الفصل الثامن عشر

البداية

هذا هو كوكب الأرض؛ ليس الموطنَ الأبديَّ ولا الوحيدَ لبني البشر، ولكنه مجرد نقطةِ انطلاقٍ نحو مغامرةٍ لا نهائية. ليس عليك سوى أن تتَّخِذَ القرارَ (لتُنهِيَ مجتمعك الاستاتيكي). القرار بيدك.

[بهذا القرار] حانت النهاية، نهايةُ الخلود الأخيرة، وبدايةُ اللانهاية.

إسحاق أزيموف، من رواية «نهاية الخلود» (١٩٥٥)

كان أول مَن قام بقياس محيط الكرة الأرضية هو عالمَ الفلك إراتوستينس القوريني في القرن الثالث قبل الميلاد، وجاءت نتيجته قريبةً إلى حدٍّ كبيرٍ من القيمة الصحيحة، وهي حوالي ٤٠ ألف كيلومتر. ساد الظن لمعظم التاريخ أن هذه مسافة هائلة، لكن هذا المفهوم تغيَّرَ تدريجيًّا بمجيء التنوير، ونحن اليومَ نرى كوكبَ الأرض صغيرًا. كان هذا نتيجةَ أمرين في المقام الأول: أولهما علم الفلك، الذي اكتشف كياناتٍ عملاقةً يبدو كوكبنا إذا ما قُورِنَ بها بالِغَ الصِّغَر بالفعل، وثانيهما التقنيات التي جعلَتِ الترحالَ حول العالمِ والاتصالَ بين أرجائه أمرًا اعتياديًّا يسيرًا. أمست الكرةُ الأرضية على هذا أصغر بمعيار حجم الكون، وبمعيار نطاق النشاط الإنساني كذلك.

ومن ثَمَّ، وفيما يرتبط «بجغرافيا» الكون وموقعنا منه، تخلَّتِ الرؤيةُ العالمية السائدة عن بعض المفاهيم الخاطئة الضيقة الأفق. نعلم أننا استكشفنا تقريبًا كاملَ سطحِ هذا الكوكب الذي كنَّا نعتقد أنه شاسع، لكننا نعلم كذلك أن الكون يعجُّ بأماكنَ أكثرَ تنتظر الاستكشاف (منها ما تحت سطح أرض هذا الكوكب ومحيطاته)، وهي أكثر ممَّا تصوَّرَ أيُّ شخصٍ قبل أن نتخلَّص من تلك المفاهيم الخاطئة.

ومع ذلك، ومن منظور المعرفة النظرية، لم تلحق الرؤيةُ العالمية السائدة بقِيَم التنوير بعدُ؛ فبفضل المغالطة وانحياز التكهُّن، يبقى افتراضٌ مُلِحٌّ بأن نظرياتنا الموجودة وصلَتْ إلى حدودِ ما يمكن عِلْمُه أو هي قريبة جدًّا منها؛ أيْ إننا «تقريبًا وصلنا» إليها، أو ربما في منتصف الطريق إلى الوصول. إن ذلك يشبه الملاحظة التي أبداها عالمُ الاقتصاد ديفيد فريدمان، ومفادها أن معظم الناس يعتقدون أن ضعفَ دخلهم تقريبًا ينبغي أن يكفيَ أيَّ شخصٍ عاقل، وأنه لا فائدةَ حقيقيةً تُرجَى من أي مَبالِغ تفوق ذلك. والمعرفة العلمية كالثروة؛ يصعب تخيُّل ما ستكون عليه الحال عندما تزيد معرفتنا بمقدار ضعف ما هي عليه الآن؛ ولهذا إذا حاولنا التكهُّن بها، فسنجد أننا نتصوَّر زياداتٍ تبلغ أرقامًا عشريةً قليلةً زائدةً عمَّا نعرفه بالفعل. وحتى فاينمان ارتكَبَ خطأً غيرَ معهود منه عندما كتب في هذا الصدد قائلًا:

أعتقد أننا لن نرى بكل تأكيدٍ أيَّ تجديدٍ متواصلٍ لألف عامٍ مثلًا. لا يمكن أن تستمر الحالُ على ما هي عليه من اكتشافاتٍ متواصِلةٍ لمزيدٍ ومزيدٍ من قوانينَ جديدة؛ إذ لو حدث ذلك لَباتَ من المملِّ أن توجد كلُّ تلك المستويات، الواحد أسفل الآخَر من القوانين … لَكَمْ حالفنا الحظُّ لكي نحيا في عصرٍ ما زلنا نكتشف فيه الجديد! يشبه الأمرُ اكتشافَ أمريكا؛ حيث لا يمكن أن تكتشفها إلا مرةً واحدة.

من كتاب «خصائص القانون الفيزيائي» (١٩٦٥)

نسي فاينمان من بين ما نسي أن مفهوم «القانون» الخاص بالطبيعة نفسه ليس جامدًا جمودَ الحجر؛ لعلي أسلفتُ في الفصل الخامس ذكْرَ أن هذا المفهوم كان مختلفًا قبل نيوتن وجاليليو، وقد يتغيَّر من جديدٍ. يرجع مفهومُ مستويات التفسير إلى القرن العشرين، ولسوف يتغيَّر هو الآخَر إذا صحَّ تخميني الذي قدَّمته في الفصل الخامس؛ إذ أرى أن بعض القوانين الأساسية تبدو منبثقةً بالنسبة إلى الفيزياء المجهرية. وبصورةٍ أعمَّ، فإن أغلب الاكتشافات الأساسية كانت — وستظل دائمًا — مكوَّنةً من تفسيراتٍ جديدة، بل تستخدم أيضًا أُطُرًا تفسيريةً جديدةً كذلك. أما بالنسبة إلى كوْنِ الحال مملَّة، فليس هذا سوى تكهُّنٍ بأن معايير البتِّ في المشكلات لن تتطوَّر بنفس سرعةِ تطوُّر المشكلات نفسها؛ إلا أنه لا برهانَ على ذلك إلا إخفاق المخيلة. حتى فاينمان لا يستطيع الالتفافَ حول حقيقة أن المستقبل لا يمكن تخيُّله إلى الآن.

سيكون التخلُّصُ من هذا النوع من ضِيق الأفق أمرًا يجب معاوَدةُ فِعْلِه مرارًا وتكرارًا في المستقبل. إن مستوى المعرفة، أو الثروة، أو القدرة الحاسوبية، أو التدرُّج الفيزيائي الذي يبدو عظيم الضخامة في لحظةٍ ما، سيُرَى تافهًا وضئيلًا في لحظةٍ لاحقة؛ ومع هذا لن نصل أبدًا إلى ما يُشبه حالةً لا نواجه فيها مشكلاتٍ؛ فمثل نزلاء فندق اللانهاية، لن «نصل» أبدًا هناك.

ثَمَّةَ صورتان فيما يتعلَّق بهذا «الوصول»: ترى الصورةُ الكئيبة أن المعرفة محدودةٌ بقوانين الطبيعة أو مقدرات الغيب، وأن التقدُّمَ كان طورًا مؤقتًا، ومع أن هذا محض تشاؤمٍ بحسب رؤيتي، فإنه ساد تحت أسماءٍ عديدة — من بينها «التفاؤل» — وكان ركنًا أساسيًّا في معظم الرؤى العالمية فيما مضى. أما الصورةُ المستبشرة، فتُصوِّر الجهلَ الباقيَ كله على أنه سيزول أو سيُحصَر في مجالاتٍ غير مهمةٍ يومًا ما. هذه صورةٌ متفائلةُ الهيئة، لكنَّ الناظرَ عن كثبٍ يرى كيف تزداد مادتها تشاؤمًا كلَّما دنا؛ ففي السياسة — على سبيل المثال — يَعِدُ مناصرو العالم المثالي بأن عددًا متناهيًا من التغيُّرات المعروفة بالفعل قادرٌ على تحقيقِ وضْعٍ مثاليٍّ للبشر، وهذه وصفةٌ معروفةٌ للجمود الفكري والطغيان.

