الفصل الرابع عشر

أنباء من الغيب

بسط أبو النجم الرَّمَّال منديله بين يديه، وقد جلست غير بعيد منه خوند مصرباي — زوجة السلطان الظاهر قنصوه — مرهفة السمع لما تنتظر أنْ يحدثها به من أنباء الغيب …

وأخذ الرَّمَّال يفرش الرمل الأصفر على منديله، وهو يزمزم وأصابعه تخط في الرمل خطوطًا متوازية ومتقاطعة، ولا تزال شفتاه تتحركان حركات متتابعة، وقد أغمض عينيه إغماضة نائم، ومال برأسه إلى الأرض كأنما يستنبئ ذَرَّاتِ الرمل المتناثرة على منديله نبأ الغيب المحجب، ويستمع إلى نجواها صامتًا مغمض العينين …

ثم رفع رأسه ونظر إلى حيث كانت خوند مصرباي جالسة تنتظر، وقد زاد خفق قلبها واختلاج جفنها، كأن قد رأت وسمعت وعرَفت.

وبلغها صوت الرمال بعيدًا من بعيد، كأنما يتحدث إليها من وراء الزمان والمكان، عن القدَر المخبوء بين ركام الأيام المتزاحمة في موكب الشمس قبل أنْ تُشرِقَ بنورها على الدنيا …

وأنصتت إليه مصرباي وهو يقول: هذا نجمك يا مولاتي قد سطع في الأفق الأعلى، وثَمَّةَ ثلاث كواكب ترنو إليه بعيون مشتعلة، بعضها قريب قريب قد بلغ غايته من التألُّق والإشراق، حتى لَيُوشك أنْ يحترق، وبعضها بعيد بعيد لا يزال بينه وبين النجم الذي يرنو إليه بعينيه المشتعلتين أبعاد، ولكنه لا بُدَّ أنْ يبلغ يومًا منزلة القران مع دورة الفلك، وهذا الكوكب الثالث يلوح حينًا ويختفي، ويأتلق ثم يخبو، وإنَّ عينيه المشتعلتين لتُرسِلَان في الحالين نارًا وصواعق، أو دُخَانًا ورمادًا، فلا يزال يُعشي أعين الكوكبَيْن الآخرين بنوره وناره، أو يُقذيهما بدُخَانه ورماده!

قالت مصرباي ضجِرة: لست أفهم عنك منذ اليوم شيئًا يا أبا النجم وكنتَ خبيرًا بالطوالع، وإنما دعوتك لتنبئني أين موقفي في هذه العاصفة من الآخرين والأخريات؛ فإنه ليخيل إليَّ أنَّ أحداثًا عظيمة ستحدث قبل أنْ ينقشع غبار هذه العاصفة!

قال أبو النجم: صبرك يا مولاتي، فهذه صفحة الكتاب مبسوطة تحت عينيَّ أقرأ سطورها المكتوبة، وستعرفين منها كل ما يعنيك أنْ تعرفيه …

وصمت برهة، ثم استطرد في حديثه: هذه سحابة حمراء تستعرض الأفق، وإنَّ بها فتوقًا تلمع من ورائها أنجم جديدة، وقد اصطبغت السماء بلون الشفق …

هذه السحابة الحمراء قد انقشعت وصفا لون السماء، وهذا نجمك يا مولاتي لم يزل حيث كان، وقد دنا منه ذلك الكوكب البعيد، حتى صار على مدِّ الشعاع، ولكنَّ كليهما ثابت في موضعه لا يتحرك، كأنما وقفت بهما دورة الفلك، ولكن عاصفة قد ثارت زوابعُها من بعيد، توشك أنْ تكتسح كل ما هنالك من أنجُم وكواكب … وتدور الأفلاك دورات سريعة متتابعة حتى لا تكاد تقف … ثم تنقشع العاصفة، وتصفو السماء، ويستقر كل كوكب في مداره، وينتظم في فلكه مصعدًا أو منحدرًا، ويعود نجمك يا مولاتي مشرقًا وهَّاجًا، قد انفرد في موضعه من الأفق الأعلى، وإلى جانبه كوكب مضيء قد استوى على عرشه قريبًا قريبًا من ذلك النجم المتفرِّد بإشراقه وضوئه، وكان يبدو لعين الناظر بعيدًا؛ حتى لا يكاد يبلغه على سرعة دوران الفلك … فهذا طالعك السعيد يا مولاتي وطالع الآخرين والأخريات …

figure
وأخذ الرمَّال يفرش الرمل الأصفر على منديله وهو يزمزم.

