الفصل الرابع عشر

ما السبب وراء جمال الزهور؟

أشارَتِ ابنتي جوليت، ذات الأعوام الستة آنذاك … إلى بعض الزهور على جانب الطريق. سألتُها عن علةِ وجودِ الزهورِ البرية في اعتقادها، فردَّتْ بإجابةٍ لا تخلو من تأمُّلٍ قائلةً: «لسببين: لتجميل العالَم، ولمساعدة النحل على إنتاج العسل لنا.» تأثَّرْتُ بما قالت، وأسفت لاضطراري أن أخبرها أن ذلك ليس صحيحًا.

ريتشارد دوكينز، «الصعود إلى جبل اللااحتمال» (١٩٩٦)

«غيِّرْ موضِعَ نغمةٍ واحدةٍ يَخْتَلَّ المقام. غيِّرْ موضِعَ عبارةٍ واحدةٍ يَنْهَرِ البناء.» هكذا وُصِفَتْ موسيقى موتسارت في مسرحية «أماديوس» (١٩٧٩) لمؤلفها بيتر شافر. يذكرنا هذا الوصف بملاحظة جون أرتشيبالد ويلر التي استهللتُ بها هذا الكتاب، متحدِّثًا عن نظريةٍ موحدةٍ مرجوةٍ للفيزياء الأساسية: «فكرة غاية في البساطة والجمال، حتى إننا حين نستوعبها … نتساءل: كيف يمكن للأمر أن يكون غير ذلك؟»

كان كلٌّ من شافر وويلر يصفان نفس الخاصية، وهي أنه يصعب التعديل في شيءٍ على أن يظلَّ مؤديًا لوظيفته. تصف الخاصية في الحالة الأولى الموسيقى الجيدةَ جماليًّا، وفي الحالة الثانية التفسيراتِ العلميةَ الجيدة. ويتحدث ويلر عن كون النظرية العلمية «جميلةً» في ذات اللحظة التي يصفها فيها بصعوبة التعديل.

يصعب التعديل في النظريات العلمية الجيدة؛ لأنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بحقيقةٍ موضوعية؛ تلك الحقيقة المستقلة عن ثقافتنا، وتفضيلاتنا الشخصية، وتركيبنا البيولوجي. لكن لماذا يعتقد بيتر شافر في صعوبة التعديل في موسيقى موتسارت؟ إن وجهة النظر السائدة بين الفنانين وغيرهم هي — فيما أعتقد — أن المقاييس الفنية تخلو من أي جانبٍ موضوعي. الجمال — كما يقول المثل السائر — في عين الناظر. إن عبارة «إنها مسألة ذوق» تُستخدَم بالتبادل مع عبارة: «لا حقيقة موضوعية في الأمر.» ليسَتِ المقاييس الفنية في هذا المنظور أكثرَ من أدواتٍ للصيحات وغيرها من الأحداث الثقافية، أو للأهواء الفردية، أو الاستعداد البيولوجي. إن الكثيرين على استعدادٍ للإقرار كيف يمكن لفكرةٍ في الرياضيات والعلوم أن تكون أصحَّ موضوعيًّا من فكرةٍ أخرى (مع أن البعض — كما رأينا — يُنكر حتى ذلك)، لكن أغلب الناس يُصرُّون على عدم جواز وصْفِ شيءٍ بأنه أجمل موضوعيًّا من شيءٍ آخَر. للرياضيات براهينها (هكذا تمضي حجتهم)، وللعلم اختباراتُه التجريبية؛ لكنك لو اخترتَ أن تعتقد أن موتسارت كان مؤلِّفًا موسيقيًّا أخرقَ ناشِزَ الألحان، لَمَا عارَضَك في ذلك المنطقُ، ولا التجربةُ، ولا أيُّ شيءٍ موضوعيٍّ البتة.

ومع ذلك، فمن الخطأ أن نُقصيَ إمكانيةَ وجودِ الجمال الموضوعي لسببٍ كهذا؛ لأنه ليس إلا أثرًا من آثار التجريبية ناقشْتُه في الفصل التاسع؛ وهو التأكيد على أن وجود المعرفة الفلسفية غيرُ ممكنٍ بالمرة. صحيح أنه من المستحيل «استنتاجُ» القِيَم الجمالية من النظريات العلمية، بالضبط كما لا يمكن استنتاج المُثُل الأخلاقية منها، لكن ذلك لم يكن ليمنع صلةً تجمع الحقائق الجمالية بالحقائق الفيزيائية بواسطة التفسيرات، كما تتصل بها الحقائق الأخلاقية. دنا ويلر من تأكيد هذه الصلة دُنوًّا بالغًا في عبارته التي ذكرتُها.

يمكن استخدامُ الحقائق في نقد النظريات الجمالية، مثلما تُستخدَم في نقد النظريات الأخلاقية. يوجد على سبيل المثال النقدُ الموجَّه إلى الفنون الذي يرى أنها غير قادرةٍ على تحصيل أي شيءٍ موضوعيٍّ بسبب اعتماد أغلبها على خصائص الحواس البشرية المحدودة الأفق (كنطاق الألوان أو الأصوات التي تستطيع تحديدها). قد يكون لدى الأشخاص القادمين من خارج كوكب الأرض، ذوي الحواس التي لا تلتقط سوى الموجات اللاسلكية — لا الضوء ولا الصوت — فنونٌ لا نستطيع الوصولَ إليها، والعكس صحيح. قد يسير الردُّ على هذا النقد على النحو التالي؛ أولًا: ربما ما زالت فنوننا في بدايةِ طريقِ استكشافِ ما هو ممكن؛ إنها حقًّا محدودةُ الأفق، لكنها تقريبٌ مبدئيٌّ لشيءٍ عمومي. أو ثانيًا: لقد ألَّفَ الموسيقيون الصُّمُّ على كوكب الأرض موسيقى رائعةً وتذوَّقوها؛ فلِمَ لا يتعلَّم الصُّمُّ القادمون من خارج الأرض (أو البشر ذوو الصَّمَمِ الخَلْقي) أن يفعلوا الأمرَ ذاته، ولو بواسطة تنزيل حزمةِ التذوق الجمالي التي يملكها الموسيقيون الصُّمُّ في أمخاخهم؟ أو ثالثًا: ما الفارق بين استخدام التلسكوبات اللاسلكية لفهم فيزياء الكويزرات، واستخدام الحواس التعويضية (المثبتة في المخ لخَلْق كيفياتٍ جديدةٍ) بُغيةَ تذوُّقِ الفن اللاأرضي؟

قد تمدُّنا الخبرةُ أيضًا ﺑ «مشكلات» فنية؛ امتلك أسلافنا عيونًا وطلاءً؛ ممَّا قد يكون دفَعَهم إلى التساؤُلِ عن كيفية استخدام الأخير بطريقةٍ تبدو أجملَ.