في الفيزياء، تخيَّلْ لو كان لاجرانج مُحِقًّا بصدد أن «نظام العالم لا يمكن اكتشافُه إلا مرةً واحدة»، أو أن مايكلسون كان مُحِقًّا عندما وصف ما لم يُعرَفْ بعدُ في كافة فروع الفيزياء في عام ١٨٩٤ بأنه «لا يزيد عن نيف في المليون». كانوا يدَّعون أنهم «يعرفون» أنَّ أيَّ شخصٍ يعتريه الفضولُ لاحقًا حول ما يكمن خلف «نظام العالم» إنما سيتحرَّى عبثًا في المستغلق البهيم، وأن كلَّ مَن تعجَّبَ من شذوذٍ وارتاب في صحةِ تفسيرٍ أساسيٍّ أو احتوائه على مفهومٍ خاطئٍ ما سيكون هو المخطئَ.

إن مستقبل مايكلسون — وحاضرنا — كان يمكن أن يبيت فقيرًا في المعرفة التفسيرية إلى حدٍّ لا يمكن تصوُّره بسهولة. لقد ظلَّ نطاقٌ واسعٌ من الظواهر المعروفة له حينها بحاجةٍ إلى تفسير، مثل الجاذبية، وخصائص العناصر الكيميائية، وسطوع الشمس. كان يزعم أن هذه الظواهر مجموعةٌ من الحقائق أو أحكام الخبرة، مآلها أن تُحفَظ عن ظهر قلبٍ لا أن تُفهَم أو تُبحَث بحثًا مفيدًا أبدًا. كان كلُّ تخم من تخوم المعرفة الأساسية الموجودة في عام ١٨٩٤ سيصير حاجزًا يعيق تفسيرَ كلِّ ما يكمن خلفه، ولم يكن سيوجد هناك ما يُدعَى البنية الداخلية للذرات، ولا ديناميكيات المكان والزمان، ولا فرع من العلم يُدعَى علم الكون، ولا تفسير للمعادلات الضابطة للجاذبية أو الكهرومغناطيسية، ولا صلات بين الفيزياء ونظرية الحوسبة. كانت أعمق «بنية» في العالم ستصير حدًّا بشريَّ التمركُز، غيرَ قابلٍ للتفسير، يرتبط مع الحد الذي اعتقد فيزيائيو عام ١٨٩٤ أنهم فهموه، ولم يكن سيتضح أن شيئًا ممَّا يقع قبل ذلك الحد — قُلْ مثلًا كوجود قوة الجاذبية — باطل بطلانًا بالغًا.

لم يكن لأي شيءٍ ذي أهميةٍ كبيرةٍ أن يُكتشَف في ذلك المعمل الذي افتتحه مايكلسون؛ فكل جيلٍ من الطلاب ممَّنْ درسوا فيه كان يطمح — بدلًا من فهم العالَمِ فهمًا أعمق ممَّا تأتَّى لمعلِّميهم — فيما لا يزيد عن مضارعة هؤلاء المعلمين، أو في اكتشاف قدرٍ أكبر من القدر الضئيل الذي تمَّ اكتشافه على أكثر تقدير. (لكن كيف؟ إنَّ أدق الأدوات العلمية الموجودة اليومَ تعتمد على اكتشافاتٍ أساسيةٍ تمَّ التوصُّل إليها بعد عام ١٨٩٤.) كان نظام العالم لديهم سيبقى إلى الأبد جزيرةَ تفسيرٍ متجمدةً بالغةَ الصِّغَر في محيطٍ من الغموض وعدم الفهم، وكانت ستصبح «القوانين والحقائق الأساسية للعلم الفيزيائي» عند مايكلسون الرمقَ الأخير من التعقُّل في ذلك المجال، لا بدايةً للَّانهاية لفهمٍ أبعد، كما آلَ به الأمر في الواقع.

لا أظن أن لاجرانج أو مايكلسون قد رأى كلٌّ منهما نفسَه كإنسانٍ متشائم، غير أن تكهناتهما قد استتبعت حكمًا متشائمًا بأننا «مهما فعلنا، فلن نفهم أكثر». وتصادَفَ أن كلَيْهما وصل إلى اكتشافاتٍ كان من الممكن أن تؤدِّيَ بهما إلى عين التقدُّم الذي أنكرَا إمكانيتَه. كان ينبغي لهما أن ينشدَا ذلك التقدُّمَ، أليس كذلك؟ لكنَّ أحدًا لا يبدع في مجالاتٍ يتشاءم فيها.

لعلي أسلفتُ في نهاية الفصل الثالث عشر أن المستقبل المنشود هو حيث نتقدَّم من مفاهيمنا الخاطئة إلى مفاهيمَ أفضلَ كثيرًا (أقل خطأً). لطالما آمنتُ بأن طبيعة العلم ستصير أفضلَ فهمًا لو سمَّينا النظرياتِ «مفاهيم خاطئة» من البداية، وليس بعد أن نكتشف توابعها الصحيحة فحسب. نستطيع على هذا المنوال أن نقول إن مفهوم أينشتاين الخاطئ للجاذبية كان تحسينًا لمفهوم نيوتن الخاطئ لها، والأخير كان بدوره تحسينًا لمفهوم كبلر الخاطئ، كما أن مفهوم الداروينية الجديدة الخاطئ للتطوُّر تحسينٌ لمفهوم داروين الخاطئ لها، والأخير تحسينٌ لنظيره لدى لامارك. ربما لو فكَّرَ الناس في الأمر على هذا المنوال، لما احتاج أحدهم إلى من يُذكِّره بأن العلم لا يدَّعِي العصمةَ من الخطأ ولا النهائية.

ربما كانت الطريقةُ الأكثر عمليةً للتأكيد على نفس الحقيقة هي تأطيرَ نموِّ المعرفةِ (كل المعرفة، لا العلمية منها فحسب) باعتباره انتقالًا دائمًا من «مشكلات» إلى «مشكلات أفضل»، عوضًا عن كونه انتقالًا من مشكلات إلى حلول، أو من نظرياتٍ إلى نظرياتٍ أفضل؛ هذا هو المفهوم الإيجابي «للمشكلات»، الذي أبرزتُه في الفصل الأول. بفضل اكتشافات أينشتاين، تُجسِّد مشكلاتنا في الفيزياء اليومَ معرفةً أكبر ممَّا جسَّدت مشكلاتُه هو نفسه؛ إذ كمنَتْ جذورُ مشكلاته في اكتشافات نيوتن وإقليدس، بينما تكمن جذورُ معظمِ المشكلات التي تُحيِّر عقولَ الفيزيائيين اليومَ، والتي دونها ستكون ألغازًا مستغلقةً، في الاكتشافات الفيزيائية في القرن العشرين.

ينطبق الأمر نفسه على الرياضيات؛ فبالرغم من أنه من النادر إثبات «خطأ» مبرهناتٍ رياضيةٍ ما أن تُتداوَلَ لبعض الوقت، فإن ما يحدث هو تحسُّنُ فهْمِ علماء الرياضيات لما هو أساسي. إن المجرداتِ التي كانت تُدرس على نحوٍ منفصلٍ أصبحَتْ تُفهَم كجوانبَ من مجرداتٍ أعم، أو ترتبط بطرقٍ غير متوقَّعةٍ بمجرداتٍ أخرى؛ وهكذا ينتقل التقدُّمُ في الرياضيات من مشكلاتٍ إلى مشكلاتٍ أفضل، تمامًا كما يُفعَل في شتَّى المجالات الأخرى.