وأشرقت على ثغر مصرباي ابتسامة اطمئنان ورضا، وقالت: وأصل باي؟ وجانبلاط؟ والدوادار طومان باي؟ وخاير بك؟ وبنت أقبردي وصاحبها طومان؟

قال أبو النجم باسمًا: لقد قلتُ ما علِمتُ يا مولاتي … ستنقشع العاصفة ويصفو الجو عن نجم واحد قد انفرد في موضعه من الأفق الأعلى، ومدَّ من أشعته جسرًا من النور إلى ذلك الكوكب الواحد المتفرِّد على عرشه … وقد تهاوت أنجم وكواكب.

قالت وهي تدفع إليه صرة دنانير: ويكون ذلك قريبًا يا أبا النجم؟

قال وهو يدس الصرة في جيبه ويتهيأ للانصراف من مجلس السلطانة: ارقبي مدار الفلك يا مولاتي، فستجدين ذلك كله مسطورًا في كتابه.

ثم مضى الرمَّال وخلَّف السلطانة تعدُّ نجوم السماء …

قال الشيخ أبو السعود الجارحي لصاحبه: أنت على يقين مما تقول يا أرقم؟

قال: نعم يا مولاي، وقد رأيت الدوادار الكبير بعينيَّ هاتين يدخل دار كبير الأمناء جانبلاط في الأزبكية، وقد احتشد الخلق في الميدان وأخذ الجند أُهبَتهم كاملة، كأنهم خارجون للقاء ابن عثمان على الحدود!

قال الشيخ أسفًا: قد كان ما لا بُدَّ أنْ يكون، وانتهت أيام الظاهر قنصوه على العرش، أفكان يطمع ذلك الأحمق أنْ يدعه الدوادار طومان باي يُعمَّر على العرش، وقد رفعه إليه على أشلاء ابن أخته الناصر؟! تلك منزلة من الإيثار والفضيلة لم يبلغها الدوادار طومان باي! وإنما هي خطوة يخطوها ولا بُدَّ أنْ تتبعها خطوات حتى يبلغ العرش … وأحسب أنَّ خوند فاطمة بنت العلاء — أرملة الأشرف قايتباي — هي التي تزين له هذا الأمل البعيد؛ لتثأر من أصل باي في ولدها وأخيها.

قال أرقم: بل هو قنصوه الغوري يا سيدنا … ذلك الثعلبان الشيخ الذي يتظاهر بالورع والزهد في الإمارة والسلطان، ويتحبب إلى الأمراء جميعًا؛ ليثير بعضهم على بعض حتى يتفانَوْا ويخلص له العرش من دونهم، ولم يسفك دمًا …

قال الشيخ: اتق الله في ذلك الشيخ يا أرقم، إنك لتغلو في عداوته كأن لك ثأرًا عنده، فلا تزال تظن به الظنون وترميه بالبهتان، أفلا يشفع له عندك أنه عم صديقك الصغير طومان!

سرحت خواطر أرقم وطوقتْ به ذكرياته من قريب إلى بعيد، وتزاحمت على خياله صور شتى، وراح يسأل نفسه في حيرة: أي آصرة تربط بينه وبين ذلك الأمير الصغير، حتى ليخيل إليه أنَّ من حقه أنْ يتبعه أين أقام وأين ذهب، فما ذلك كله وهو ابن أخي الغوري، ذلك الذي يسميه الثعلبان الشيخ، ويبغضه بغضًا لو تقسمه الأحياء بينهم لأوشك ألَّا يكون بين اثنين من الناس مودة ولا رحمة! لماذا؟ ليس يدري أحد، ولكن الشيء الذي لا شك فيه أنَّ أرقم المسيخ قد اجتمعت في قلبه هاتان العاطفتان المتناقضتان، حتى ليس معهما متَّسَع لعاطفة! ولقد شاع حبه لطومان على ألسنة الناس جميعًا، فلولا مكانة ذلك الأمير الصغير من نفوس القاهريين عامة ومريدي الشيخ أبي السعود الجارحي خاصَّة، لأرجفوا بما لا يعلمون وجعلوا حديثهما مضغة الأفواه …

على أنَّ سر العداوة بين أرقم والغوري لم يكن يعلمه أحد، حتى ولا الشيخ نفسه، كل ما يعلمه الشيخ من سر هذه العداوة أنَّ صاحبه أرقم لا يحب قنصوه الغوري، فلا يزال يثلبه وينال منه، ويأخذ بالظِّنَّة كلما جرى ذكره، ولا يزال الشيخ يقول له كلما عرض ذكر الغوري: خفف من غلوائك يا أرقم! ثم لا يزيد …

ولكن الشيخ في هذا النهار لم يقتصر على كلمته تلك، وسأل أرقم: وَدِدْتُ لو عَرَفْتُ سر هذه البغضاء بينك وبين قنصوه يا أرقم!

وكان في لهجته أمر، فشحب وجه أرقم واضطرب فكه المائل، ولكنه اصطنع الهدوء وأجاب: وماذا يكون بيني وبين قنصوه يا سيدنا؟!

