نافذة في الجدار بين الرجل والمرأة١

شهوة العقل للمعرفة هي أعنف شهوات الإنسان جميعًا، رجلًا كان أو امرأة، وهي تفوق الشهوة إلى الطعام أو الجنس؛ وهذا هو السبب في أن الإنسان وحده دون سائر المخلوقات جميعًا يمكن أن يضحي بطعامه وشرابه ومتعته الجنسية، بل بحياته كلها أحيانًا، من أجل أن يرضي طموح عقله وفكره.

إن قصص هؤلاء الرجال والنساء الذين ماتوا واستُشهدوا في الزنازين لفترات طويلة بغير طعام أو شراب أو جنس إنما هي قصص عظمة عقل الإنسان في شهوته العارمة لأن يعرف ويخلق حياة أفضل للمجتمع الكبير الذي يعيش فيه.

وإذا كان هناك من امتياز للإنسان على المخلوقات فهو بغير شك ذلك العقل الإنساني بقدرته المتميزة على الخلق والتجديد من أجل التقدم المستمر.

ومأساة المرأة في الحضارة الحديثة أو النظام الأبوي الإقطاعي ثم الرأسمالي الحديث هي أن عقل المرأة حُرِم من شهوته الطبيعية للمعرفة والخلق والتجديد، وحُرِمت المرأة من طموح الحياة الفكرية في المجتمع الكبير، واقتصر طموحها في الحياة على توفير الراحة والطعام والنظافة للرجل في البيت من أجل أن يفكر هو، ومن أجل أن يبتكر هو في عالم الفكر والفن والعلم والفلسفة.

حتى هؤلاء الرواد من رجالنا ونسائنا الذين حملوا المشاعل أو الشموع في بداية هذا القرن العشرين، من أمثال قاسم أمين، والذين نادوا بخروج المرأة للتعليم والعمل، لم يقولوا إن تعليم المرأة وعملها في المجتمع الكبير كتعليم الرجل وعمله، وإن إطلاق طموح المرأة العقلي والفكري ضرورة إنسانية لتحقيق شرفها وكرامتها كإنسان، وإنما طالبوا بتعليم المرأة حتى تتقن دورها في البيت وتوفر لزوجها وأولادها راحة أكثر ورعاية أفضل.

بل إننا نرى حتى اليوم رجالًا ونساءً ممن يحملون الشموع في مجتمعنا في هذا الربع الأخير من القرن العشرين، نراهم لا يرون المرأة ودورها في الحياة إلا داخل هذا الإطار الذي رسمه لها المجتمع الأبوي الطبقي الحديث.

ويحاول كثير من الرجال في دفاعهم عن رأيهم أن يلجأ إلى حد اعتبار النظافة والكنس والغسل أعمالًا عظيمة الشأن لا تقل عظمة عن الخلق الفكري والديني. ويذهب بعضهم بعيدًا إلى القول بأن الأنوثة الطبيعية تجد في مثل هذه الأعمال سعادةً وتحقيقًا للذات، وأن حب النظافة طبيعة أنثوية، وبالتالي هي مسئولية المرأة وتخصصها، وقد تصبح المرأة مهندسة أو طبيبة أو عالمة من علماء الاقتصاد أو الذرة، لكنها إذا ما عادت إلى البيت أصبحت هي المسئولة عن الكنس والنظافة.

وما زال عندنا كثير من الرجال يعتبرون خروج المرأة من البيت للعمل عورة بحجة أن خروجها من البيت يعرضها للزلل وأن بقاءها في البيت حماية لأخلاقها وشرفها.

وقد نسي هؤلاء الرجال أن الأغلبية الساحقة من نساء مجتمعنا يخرجن فجر كل يوم للعمل في الحقول، ولم أسمع أن واحدًا من هؤلاء المدافعين عن أخلاق المرأة أو أنوثتها قد عارض خروج الفلاحات للعمل في الحقول.

فهل العمل في الحقل في نظر هؤلاء الرجال يتفق مع أنوثة المرأة وطبيعتها وأخلاقها؟ وهل الخروج من البيت إلى الحقل يختلف عن الخروج من البيت إلى المكتب أو المصنع أو الوزارة أو الشركة؟ أم هؤلاء يتصورون أن أنوثة المرأة الفلاحة شيء وأنوثة المرأة في المدينة شيء آخر؟ أم أنهم يعتبرون أن الفلاحات قد خرجن عن أنوثتهن وطبيعتهن وأخلاقهن؟

وهذه هي الثغرة الأساسية في منطق الرجال الذين يعارضون خروج المرأة للعمل. إن الرجل لم يعترض أبدًا على خروج ملايين الفلاحات للعمل كل يوم في الحقول، رغم ترديده الدائم بأنه يحمي أنوثة المرأة ورقتها ويعفيها من الأعمال الشاقة التي تفسد هذه الرقة.

