خاتمة

نيتشه والتأمين ضد أحداث الحياة وصروفها

١

أعتقد أن أيَّ شخص يقضي وقتًا طويلًا بصحبة نيتشه، ويعامل كتاباته ليس باعتبارها مجرد «نصوص» يجب شرحها وإنما باعتبارها تجارب في الحياة يكون القارئ مدعوًّا للمشاركة فيها، لا بد أن ينتابه أحيانًا إحساس بالنفور، الذي يتناوب معه إحساس بالإثارة والامتنان اللذين يشعر بهما المرء بفضل وفرة آراء نيتشه وحداثة تناوله للعديد من الموضوعات المستهلكة. آمُل أن تكون الفصول السابقة من هذا الكتاب قد أوضحت قدرًا من دفء تجاوبي تجاه نيتشه؛ لأني أرغب الآن في تسجيل بعض ردود الأفعال التي يستثيرها داخلي عندما أمرُّ بحالة من الشك والريبة. في البداية، ما سأفعله هو الإسهاب في الحديث عن بعض النقاط التي سبق أن أشرت إليها بالفعل، ولكنها تبدو لي في هذه اللحظة أنها ذات قيمة أكبر مما كنت أشعر بها أحيانًا، أو أكبر بلا شك مما سأشعر بها مجددًا. وبما أنه مصمِّم — كما رأينا — سواء هو ومتحدثه الرسمي زرادشت، على ضمِّ أكثر المريدين معارضة، فسوف أعمِد إلى إثارة بعض المسائل الجوهرية حول مناهجه وآرائه، وهي مسائل أوليَّة في أغلبها ولكن يجب عدم إخفائها في هذا الصدد. تنبع كلٌّ من المسائل المنهجية والأساسية من الإحساس بأن أيًّا كان ما يزاوله نيتشه، فإنه كاتب مصمِّم ليس فقط على ألَّا يُخدَع، بل أيضًا ألَّا يكون عُرضةً للخداع، ولهذا يشعر الدارس الجاد — مثلما يشعر عند قراءة فيتجنشتاين — أنه عاجلًا أو آجلًا ما يُوقَع به دائمًا ككبش فداء.

إنَّ أكثر الأدوات شيوعًا التي يستخدمها نيتشه ليعصم نفسه من أيِّ انتقادات هي ادِّعاء أنه لا يجزم بأيِّ شيء قطعًا، على الرغم من المظاهر الواضحة التي تدل على عكس ذلك؛ وهي الحالة التي سأحاول أن أبرهنها والتي ينجذب إليها نيتشه بشدة على الرغم من أنني لا أشك في أنه كان سينكر ذلك بانفعال. إنه مستكشِف ومُجرِّب، مصمِّم فقط على أن يكون مثالًا يُحتذَى في كيفية «اكتشاف المرء طريقه الخاص» — هذا إذا استعرنا العبارة المذكورة في «العِلم المَرِح» ٣٣٨ — وهو أمر صعب للغاية لدرجة أن المدافعين عن دين الشفقة دائمًا ما يتدخلون في شئون الآخرين لكي يتجنبوا الأمور الأشد قسوة في حياتهم الخاصة. وبما أن نيتشه مهتم فقط بأولئك الأفراد الذين يتوسَّم فيهم العظمة، فإنه بالضرورة يُلزِم نفسه بدرجةٍ قصوى معينة من الفردية. ويعني هذا أن المرء يمكن أن يكون مُرشَّحًا للعظمة بشرط أن يُعرِّف نفسه، من بين أمور أخرى، بصفته نقيضًا للآخرين. ومن ثمَّ، سيظل المرء دائمًا — طوعًا أو كرهًا — واضعًا الآخرين نُصْبَ عينيه، وهو الثمن الذي سيضطر أيُّ شخص مؤمن بالفردية أن يدفعه، بأي نسبة في أي مرحلة متقدمة من ثقافته. إنه من دون شك ثمنٌ سيضطر نيتشه إلى دفعه، مثلما يوضِّح توبيخه المطوَّل لمعاصريه دون كَلَلٍ. وهو يحب أن يعطي انطباعًا باللامبالاة المتغطرسة تجاه الآخرين؛ ومع هذا فهو مفتون بصور الانحطاط المتنوِّعة التي يظهرونها حتى إنه لا يُحلِّل أيًّا منها بدقة، ولا يوضِّح أننا «نحن الآخرين» لسنا كذلك.

