ونثرها قديمها وحديثها. وما عني هؤلاء العلماء بالكلام عن الفرس والعرب بل كانوا يتحرجون أن يخوضوا في هذا، وكان حسبهم أن ينصروا الدين وعلومه. وحسبنا أن نذكر هنا أمثال الحسن البصري والبخاري، ومسلم والإمام أبي حنيفة، ومحمد بن جربر الطبري وابن قتيبة وابن فارس. على أن المتعصبين أنفسهم قد اتخذوا العربية لغتهم ولم يجعلوها موضع نزاع ولا عدلوا بها لغة أخرى. والحق أن كراهتهم للعرب لم تكن كراهة للغة العربية. وأصدق شاهد على هذا أبو عبيدة اللغوي؛ كان شعوبيًّا متعصبًا على العرب، وأصله يهودي فارسي، ونحن نعلم ما أجدت مؤلفاته على اللغة العربية وما بذل من جهد لحفظها ورواية آدابها. ومن هذه الآداب كتابهُ في مثالب العرب.

وللفرس يد أخرى على الآداب العربية، هي ترجمتهم ذخائر لغتهم إلى اللغة العربية ترجمة حاذق قد اتخذ العربية من لغتهِ بديلًا، ولعل عصبيتهم حفزتهم إلى هذا ليحفظوا آثارهم من الضياع وتقوم لهم الحجة بما يترجمون على فضل آبائهم وعظم حضارتهم. وقد بدأت هذه الترجمة — فيما يظن — أيام الخليفة هشام بن عبد الملك؛ ترجم جبلة بن سالم كاتب هشام سير ملوك الفرس، ثم جاءَ زعيم المترجمين ابن المقفع وعبد الحميد بن أبان وآل نوبخت، قد عد صاحب الفهرس أربعة عشر مترجمًا غير ابن المقفع وأسرة نوبخت.

والكتب التي ترجمت من الفارسية أقسام ثلاثة:
  • (١)

    كتب في الحكمة: وهذه ليست ذات خطر، فإنما هي فلسفة اليونان جاءَت من طريق الفرس، وكان العرب يأخذونها من مصادر خير من الفارسية.

  • (٢)
    وكتب في التاريخ والقصص: مثل كتاب (خداي نامه) أو سير الملوك، وكتاب التاج في سيرة أنوشروان اللذين ترجمهما ابن المقفع، وسيرة أردشير، وسيرة أنوشروان اللتين ترجمهما أبان اللاحقي. وبعضها مأخوذ عن السجلات الرسمية الفارسية. وهذه الكتب لها أثرها في كتب التاريخ العربي، وهي أصل لكل ما في الكتب العربية من تاريخ الفرس وأساطيرهم، فأخبار الساسانيين في الطبري مثلًا مأخوذة منها، يثبت هذا مقارنة الكتب العربية بعضها ببعض وبالكتب الفارسية كالشاهنامة. فهذه الكتب على اختلاف مصادرها المباشرة تتفق في سرد التاريخ اتفاقًا يؤدي إلى الاعتقاد بأنها أخذت من أصل واحد.٢
  • (٣)

    وكتب المواعظ والآداب والسياسة وما يتصل بها: مثل عهد (أردشير بايكان) على ابنه سابور، وعهد أنوشروان إلى ابنه هرمز، وجواب هرمز إياه، ورسالة كسرى إلى زعماء الرعية وكتاب (زادان فرخ) في تأديب ولده، وآيين نامه الذي ترجمهُ ابن المقفع.

وقد أمدت هذه الكتب اللغة العربية بثروة من الحكم الأخلاقية والأقوال المأثورة تتجلى في مثل كتب ابن المقفع: كليلة ودمنة، والأدب الكبير، والأدب الصغير، واليتيمية. وهي من أصول كتب الأخلاق العربية التي ألفت من بعد. ومن هذا النوع الكتب التي عرفت باسم المحاسن، أو المحاسن والمساوئ مثل: المحاسن لعمر بن الفرخان الطبري (في عصر المأمون)، والمحاسن المنسوب لابن قتيبة، والمحاسن والمساوئ للبيهقي، والمحاسن والأضداد للجاحظ. فهذه الكتب لها نظائر في الفهلوية أُلفت حتى في العصر الإسلامي، وهي معروفة باسم شايد تشايد، أو (شايسته نشايسته) أي اللائق وغير اللائق.

وكتب التاريخ والأخلاق والأدب لها أثر كبير في الأدب العربي بالمعنى الأخص، أعني الكلام البليغ نظمه ونثره. فهذه الأساليب المسهبة السهلة التي تقدم بها عبد الحميد وتلاه فيها ابن المقفع وغيره تأثرت بالأساليب الفارسية كما كانت موضوعاتها فارسية. وقد ذكر أبو هلال العسكري في الصناعتين وهو يحتج على أن البلاغة ترجع إلى المعاني، ذكر أن الذين عرفوا لغات غير العربية نقلوا بلاغتها إلى العربية في كتابتهم، وضرب مثلًا بعبد الحميد الكاتب إذ أجدت على العربية بلاغته الفارسية. ولا ينسى أثر الفرس في كتابه الدواوين ونظامها. ومن يطلع على كتاب الوزراء والكتَّاب للجهشياري يتبين أن قوانين الفرس في الكتابة كانت معروفة عند كتَّاب العربية.

وأمر آخر يرجع إلى الشعر، هو الشعر المزدوج الذي نظم بهِ ابن عبد الحميد كتاب كليلة ودمنة وغيره. فقد نظم شعراء الفرس فيما بعد كل ما نظموا من قصص في هذا النوع من النظم وسموه المثنوي، فلعل هذا النوع من أثر الفرس في اللغة العربية أيضًا على قلة معرفتنا بحال الشعر عند الفرس قبل الإسلام.

١  مرد بالفارسية: رجل.
٢  انظر مقدمة الشاهنامة العربية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