وكما أشار برونوفسكي إلى أن الاكتشاف العلمي يعتمد على الْتِزامٍ بقِيَمٍ أخلاقيةٍ معينة، أَلَا يحتمل أن يستتبع ذلك أيضًا تذوُّق صورٍ معينةٍ من الجمال؟ ثَمَّةَ حقيقة كثيرًا ما تُذكَر ونادرًا ما تُفسَّر، وهي أن الحقيقة العميقة غالبًا ما تكون جميلة. يُطلِق علماءُ الرياضيات والعلوم النظرية على هذه الصورة من الجمالِ «الأناقة». الأناقة هي الجمال الكامن في التفسيرات، وليست مرادِفةً بأي حالٍ من الأحوال لمدى جودة — أو صحة — تفسيرٍ ما. رُفِض زعمُ الشاعر جون كيتس (وكان زعمًا ساخرًا فيما أظنُّ) بأن «الجمال هو الحقيقة، والحقيقة هي الجمال»، من قِبَل ما سمَّاه عالم البيولوجيا التطوُّرية توماس هاكسلي «مأساة العلم الكبرى: إزهاق فرضيةٍ جميلةٍ على يد حقيقةٍ قبيحة، وهي تحدث باستمرارٍ على مرأَى ومسمعِ الفلاسفة» (عنى ﺑ «الفلاسفة» هنا «العلماء»). أعتقد أن هاكسلي كان ساخرًا هو الآخَر حينما أطلق على هذه العملية وصْفَ المأساة الكبرى، خاصةً أنه كان يُشير إلى رفض نظريات التولُّد التلقائي؛ بَيْدَ أن من الحقيقي أن بعض البراهين الرياضية المهمة — وكذلك بعض النظريات العلمية — أبعدُ ما تكون عن الأناقة؛ ومع ذلك فكثيرًا ما «تكون» الحقيقةُ أنيقةً، لدرجة أن الأناقة تبيت — على أقل تقديرٍ — بمنزلة طريقةٍ استكشافيةٍ مساعِدةٍ في البحث عن الحقائق الأساسية. وعندما تُزهَق «فرضيةٌ جميلةٌ»، تُستبدَل بها فرضيةٌ أجمل منها في أكثر الأحيان، كما حدث لنظرية التولُّد التلقائي؛ هذه حتمًا ليسَتْ بصدفة، بل انتظامٌ واطِّراد في الطبيعة؛ إذنْ فلا بد له من تفسيرٍ.

قد تبدو عمليتا العلم والفن مختلفتين؛ إذ يندر أن تُثبِت عمليةُ إبداعٍ فنيٍّ جديدةٌ خطأ أخرى قديمة، ويندر أن ينظر الفنانون إلى منظرٍ من خلال مجهر، أو يستوعبوا منحوتةً بواسطة معادلات، إلا أن الإبداع العلمي والإبداع الفني يتشابهان تشابهًا لافتًا في بعض الأحيان؛ أشار ريتشارد فاينمان ذات مرةٍ إلى أن الأدوات الوحيدة التي يحتاجها عالم الفيزياء النظرية هي: رزمةُ أوراق، وقلم رصاص، وسلة مهملات، وهو ما يشبه حالَ بعضِ الفنانين إذ يُباشِرون عملَهم. استخدَمَ الروائيون نفسَ الأدواتِ بالضبط قبل اختراع الآلة الكاتبة.

عانى ملحِّنون موسيقيون مثل لودفيج فان بيتهوفن إثر تغييرٍ بعدَ آخَر؛ لأنهم فيما يبدو سعَوْا نحو شيءٍ كانوا يعلمون أنه ينتظر إبداعه، ولتحقيق معاييرَ لا تتحقَّق إلا بعد الكثير من المجهود الإبداعي والإخفاقات المتكررة. كثيرًا ما يفعل العلماء الأمرَ نفسه. عرف كلٌّ من العلم والفن مبدعَيْن استثنائيَّيْن مثل موتسارت، أو عالم الرياضيات سرينفاسا رامانجن، ممَّنْ عُرِفوا بتقديم إسهاماتٍ وهَّاجةٍ في مجالاتهم دون مجهودٍ يُذكَر، لكننا نستطيع أن نخلص — ممَّا نعرفه عن خلق المعرفة — إلى أن المجهود — والأخطاء — في تلك الحالات حدثَ على نحوٍ غير مرئيٍّ في داخل عقولهم.

هل هذه التشابُهات سطحيةٌ فحسب؟ هل كان بيتهوفن يخدع نفسه حينما اعتقد أن النوتات التي ألقى بها في سلة المهملات تحتوي على «أخطاء»، أنها كانت «أسوأ» من النوتات التي نشرها في نهاية المطاف؟ هل كان يُلبِّي المقاييس الاعتباطية لثقافته فحسب، مثل سيدات القرن العشرين اللواتي كنَّ يعدِّلن أطوالَ ثيابهن بدقةٍ كلَّ عامٍ لتتماشى مع أحدث الصيحات؟ أم أن ثَمَّةَ معنًى حقيقيًّا في قول إن موسيقى بيتهوفن وموتسارت تسمو فوق موسيقى أسلافهما من العصر الحجري المعزوفة بقرع عظام الماموث بعضها ببعض، مثلما ترقى رياضيات رامانجن عن علامات العد؟

أهو وهْمٌ أن «المعايير» التي حاوَلَ بيتهوفن وموتسارت مطابقتها كانت أفضلَ هي الأخرى؟ أم أنه لا يوجد ما يُدعَى أفضل؟ هل كل ما يوجد فحسب هو «أعلم ما يعجبني»، أم ما تُعيِّنه الثقافة والسلطة على أنه جيد، أم ما تؤهبنا جيناتُنا للإعجاب به؟ وجد عالم النفس شيجيرو واتانابي أن العصافير تفضِّل الموسيقى المتناغمة على الناشزة، فهل هذا كل ما عليه التذوُّق الفني لدى البشر؟

تفترض تلك النظريات — بحججٍ بسيطةٍ أو دون حججٍ على الإطلاق — أنَّه لكل مقياسٍ جماليٍّ ممكنٍ منطقيًّا توجد — قُلْ مثلًا — ثقافةٌ قد يستمتع أهلُها بالفن الذي يُلبِّي ذلك المقياس، ويتأثَّرون به تأثُّرًا عميقًا؛ أو ربما يوجد استعداد وراثي بنفس الخواص. لكن أليس من الأكثر منطقيةً ألَّا ينتهيَ المطافُ إلا بأكثر المقاييس الجمالية استثنائيةً لتكون المعيارَ في أي ثقافة، أو أن تكون هي الهدفَ الذي قضى بعضُ أبرز الفنانين أعمارَهم يسعَوْن من أجل تحقيقه وهم يبتكرون أساليبَ فنيةً جديدة؟ بصفةٍ عامة، تجد النسبويةُ الثقافية (فيما يتعلَّق بالفن أو الأخلاق) صعوبةً بالغةً في تفسير ما يفعله الناسُ حينما يعتقدون أنهم يُحسِّنون من تقليدٍ ما.