لا يتفق التفاؤلُ والتعقُّلُ مع الغطرسة الكاذبة بأن معرفتنا — أو أُسُسها — تقريبًا وصلَتْ إلى حدودِ ما يمكن علمه بأي حالٍ من الأحوال؛ إلا أن التفاؤل الشامل دائمًا ما ندر، ولطالما كان إغراءُ المغالطات التكهُّنية قويًّا، ولكن الاستثناءات دائمًا ما كانت موجودةً؛ فقد اشتُهر سقراطُ بادِّعائه جهلَه المطبق، وكتب بوبر يقول:

أعتقد أن من الجدير بالمحاولة أن نتعلَّم شيئًا عن العالم، حتى لو لم نتعلَّم إبَّان تلك المحاولة إلا أننا لا نعلم الكثيرَ … ربما يحسن أن نتذكَّرَ جميعًا أننا — مع اختلافنا الشاسع في الشذرات الزهيدة التي نعلمها — متساوون في جهلنا اللامتناهي.

من كتاب «افتراضات وتفنيدات» (١٩٦٣)

إن الجهلَ اللامتناهيَ شرط ضروري لوجود إمكانيةٍ لا متناهيةٍ للمعرفة، ورَفْض فكرةِ اقترابنا من الوصول إلى حدودِ ما يمكن عِلْمُه شرطٌ ضروريٌّ لتجنُّبِ الجمود الفكري، والركود، والطغيان.

في عام ١٩٩٦ تسبَّبَ الصحفي جون هورجان في بلبلةٍ بكتابه «نهاية العلم: مواجهةُ حدودِ المعرفة في شفق عصر العلم»؛ حيث جادَلَ بأن الحقيقة النهائية في كل مناحي العلم الأساسية — أو على الأقل ما يمكن للعقل البشري استيعابه منها مطلقًا — تمَّ اكتشافها بالفعل في القرن العشرين.

كتب هورجان يقول إنه كان مؤمنًا في البداية بأن العلم لا بد أن يكون «مطلقًا، بل لا متناهيًا»، غير أنه اقتنع فيما بعدُ بعكس ذلك بفضل (ما أدعوه أنا) سلسلة من المفاهيم الخاطئة والحجج السيئة. كان مفهومه الخاطئ الرئيسي هو التجريبية؛ فلقد آمَنَ بأن ما يميِّزُ العلمَ عن المجالات غير العلمية الأخرى كالنقد الأدبي أو الفلسفة أو الفن، هو أن للعلم قدرةً على «حلِّ المشكلات» بموضوعيةٍ (عن طريق مقارَنةِ النظريات بالواقع)، بينما لا تقدر المجالاتُ الأخرى إلا على إنتاجِ تأويلاتٍ متعدِّدة، غير متوافِقةٍ فيما بينها، حول أي قضية. كان هورجان مُخطِئًا في النقطتين كلتَيْهما. وكما أسلفتُ الشرح على مدار الكتاب، ثَمَّةَ حقيقة موضوعية يمكن أن نجدها في سائر تلك المجالات، بينما لا يمكن أن نجد النهائية ولا العصمة من الخطأ في أي مجال.

يقبل هورجان من الفلسفة السيئة للنقد الأدبي فيما «بعد الحداثة» خلْطَها المتعمد بين نوعين من «الغموض» الذي يمكن أن يوجد في الفن والفلسفة؛ النوع الأول من «الغموض» هو وجود معانٍ صحيحةٍ متعدِّدة، سواءٌ أكانت متعمدةً من قِبَل المؤلف أم وُجِدتْ بسبب المدى الذي تصل إليه الأفكار، أما النوع الثاني فهو الناتج عن الإبهام، أو الخلط، أو المواربة أو التناقض الذاتي المتعمد. النوع الأول خاصية من خصائص الأفكار العميقة، والثاني من خصائص السخافة العميقة؛ وبالخلط بينهما يَنسِب المرءُ إلى أفضل الفنون والفلسفات سماتِ أسوئها. ولما كان من الممكن للقراء والمشاهدين والنقاد، في ضوء هذا، أن ينسبوا أيَّ معنًى يختارونه إلى النوع الثاني من الغموض، تعلن الفلسفةُ السيئةُ أن الأمر نفسه ينطبق على المعرفة بأسرها؛ كل المعاني متساوية، وليس من بينها حقيقة موضوعية واحدة. يَمثُل أمامَ المرء عندئذٍ خياران: العدمية المطلقة، أو اعتبار «كل» أشكال الغموض أمرًا جيدًا في تلك المجالات. يختار هورجان الخيارَ الثاني؛ إذ يصنف الفن والفلسفة باعتبارهما مجالَيْن «ساخرين»، تكمن سخريتهما في وجود معانٍ عدةٍ متضارِبةٍ في القول الواحد.

ومع هذا، وعلى العكس من فلاسفة ما بعد الحداثة، يعتقد هورجان أن العلم والرياضيات استثناءان ساطعان من كل ذلك؛ فهذان وحدهما قادران على المعرفة غير الساخرة. غير أنه ينتهي إلى وجود «علم ساخر» مع ذلك؛ ذاك النوع من العلم الذي لا يستطيع «حلَّ المشكلات» لأنه مجرد فلسفةٍ أو فنٍّ في جوهره. يمكن للعلم الساخر أن يستمر بلا نهاية، ولكن ذلك لأنه لا يحلُّ شيئًا مطلقًا؛ إنه لا يكتشف حقيقةً موضوعيةً مطلقًا، والقيمة الوحيدة لهذا العلم توجد في أعين مطالعيه؛ لذا فالمستقبل — عند هورجان — ملك للمعرفة الساخرة. لقد وصلَتِ المعرفة الموضوعية بالفعل إلى حدودها القصوى.

يستعرض هورجان بعضَ الموضوعات غير المحسومة في العلوم الأساسية، ويحكم عليها جميعًا بأنها إما «ساخرة»، وإما غير أساسية، بما يعضِّد أطروحته. لكن ما يحتم هذه النتيجة مقدماته وحدها. فلنتأمَّلِ احتمالية «أي» اكتشافٍ مستقبليٍّ قد يُشكِّل تقدُّمًا أساسيًّا. لا يمكن أن نعلم ماهيته، لكن الفلسفة السيئة تستطيع تقسيمَه — من حيث المبدأ — إلى حكم خبرةٍ جديد، و«تأويل» (أو تفسير) جديد. لا يمكن أن يكون حكمُ الخبرة الجديد أساسيًّا؛ إذ سيكون مجردَ معادلةٍ أخرى؛ ويستطيع الخبير المدرَّب وحده التمييزَ بينه وبين المعادلة القديمة. أما «التأويل» الجديد، فسيكون بطبيعته فلسفةً خالصة؛ ومن ثَمَّ لا بد أن يكون «ساخرًا». بهذا المنهج يمكن على سبيل الاحتياط تأويلُ أيِّ تقدُّمٍ ممكنٍ على أنه تقدُّمٌ زائف.

يشير هورجان إلى عدم جواز إثبات خطأ تكهُّنه ذلك في سياق التكهُّنات الفاشلة السابقة، وهو في هذا محق. إن حقيقة خطأ مايكلسون بخصوص إنجازات القرن التاسع عشر، أو لاجرانج بخصوص إنجازات القرن السابع عشر، لا تشير إلى أن هورجان كان مخطئًا بصدد إنجازات القرن العشرين؛ ومع ذلك، يصادف أن «معرفتنا» العلمية الراهنة تتضمَّن عددًا غيرَ مسبوقٍ في التاريخ من المشكلات الأساسية العميقة. لم يحدث في تاريخ الفكر البشري من قبلُ قطُّ أنْ بَدَا بهذا الوضوح كَمْ أن معرفتنا ضئيلة، وجهلنا جسيم! وهكذا، على غير المعتاد، يتناقض تشاؤمُ هورجان مع المعرفة الحالية إلى جانب كونه مغالطةً تكهُّنيةً. على سبيل المثال: إن الوضع الإشكالي الذي تمرُّ به الفيزياء الأساسية اليومَ يختلف في بنيته اختلافًا جذريًّا عن نظيره في عام ١٨٩٤. ومع أن فيزيائيي ذلك العصر كانوا على درايةٍ ببعض الظواهر والأمور النظرية التي نعرف اليومَ أنها كانت بشائرَ التفسيرات الثورية القادمة، فلم تكن أهميتُها واضحةً لهم في ذلك الوقت. كان من الصعب التمييزُ بين تلك البشائر وبين الانحرافات التي سيتمُّ التخلُّصُ منها مع التفسيرات الموجودة، بالإضافة إلى التغييرات الطفيفة في ذلك «النيف من المليون» أو أجزاء ثانوية في المعادلة؛ لكن لا يوجد اليومَ عذْرٌ لإنكار أن بعضًا من مشكلاتنا أساسي. تخبرنا أفضلُ نظرياتنا بوجود تبايُناتٍ عميقةٍ بينها وبين الواقع المفترض بها تفسيره.

