المرأة وشعار العودة إلى التراث١

بدأت النساء فيما يُسمى العالم الثالث يتصدرن المؤتمرات العالمية عن المرأة، وبرزت منهن رائدات ومفكرات من أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية والوسطى. وكانت نساء العالم الأول في أوروبا والولايات المتحدة يحاولن فرض السيطرة أو الوصاية الفكرية على نساء العالم الثالث، باعتبار أن بلاد العالم الثالث لا تزال — رغم الاستقلال السياسي — أشبه ما تكون بالمستعمرات تعاني التبعية الاقتصادية والثقافية لدول العالم الأول.

في أحد هذه المؤتمرات العالمية وقفت امرأة أمريكية من نيويورك وقدَّمت ورقة عن المرأة المصرية، ثم اختتمت كلامها قائلة: إن عودة المرأة المصرية إلى التراث الإسلامي هي السبيل إلى تأكيد شخصيتها وهويتها الأصلية.

ثم وقفت امرأة أمريكية أخرى وقدَّمت ورقة عن المرأة الهندية وانتهت إلى النتيجة نفسها، وهي: تأكيد الشخصية الأصلية للمرأة الهندية إنما يكون عن طريق العودة إلى التراث الهندي.

ثم وقفت امرأة أمريكية أخرى وقدمت ورقة عن المرأة الأفريقية في كينيا وشرق أفريقيا ووصلت إلى الشعار نفسه، وهو العودة إلى التراث.

والغريب أن هذا الشعار (العودة إلى التراث) أصبح يتردد في كثير من المؤتمرات والبحوث والكتب التي تتناول قضية التنمية في بلاد العالم الثالث ومنها تنمية المرأة.

وهو شعار براق؛ لأنه يتجاوب مع رغبة شعوب العالم الثالث في التحرر من الحضارة الغربية الاستعمارية، وتأكيد الشخصية الأصلية المستقلة …

إلا أن دراسة التاريخ توضح لنا أن جميع الشعارات التي استخدمها الاستعمار كانت شعارات براقة، تبدو دائمًا في صالحنا، ثم نكتشف فيما بعد أننا خُدعنا، ولكن بعد فوات الأوان.

السم داخل العسل

بل إن تاريخ الاستعمار الأوروبي أو الصهيوني أو الأمريكي كان يبدأ دائمًا بالبعثات ذات النشاط التعاوني (لصالح البلد ظاهريًّا) في المجالات التعليمية والطبية والاجتماعية والاقتصادية والدينية. ولم تكن تلك المساعدات أو المعونات إلا «الطُّعم» الذي يمكن به اصطياد السمكة. أو السم داخل العسل. وتظل هذه المعونات محدودة بحدود الوظيفة المطلوبة منها؛ ولذلك فهي توجَّه عادةً إلى:
  • (١)

    أنشطة دينية (الإرساليات والبعثات التبشيرية) بهدف استخدام الدين كإحدى الوسائل لتقسيم الشعب طائفيًّا.

  • (٢)

    أنشطة غير إنتاجية، مثل: ترميم القباب القديمة، وخاصةً قباب دور العبادة المختلفة، مثل قباب الكنائس أو المساجد القديمة لتأكيد الاختلافات الدينية، أو ترميم بعض الآثار القديمة تحت شعار براق هو «إحياء التراث»، أو التنقيب عن الآثار.

«في العشرينيات من هذا القرن العشرين تقدم رجل الأعمال الأمريكي جون روكفلر بهدية عبارة عن عشرة ملايين دولار لبناء متحف يضم الآثار التي تم كشفها والتي سيتم كشفها في المستقبل، لكن المصريين رفضوا هذه الهدية بسبب استيائهم من موقف الأمريكيين الرسمي المتعاطف مع الصهيونية والإنجليز» (مجلة الاقتصادي، ١٦ / ١ / ١٩٨٤).

الحروب الطائفية

كانت ولا تزال الحروب الطائفية الأهلية من أهم وسائل الاستعمار للسيطرة على أي بلد من البلاد. وقد أصبح ميكانيزم الحرب الطائفية علمًا من العلوم في الجامعات الأوروبية والأمريكية. ويقتضي الإعداد للحرب الطائفية دراسة الشعوب في بلاد العالم الثالث دراسة نفسية واجتماعية ودينية للبحث عن الثغرات التي يمكن من خلالها إحداث الصراع الديني الفكري تمهيدًا للحرب المسلحة.