ثم يقابلنا معادلُ الذرائعية: هل الفنُّ مجرد وسيلةٍ ذات غاياتٍ غير فنية؟ على سبيل المثال: بوسع الإبداعات الفنية أن تضخَّ معلومات؛ تستطيع اللوحةُ أن تُصوِّرَ شيئًا، وتستطيع المقطوعةُ الموسيقية أن تُمثِّلَ شعورًا ما، على أن جمالهما لا يكمن في هذا المحتوى بصورة رئيسية. إنه يكمن في الشكل، إليك مثلًا هذه الصورة المضجرة:
وها هي صورة أخرى بها نفس المحتوى:

بوسع المرء أن يرى أن أحدهم قد أعطى قدرًا من التفكير للصورة الثانية. إن لها «هيئة التصميم» التي أعطاها لها المصور، من تركيب، وإطار، ونمق، وإضاءة، وبؤرة. لكنْ تصميمٌ لأي شيء؟ بعكس ساعة بايلي، لا يبدو أن لهذه الصورة أيَّ وظيفةٍ؛ فهي تبدو فقط أجمل من الأولى. لكن ما معنى ذلك؟

أحد الأهداف الذرائعية الممكنة للجمال هو «الاجتذاب». يستطيع الشيء الجميل أن يجتذب الأشخاص المتذوقين للجمال؛ يمكن لجاذبية الشيء (إزاء جمهورٍ بعينه) تأدية وظيفةٍ فعَّالة، وهي كمية واقعية وقابلة للقياس العلمي. بوسع الفن أن يكون جذَّابًا للناس بالمعنى الحرفي للكلمة، بأن يدفعهم إلى التحرُّك تجاهَه. قد يتلكَّأ زوَّار معرضٍ فنيٍّ في مغادرته إثرَ مشاهدتهم لوحةً ما، وقد يعودون إليه من جديدٍ بسببها. قد يسافر الناس لمسافاتٍ بعيدةٍ من أجل الاستماع إلى معزوفةٍ موسيقية، وهكذا. إذا رأيتَ عملًا فنيًّا وتذوَّقْتَه، فذلك يعني أنك تريد الاسترسالَ فيه، وأن تعطيَه انتباهك، لتتذوَّقَ المزيدَ منه. لو كنتَ فنَّانًا، ثم استوقفك في غمار ابتكارك لعملٍ فنيٍّ شيءٌ فيه، فأردتَ أن تُبرِزَه، تكون قد انجذبتَ إلى جمالٍ لم تَخبره بعدُ؛ تجذبك حينئذٍ «فكرةُ» عملٍ فنيٍّ لم تبدعه بعدُ.

لا تتعلَّق صور الجاذبية كلها بفلسفة الجمال؛ فعندما تفقد اتِّزانَك وتقع من فوق لوحٍ خشبي، فذلك لأننا جميعًا ننجذب في اتجاه كوكب الأرض. قد يبدو هذا مجرد تلاعبٍ بكلمة «اجتذاب»: يُعزَى انجذابُنا نحو الأرض إلى قانونٍ فيزيائيٍّ لا إلى قِيَمٍ جمالية، وهو ما يؤثِّر على الفنانين والحيوانات على حدٍّ سواء. قد يدفعنا الضوءُ الأحمر في إشارة المرور إلى التوقُّف والتحديق فيه ما دام أنه كذلك، لكن ذلك ليس بتذوُّقٍ فني هو الآخَر، مع أنه نوع من الانجذاب؛ إنه أمرٌ آلي.

لكن «كل شيء» — حينما يُحلَّل بقدرٍ كافٍ من التفاصيل — آليٌّ. لقوانين الفيزياء السيادة؛ إذنْ هل يستطيع المرء الانتهاء إلى نتيجةٍ تفيد بأن الجمال لا يتمتَّع بمعنًى موضوعيٍّ سوى «ما ننجذب إليه بواسطة عملياتٍ تجري في أذهاننا؛ ومن ثَمَّ بواسطة قواعد الفيزياء»؟ لا، لأنه بموجب تلك الحجة لا يكون للعالَمِ المادي وجودٌ موضوعيٌّ أيضًا؛ لأن قوانين الفيزياء تحدِّد كذلك ما يرغب العالِمُ أو الرياضي في وصفه بالصحيح، لكنَّ أحدًا لا يستطيع أن «يفسِّرَ» ما يفعله الرياضي — أو ما تفعله قِطَع دومينو هوفستاتر — دون الرجوع إلى الحقائق الموضوعية للرياضيات.

لا يمكن التنبُّؤُ بالأعمال الفنية الجديدة، شأنها في ذلك شأن الاكتشافات العلمية الجديدة؛ فهل هذه لَاتَنبُّئِيةُ العشوائية، أم اللامعلومية الأعمق لعملية خلق المعرفة؟ بعبارةٍ أخرى: هل الفن عملية إبداعية بحق، مثل العلم والرياضيات؟ يُطرَح هذا السؤال في المعتاد بصورةٍ عكسية؛ إذ ما زالت فكرةُ الإبداع مشوَّشةً لدينا بفعل مفاهيمَ مغلوطةٍ متنوعة. تُصوِّرُ التجريبيةُ العلمَ تصويرًا خاطئًا على أنه عملية آلية غير إبداعية، ولطالما نُظِر إلى الفن على أنه نقيض العلم، بالرغم من الاعتراف ﺑ «إبداعه»، ومن ثَمَّ بصفته لا عقلانيًّا، وعشوائيًّا، وغيرَ قابلٍ للتفسير؛ مما يجعله غيرَ موضوعيٍّ أو قابلٍ للحكم عليه؛ لكن لو كان الجمال «حقًّا» موضوعيًّا، لَأضاف كلُّ عملٍ فنيٍّ جديدٍ شيئًا جديدًا غير منتقصٍ إلى العالم، كما يفعل قانونٌ طبيعيٌّ أو مبرهنةٌ رياضيةٌ حديثَا الاكتشاف.