أحد الأمثلة الصارخة على ذلك أن للفيزياء حاليًّا «نظامَيْن» أساسيَّيْن للعالم — نظريةَ الكمِّ، ونظريةَ النسبية العامة — وهما متضاربتان تضارُبًا جذريًّا. توجد طرقٌ عديدةٌ لتمييز ذلك التضارب — المعروف بإشكالية جاذبية الكم — بما يضارع المقترحاتِ المتعدِّدةَ لإنهائه التي تمَّتْ تجربتُها دون نجاح؛ أحدُ جوانب هذا التضارُبِ التوتُّرُ القديم بين المتقطِّع والمتَّصِل. إن الحل الذي وصفته في الفصل الحادي عشر، من سُحُبٍ متصلةٍ من نُسَخٍ متماثلةٍ لجسيمٍ ذي سماتٍ متقطعةٍ متباينة؛ يجدي فقط في حالة ما إذا كان الزمكان نفسه الذي يحدث به هذا متَّصِلًا، أما إذا تأثَّرَ الزمكان بجاذبية السحابة، فسيكتسب حينئذٍ سماتٍ متقطعة.

تحقَّقَ في علم الكون تقدُّمٌ ثوريٌّ حتى في السنوات القليلة التي تلَتْ تأليفَ كتاب «نهاية العلم»، وأيضًا بعد أن ألَّفْتُ كتابي «نسيج الواقع» بوقتٍ قصير. أفادت كل النظريات الكونية الصالحة حينئذٍ بتباطُؤِ تمدُّدِ الكون تباطؤًا تدريجيًّا، بسبب الجاذبية، منذ الانفجار العظيم وللأبد في المستقبل. كان علماء الكون يحاولون تحديدَ ما إذا كان معدلُ ذلك التمدُّد — بالرغم من تباطُئِه — كافيًا لجعل الكون يتمدَّد إلى الأبد (كقذيفةٍ تجاوزَتْ سرعةَ الإفلات)، أم أنه سيتهاوى مع الوقت في «انسحاق عظيم». اعتُقدَ أن هذين هما الاحتمالان الوحيدان، ولقد ناقشتُهما في كتابي «نسيج الواقع»؛ لأنهما كانا مرتبطين بالسؤال: هل يوجد حدٌّ لعدد الخطوات الحوسبية التي يمكن لكمبيوتر أن ينفِّذها على مدار عمر الكون؟ إذا كان هذا الحدَّ موجودًا إذن، فسوف تفرض الفيزياء حدًّا على قدرِ المعرفة الممكن خلقها؛ بما أنَّ خلْقَ المعرفة شكلٌ من أشكال الحوسبة.

كان الاعتقاد الأول لدى الجميع أن خلقَ المعرفة غيرَ المحدود غيرُ ممكنٍ إلا في كونٍ لا يتهاوَى من جديدٍ أبدًا؛ ومع ذلك تبيَّنَ بالتحليل أن العكس هو الصحيح؛ ففي الأكوان التي تتمدَّد إلى الأبد، تنفدُ الطاقةُ من بين أيدي سكانها. لكنَّ عالِمَ الكونِ فرانك تيبلر اكتشف أن تفرُّدَ الانسحاق العظيم في بعض الأنواع من الأكوان التي تتهاوى مع الوقت يتناسب مع الحيلة التي استخدمناها في فندق اللانهاية: سلسلة لا متناهية من الخطوات الحوسبية يمكن تنفيذها في زمنٍ متناهٍ قبل حدوث تفرُّدٍ، تمدُّها التأثيراتُ المدية المتصاعدة للانهيار الجذبوي ذاته بطاقةِ تشغيلها. يستمر هذا الكون للأبد في منظور سكانه — الذين سيتعيَّن عليهم بمرور الوقت تحميلُ شخصياتهم إلى أجهزة كمبيوتر مصنَّعةٍ من شيءٍ كالمدود البحتة — إذ سيأخذ تفكيرُهم في التسارع بلا حدودٍ إبَّان انهيارِ ذلك الكون، وسيخزِّنون ذاكراتهم في أحجامٍ آخِذةٍ في التضاؤل بما يقلِّص زمنَ الوصول إليها بلا حدودٍ أيضًا. أطلق تيبلر على مثل تلك الأكوان اسم «أكوان نقطة أوميجا». وقد توافق الدليل القائم على الملاحظة آنذاك مع انتماء كوننا إلى ذلك النوع من الأكوان.

إن جزءًا صغيرًا من الثورة التي تجتاح علمَ الكون حاليًّا هو أن الملاحظة قد استبعدت نماذجَ نقطةِ أوميجا. لقد أجبَرَ الدليلُ — متضمِّنًا سلسلةً لافتةً من دراسات المستعرات العظمى في المجرات البعيدة — علماءَ الكون على الوصول إلى نتيجةٍ غير متوقَّعة، أَلَا وهي أن الكون لن يتمدَّد إلى الأبد فحسب، بل إنه كان يتمدَّد «بمعدلٍ متسارِع». ثَمَّةَ شيء كان يتصدَّى بالمقاومة لجاذبيته.

لا نعلم ماهيةَ ذلك الشيء، ونحن بانتظار اكتشاف تفسيرٍ جيد. تمَّتْ تسميةُ ذلك السبب غير المعلوم «الطاقة المظلمة»، وتوجد اقتراحات مختلفة لما يمكن أن يكونه، بما فيها كونه آثارًا تعطي مظهرَ التسارُع فحسب، إلا أن أفضل الفرضيات المتداولة في اللحظة الراهنة هي وجود ثابتٍ إضافيٍ في معادلات الجاذبية، في صورةٍ جادَلَ بها أينشتاين في عام ١٩١٥ ثم استبعَدَها لأنه أدرك أن تفسيره لها كان تفسيرًا سيئًا. تمَّ اقتراحُ هذا الثابت من جديدٍ في ثمانينيات القرن العشرين باعتباره تأثيرًا ممكنًا لنظرية مجال الكَمِّ، لكنْ مجدَّدًا لا توجد نظريةٌ عن المعنى الفيزيائي لمثل ذلك الثابت تتَّسِم بجودةٍ كافيةٍ للتنبُّؤ — مثلًا — بقياس مقداره. إن مشكلة طبيعة الطاقة المظلمة وتأثيراتها ليسَتْ بالتفصيلة الثانوية البسيطة، وكذلك ليس ثَمَّةَ ما يوحي فيها بأنها ستظل لغزًا غامضًا إلى الأبد. لم يَعُدْ علْمُ الكون علمًا مكتمِلًا اكتمالًا أساسيًّا.

وعلى حسب ما سيتضح من كُنْه الطاقة المظلمة، قد يصبح من الممكن تسخيرُها في المستقبل البعيد لتوفير الطاقة اللازمة لاستمرار خلق المعرفة إلى الأبد. ولأن هذه الطاقة سيتعيَّن تجميعُها من مسافاتٍ متباعِدة، ستتباطأ الحوسبةُ بالضرورة. في صورةٍ معكوسةٍ لما قد يحدث في أكوان نقطة أوميجا، نجد أن سكان كوننا لن يلاحظوا تباطُؤًا لأنهم أيضًا تمَّ تمثيلهم في صورةِ برامجَ حاسوبيةٍ ذات خطواتٍ إجماليةٍ لا محدودة؛ نجد بهذا أن الطاقة المظلمة التي أبطلَتْ سيناريو لنموِّ المعرفة نموًّا لا محدودًا ستقدِّم القوةَ الدافعة لسيناريو آخَر له.