وتاريخ الهند وباكستان يشهد بالمذابح الطائفية التي خطط لها الاستعمار البريطاني. وفي الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية والوسطى هناك العديد من الأمثلة على هذه الحروب التي لعب الصراع الديني فيها الدور الأساسي، بل إن وعد بلفور لم يكن إلا إحدى الوسائل لإشعال الحرب الطائفية في العالم العربي تحت شعار: «تأمين وطن لليهود»، ورأينا كيف أدى ذلك إلى إنشاء دولة عنصرية على أساس الدين (إسرائيل) شبيهة بدولة جنوب أفريقيا العنصرية التي استخدمت الدين أيضًا. وقد رأينا كيف لعبت إسرائيل الدور الذي خُطط لها منذ البداية، وكيف أشعلت الفتن الطائفية في بعض البلاد العربية، ومنها لبنان، والتي تحولت الفتن فيها إلى حرب أهلية ومذابح قُتل فيها عشرات الألوف من الشعبين الفلسطيني واللبناني. وبدأت المحاولات لتقسيم لبنان طائفيًّا بعد أن كشفت القوى الاستعمارية العالمية عن وجهها الحقيقي، واتخذت لنفسها اسمًا جديدًا يخفي انتماءها ويصورها على أنها قوات متعددة الجنسيات، وليس لها دور إلا «الحماية».

كان الاحتلال أو الاستعمار القديم يأخذ شكل «الحماية»، لكن «الحماية» اليوم أصبحت متعددة الجنسيات. وهذا هو الاسم الحديث للاستعمار الاقتصادي والسياسي الجديد، والذي بدأ يكشف عن وجهه العسكري أيضًا في حرب لبنان.

الثورة الإيرانية

أصبحت القوى الصهيونية والاستعمارية العالمية المتعددة الجنسيات تلعب أدوارًا ظاهرة أو خفية لتقسيم البلاد طائفيًّا أو عنصريًّا. وحيث إن إسرائيل نفسها دولة عنصرية، فهي لا تستطيع أن تعيش إلا بعد تقسيم العالم من حولها إلى جزر عنصرية.

وكان نظام الشاه في إيران على اتفاق تام مع إسرائيل وأمريكا بشأن تشجيع آية الله الأئمة والمتطرفين من الشيعة لضرب الحركة الوطنية الإيرانية التي بدأت تمثل خطرًا على مصالح إسرائيل وأمريكا في إيران، وأهمها البترول الذي كان يتدفق عبر الأنابيب من إيران إلى إسرائيل.

ولم يكن في وسع العقل الإلكتروني الذي يخطط للفتن الطائفية أن يتنبأ بكل النتائج التي تسفر عنها الفتن، إلا أن الثورة الدينية الشيعية أفضل لديه من الثورة السياسية والاجتماعية؛ ذلك أن الثورة الشيعية قد تبدأ بمعاداة إسرائيل أو أمريكا (باعتبارهما من دين آخر أو كفرة)، لكن عداوتها تمتد أيضًا إلى الشعب الإيراني نفسه وإلى كل الشعوب من حولها التي لا تؤمن بالمذهب الشيعي. وتشير البيانات إلى أن المشكلة الاقتصادية في إيران تفاقمت عما كانت عليه، وأن «أغلب سكان الريف والجنوب لم تغير الثورة شيئًا من حياتهم البائسة في بيوت الصفيح. وأن السوق السوداء استشرت وأصبح الحصول على السلع الأساسية في متناول القلة القليلة فحسب. وأن الحرب مع العراق والمشروعات الفاشلة بدون دراسة أَفرغت خزينة الدولة من الأموال. وأن القيود على الحريات السياسية والفكرية والاجتماعية تضاعفت إلى حد تكفير الإنسان لمجرد الاختلاف في الرأي، وضرب النساء في الشوارع لمجرد الخروج إلى العمل بملابس عادية.»

وتؤكد هذه التطورات في الثورة الإيرانية صحة الخطط الاستعمارية ونجاح نظرية الفتن الطائفية لإجهاض حركات التحرير السياسية والاقتصادية في العالم الثالث؛ ولهذا لا تكف الدراسات الأمريكية الجديدة في مجال التنمية أو المرأة عن رفع شعار «العودة إلى التراث» و«الدين».

ويصاحب هذه الدعوة الثقافية والروحية معونات مادية لإحياء وترميم الآثار القديمة، وخاصةً قباب دور العبادة، وعمل أفلام عن المرأة العربية وقد اختفت تحت الحجاب كتأكيد على شخصيتها الأصلية.

وقد فطنت بعض شعوب العالم الثالث إلى هذه الخدعة الجديدة. وفي دراسة قدمتها إحدى النساء من السلفادور قالت: «لم نعد نُخدع بهذا الشعار البراق الذي يرتدي ثوبًا دينيًّا روحيًّا، وحماسًا للشخصية الأصلية والتراث القديم، وقد أصبحنا اليوم نرفض المعونات الأمريكية؛ فهي ليست إلا مسمار جحا، الذي يسمح للإدارة الأمريكية بالتدخل في شئوننا، وتوجيه هذه المعونة إلى أغراض ضد مصالحنا مثل مراكز بحوث تزودهم بالمعلومات الدقيقة عنا، أو صرف المعونة في أنشطة هامشية مظهرية مثل: طلاء قباب الكنائس القديمة والتماثيل العتيقة تحت شعار إحياء التراث القديم.»