نُحدق في ضوء إشارة المرور الأحمر لأن هذا الفعل يتيح لنا مواصلةَ رحلتنا بأقلِّ تعطيلٍ ممكن. قد ينجذب حيوانٌ إلى آخَر بغرض التزاوج معه، أو افتراسه؛ وبمجرد أن يقضم المفترس أول قضمةٍ ينجذب إلى قضمةٍ أخرى ما لم يجد طعمها سيئًا؛ إذ سيلفظها نافرًا في هذه الحالة. إن ما أمامنا مسألة تذوُّقٍ بالمعنى الحرفي، وتتسبَّب في مسألة التذوُّق هذه قوانينُ طبيعيةٌ في صورة قوانين الكيمياء العادية والحيوية. نستطيع أن نُخمِّنَ عدمَ وجود تفسيرٍ للسلوك ذي المستوى الأعلى باستثناء المستوى الحيواني؛ ذلك لأن السلوك قابل للتنبؤ به، وهو تكراري، وعندما لا يكون هكذا، يكون عشوائيًّا.

لا يعتمد الفنُّ على التكرار، بل يمكن أن نجد في الأذواق الإنسانية حداثةً حقيقية. إننا ببساطةٍ لا نكتفي بالانصياع إلى جيناتنا؛ لأننا مفسرون عموميون. كثيرًا ما يتصرف البشر مثلًا بطرقٍ تتعارض مع أي تفضيلاتٍ من الوارد منطقيًّا أن تكون مرسخةً في جيناتنا؛ يصوم الناس، لأسبابٍ جماليةٍ في بعض الأحيان، ويعزف البعض عن ممارسة الجنس. تتنوع مسالك الناس أيَّما تنوُّعٍ إما لأسبابٍ دينيةٍ وإما لأيِّ قدرٍ من المسببات الأخرى، فلسفيةً كانت أم علمية، وعمليةً كانت أم نزوية. إن لدينا نفورًا فطريًّا من المرتفعات والسقوط، ومع هذا يمارس الناسُ القفزَ بالمظلات، لا رغمًا عن هذا الشعور بل من أجله. إن هذا الشعور الفطري بالنفور هو بالضبط ما يستطيع البشرُ إعادةَ تأويله على صورةٍ أرحب تكون جذَّابةً لهم؛ فهم يريدون المزيدَ منها، ويرغبون في تذوُّقها تذوُّقًا أعمق. يجد لاعبُ القفز الآفاقَ التي نخشاها وننكص عنها جميلةً؛ جميل هو القفز بالمظلات، ويكمن جزء من جماله في ذات الأحاسيس التي تطوَّرتْ لتَثنيَنا عن تجربته. النتيجة التي لا مناصَ منها هي أن الانجذاب ليس فطريًّا، تمامًا كمحتويات قانونٍ فيزيائيٍّ جديدٍ أو مبرهنةٍ رياضيةٍ جديدة.

fig36

أيكون أمرًا ثقافيًّا بحتًا؟ إننا نسعى إلى الجمال مثل سعينا إلى الحقيقة، وقد نُخدَع في الحالتين؛ فقد نرى وجهًا، فنجده جميلًا لأنه كذلك بحق، أو ربما بسبب مزيجٍ من جيناتنا وثقافتنا. تنجذب خنفساءُ إلى أخرى لا نرى أنا وأنت فيها سوى قُبحٍ، إلا إذا كنتَ عالِمَ حشرات. يستطيع الناسُ أن «يتعلَّموا» رؤيةَ كثيرٍ من الأشياء إما كجميلةٍ وإما كدميمة، ولكن على نفس المنوال يستطيعون تعلُّمَ النظرِ إلى النظريات العلمية الخاطئة على أنها صحيحة أو العكس، غير أنه لا يوجد ما يُسمَّى بالحقيقة العلمية الموضوعية؛ لا يخبرنا ذلك إذنْ إذا كان يوجد ثَمَّةَ ما يجوز تسميته بالجمال الموضوعي أم لا.

لماذا تأخذ الزهرةُ الشكلَ الذي تكون عليه؟ لأن الجينات المتحكمة في هذا الجانب قد تطوَّرتْ لتجعلها جذابةً للحشرات. لِمَ تفعل هذا؟ لأن الحشرات عندما تزور الزهرةَ تغبرها باللقاح، الذي تودعه بعد ذلك حينئذٍ في زهراتٍ أخرى من نفس النوع؛ ومن ثَمَّ تنتشر جيناتُ الحمض النووي الموجودة في ذلك اللقاح على مدًى واسع؛ هذه هي آلية التكاثُر التي طوَّرَتْها النباتاتُ المزهرة، والتي يعتمد عليها أكثرُها اليومَ: قبل ظهور الحشرات لم توجد زهور على كوكب الأرض. لكن لم تكن هذه الآليةُ لتنجح إلا لتطوير الحشرات — في نفس الوقت — جيناتٍ تجذبها نحو الزهور؛ لماذا فعلت هذا؟ لأن الزهور تُقدِّم لها الرحيقَ الذي هو طعامها. وكما يوجد تطوُّرٌ مشترك بين الجينات لتنسيق سلوكيات التزاوج بين الذكور والإناث من نفس النوع، تزامَنَ تطوُّرُ الجينات المسئولة عن تكوين الزهور وتحديد أشكالها وألوانها مع تطوُّرِ جينات الحشرات المسئولة عن التعرُّف على الزهور ذات الرحيق الأفضل.

وعلى نهج ما حدث في تاريخ الفن، تطوَّرتْ إبَّان هذا التطوُّر البيولوجي المشترك «المعاييرُ»، وتطوَّرت معها «وسائلُ مطابقة هذه المعايير»؛ هذا هو ما أعطى الزهورَ المعرفةَ الخاصة بكيفية جذب الحشرات، وأعطى الحشراتِ المعرفةَ التي تُمكِّنها من التعرُّف على تلك الزهور، والنزعة للطيران تجاهها؛ لكن المفاجأة أن نفس هذه الزهور «تجذب البشرَ أيضًا».

إن هذه حقيقة مألوفة جدًّا حتى يصبح من الصعب إدراك ألمعيَّتها، لكنْ فكِّرْ في كلِّ ما لا حصرَ له من حيواناتٍ دميمةٍ في الطبيعة، وفكِّرْ أيضًا كيف يجد كلٌّ منهم زوجَه بالنظر؛ لأنه تطوَّرَ ليجد ذلك المظهرَ جذَّابًا؛ لذا لا يفاجئنا أننا لا نراها بالوجه نفسه. يوجد في حالة المفترس والضحية تطوُّرٌ مشترك مشابِه، ولكن على نحوٍ تنافُسيٍّ لا تعاوُني؛ فلكلٍّ منهما جيناتٌ تطوَّرَتْ لتُمكِّنه من التعرُّف على الآخَر والركض نحوه أو منه، كلٌّ بحسب دوره، بينما تطوَّرَتْ جينات أخرى لتُصعِّب تمييزَ حامِلها من الخلفية الطبيعية التي يوجد فيها؛ فللنمور جلدٌ مخطَّط لهذا السبب.