تصف النماذجُ الكونية الحالية أكوانًا ذات أبعادٍ مكانيةٍ لا متناهية. ولما كان الانفجار العظيم قد حدث منذ زمنٍ متناهٍ، وبسبب تناهي سرعة الضوء، فلن نرى أبدًا سوى جزءٍ متناهٍ من الفضاء اللامتناهي، لكن ذلك الجزء سيستمر في النمو إلى الأبد؛ ولهذا سيبزغ في الآفاق مزيدٌ من الظواهر المستبعدة. وعندما يبلغ حجمُ ما يمكن أن نراه مليونَ ضعف حجمه الحالي، سنرى أمورًا لا يزيد احتمالُ وقوعها في الفضاء كما نراه اليومَ عن واحدٍ في المليون. سيتجلَّى بمرور الوقت كلُّ ما هو ممكن فيزيائيًّا: الساعات التي أتَتْ إلى الوجود تلقائيًّا، والكويكبات التي يصادف أن تنطبق عليها أفكارُ ويليام بايلي، وكل شيء. إن سائر تلك الأشياء «موجود اليومَ» طبقًا للنظرية السائدة، لكنها بعيدةٌ عنَّا بأضعافٍ كثيرةٍ بحيث لا يستطيع الضوءُ الوصولَ منها إلينا؛ وذلك حتى الآن.

يخفت الضوء كلما اتَّسَع انتشاره؛ حيث يقلُّ عددُ الفوتونات في كل وحدةِ مساحةٍ. يعني ذلك الحاجةَ إلى مزيدٍ من التلسكوبات الأكبر لرصد أشياءَ على بُعْد مسافاتٍ أبعد؛ لذا قد يوجد حدٌّ لمدى بُعْد الظواهر التي يمكننا رؤيتها — ومن ثَمَّ حدٌّ لعدم احتمال حدوثها — باستثناء نوعٍ واحد من الظواهر: بداية اللانهاية. وعلى وجه التحديد، إن أيَّ حضارةٍ تستعمر الكونَ بنسقٍ لا محدودٍ ستصل إلى موقعنا في وقتٍ ما.

من هنا، نجد كيف يمكن لفضاءٍ لا متناهٍ واحدٍ أن يقوم بدور الأكوان العديدة اللامتناهية التي تسلم بها التفسيرات الإنسانية لمصادفات الضبط الدقيق. يمكنه في بعض الأوجه أن يقوم بهذا الدور بإتقانٍ أكبر؛ إذ لو كان احتمالُ قيام حضارةٍ كتلك لا يساوي صفرًا، فلا بد أن عددًا لا متناهيًا منها ينتشر في الفضاء، وستقابل كلٌّ منها الأخرى يومًا ما، وإذا استطاعت تقديرَ ذلك الاحتمال من النظرية، فسيمكنها اختبار التفسير الإنساني.

بالإضافة إلى ذلك، تستطيع الحججُ الإنسانية الاستغناءَ عن كل تلك الأكوان الموازية، بل تستطيع أيضًا الاستغناءَ عن قوانين الفيزياء المتنوعة كذلك. (لعلِّي أُذكِّر القارئ بأن هذه الأكوان الموازية المتخيَّلة لا علاقةَ لها بالأكوان أو التواريخ في الوجود الكَمِّي المتعدِّد الأكوان، الذي تتوافر أدلةٌ دامغة تؤكِّد وجودَه. وأستطيع التأكيدَ على أن التفسيراتِ الإنسانيةَ القياسيةَ تُسلِّم بأن هناك عددًا لا متناهيًا من هذا الوجود الكَمِّي المتعدِّد الأكوان.) لعلك تذكر من الفصل السادس أن كل الدوال الرياضية التي تتكرَّر في الفيزياء تنتمي إلى فئةٍ محدودةٍ نسبيًّا هي «الدوال التحليلية». تملك تلك الدوال خاصيةً لافتةً وهي؛ إذا لم تساوِ الدالةُ صفرًا ولو في نقطةٍ واحدة، فسيمكنها إذنْ على مدار نطاقها أن تجتاز الصفرَ في نقاطٍ منعزلةٍ فقط. لا بد أن هذا يصحُّ أيضًا على «احتمال وجود عالِم فيزياء فلكية» معبَّرًا عنه في صورة دالةٍ من ثوابت الفيزياء. نعلم القليلَ عن هذه الدالة، لكننا نعلم أنها لا تساوي صفرًا مع مجموعةٍ واحدةٍ على الأقل من قِيَم الثوابت، أَلَا وهي قِيَمُنا؛ ومن هنا نعلم أيضًا أنها غير صفريةٍ تقريبًا لكل القِيَم. من المفترض أنها بالغةُ الضآلة على نحوٍ غير متخيَّلٍ لكلِّ مجموعاتِ القِيَم تقريبًا، ولكنها مع هذا غير صفرية؛ نتيجةً لذلك، أيًّا ما كانت قِيَم الثوابت، سيوجد عددٌ لا متناهٍ من علماء الفيزياء الفلكية في كوننا.

للأسف، يُبطِل التفسيرُ الإنساني للضبط الدقيق نفسَه بنفسِه عند هذا الحد: علماء الفيزياء الفلكية موجودون بوجود الضبط الدقيق أو دونه؛ لذا تعجز الحجة الإنسانية عن تفسير هذا الإحكام في علم الكون الحديث عجزًا يفوق ما عانته في علم الكون القديم، وهي غير قادرةٍ على حلِّ مشكلةِ فيرمي، «أين هي؟» أيْ أين هي تلك الحضارات الواقعة خارج الأرض؟ قد يتضح لاحقًا أنها جزء ضروري من التفسير، لكنها لا تستطيع تفسيرَ أيِّ شيءٍ بمفردها على الإطلاق. أضِفْ إلى ذلك — كما شرحتُ في الفصل الثامن — أن أيَّ نظريةٍ تنطوِي على حجةٍ إنسانيةٍ لا بد أن تُقدِّمَ مقياسًا لتعريف احتمالات مجموعةٍ لا متناهيةٍ من الأشياء. من غير المعلوم كيف يتأتَّى تحقيقُ ذلك في كونٍ لا متناهي المساحة يؤمن علماءُ الكون حاليًّا بأننا نحيا فيه.

لهذه القضية نطاق أوسع. على سبيل المثال: يوجد فيما يتعلَّق بالوجود المتعدِّد الأكوان ما يُدعَى «حجة الانتحار الكَمِّي». افترِضْ أنك تريد ربح اليانصيب؛ فتقوم بشراء الورقة وتضبط آلةً ما لتقتلك أثناء نومك تلقائيًّا إذا ما خسرتَ؛ إذنْ في كل التواريخ التي تستيقظ فيها من نومك فعلًا تكون رابحًا. إذا لم يكن لديك أحباء يرثونك، أو أسبابٌ أخرى تجعلك تُفضِّل ألَّا تتأثَّرَ غالبيةُ التواريخ بوفاتك المبكرة، فلقد رتَّبتَ لأنْ تحصل على شيءٍ دون مقابلٍ مع ما يُطلِق عليه مناصرو هذه الحجةِ «اليقين الذاتي». ومع ذلك، لا ينبع هذا النهجُ في تطبيق الاحتمالات من نظرية الكَمِّ مباشَرةً كما ينبع منها النهج المعتاد. إنه يتطلَّبُ افتراضًا إضافيًّا، أَلَا وهو ضرورة تجاهُلِ صانِع القرار للتواريخ التي لا يوجد هو فيها عند اتخاذه القرارَ؛ يرتبط ذلك بالحجج الإنسانية عن كثب. أُكرِّر أن نظرية الاحتمالات في مثل هذه الحالات غير مفهومةٍ جيدًا، لكنَّ تخميني أن الافتراض خاطئ.