وسكت هنيهة ثم أردف: كل ما هنالك من أمر، أنني لا أثق بذلك المملوك الشيخ، إنه رجل غير بريء.

ونظر الشيخ إلى وجه أرقم فأطال النظر، ثم سكت، ونهض أرقم يتخلع في مشيته حتى بلغ الباب فنفذ منه، ثم عاد بعد قليل يحمل مجمرة يتصاعد منها عطر طيب، فوضعها بين يدي الشيخ وجلس على مقربة منه.

وبدأ المريدون يَفِدُون على مجلس الشيخ رجلًا رجلًا، واثنين اثنين، وجماعات جماعات، حتى استدارت الحلقة وغَصَّتْ بهم القاعة …

وأخذ الشيخ ومريدوه في حديثهم عن الدنيا وعن الآخرة.

وعلى بعد قريب من كوم الجارح حيث اجتمع الشيخ ومريدوه، كانت المدينة تتأهب ليوم عصيب من أيام المماليك …

اجتمع أمراء المماليك في بيت كبير الأمناء — الأمير جانبلاط — بالأزبكية، وأخذوا يداولون الرأي في شأن الظاهر قنصوه، وكان على رأس المؤتَمِرين في ذلك المجلس رجلان: هما الدوادار الكبير طومان باي، وصديقه بدر الدين بن مزهر كاتب السر. أمَّا أولهما فقد رأى فرصة سانحة ليخطو خطوة أخرى تدنيه من العرش، وأمَّا الآخر فكان يطلب ثأرًا عند الظاهر قنصوه، فقد همَّ الظاهر ذات مرة أنْ يشنقه على باب زويلة لغير ذنب، فلم يخلص من الموت إلَّا بشفاعة صديقه الدوادار الكبير … واجتمع رأي الرجلين على خلع السلطان، فلم يلبث سائر الأمراء أنْ أمَّنُوا على ذلك الرأي، حتى جانبلاط نفسه — كبير أمناء السلطان — لم يَجِدْ حرجًا في الغدر بمولاه! أفليست هذه فرصة يفترصها ليجلس على عرش قايتباي العظيم فيحقق لأصل باي أمنية؟!

أصل باي جارية السلطان قايتباي، وأم الناصر، وأخت الظاهر، وزوجة جانبلاط … أربعة سلاطين يكتنفونها عن اليمين وعن الشمال، وكانت جارية في سوق الرقيق منذ قريب، يسومها المفلس والمليء!

وزحف جيش الأمراء إلى القلعة فعسكر في مدرسة السلطان حسن، وتهيأ الظاهر للدفاع عن عرشه، فنصب المجانيق على أسوار القلعة … ولكن القلعة لم تلبث أنْ سقطت في أيدي الثوار؛ لأن مماليكه لم يلبثوا أنْ انحازوا إلى جيش الأمراء إحقاقًا للحق … أفليس أولئك الأمراء أقدم من الظاهر قنصوه في المملوكية؟! فما هذه الخئولة التي يَحْتَجُّ بها لحقه في العرش، وإنَّ هؤلاء الأمراء لأقدم منه في سجل المماليك؟!

ليس ذلك دستور الوراثة في عهد سلطان الجركس!

ورأى الظاهر نفسه وحيدًا فريدًا، تكاد تناله سيوف أعدائه فيتدحرج رأسه عند قدميه، كما تدحرج رأس ابن أخته منذ قريب، فآثر أنْ يفر بروحه!

واقتحم على مصرباي غرفة زينتها؛ ليفتح صوانها فينتقي ثيابًا من ثيابها تخفيه … ثم وقف لحظة أمام المرآة ينظر لنفسه مؤتزرًا، منتقبًا، قد شد وسطه بحزام وأبرز صدرًا ناهدًا وردفًا ثقيلًا، ثم استدار لتراه مصرباي في زي النساء، وكان منذ قليل سلطانًا …

وصاحت به مصرباي مذعورة: ماذا فعلت بنفسك يا مولاي؟!

ولكنه لم يستمع إليها، فقد كانت أقدام الجند تقترب من غرفة الزينة …

وفرَّ من القلعة تحت الليل في بطانة زوجته وهو ينشد لنفسه:

وقائلة قد دهتك الهموم
وأمرك ممتثلٌ في الأمم
فقلت ذَريني على غُصتي
فإن الهموم بقدر الهمم

ثم لم يلبث في مخبئه طويلًا حتى عثر به أعداؤه، فسيق أسيرًا إلى معتقله في برج الإسكندرية؛ انتظارًا لما يقضي فيه السلطان من أمره!

وتولى جانبلاط العرش خلفًا للظاهر قنصوه!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