المرأة العربية والتراث

في مؤتمر كوبنهاجن العالمي للمرأة عام ١٩٨٠ نشب الصراع من جديد بين نساء العالم الأول ونساء العالم الثالث حول موضوع العودة إلى التراث والشخصية الأصلية للمرأة تحت شعار براق جديد هو: تحرير نساء العالم الثالث من الغزو الثقافي الغربي. وقد لاحظت أن هذه الدعوة تركز أساسًا على عودة المرأة إلى الأزياء التقليدية، وممارسة الطقوس الدينية المختلفة. ورأينا النساء اليهوديات يُقمن حفلًا دينيًّا يهوديًّا يمارسن فيه الطقوس القديمة. وبدأت النساء الإيرانيات الشيعيات مندوبات النظام الخوميني يُقمن شعائرهن الدينية أيضًا وهن محجبات. وبدا الرضا على وجوه بعض النساء الأمريكيات اللائي نشطن في تأكيد صحة العودة إلى التراث.

إلا أن مجموعة من النساء الأفريقيات والعربيات الواعيات كشفن الخدعة. وبدأنا نناقش قضية المرأة في علاقتها بالتراث، وأوضحنا أن التراث في أي بلد من البلاد لا يتكون من دين واحد، وأن الأديان السماوية في أفريقيا كالمسيحية والإسلام تذوب في التراث الأفريقي القديم، كما أن التراث العربي يشتمل على الأديان السماوية بالإضافة إلى الثقافات والحضارات الأخرى القديمة، والوافدة على تعاقب العصور منذ الحضارة المصرية القديمة والسومرية والهيلينية واليونانية، ثم الحضارة العربية والحضارة الأوروبية وغيرها.

وما إن بدأ التسامح الديني يسود الجو، ونوع من الوحدة تجمع النساء، حتى استشاطت بعض النساء اليهوديات غضبًا وبدأن يؤكدن على أن التراث اليهودي هو التراث الوحيد للنساء الإسرائيليات، وأن التراث الإسلامي هو التراث الوحيد للنساء العربيات.

ووقفتُ وقلت: أعتقد أنه من حق المرأة العربية أن تحدد بنفسها تراثها، وأعتقد أيضًا أن المرأة الإسرائيلية هي آخر من يمكن أن يحدد للنساء العربيات تراثهن.

المرأة والحضارة البديلة

قرأنا الكثير عن تلك الحضارة البديلة المطلوب صنعها، أو المشروع الحضاري الجديد الذي يمكن أن يحل المشاكل في مصر والوطن العربي، ابتداءً من المشكلة الاقتصادية والسياسية والديمقراطية إلى مشكلة الذات والهوية وحقوق الإنسان العربي.

والغريب أن معظم الاجتهادات والكتابات تدور وكأنما الإنسان هو الرجل فقط، أو كأنما المجتمع العربي ليس إلا ذكورًا فحسب.

وقد نجحت إلى حد كبير الخطط الاستعمارية العالمية والصهيونية في إشعال العصبيات الدينية والمذهبية في الشرق الأوسط ابتداءً من إيران وباكستان والسودان، وسوريا ولبنان حتى تونس والمغرب. ويأخذ هذا النجاح مظهر الصراعات الدينية السافرة أو الإرهاب الديني المستتر الذي يجعل العدو الأساسي لنا هو «العدل الاجتماعي» (تحت ستار أنه فكرة شيوعية)، وتتقهقر مشاريع التنمية الشاملة إلى الوراء ولا تركز عليها الأضواء.

وقد شمل الإرهاب الديني بلادًا متعددةً في المنطقة العربية بعد ازدياد التطرف الديني في إيران، وانهزام الثورة الفلسطينية والحركة اللبنانية الوطنية في حرب لبنان.

وأدى كل ذلك إلى تصاعد فكرة العودة إلى التراث وجعل التراث والدين شيئًا واحدًا.

وتلجأ كثير من القوى السياسية إلى ركوب مثل هذه الموجات الدينية. وتنعكس هذه الانتهازية السياسية على الفكر وتؤدي إلى فكر انتهازي أيضًا … ونشهد التحول السريع إلى الشعارات الدينية وبعض الطقوس التي انقرضت أو تكاد، حتى من بعض الذين ارتدوا من قبل ثوبًا علمانيًّا.

ولأن النساء لا يمثلن أي قوة سياسية في هذه الحلبة، فمن السهل التضحية بهن وفرض القيود من جديد عليهن تحت شعار العودة إلى التراث أو الدين.

وهناك بعض المفكرين الأكثر وعيًا على المدى الطويل، والذين يفكرون في مستقبل الأمة قبل مستقبل الحزب أو نتائج الانتخابات، وهم يحاولون الوقوف ضد هذه التيارات التي ترتدي عباءة الدين وتعود بنا إلى الوراء، ويبذلون الجهود من أجل التوفيق بين ما سُمي بالحضارة الغربية والتراث، آملين في الوصول إلى حضارة بديلة أو مشروع حضاري جديد.

لكن معظم هؤلاء أيضًا كثيرًا ما يفوتهم أن نصف المجتمع من النساء، وأن أي حضارة بديلة أو مشروع حضاري لا يشمل المرأة ولا يكون حضاريًّا ولا يكون ديمقراطيًّا لا يكون عادلًا بالضرورة.

١  القاهرة، ١٩٨٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