يتصادف بين آنٍ وآخَر أن تُنتِج معاييرُ الجاذبية الضيقة الأفق تلك، المتطورة في نوعٍ ما، شيئًا يبدو جميلًا في عيوننا نحن البشر؛ كذيل الطاووس مثلًا، إلا أن ذلك استثناء نادر؛ فنحن لا نشارك الغالبيةَ العظمى من الأنواع أيًّا من معاييرها للجاذبية، أما في حالة الزهور — معظم الزهور — فالعكس صحيح؛ فأحيانًا ما تكون ورقةُ شجرٍ جميلةً، بل قد تكون بركةُ ماءٍ جميلةً. ولكنْ من جديدٍ هذه مصادفاتٌ نادرةٌ، أما مع الزهور فالأمر ثابت.

إن هذا انتظام آخَر في الطبيعة. ما تفسيره؟ ما سبب جمال الزهور؟

بالنظر إلى الافتراضات السائدة في الأوساط العلمية — التي ما زالت تتَّصِف بالتجريبية والاختزالية إلى حدٍّ ما — قد يبدو من المعقول أن جمال الزهور ليس جمالًا موضوعيًّا، بل إن جاذبيتها محض ظاهرةٍ ثقافية، لكني أعتقد أن تلك الرؤية تفتقر إلى التدقيق عن كثب. إننا نرى الجمالَ في زهورٍ لم نَرَها من قبلُ قطُّ ولم تعرفها ثقافتُنا، ويصحُّ ذلك بالقَطْع على أكثر الناس في أغلب الثقافات، غير أن هذا لا ينطبق على «جذور» النباتات أو أوراقها. لماذا الزهور فقط؟

ثَمَّةَ ملمح غير معتادٍ في التطوُّر المشترك بين الزهور والحشرات، وهو اشتراكه في خلْقِ شفرةٍ — أو لغة — معقَّدةٍ لنقل المعلومات بين «الأنواع»؛ تعيَّنَ على هذه اللغة أن تكون معقَّدة؛ إذ واجهَتِ الجيناتُ مشكلةَ اتصالٍ صعبة. كان من الضروري أن تكون الشفرةُ سهلةَ التبيان من قِبَل الحشرات الصحيحة من ناحيةٍ، وصعبةَ التقليد على مختلِف أنواع الزهور من ناحيةٍ أخرى؛ إذ لو استطاعَتِ الأنواعُ الأخرى تمكينَ لقاحها من الانتشار بواسطة نفس الحشرات دون الحاجةِ إلى إنتاج رحيقٍ لها، وهو ما يتطلَّبُ طاقةً، لَباتَتْ تمتلك مزيةً انتقائية؛ ومن هنا، كان من الضروري للمعيار المطور في الحشرات أن يتحلَّى بالتمييز الكافي لانتقاء الزهور الصحيحة لا المقلدة تقليدًا تامًّا، وكان على تصميم الزهور أن يتفرَّدَ بصورةٍ لا يمكن معها الخلطُ بينه وبين أيِّ تصميمٍ يسهل على الأنواع الأخرى التطوُّرُ إليه؛ لذا كان على المعيار وسبيل مطابقته كلَيْهما أن يتَّسِمَا بصعوبة التعديل فيهما.

عندما تواجِهُ الجيناتُ مشكلةً مماثلةً «داخل» النوع، على الأخص في التطوُّر المشترك لمعايير وسمات اختيار الأزواج، يكون لديها بالفعل قدرٌ كبيرٌ من المعرفة الوراثية المشتركة لتستخدمها؛ فقد يحتوي الجينوم مثلًا على تكيُّفاتٍ للتعرُّف على أفرادِ نوعِ حامله، ورصْدِ السمات المختلفة فيها، حتى من قبل أن يبدأ ذلك التطوُّر المشترك؛ هذا بالإضافة إلى أن السمات التي يبحث عنها فردُ النوع إبَّان التزاوُجِ قد تكون ذاتَ نفعٍ موضوعيٍّ من البداية، كالرقبة الطويلة في الزرافة. ترى إحدى نظرياتِ تطوُّرِ رقبةِ الزرافة أن تلك السمة بدأَتْ كنوعٍ من التكيُّف من أجل الحصول على الغذاء، ولكنها استمرَّتْ بعدئذٍ من خلال الانتقاء الجنسي؛ ولكن على أي حالٍ لا تتوافَرُ هذه المعرفةُ المشتركة بين الأنواع البعيدة لكي تبنيَ عليها ما يملأ تلك الفجوةَ بينها؛ فهي تبدأ من الصفر.

وعلى ذلك، أظنُّ أن أسهلَ طريقةٍ لإرسال إشارةٍ عبر فجوةٍ كتلك، وبواسطة نماذجَ صعبةِ التقليد مصمَّمةٍ لتتعرَّف عليها خوارزمياتٌ صعبةُ المضاهاة قادرةٌ على مواءمة النماذج؛ هي استخدامُ مقاييس «موضوعية» للجمال؛ على الزهور إذنْ أن تخلق جمالًا موضوعيًّا، وعلى الحشرات أن تتعرَّفَ على جمالٍ موضوعي؛ وبذلك لا تنجذب إلى الزهور إلا أنواعُ الحشرات التي تطوَّرَتْ تطورًا مشتركًا من أجل ذلك، والبشر بالطبع.

لو كان هذا صحيحًا، لَعَنَى أن ما قالَتْه ابنةُ دوكينز عن الزهور كان على قدرٍ من الصحة رغم كل شيء. إن الغرض من وجودها «حقًّا» هو تجميل العالم، أو ليس الجمال — على الأقل — أثرًا جانبيًّا عارضًا فيها، بل إنه ما تطوَّرَتْ خصوصًا لتمتلكه. ليس ذلك بسبب وجود من يريد للعالم أن يكون جميلًا، بل لأن أفضل الجينات قدرةً على الانتشار تعتمد على تجسيد «الجمال الموضوعي» من أجل نشر نفسها بين أفراد النوع. أما العسل — مثلًا — فله قصة أخرى؛ يسهل صنع العسل — الذي هو ماء السكر — على الزهور والنحل، ويستسيغ طعمَه البشرُ والحشراتُ على حدٍّ سواء؛ لأننا جميعًا «نملك» الإرثَ الوراثي المشترك الذي يعود إلى أسلافنا المشتركين وما قبلهم، والذي يشمل معرفةً كيميائيةً حيويةً حول استخدامات السكر المتعدِّدة ووسائل التعرُّف عليه.