يقع افتراضٌ ذو صلةٍ فيما يُدعَى «حجة المحاكاة»، وأكثر مناصريه إقناعًا نيك بوستروم. أساس هذه الحجة أن الكون برُمَّته كما نعرفه ستتم محاكاته في المستقبل البعيد في أجهزة كمبيوتر (ربما لأغراضٍ بحثيةٍ علميةٍ أو تاريخية) مراتٍ عديدة، ربما لعددٍ لا متناهٍ من المرات؛ ولهذا ستكون كلُّ نسخنا تقريبًا في عمليات المحاكاة تلك، لا في العالم الأصلي؛ لذا فمِن شبه المؤكَّد أننا نحيا في عملية محاكاة. هكذا تسري الحجة، لكن هل يصحُّ حقًّا أن نساويَ بين «معظم النسخ» و«شبه اليقين» على هذا النحو؟

دَعْنا نَخُضْ تجربةً فكريةً من أجل تبيُّن لمحةٍ عن السبب وراء أنه قد يكون من غير الصحيح أن نساويَ بينهما: تخيَّلْ أن علماء الفيزياء اكتشفوا أن الفضاءَ متعدِّدُ الطبقات حقًّا كمخبوزة الرقائق الهشة، وأن عدد الطبقات يتنوَّع من مكانٍ لآخَر؛ تنشطر الطبقات في بعض المواضع، وتنشطر معها محتوياتها، ولكل طبقةٍ محتوياتٌ مماثلةٌ لما لغيرها بالرغم من ذلك؛ ومن هنا، ومع أننا لا نشعر بذلك، تنشطر نُسَخٌ منَّا وتُعاوِدُ الاندماجَ إبَّان حركتنا المستمرة. افترِضْ أن الفضاء في لندن به مليون طبقة، بينما ليس به في أكسفوردشير إلا واحدة؛ أقوم بالتنقُّل بين المدينتين باستمرار، فأستيقظ ذات يومٍ وقد نسيتُ في أيهما أنا، ومن حولي ظلمةٌ؛ أيجدر بي أن أراهن على أني في لندن لمجرد أن عدد نُسَخي في لندن التي تستيقظ مليون ضعف ما في أكسفورد؟ لا أعتقد أن هذا صحيح. يتضح في هذا الموقف أن إحصاء عدد نُسَخ المرء ليس بدليلٍ على الاحتمال الذي ينبغي له استخدامه إبَّان اتخاذ القرار؛ يجب أن نعدَّ التواريخَ لا النُّسَخ. في نظرية الكَمِّ، تخبرنا قوانينُ الفيزياء كيف نعدُّ التواريخ بالقياس. في حالة عمليات المحاكاة المتعددة، لا علمَ لي بحجةٍ جيدةٍ لاستخدام «أي» طريقةٍ لعدِّها؛ إنها مسألة غير محدَّدة، لكني لا أرى لماذا قد يجعلني تكرارُ نفس محاكاتي مليونَ مرة «أكثرَ احتمالًا» لأنْ أكون محاكاةً لا أصلًا. ماذا لو أن أحد أجهزة الكمبيوتر يستخدم مليونَ ضعف الإلكترونات التي يستخدمها غيرُه لتمثيل كل وحدة معلوماتٍ في ذاكرته؛ هل يزيد احتمال وجودي «في» الكمبيوتر الأول أكثر من الثاني؟

تثير حجةُ المحاكاةِ مسألةً مختلفةً: هل ستتمُّ محاكاة الكون كما نعرفه كثيرًا في المستقبل؟ أليس ذلك عملًا لا أخلاقيًّا؟ إن العالم بحالته اليومَ يحوي قدرًا هائلًا من المعاناة، وأيًّا كان مَن أجرى مثل هذه المحاكاة فهو مسئول عن إعادة تكوين المعاناة من جديد. أم لعله ليس كذلك؟ هل وجود نسختين متماثلتين من إحدى الكيفيات يشبه وجودَ نسخةٍ واحدةٍ منها فقط؟ لو كان الأمر كذلك، لَانتفَتْ صفةُ اللاأخلاقية عن خلق المحاكاة؛ ويكون مثلها في هذه الحالة كمثل قراءة كتابٍ عن معاناةٍ سابقة. لكن في هذه الحالة: إلى أي حدٍّ ينبغي أن تختلف عمليتا محاكاةٍ لشخصٍ قبل أن تعدَّا شخصين مختلفين لأغراضٍ أخلاقية؟ من جديدٍ، لا أملك إجابةً جيدةً لتلك الأسئلة، أظن أن النظرية التفسيرية التي سينبع منها أيضًا الذكاءُ الاصطناعي هي فقط ما سيجيب عن تلك الأسئلة.

وهناك أيضًا سؤال أخلاقي ذو صلةٍ وإن كان أكثر جنونًا. أحضر جهازَ كمبيوتر عاليَ الإمكانيات، واضبط كل وحدة بت فيه إلى قيمة ٠ أو ١ عشوائيًّا باستخدام موزِّعٍ عشوائيٍّ كَمِّيٍّ (يعني هذا أن ٠ و١ يحدثان في تواريخ بقدرٍ متساوٍ). في هذه اللحظة تقع «كافة المحتويات الممكنة» بذاكرة الكمبيوتر في الوجود المتعدِّد الأكوان؛ لذا فمن المحتم وجود بعض التواريخ التي يحتوي فيها الكمبيوتر على برنامج ذكاءٍ اصطناعي، بل كلُّ برامج الذكاء الاصطناعي الممكنة، في كل حالاتها الممكنة، بقدر ما تستطيع ذاكرةُ الكمبيوتر أن تحتوي. بعض تلك البرامج تمثيلٌ لك على قدرٍ كبيرٍ من الدقة، تعيش في بيئة واقعٍ افتراضيٍّ تشبه بيئتك الحقيقية إلى حدٍّ ما. (لا تملك أجهزة الكمبيوتر اليومَ ذاكرةً تكفي لمحاكاة بيئةٍ واقعيةٍ محاكاةً دقيقة، ولكن كما أسلفتُ في الفصل السابع، إني على ثقةٍ من امتلاكها ما يفوق الكافيَ لمحاكاة إنسان.) يوجد أيضًا أناسٌ يمرون بسائر حالات المعاناة الممكنة؛ لذا فسؤالي هو: هل من الخطأ أن نشغل الكمبيوتر، ونضبطه لتنفيذ كافة تلك البرامج في آنٍ واحدٍ في تواريخ مختلفة؟ أتكون هذه — بحقٍّ — أبشعَ جريمةٍ ارتُكِبت على الإطلاق؟ أم أنه فعلٌ غير مستحَبٍّ فقط لأن الحجمَ الإجماليَّ لكل التواريخ المحتوية على معاناةٍ ضئيلٌ جدًّا؟ أم أنه أمر هيِّن وتافه؟

ثَمَّةَ مثال أكثر الْتِباسًا للنوع الإنساني من التفكير، وهو «حجة يوم القيامة». إنها تحاول أن تُقدِّر متوسط عمر الفرد من نوعنا بافتراض أن الإنسان العادي في منتصف المسافة تقريبًا من تسلسل كل البشر؛ ومن ثَمَّ ينبغي أن نتوقَّع أن يبلغ إجمالي عدد البشر الذين سيعيشون على الإطلاق ضعف مَن عاشوا منذ الأمد حتى الآن. هذا تكهُّن بالطبع، وهو سبب يكفي لاستحالة كونه حجةً صحيحة، لكن دَعْني أتناوله لوهلةٍ بنفس قواعده؛ بدايةً لا تصحُّ هذه الحجة على الإطلاق إذا كان إجمالي عدد البشر لا متناهيًا؛ ففي تلك الحالة سيكون كل إنسانٍ يأتي للحياة في موقعٍ مبكرٍ غير معتادٍ من التسلسل، وعلى هذا نستنتج من ذلك — إذا استنتجنا أي شيء — أننا في بداية اللانهاية.