ما أحاول إثباته هو أن نيتشه يعتقد فيما يبدو أن منهجيته التجريبية واللادوجماتية، علاوةً على الادعاء الشديد الأهمية الذي صاغه قائلًا: «إنني لست متعصِّبًا بما يكفي لنظامٍ ما، ولا حتى لنظامي «أنا»»، تُقْحِمه في شكلٍ من أشكالِ استقلالية المنظور وكذلك استقلالية المبدأ الأساسي. ولكني لا أرى سببًا في ألَّا يعتقد المرء أن الأمر راجع إليه فيما يتعلق باستنباطِ أساسٍ لآرائه الأخلاقية، وأن يستنتج أن أفضل شيء بالنسبة إليه هو أن يصوغ نفسه بناءً على شخص آخر. وإذا لم يصدِّق المرء على نحو بديهي أنه لكي يكون نفسَه يعني أن يكون مختلفًا جذريًّا عن أيِّ شخص آخر، فلن يكون ثمة خلاف، ولا حتى على نحو أوَّلي، حول كون المرء فرديًّا والاعتقاد بأن أفضل شيء يمكن للمرء عمله هو النظر إلى شخص آخر بصفته قدوته. ستظل درجة تجميل نيتشه للأخلاق أمرًا قابلًا للمناقشة، ولكن الجانب الوحيد الذي تبدو فيه وخيمة بالفعل هي فكرة أنه مثلما أن الأعمال الفنية يجب الآن أن تكون أصلية بصورة تتخطَّى مجرد تميُّزها عن غيرها، فكذلك الأفراد أيضًا يحملون مطلبًا أخلاقيًّا مماثلًا مفروضًا عليهم. ومثلما أشرت في الفصل الخامس، فإن العلاقة بين الأعمال الفنية، على أيِّ نحو في ثقافتنا، تختلف إلى حدٍّ ما عن العلاقة بين الأشخاص. ويبدو أن نيتشه يعتقد أن مجموعةً من الأشخاص المتشابهين بدرجة بالغة سيكونون مُملِّين وغير مُجدِين مثل مجموعة من الأعمال الفنية المتشابهة بدرجة بالغة. وإذا ألقيتَ على العالم نظرة بانورامية، وهو أمر أحيانًا ما يتظاهر نيتشه بعمله، فقد تكون النتيجة أن يعتريك الضجر تجاه «الرجل العادي»، ولو كان الناس شديدي الشبه بعضهم ببعض، إذن فقد يسأم منهم أيُّ شخص؛ وحتى مرحلة معينة قد يكون الوضع أيضًا أن يصير الأفراد الذين يشجعون وحدة المنظور مُملِّين. لكن نادرًا ما يحتاج المرء إلى الانتقال من هذا إلى تطرُّف المطالبة بأن يتسم كلُّ شخص بأرقى صورة ممكنة. وطبقًا للتعريف، فإن العظمة صفة نادرة. ولا يعني هذا أنه يجب ازدراء معظمِ الأفراد أو النظر إليهم بصفتهم غيرَ ضروريين نظرًا إلى عدم تحلِّيهم بهذه الصفة أو عدم تطلُّعهم إليها.

