تاريخ علم الفراسة

الفراسة عند العرب «علمٌ من العلوم الطبيعية تُعرف به أخلاق الناس الباطنة من النظر إلى أحوالهم الظاهرة، كالألوان والأشكال والأعضاء، أو هي الاستدلال بالخَلق الظاهر على الخُلق الباطن»، وأما الإفرنج فيُسمونه بلسانهم physiognomy وهو اسم يوناني الأصل مركَّب من لفظين معناهما معًا «قياس الطبيعة أو قاعدتها» والمراد به هنا الاستدلال على قوى الإنسان وأخلاقه من النظر إلى ظواهر جسمه.

والفراسة قديمة؛ يقال إن هوميروس الشاعر اليوناني كتب شيئًا منها في علم الكفِّ نحو القرن العاشر قبل الميلاد، وأنكر بعضهم ذلك، ولكنهم لا ينكرون أنه كان على بيِّنة من هذا الفن؛ يستدلُّون من وصفه ترسيتس، وإليك قوله في ذلك نقلًا عمَّا نظمه البستاني من الإلياذة:

سَفِهٌ له قذْف الشتائم ديدنٌ
وخصومة الحكام أقبح خطة
وقِحٌ تجاوز كل حدٍّ وهو إن
يستضحك القوم استطال ببهجة
لم يرعَ قطُّ مقامه وغدا بهم
خَلقًا وخُلقًا شرَّ أهل الحملة
هو أَكْبَسٌ وأمَكُّ أَفْدعُ أعرج
وشعوره كادت تُعدُّ بشعرة
كتفاه قُوِّستا لخامل صدره
وبصدره لم يحوِ غير ضغينة

يريدون أنه استدلَّ على أخلاق ترسيتس الباطنة من أوصافه الظاهرة.

ولكن أبقراط أبا الطب أشار إلى شيء من هذا العلم سنة ٤٥٠ قبل الميلاد مختصرًا، وهو يعتقد بتأثير العوارض الخارجية على الأخلاق وظهور أثر ذلك في الملامح، وغالينوس أقلوديوس الحكيم اليوناني من أهل القرن الثاني للميلاد كتب فصولًا مطوَّلة في علم الفراسة.

ولاحظ آخرون أن المصريين القدماء كانوا على شيء من علم الفراسة؛ بدليل ما قرءُوه في بعض قراطيس البردي المكتوبة في عصر العائلة الثانية عشرة في «نحو القرن العشرين قبل الميلاد».

وذكر يوسيفوس المؤرخ الإسرائيلي في كلامه عن قيصر أنه استطلع نفاق ألكسندر من النظر إلى خشونة كفَّيه.

على أن الفراسة لم تدوَّن وتُعتبر علمًا مستقلًّا قبل ما كتبه أرسطو الفيلسوف اليوناني الشهير في القرن الرابع قبل الميلاد؛ فقد خصَّص لهذا العلم ستَّة فصول، فذكر في الإنسان علامات تدل على قوته أو ضعفه، على ذكائه أو غباوته، على حِذْقه أو بلادته، واستدلَّ على ذلك أيضًا من الملامح والألوان وأشكال الشعر والأعضاء والقامة والصوت، ومن مقابلة أوجه الناس بأوجه الحيوانات، فمن كان في وجهه ملامح أحد الحيوانات حكم بقرب أخلاقه من أخلاق ذلك الحيوان. وعنده لكل حيوان أخلاق خاصَّة كما سنبينه في بعض فصول هذا الكتاب.

وانتشرت فراسة أرسطو هذه في الأجيال المظلمة وعوَّل الناس عليها وترجموها إلى أكثر اللغات، وألف غيره على مثالها مما يضيق هذا المقام عن استيفائه.

أما العرب فقد كانوا في الجاهلية يعتقدون أشياء تُعدُّ من قبيل الفراسة؛ كالقِيافة والرِّيافة والعِيافة.

وكانت القيافة عندهم صناعة يُستدل بها على معرفة أحوال الإنسان يُسمونها قيافة البشر؛ لأن صاحبها ينظر إلى بشرات الناس وجلودهم وما يتبع ذلك من هيئات الأعضاء وخصوصًا الأقدام، ويستدل بتلك الأحوال على الأنساب، والرِّيافة عبارة عن تعريف الرائف للماء المستجنِّ في الأرض أقريبٌ هو أم بعيدٌ بشمِّ رائحة ترابها ورؤية نباتها وحيوانها ومراقبة حركاته، والعِيافة تتبُّع آثار الأقدام والأخفاف والحوافر في الطُّرق التي تتشكل بشكل القدم التي تقع عليها، ومن ذلك علم «الاختلاج»، وهو الاستدلال على ما سيقع للإنسان من النظر إلى اختلاج أعضائه من الرأس إلى القدم.

أما في الإسلام فقد نقلوا علم الفراسة في جملة ما نقلوه عن اليونان والرومان من علوم الطب وغيرها، فألَّف فيه بعضهم كتبًا مستقلة، وذكرهُ آخرون في جملة ما كتبوه في علوم الطب، كالرازي الطبيب فإنه لخَّص كتاب أرسطو وزاد فيه، وابن سينا أشار إلى كثير منه في كتبه، وكذلك ابن رشد والشافعي وابن العربي وغيرهم.