وإلى جانب ذلك، كم يبلغ متوسط عمر الإنسان؟ ستتم معالجةُ الأمراض والشيخوخة في أقرب وقتٍ ممكن — في الأعمار القليلة المقبلة بالقطع — وستستطيع التكنولوجيا منْع الموت بفعل جرائم القتل أو الحوادث عن طريق ابتكار نسخٍ احتياطيةٍ من حالات أمخاخنا، يمكن تحميلها إلى أمخاخٍ جديدةٍ شاغرةٍ في أجسادٍ مطابقةٍ لجسد الميت. وبمجرد أن توجد هذه التكنولوجيا سيرى الناس أن من الحمق ألَّا يصنعوا «لأنفسهم» نُسَخًا احتياطيةً منتظمةً أقل ممَّا يصنعون اليومَ فيما يتعلَّق بأجهزة الكمبيوتر خاصتهم. على الأقل سيضمن التطوُّر ذلك؛ لأن مَن لن يصنعوا تلك النسخ سيهلكون تدريجيًّا؛ لذا ستكون هناك نتيجة واحدة ممكنة: خلود فعلي للجنس البشري برُمَّته، يكون فيه الجيل الحالي آخِر مَن يحيا عمرًا قصيرًا؛ وبهذا لو كان لنوعنا بالرغم من ذلك عمرٌ متناهٍ، فإن معرفة إجمالي عدد البشر الذين سيَحيَوْن على الإطلاق لا تضع حدًّا أقصى لذلك العمر؛ لأنها لا تستطيع أن تخبرنا مدةَ حياة البشر القادرين على الخلود في المستقبل، التي سيَحيَوْنها قبل أن تقع الكوارث المنتظرة.

كتب عالم الرياضيات فيرنر فينجي مقالًا مهمًّا عام ١٩٩٣ تحت عنوان «التفرُّد التكنولوجي القادم»؛ قَدَّر فيه أن التنبُّؤَ بمستقبل التكنولوجيا سيصير — في غضون الثلاثين عامًا القادمة — أمرًا مستحيلًا، وهو حدث يُعرَف اليومَ ببساطةٍ باسم «التفرُّد». ربط فينجي ما بين التفرُّد القادم وبين تحقيق الذكاء الاصطناعي، وتمركزَتِ النقاشات التي تبعَتْ ذلك المقال حول هذه النقطة. «أرجو» بكل تأكيدٍ أن يكون الذكاء الاصطناعي قد تحقَّقَ عندئذٍ، لكني لا أرى إشارةً للتقدُّم النظري الذي حاججتُ بضرورةِ استباقه له؛ ومن ناحيةٍ أخرى، لستُ أرى ما يدعو إلى تمييز الذكاء الاصطناعي باعتباره تقنيةً غير مسبوقة؛ فلدينا بالفعل مليارات البشر.

يؤمن أغلب مؤيدِي التفرُّد بأن سبق الذكاء الاصطناعي سيليه على الفور بناءُ عقولٍ «خارقة»، وأن «الحقبة البشرية ستنتهي» عند هذا الحد، بحسب تعبير فينجي؛ لكن نقاشي حول عمومية العقول البشرية يستبعد هذا الاحتمالَ. لما كان البشرُ بالفعل بنَّائين ومفسرين عموميين، فباستطاعتهم بالفعل تجاوُزُ أصولهم الضيقة الأفق؛ ومن ثَمَّ لا يمكن أن يوجد شيءٌ كعقلٍ خارق. إن زيادة الأتْمتة هي الشيء الممكن فحسب؛ ممَّا يسمح للنوع الموجود من التفكير البشري أن يُنفَّذ تنفيذًا أسرع، وبمزيدٍ من ذاكرةٍ عاملة، وبتوكيل مراحل «الجهد» إلى الآليين (من غير ذوي الذكاء الاصطناعي). لقد تم قدر كبير من ذلك بالفعل إزاء أجهزة الكمبيوتر والآلات الأخرى، وكذلك بالاقتران مع الزيادة العامة في الثروة، التي ضاعفَتْ عددَ البشر القادرين على قضاء وقتهم في التفكير. من الممكن حقًّا أن نتوقَّعَ لذلك أن يستمر؛ على سبيل المثال: ستزيد الواجهاتُ ذات الكفاءة العالية بين البشر وأجهزة الكمبيوتر؛ ممَّا سيُتوَّج ولا ريب بإصدار ملحقاتٍ إضافيةٍ للعقول. ولكنَّ عقولَ الذكاء الاصطناعي الفائقة السرعة لن تنفِّذَ أبدًا مهامَّ من نوعية البحث على الإنترنت؛ فلن تجدها تبحث في مليارات الوثائق بإبداعٍ للبحث عن معنًى؛ لأنها لن ترغب في تأدية تلك المهام كما لن يرغب البشر في تأديتها. ولن يتناول العلماء أو الرياضيون أو الفلاسفة الاصطناعيون مفاهيمَ أو حججًا لا يقدر البشرُ بطبيعتهم على استيعابها. توجب العموميةُ المساواةَ التامة بين البشر والذكاء الاصطناعي في كافة الجوانب المهمة.

وبالمثل، من المفترض عادةً أن التفرُّدَ لحظةُ اضطرابٍ وخطرٍ غير مسبوقَيْن؛ إذ يصبح معدلُ الابتكار أسرعَ من قدرة البشر على مجاراته؛ لكن هذا مفهوم خاطئ وضيق الأفق. ساد أثناء القرون القليلة الأولى من التنوير شعورٌ بأن الابتكار السريع والمتسارع قد خرج عن السيطرة، لكن قدرتنا على مجاراة التغيُّرات في التكنولوجيا، وأساليب المعيشة، والمعايير الأخلاقية، وغير ذلك والاستمتاع بها؛ باتَتْ تتزايد هي الأخرى، في حين ضعفت بعضُ الميمات المعادية للعقلانية التي اعتادَتْ أن تُحطِّم قدرتَنا هذه واختفَتْ. وفي المستقبل، عندما سيرتفع معدلُ الابتكار هو الآخَر بسبب الزيادة المطلقة في سرعة وإنتاجية الملحقات الإضافية للعقول وأجهزة كمبيوتر الذكاء الاصطناعي، ستتزايد قدرتُنا على التواؤم مع كل ذلك بنفس المعدل أو بأسرع منه؛ فإذا أصبح الجميع قادرين فجأةً على التفكير بسرعةٍ أكبر بمقدار مليون مرة، فلن يشعر أيٌّ منهم بتعجُّلٍ نتيجةً لذلك. في ضوء هذا، أرى أن تصويرَ مفهوم التفرُّد باعتباره نوعًا من التوقُّفِ خطأٌ. ستستمر المعرفة في النمو المطرد بتصاعدٍ أُسِّيٍّ أو أسرع، وهذا في حد ذاته مذهلٌ بالقدر الكافي.

رأى عالمُ الاقتصاد روبين هانسون أن تاريخ نوعنا قد شهد عدة تفرُّدات، مثل الثورة الزراعية والثورة الصناعية؛ يمكن القول بأن حتى التنوير الأقدم كان «تفرُّدًا» طبقًا لذلك التعريف. مَن كان يمكنه أن يتنبَّأ بأن شخصًا عايَشَ الحربَ الأهلية الإنجليزية — وهي صراعٌ دامٍ بين متعصِّبين دينيين وبين ملكيةٍ مستبِدَّة — ثم انتصارَ المتعصبين الدينيين عام ١٦٥١، يمكن أن يحيا ليشهد أيضًا ميلادًا سلميًّا لمجتمعٍ أرسى الحريةَ والتعقُّلَ كملامحَ أساسيةٍ له؟ لقد تأسَّسَت الجمعية الملكية على سبيل المثال عام ١٦٦٠؛ في تطوُّرٍ كان من العسير مجرد تصوُّره قبل جيلٍ واحدٍ من ذلك العام. يَعتبر روي بورتر عامَ ١٦٨٨ بدايةَ التنوير الإنجليزي. هذا هو تاريخ «الثورة المجيدة»، التي كانت بدايةَ حكومةٍ دستوريةٍ من الدرجة الأولى، إلى جانب العديد من الإصلاحات العقلانية الأخرى التي شكَّلَتْ جزءًا من ذلك التغيُّر العميق ذي السرعة المذهلة في الرؤية العالمية السائدة.