أيكون ما يجذب البشر إلى الزهور — أو الفن — شيئًا موضوعيًّا حقًّا، ولكنه ليس «الجمال»؟ ربما كان شيئًا أبسط؛ شيئًا كالإعجاب بالألوان الزاهية، أو التباينات القوية، أو الأشكال المتناسقة. يبدو أن البشر لديهم إعجاب فطري بالتناسق؛ إذ يُعتقَد أن التناسُق من عوامل الجاذبية الجنسية، وقد يكون مفيدًا كذلك في مساعدتنا على تصنيف الأشياء وتنظيم بيئتنا ماديًّا ومفهوميًّا؛ لذا قد يكون من الآثار الجانبية لهذه التفضيلات الفطرية الإعجابُ بالزهور، لما يتصادف أن تملكه من ألوانٍ وتناسق؛ ولكن بعض الزهور بيضاء (أو هكذا تبدو لنا على الأقل، فقد يكون لها ألوان لا نستطيع رؤيتها بينما تستطيع الحشرات)، ونرى أشكالها مع ذلك جميلةً. تتباين كلُّ الزهور مع خلفياتها بصورةٍ أو أخرى — وهذا شرط أساسي للاستخدام في توصيل المعلومات — ولكن العنكبوت في الحمَّام يتباين مع خلفيته تبايُنًا أكبر، ولا يوجد إجماعٌ ساحقٌ على جمال مثل ذلك المنظر. أما فيما يتعلَّق بالتناسُق، فأعود وأقول إن العناكب ذات مظهرٍ تامِّ التناسُق، بينما بعضُ الزهور كالأوركيد غير متناسِقةٍ بالمرة، ومع ذلك لا يقلِّل هذا من جاذبيتها لنا؛ لذا لا أعتقد أن التناسق والألوان والتباين هي ما نراها في الزهور حينما نظنُّ أننا نرى جمالًا.

هناك صورة معكوسة من هذا الاعتراض تتمثَّل في أنه يوجد في الطبيعة مزيدٌ من الأشياء التي نراها جميلةً، أشياء لم تترتَّب على الإبداع الإنساني ولا على التطوُّر المشترك عبر فجوة مثل: سماء الليل، والشلالات، والغروب؛ فلماذا لا تكون الزهور مثل تلك؟ لكن الحالات تختلف ها هنا؛ إذ قد تتحلَّى هذه الأشياءُ بجمال المنظر، لكنها لا تحظى بهيئة التصميم؛ إنها ليسَتْ نظيرةً لساعة بايلي، بل نظيرةٌ للشمس كأداةٍ لحساب الوقت. لا يستطيع المرء تفسيرَ تصميمِ الساعة على ما هو عليه دون تناوُل حساب الوقت؛ لأنها ستكون غير ذات نفعٍ لحساب الوقت إذا صُنِعت باختلافٍ طفيف، لكن الشمس — كما ذكرتُ من قبلُ — تبقى أداةً نافعةً لهذه المهمة حتى لو تغيَّرَتِ المجموعةُ الشمسية. وبالمثل، ربما وجد بايلي حجرًا ذا شكلٍ جذَّاب، ربما أخذه إلى المنزل ليستعمله كثقالة أوراق زينة، لكنه ما كان ليجلس كي يؤلِّفَ دراسةً حول عجْزِ الحجرِ عن تأدية هذه الوظيفة إذا ما تبدَّلَتْ أيُّ تفصيلةٍ فيه، لأن ذلك لن يكون الحال. ينطبق نفس القول على سماء الليل، والشلالات، وكلِّ الظواهر الطبيعية الأخرى تقريبًا، لكن الأزهار لها هيئةُ التصميم الخاصة بالجمال؛ لأنها لو بَدَتْ كأوراق النبات، أو الجذور، لَفقَدَتْ جاذبيتَها العمومية. غيِّرْ مكانَ بتلةٍ واحدة، يختل المقامُ.

نعلم ما صُمِّمَتِ الساعةُ لأجله، لكننا لا نعلم ما هو الجمال؛ يُشبه موقفُنا موقفَ عالِمِ آثارٍ إذ يجد نقوشًا بلغةٍ غير معروفةٍ في قبرٍ عتيق: إنها تبدو ككتاباتٍ لا مجرد علاماتٍ بلا معنًى على الجدران. ربما كان ذلك خاطئًا، ولكنها تبدو وكأنها قد نُقِشت هناك لغرضٍ ما. هكذا الزهور؛ لها من المظهر ما يشي بأنها تطوَّرَتْ لهدفٍ ندعوه «الجمالَ»، نستطيع التعرُّفَ عليه (تعرُّفًا ناقصًا)، ولكننا لا نكاد نفهم طبيعته.

في ضوء هذه الحجج، لا يسعني أن أرى سوى تفسيرٍ واحدٍ لظاهرة انجذاب البشر للزهور وللأدلة التي ذكرتها؛ أَلَا وهو أن الخاصية التي نُطلق عليها «الجمال» تأتي في نوعين؛ أولهما: نوع محدود الأفق من الجاذبية، يدور في نطاق النوع، أو الثقافة، أو الفرد الواحد. وثانيهما: لا يرتبط بأيٍّ من كلِّ هذا؛ فهو عمومي، وله نفس موضوعية قوانين الفيزياء. يتطلَّبُ خلْقُ الجمال من هذا النوع أو ذاك معرفةً، لكنَّ النوعَ الثانيَ على الأخص يتطلَّب معرفةً ذات مدًى عموميٍّ؛ إنه يمتد من جينوم الزهرة ذي مشكلة التلقيح التنافسي، ليصل حتى العقول البشرية التي تتذوَّق الزهورَ الناتجةَ كفنٍّ. ليس فنًّا عظيمًا؛ فالفنانون البشريون أفضلُ كثيرًا، كما هو متوقَّع، لكنه فنٌّ ذو مظهرٍ صعب التقليد لتصميم الجمال.