وكانت كتب هؤلاء وأمثالهم من علماء الإسلام عمدة الإفرنج في أجيالهم المظلمة، وعنهم أخذ غيرهم من كتَّاب العربية في ذلك الزمن، ولم يصل إلينا منها إلا القليل.

ومن أشهر ما وصل إلينا من كتب العرب في علم الفراسة كتاب «السياسة في علم الفراسة» لأبي عبد الله شمس الدين محمد بن أبي طالب الأنصاري المتوفى سنة ٧٣٧ للهجرة، وفيه أحكام علم الفراسة منسوبة إلى أصحابها بأحرف يرمز كل حرف إلى اسم القائل، وقد طُبع هذا الكتاب بمصر سنة ١٨٨٢.

وعثرنا في المكتبة الخديوية بالقاهرة على منظومة خطِّيَّة في علم الفراسة «لمحمد غرس الدين ابن غرس الدين بن محمد بن خليل خطيب الحرم النبوي»، وعلى كتاب خطِّيٍّ اسمه «البهجة الأنسية في الفراسة الإنسانية» للعارف بالله زين العابدين محمد العمري المرصفي، وعلى «مختصر في علم الفراسة»، وعلى رسالة «في الفراسة والرمل»، وأخرى في «علم الفراسة لأجل السياسة»، ذلك كل ما ظفرنا عليه من الكتب العربية في هذا الموضوع، وكلها مختصرات لا تشفي غليلًا.

وقد اطَّلعنا على شذرات في بعض كتب الأدب كالمستطرَف للأبشيهي، وسعود المطالع للإبياري، والعقد الفريد لابن عبد ربه، والكشكول، وفي حياة الحيوان، وكشف الظنون، وغيرها.

وانتشر علم الفراسة في الأجيال المظلمة، ولم يكتفِ أصحابه بالاستدلال من الملامح على الأخلاق والقوى، ولكنهم صاروا يتنبئون بالغيب، وتوسَّعوا بذلك حتى صاروا يستدلُّون من خطوط الكفِّ وخطوط الجبين وبأشكال الأعضاء على مستقبل الإنسان من سعدٍ أو نحسٍ، وخلطوا بينها وبين النجامة والسحر، فأصبحت الفراسة من العلوم الخرافية، وزادت الناس أوهامًا على أوهامهم، والمرء إن لم يزجره العلم أو الدين فإنه صائر إلى الأوهام من تلقاء نفسه، وعظُم البلاء في أوروبا حتى أصدر جورج الثاني ملك إنكلترا أمرًا بجَلد كل من يدَّعي هذا العلم أو يتعاطاه، وفعل مثل ذلك غيره من ولاة الأمور ورجال الدين، فقلَّت ثقة الناس بعلم الفراسة وكاد يتلاشى أمره.

ثم عاد فلبس ثوبًا جديدًا على أثر ظهور فجر التمدن الحديث المؤسَّس على العلم الصحيح؛ إذ أخذ الناس في تمحيص الحقائق، فنظروا في علم الفراسة بعين العلم الطبيعي المبني على المشاهدة والاختبار، فألَّف ببتيستابورتا أحد الإيطاليان في أواخر القرن السادس عشر رسالة في الفراسة الإنسانية بيَّن فيها حقيقة هذا العلم وفرَّق بينه وبين ما أدخلوه فيه من الخرافات والأوهام، وهو أول من نبَّه الأذهان إلى ذلك، وكتب غيره وبعده ولكنهم لم يفُوا الموضوع حقَّه.

وفي ١٧٧٨ ظهر كتاب العالم الألماني والباحث الشهير جون كسبار لافاتر، وقد بحث في هذا العلم بحثًا طبيعيًّا مبنيًّا على الفيسيولوجيا والتشريح ونواميس الأخلاق، وزيَّنه بالرسوم العديدة. ولم يكد يظهر في عالم المطبوعات حتى نُقل إلى كل لغات أوروبا، وبين يدينا نسخة من ترجمته الإنكليزية في طبعة حديثة متقَنة، تزيد صفحاتها على خمسمائة صفحة ورسومها على أربعمائة رسم. ولكن الكتاب لا يخلو من المَغالط والأوهام، ولا غَرْوَ؛ لأن لافاتر ذكر في كتابه خلاصة ملاحظاته ومطالعاته الخصوصية على طريقة البحث الجديد، وكل جديد يحتاج إلى تنقيح، على أن كتابه هذا أول كتاب استوفى هذا البحث، وأما ما تطرَّق إلى أحكامه من الأوهام فقد استدركها من جاء بعده من الباحثين، وأكثرهم نسج على منواله، وفيهم الألمان والإنكليز والفرنساويون.

وأوسع ما وقع إلينا من هذه المؤلفات كتاب بالإنكليزية تأليف صموئيل ولس، صاحب جريدة الفرينولوجيا، نُشر في نيويورك سنة ١٨٦٦ في نحو ثمانمائة صفحة، وفيه ألف رسمٍ.

فعلى ما تقدم ذكره من الكتب العربية والإفرنجية جُلُّ معتمَدنا في كتابة هذا الكتاب، ناهيك بما وقفنا عليه من آراء أهل العلم غير هؤلاء، وما رجعنا إليه من كتب المراجعة كالموسوعات والقواميس والفهارس، وما اختبرناه بنفسنا أو استدللنا عليه بمطالعاتنا، وعلى الله الاتِّكال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