هذا، ويختلف الزمنُ المستغلق على التنبُّؤ العلمي بحسب الظواهر المختلفة؛ فلكل ظاهرةٍ تلك اللحظة التي قد يبدأ فيها خلْقُ المعرفةِ الجديدة في صنْعِ فارقٍ جوهريٍّ فيما يحاول المرءُ التنبُّؤَ به. ولأن تقديراتنا لذلك أيضًا عرضة لنفس نوع الأفق، ينبغي لنا حقًّا أن نفهم «كافةَ» تنبُّؤاتنا باعتبارها تتضمَّن شرطًا نصُّه: «ما لم يتدخَّلْ خلْقُ المعرفةِ الجديدة».

لبعض التفسيرات مدًى يمتدُّ إلى المستقبل البعيد، ويصل إلى أبعدَ من آفاقٍ تحجب التنبُّؤَ بأغلب الأشياء الأخرى، وأحدها هذه الحقيقة نفسها، ومنها أيضًا الإمكانياتُ اللامتناهية للمعرفة التفسيرية، وهو موضوع هذا الكتاب.

ستذهب سدًى محاولةُ التنبُّؤِ بأي شيءٍ فيما وراء أفقه الخاص؛ فهي في الحقيقة تكهُّنٌ، على عكس «التساؤُلِ» عمَّا هنالك. عندما يقود التساؤلُ إلى الافتراض، يشكِّل ذلك «التأمُّلَ»، وهو لا يناقض العقلانيةَ أيضًا، بل إنه بالغُ الأهمية. ستبدأ كلُّ فكرةٍ جديدةٍ غير متوقَّعةٍ بشدةٍ تجعل المستقبل غيرَ قابلٍ للتنبؤ به في صورة تأمُّل. ويبدأ كلُّ تأمُّلٍ بمشكلة: تستطيع «المشكلاتُ» المتعلِّقة بالمستقبل أن تصل إلى أبعدَ من أفقِ التنبُّؤ أيضًا، وللمشكلات حلولٌ.

وفيما يتعلَّق بفهم العالم المادي، نحن تقريبًا في نفس موقع إراتوستينس فيما يتعلَّق بالكرة الأرضية؛ فقَدِ استطاع أن يقيس محيطَها بدقةٍ لافتة، وعلم الكثيرَ عن جوانبَ معينةٍ منها، أكثر كثيرًا ممَّا علم عنها أسلافُه الذين سبقوه ببضعة قرونٍ فحسب. لا بد أنه كان يعرف أمورًا كالفصول في أقاليم الأرض المختلفة التي لم يكن يملك عنها دليلًا، لكنه كان «يعرف» كذلك أن أغلب ما هو موجود هنالك أبعد من معرفته النظرية ومن مداه المادي أيضًا.

لا نستطيع بعدُ قياسَ الكون بالدقة التي قاس بها إراتوستينس محيطَ الكرة الأرضية. ونحن أيضًا «نعلم» مدى جهلنا؛ إذ نعلم من العمومية على سبيل المثال أن الذكاء الاصطناعي ممكنٌ بواسطة ابتكارِ برامجَ حاسوبية، لكنْ لا فكرةَ لدينا عن كيفية ابتكار (أو تطوير) البرنامج الصحيح. إننا لا نعلم كنْهَ الكيفيات ولا آلية عملِ الإبداع، مع أن أمثلةً حيةً من الكيفيات والإبداع تكمن فينا جميعًا. لقد علمنا بأمر الشفرة الوراثية منذ عقودٍ مضَتْ، ولا نعلم بعدُ لماذا تحظى بالمدى الذي لها. نعلم أن كلتا النظريتين الأساسيتين السائدتين في الفيزياء يجب أن تكونَا خاطئتين، ونعلم أن ﻟ «الكيانات الذكية» أهميةً جوهرية، ولا نعلم إنْ كنَّا من بينها أم لا؛ ربما نفشل أو نستسلم، وتكون الحيوات الذكية الناشئة في بقاعٍ أخرى من الكون هي بدايةَ اللانهاية؛ وهكذا الحال في كل المشكلات التي سردتها وغيرها الكثير.

تخيَّلَ ويلر ذات مرةٍ كتابتَه لكل المعادلات التي قد تُمثِّل القوانينَ المطلقة للفيزياء على أوراقٍ تفترش الأرضَ، ثم قال:

قِفْ، وانظُرْ إلى كل تلك المعادلات، ربما كان بعضها مبشِّرًا أكثر من غيره، ثم أَشِرْ بإصبعك آمِرًا، وأعطِ الأمرَ «طيري!» لن تضع أيُّ معادلةٍ منها جناحين وتقلع، أو تطير؛ ومع ذلك «يطير» الكون.

سي دبليو ميزنر، وكيه إس ثورن، وجيه إيه ويلر
من كتاب «الجاذبية» (١٩٧٣)

لا نعلم لماذا «يطير» الكون. ما الفارق بين القوانين المجسدة في الواقع المادي وغير المجسدة؟ ما الفارق بين محاكاةٍ حاسوبيةٍ لكائنٍ ذكيٍّ (وهو يجب أن «يكون» كذلك طبقًا للعمومية) وتسجيلٍ لتلك المحاكاة (لا يمكن أن يكون كائنًا ذكيًّا)؟ عندما تُجرَى محاكاتان متطابقتان، هل توجد مجموعتان من الكيفيات أم واحدة؟ هل تتضاعف القيمة الأخلاقية أم لا؟

إن عالمنا، الذي هو أكبر بكثيرٍ من عالم إراتوستينس، وأكثر نظامًا وتعقيدًا وجمالًا، والذي نفهمه ونتحكَّم فيه إلى حدٍّ كبيرٍ جدًّا لا يمكن أن يتصوَّرَه؛ يظلُّ مع هذا بالنسبة إلينا الآن بنفس الغموض — ولكنه منفتح — الذي بَدَا عليه في عيون إراتوستينس. لقد أشعلنا بضعَ شموعٍ هنا وهناك فحسب، نستطيع أن نترنح في ضيائها الضيق الأفق إلى أن يباغتنا ما لا علمَ لنا به ويمحوَنا من الوجود، أو أن نقاوم. نرى بالفعل أننا لا نحيا في عالمٍ بلا معنًى. لقوانين الفيزياء معنًى: العالم قابل للتفسير. توجد مستويات أعلى من الانبثاق ومستويات أعلى من التفسير. نستطيع الوصول إلى تجريداتٍ عميقةٍ في الرياضيات، والأخلاق، والجمال. يمكن ابتكار أفكارٍ ذات مدًى هائلٍ. لكن العالم يعجُّ بغير المفهوم وما لن يصبح مفهومًا إذا لم نسعَ بأنفسنا لإصلاح هذا؛ الموت غير مفهوم، الركود غير مفهوم، فقاعة المعنى في العبث السرمدي غير مفهومة. ستعتمد معرفة ما إذا كان العالم له معنًى على اختيار الكيانات الذكية — أشباهنا — فيما يتعلَّق بكيفية التفكير والتصرُّف.

لدى الكثيرين نفورٌ من اللانهاية بأشكالها المختلفة، لكننا لا نملك خيارًا إزاء بعض الأمور. يوجد أسلوبُ تفكيرٍ واحدٌ قادرٌ على تحقيق التقدُّم، أو البقاء على المدى البعيد، وهو أسلوب السعي وراء تفسيراتٍ جيدةٍ بواسطة الإبداع والنقد. تنتظرنا اللانهاية في كل الأحوال، وكلُّ ما نستطيع أن نختاره هو ما إذا كانت لانهاية الجهل أم المعرفة؛ الخطأ أم الصواب؛ الموت أم الحياة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