إذنْ لماذا يتذوَّق «البشرُ» الجمالَ الموضوعي إذا لم يكن في ماضينا ما يُضاهي ذلك التطوُّرَ المشترك؟ الإجابة عن هذا السؤال على أحد المستويات هي ببساطةٍ أننا مفسرون عموميون نستطيع خلق المعرفة عن أي شيء، ولكن يبقى السؤال: لماذا أردنا خلْقَ المعرفة الجمالية بالذات؟ لأننا «واجَهْنا» نفسَ المشكلة التي واجهَتْها الزهورُ والحشرات. إن الإشارة عبر الفجوة بين شخصين تُماثِلُ الإشارةَ عبر فجوةٍ بين نوعين مختلفين بالكامل. إن الكائن البشري — من حيث ما يحويه من معرفةٍ وتفرُّدٍ إبداعي — لَهُو بمنزلة نوعٍ حيويٍّ مستقل. يحمل سائرُ أفرادِ أيِّ نوعٍ آخَر نفسَ البرمجة في جيناتهم تقريبًا، ويستخدمون نفسَ المعايير للانجذاب وللتصرف تجاهه؛ أما البشر فغير ذلك بالمرة؛ إذ يفوق قدرُ ما يحويه عقلٌ بشريٌّ من معلوماتٍ ما في جينوم أيِّ نوع، وما يزيد بقدرٍ هائلٍ عن المعلومات الوراثية الفريدة في الإنسان الواحد؛ لذا فالفنانون البشريون إنما يحاولون توصيلَ إشارةٍ عبر فجوةٍ بين البشر على قدرٍ من الاتساع لا يقلُّ عن ذلك الذي بين الزهور والحشرات كأنواعٍ. يستطيع الفنانون استخدامَ معاييرَ خاصةٍ بنوعهم؛ ولكن يمكنهم أيضًا التطلُّع لبلوغ الجمال الموضوعي. ينطبق نفسُ الشيء على كلِّ معرفتنا الأخرى؛ إذ نستطيع التواصُلَ مع البشر الآخَرين بواسطة إرسال رسائلَ محتومةٍ سلفًا، حتَّمَتْها جيناتُنا أو ثقافتُنا، أو نستطيع اختراعَ شيءٍ جديد. في الحالة الثانية — وكي تتسنى لنا أي فرصةٍ لتحقيق التواصل — علينا أن نثابر لنرتقيَ عن ضيق الأفق، وأن نسعى نحو حقائقَ عمومية. قد يكون ذلك السببَ المباشِرَ لبدء البشر في تلك المساعي منذ الأزل.

من النواتج الطريفة لهذه النظرية — فيما أعتقد — أن من الممكن جدًّا أن يكون «المظهر» البشري — كما تأثَّرَ بالانتقاء الجنسي البشري — ملبيًا لمعايير الجمال الموضوعي، وكذلك لمعاييرَ خاصةٍ بالنوع. ربما لم نبتعد كثيرًا؛ إذ لم ننفصل عن القردة العليا إلا منذ مئات آلاف أعوامٍ قليلةٍ مضَتْ؛ لذا لم يتغيَّر مظهرُنا تغيُّرًا تامًّا عن مظهر القردة بعدُ، لكن في تخميني أن الجمال حين يُفهَم فهمًا أفضل، سيتضح حينئذٍ أن أغلب الاختلافات تصبُّ في اتجاهٍ جعل البشرَ أجمل موضوعيًّا من القردة.

يُخلَق نوعَا الجمال بُغيةَ حلِّ نوعين من المشكلات، يجوز تسميتهما بالنوع البحت، والنوع التطبيقي. يتجسَّد النوع التطبيقي في توصيل المعلومات، ويُحَلُّ في المعتاد بواسطة خلْقِ نوع الجمال الضيق الأفق. تواجه البشرَ مشكلاتٌ من هذا النوع أيضًا: يُخلَق الجمالُ في واجهة المستخدِم الرسومية للكمبيوتر لتعزيزِ الارتياح والكفاءة في استخدام الجهاز في المقام الأول. قد تؤلَّف قصيدةٌ أو أغنيةٌ في بعض الأحيان لسببٍ عمليٍّ مشابه؛ لإضفاء مزيدٍ من التماسُك على ثقافةٍ ما، أو لتعضيد برنامجٍ سياسي، أو حتى للإعلان عن مشروبات. أعود لأقول إن هذه الأهداف يمكن تحقيقها أحيانًا بواسطة خلق جمالٍ «موضوعي»، ولكن يُستخدم في المعتاد النوع الضيق الأفق لأن ابتكاره أسهل.

أما النوع الثاني من المشكلات — النوع البحت — الذي لا نظيرَ له في علم البيولوجيا، فيتعلق بخلق الجمال من أجل الجمال، وهو ما يتضمن ابتكار معايير الجمال المحسَّنَة، وهو يناظر في ذلك البحث العلمي البحت. تتشابه حالات العقل المرتبطة بهذا النوع من العلم وذاك النوع من الفن من حيث الجوهر؛ فكلاهما يسعى نحو حقيقةٍ موضوعيةٍ عمومية.

وأعتقد أن كلا النوعين يسعيان وراء تلك الحقيقة عبر التفسيرات الجيدة. يكون هذا السعي كأوضح ما يكون في قوالب الفن التي تنطوي على قصص؛ الأدب القصصي؛ ففي هذا القالب — كما ذكرتُ في الفصل الحادي عشر — تتمتع القصةُ الجيدةُ بتفسيرٍ جيدٍ للأحداث الخيالية التي تُصورها، لكن الأمر ينطبق أيضًا على كافة قوالب الفن. يصعب في بعضها خصوصًا التعبيرُ بالكلمات عن تفسير جمال عملٍ فنيٍّ بعينه، حتى لو كان المرء يعلم هذا التفسير؛ لأن المعرفة ذات الصلة بالموضوع لا يُعبَّر عنها بالكلمات؛ فهي «غير صريحة». لا يعلم أحد بعدُ كيف يترجم التفسيراتِ الموسيقيةَ إلى لغةٍ طبيعية، ولكن عندما تتَّسِم مقطوعةٌ موسيقيةٌ بسمة «غيِّرْ موضعَ نغمةٍ واحدة، يختل المقامُ»، يكون لذلك تفسير: كان معلومًا لدى المؤلف، وهو معلوم لدى المستمعين المتذوقين لها. في يومٍ ما سيُمكن التعبير عنه بواسطة الكلمات.

وهذا أيضًا لا يختلف عن العلم والرياضيات كما يبدو؛ إذ يشترك الشعر والرياضيات أو الفيزياء في خاصية؛ وهي أنهما يطوِّران لغةً تختلف عن اللغة العادية للتعبير عن فحواهما تعبيرًا فعَّالًا، وهو ما سيفتقر التعبيرُ عنه باللغة العادية إلى الكفاءة بشدة. يفعلان ذلك ببناء تنويعاتٍ من اللغة العادية؛ يتعيَّن على المرء فهْمُ الأخيرة ليستطيع فهْمَ تفسيرات الأولى نفسها، وما تقدِّمه بدورها من تفسيرات.