إن حقيقة الأمر ليست أن الرجل يدافع عن رقة المرأة وأنوثتها بقدر ما هو يخشى على نفسه من شيئين اثنين، هما:
  • (١)

    استقلال المرأة الاقتصادي عنه.

  • (٢)

    تفتُّح عقل المرأة لشهوة المعرفة.

إن خروج الفلاحات للعمل في الحقول لم يحقق أبدًا للمرأة استقلالها الاقتصادي عن الرجل؛ لأن الفلاحة تعمل في الحقل بغير أجر؛ فهي تعمل لحساب زوجها وأسرتها، وهي تعتمد اقتصاديًّا على زوجها أو أي رجل آخر في الأسرة، كذلك فإن عمل المرأة داخل البيت من كنس ونظافة وخدمة أيضًا هو عمل بغير أجر.

وكل هذه الأعمال اليدوية والجسدية سواء منها ما كان داخل البيت أو خارجه، إنما هي أعمال لا تفتح شهوة العقل للمعرفة بقدر ما ترهق الجسد، ولا تعطي العقل فرصة للتفتُّح أو الخلق الفكري. ولا يختلف اثنان في أن الاستقلال الاقتصادي وقدرة العقل على التفكير والتجديد هما الدعامتان اللتان تُكونان الإنسان؛ فالإنسان إنسان بقدر ما يستطيع أن يفكر وبقدر ما يستقل اقتصاديًّا عن الآخرين، ويتحرر من أن يكون عالة على أحد، وإن كان هذا الأحد هو الأب أو الأم أو الزوج.

والذين يقولون إن المرأة تجد سعادتها في أن تكون عالة أو إنها تحقق ذاتها من خلال خدمة الآخرين، أو إنها فاقدة للطموح الفكري والخلق لأنها تلد وعملية الولادة إنما هي خلق البشر، أو إن طبيعة المرأة من حيث الطموح العقلي أقل من طبيعة الرجل؛ كل هذه الأقاويل لا تستند إلى منطق أو علم.

تشير النظرية العلمية الحديثة في تطور المجتمعات الإنسانية وعلاقتها بفكرة الطبيعية البشرية الثابتة أو الدائمة، إلى أن الطبائع البشرية إنما هي ظواهر نسبية تتغير وتتكيف حسب البيئة التي نعيش فيها. وقد أصبح معظم العلماء في الغرب وفي الشرق لا يحبذون اصطلاح «الغرائز البشرية» ويفضلون عليه اصطلاح «الدوافع البشرية» التي يتعلم الإنسان معظمها خلال سنوات الطفولة والمراهقة.

وهناك كثير من الأدلة العلمية، والتي لا يمكن حصرها، والتي تدل على أن الصفات التي تطلَق عليها الصفات الطبيعية للمرأة أو الرجل ليست إلا صفات مكتسبة من البيئة والتربية ودور الشخص في المجتمع. إن الرجل الذي يَفرض عليه الفقرُ مثلًا أن يصبح كناسًا أو جامعًا للقمامة يصبح بمرور السنين أقل قدرة على التفكير والخلق الفكري من الرجل الذي يتفرغ للبحث العلمي أو الخلق في مجال الفكر، والمرأة التي يُفرَض عليها دور الكنس والتنظيف تصبح بمرور السنين أقل قدرة على التفكير من الرجل أو الذي يتفرغ للأعمال الفكرية.

أما هؤلاء الذين يتصورون أن شرف المرأة لا يصان إلا إذا حُبست في البيت، فُرض عليها دور معين في الحياة أو فُرض على عقلها أو جسدها الحجاب، فهو أيضًا منطق يحتاج إلى مناقشة؛ لأن الشرف الإنساني أولًا هو أن يكون للإنسان عقل يفكر به بحرية وبغير قيود أو أحجبة سواء كان هذا الإنسان رجلًا أو امرأة.

وأنا لست من القائلين بأن تحرير عقل المرأة العربية سيحدث في يوم وليلة؛ فهذه قضية كبرى تتطلب جهودًا كثيرة من النساء والرجال معًا. ولست أيضًا من القائلين بأن معركة تحرير المرأة هي معركة ضد الرجل، ولكنني أقول إن معركة تحرير المرأة هي معركة ضد الأفكار المتخلفة، سواء حمل هذه الأفكار رجال أم نساء.