يبدو نوعَا الفن التطبيقي والبحت بالنسبة إلى الحس متشابهين، وكما نحتاج إلى المعرفة الرصينة لنستدلَّ على الفرق بين حركة الطيور المارة في السماء — وهي حركة تحدث موضوعيًّا — وبين حركة الشمس عبر السماء — وهي مجرد وهمٍ ذاتيٍّ تتسبَّب فيه حركتنا نحن — وكذلك حركة القمر — التي هي مزيج من الاثنين — يمتزج كلٌّ من الفنين البحت والتطبيقي، والجمالين العمومي والمحدود الأفق، في تذوُّقنا الذاتي للأشياء. سيكون من المهم تمييز كلٍّ منهما عن الآخَر؛ إذ ليس لنا أن نتوقَّعَ إحرازَ التقدُّم غير المحدود إلا في الاتجاه الموضوعي. الاتجاهات الأخرى متناهية بطبيعتها؛ حيث تحاصرها المعرفةُ المتناهية المتأصِّلة في جيناتنا وتقاليدنا الموجودة.

يرتبط ذلك بصلةٍ وثيقةٍ بالنظريات الحالية المتنوعة حول ماهية الفن. اهتمَّت الفنون القديمة — عند الإغريق مثلًا — بمهارة تمثيل أشكال الأجساد البشرية وغيرها من الموجودات، وليس ذلك كالسعي نحو الجمال الموضوعي؛ لأنه — من بين أسبابٍ أخرى — قابِلٌ للوصول إلى الكمال (بالوجه السيئ الذي قد يصل به إلى مستوًى لا يمكن التحسين فيه كثيرًا)، غير أن مهارةً كهذه قد تفسح للفنانين طريقًا للسعي نحو الفن البحت كذلك، ولقد فعلوا ذلك في العالم القديم، وعادوا إليه من جديدٍ مع إحياء ذلك التقليد في عصر النهضة.

توجد نظرياتٌ نفعية حول دور الفن، وهي تُسفِّه من الفن البحت تمامًا كما تُسفِّه نفسُ الحجج من العلم البحت والرياضيات البحتة، لكنَّ أحدًا لا يملك خيارًا إزاء ما يتكوَّن منه التحسينُ الفني، كما أنه لا اصطفاء فيما هو صواب أو خطأ في الرياضيات. ولو حاوَلَ المرءُ تعديلَ نظرياتِه العلمية، أو مواقفِه الفلسفية لتُرضي برنامجًا سياسيًّا، أو تفضيلاتٍ شخصيةً، لَاصطدَمَ بتضارُبٍ في الأهداف. يمكن «استخدامُ» الفنِّ لتحقيقِ أهدافٍ عدة، لكن القِيَم الفنية لا تخضع لأي شيءٍ آخر، ولا تُستنبط منه.

ينطبق نفس النقد على النظرية التي ترى أن الفن تعبير ذاتي؛ إن «التعبيرَ» صياغةُ شيءٍ موجودٍ بالفعل، في حين أن التقدُّمَ الموضوعيَّ في الفن يدور حول ابتكارِ شيءٍ جديد. وبالإضافة إلى ذلك، يتضمَّن التعبيرُ الذاتي التعبيرَ عن شيءٍ شخصي، بينما الفنُّ البحت موضوعي. وللسبب نفسه يصير أيُّ نوعٍ من الفن مكوَّنًا من أفعالٍ آليةٍ أو تلقائيةٍ فقط — كوضْعِ الألوان في لوحة الرسم أو حفظ الحيوانات في مادة الفورمالدهايد — مُفتقِرًا إلى وسائلِ إحرازِ التقدُّم الفني؛ لأن التقدُّمَ الحقيقيَّ عسيرٌ، ويمرُّ بكثيرٍ من الأخطاء قبل أن يصل إلى أي نجاح.

إذا كنتُ مصيبًا، فسيكون في انتظار الفن مستقبل يذهل أمامه العقل، كمستقبل كلِّ نوعٍ آخَر من المعرفة: يستطيع فن المستقبل أن يخلق زياداتٍ غيرَ محدودةٍ في الجمال. لا يسعني سوى التأمل، ولكن يمكننا أن نتوقَّع افتراضًا حدوثَ أنواعٍ جديدةٍ من التوحُّد كذلك. عندما نفهم ماهيةَ الأناقة الحقيقية خيرَ فهْمٍ، ربما نجد طرقًا أجدد وأفضل للسعي نحو الحقيقة باستخدام الأناقة أو الجمال، وأخمن أننا سنستطيع تصميمَ حواسَّ جديدة، وكيفياتٍ جديدة، في مقدورها جميعًا الإحاطة بأنواعٍ جديدةٍ من الجمال لا يمكننا تصوُّرُها الآن بالمعنى الحرفي للكلمة. «بماذا يُحس المرء لو كان خفَّاشًا؟» هو سؤال شهير طرحه الفيلسوف توماس نيجل. (أو بصفةٍ أدق: بمَ يُحسُّ المرءُ إذا امتلك حواسَّ الرصد بالصدى التي يملكها الخفاش؟) ربما كانت الإجابة الكاملة عن هذا السؤال هي أن استكشافَ ذلك لن يكون منوطًا بالفلسفة في المستقبل، بل سيكون مهمةَ الفن التكنولوجي ليُقدِّمَ لنا نفسَ هذه الخبرة.

أهم المصطلحات الواردة بالفصل وتعريفها

  • فلسفة الجمال: الفلسفة المعنية بطبيعة الجمال والفن.
  • الأناقة: جمال التفسيرات، والصيغ الرياضية، وما إلى ذلك.
  • صريح: واضح، معبَّر عنه بالكلمات أو الرموز.
  • غير صريح: غير معبَّر عنه بالكلمات أو الرموز.
  • ضمني: مُضمَر، أو متضمَّن في معلوماتٍ أخرى.

معاني «بداية اللانهاية» التي قابلناها في هذا الفصل

  • حقيقة أن الأناقة دليل استكشافي إلى الحقيقة.

  • الحاجة إلى خلق المعرفة الموضوعية من أجل إتاحة التواصُل بين مختلِف البشر.

ملخص هذا الفصل

في فلسفة الجمال حقائق موضوعية. الحجة المعتادة التي تُنكر ذلك أثر من آثار التجريبية. تتصل الحقائق الجمالية بالحقائق الواقعية بواسطة التفسيرات، ولأن المشكلات الفنية يمكن أن تنبثق من حقائقَ ومواقفَ فيزيائية. حقيقةُ جمال الزهور الثابت في عيون البشر مع أن تصميماتها تطوَّرتْ لأغراضٍ يبدو أن لا علاقةَ لها بذلك؛ دليلٌ على أن الجمال موضوعي. تحلُّ معاييرُ الجمال المتلاقية تلك مشكلةَ خلقِ إشاراتٍ صعبةِ التقليدِ عندما تكون المعرفة المشتركة السابقة غير كافيةٍ لتوفيرها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