ولا يمكن لنا أن ننكر أن المرأة العربية قد اقتحمت مجالات فكرية متعددة، وأنها أصبحت تأخذ الفرصة لإطلاق عقلها من القيود القديمة. لكنني ما زلت أرى أن المرأة لا تزال تعاني كثيرًا من القيود والضغوط، وأن أكثر كُتَّابنا تقدُّمًا من الرجال ما زالوا ينظرون إلى موضوع المرأة كقضية ثانوية أو يتجاهلونها على الإطلاق، بل إنها حين تسترعي انتباههم فإنها لا تسترعي انتباههم إلا بمناسبة تنظيف شوارع القاهرة أو كنس المستشفيات من القذارة.

وأنا لست ضد النظافة بأي حال من الأحوال، ولكني ضد أن نربط دائمًا بين المرأة والمكنسة، كما أنني ضد هذا المَثَل الذي شاع من أن النظافة من الإيمان والوساخة من النسوان؛ فالمرأة ليست سبب القذارة، والمفروض أن نبحث عن الأسباب الحقيقية للقذارة بدلًا من تصور أسباب غير حقيقية.

وإني أعتقد أن مشكلة نظافة القاهرة أو تنظيف المستشفيات التي تحدَّث عنها «يوسف إدريس» لن تحلها النساء مهما فعلن ومهما كوَّنَّ جمعيات وتطوَّعن في حملات فدائية للكنس والتنظيف. إن نتيجة جهودهن قد لا تكون أكثر من صورة في الجرائد للمرأة والمكنسة في يدها تأكيدًا للعلاقات العضوية بين المرأة والمكنسة.

وأنا لست من المتشائمين، ولكني أرى أن مشكلة تنظيف شوارع القاهرة أو مستشفياتها ليست هي المشكلة المُلحَّة، بل إنها ليست إلا نتيجة لسبب آخر، والمفروض أن نعالج الأسباب أساسًا.

كما أنه لا بد أن تكون هناك أولوية للمشاكل الأساسية التي تعاني منها الأغلبية الساحقة من الناس وليس مجرد سكان القاهرة العاصمة، وقد أصبح الحصول على ضروريات الحياة من الهموم اليومية لأكثر الناس، ولست من الذين يتصورون أن هذه المشاكل لا تحدث إلا لنا؛ فهي مشاكل يعاني منها أي مجتمع ينمو، وهي مشاكل يعاني منها أي بلد من بلدان ذلك العالم المُسمى بالعالم الثالث، حيث يصارع الشعب من أجل الحصول على رزقه من بين أنياب القوى الاستغلالية في الخارج أو في الداخل. وقد عشت المشاكل وأكثر منها في مجتمعات نامية مثل مجتمعنا، وقد رأيت في الهند وسري لانكا فقرًا لم أرَه من قبل.

ولكن المشكلة ليست في وجود المشاكل أو عدم وجودها. المشكلة هي كيف نفسر هذه المشاكل وكيف نعالجها. المشكلة هي كيف نتصدى لعلاج الأسباب الحقيقية لهذه المشاكل.

وقد دعا «يوسف إدريس» في مقاله إلى أن قضية إجراء حوار مع المرأة المصرية والعربية بشكل عام أصبح مُلحًّا وضروريًّا، وأن الجدار العظيم الكائن بين الرجل والمرأة لا بد أن يُهدم، أو على الأقل نستحدث فيه بعض الثقوب أو المنافذ.

وأنا أتفق مع يوسف إدريس في هذا، ولكني أختلف معه في أن تكون هذه البداية هي أن تخرج النساء لكنس الشوارع أو المستشفيات. وأنا لست من المدافعات عن النساء العاطلات في النوادي اللائي خصهن يوسف إدريس، ولكني أعتقد أن الرجال العاطلين في النوادي وغير النوادي ليسوا أقل عددًا من نسائهم، وليسوا أقل بطالةً من زوجاتهم؛ لأنهم قد يذهبون إلى مكاتبهم حيث عمل ولا عمل، أو حيث يعملون ويستغلون، فيكون العمل أسوأ من البطالة.

ولست من المناصرات للنساء حقًّا وباطلًا، ولكنني من اللاتي يبحثن عن الأسباب قبل النتائج. وقد وجدت أن النساء العاطلات في النوادي أو المكتئبات في البيوت مللًا وفراغًا لسن إلا نتيجة لسبب آخر؛ فهن ضحايا منطق فرض على المرأة أن تكون مكنسة لتنظيف البيت أو أداة لخدمة الأسرة، فإذا ما قامت بهذه الأعمال خادمة تفرغت المرأة تمامًا للبطالة.

ما أشد حاجاتنا فعلًا إلى مناقشة موضوع المرأة، وإلى فتح نافذة في الجدار، وهناك محاولات جادة من نساء ورجال، وكم من دراسات علمية متعمقة، وكم من نساء ورجال بحثوا وكتبوا وناقشوا بعقل مفتوح، وكم من نوافذ فُتحت في الجدار، وكم من نوافذ ستنفتح.

١  الأهرام، ٣  يوليو  ١٩٧٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