أحد أسباب حماس نيتشه البالغ تجاه عدم تغيير معتقدات الناس هو أنه على الرغم من إلحاحه علينا كي نكون أنفسنا، ويكون لكلٍّ منا طابعه المميَّز، فإنه لا يُلزِم نفسه بأيِّ مَثلٍ أعلى يجب استكشافه والدفاع عنه. بيد أن المصطلحات التي يستخدمها في مديحه — تلك التي يحاول أن يبقيها رسميَّة تمامًا — هي تلك التي تمكِّننا من انتقاء أفراد معينين لأنهم يُظهِرون الصفات التي تُحدِّدها هذه المصطلحات. فعلى سبيل المثال: يُعتبَر «الانتصار على الذات» مصطلحًا «مطلقًا» إلى حدٍّ ما؛ فيمكننا أن نقول: إن جوته انتصر على نفسه؛ لأننا نعلم أنه من دون اهتماماته الخاصة لربما لم يُصبِح أكثر من مجموعة أفكار متناثرة، بل ولَفقَدَ تدريجيًّا قدرته على التأثير بها، ولكن بدلًا من هذا كان كلًّا مؤثرًا على نحو مدهش، ولهذا تأثَّر نيتشه به كثيرًا في كتاباته اللاحقة، واعتبره مثلًا يُحتذَى، وشخصًا تجب محاكاته بسبب تفرُّده.

وبناءً عليه، فإن رفض نيتشه المزعوم تجاه الذات بألَّا يقدِّم لنا أية أداة بعينها بخلاف أن نكون أنفسنا — وما من أحد سينتقد ذلك لكونه مفرطًا في التحديد — يجب ألَّا يُخفِي حقيقة أنه يميل إلى الجزم أكثر مما يصوِّر نفسه. وفكرة أنه يغيِّر باستمرار المواقف التي يبدو أنه واثق بشأنها يجب ألَّا تجعلنا ننغمس في الادعاءات التي يروِّجها بكونه تجريبيًّا. وأشك في أنه كان عاجزًا على نحو فطري عن «الاقتناع بالأمور اللايقينية»، لدرجة أنه لم يمتلك بأية درجة المِزاج الشاعري الذي يصفه كيتس بدقة. وتنبع مرونته من تأهبه المستمر لتغيير رأيه. وعندما يقول إنه ليس متعصِّبًا بما يكفي لأيِّ نظام، فإن ما يجب أن يقوله هو أنه ليس متعصِّبًا بما يكفي للتمسك بأيِّ نظام. ولا يعني هذا، بالطبع، أنه في أية مرحلة سيطرح نظامًا ما؛ فهو لم يكن صبورًا بما يُتِيح له عمل ذلك. أو ربما يعتمد الأمر على ما تقصده بكلمة نظام. لو كنت تقصد أنك تريد الاتساق بين جميع المعتقدات التي تؤمن بها، إذن فهذا مطلب أوَّلي بعدم الاستسلام للفوضى المفاهيمية. أما إذا كنت تقصد شيئًا أكبر من هذا، فلا بد من ذكره، وهو ما لا يفعله نيتشه، بغض النظر عن التعبير عن نفوره من الميتافيزيقا المتسامية.

تتسم اللاخطية المفرطة في معظم كتابات نيتشه بالعديد من الإغراءات، من بينها أنها تُمكِّن المرء من اتباع نصيحته بضمير مستريح بالغوص في أعماق كتاب «الفجر» — وهكذا الأمر مع بقية كتبه — حيثما كان يرغب المرء في ذلك؛ وتُحرِّر المرء من مشقة الدخول في سلسلة مطوَّلة من المجادلات والمناقشات المجردة. وهي تحمل في طيَّاتها بذور دمارها، مثلما يعلم أيُّ قارئ حي الضمير ومنجذب إليها. وتوجد ظاهرة استثنائية تتمثل في الطريقة التي تصدم بها فقراتٌ بعينها المرءَ بأقصى قوة، ثم ينساها العقل بعد ذلك بفترة وجيزة، غالبًا لأن فقرة أخرى — مثلما يكتشف المرء — لا تُنسَى ولا تقِلُّ قوة في موضوع مختلف إلى حدٍّ ما، قد حلَّت محلها. هذا النوع من اللامنهجية ناتج عن غياب التنظيم على أقصى تقدير، وهو شيء غير مفاجئ بالنسبة إلى عقلٍ خصب كعقل نيتشه، قادر على الاستجابة لتجربته وردود أفعال الآخرين تجاه تجاربهم لدرجة أنه يتدفق بأفكار عبقرية يقولها في عدد من الموضوعات أكبر من أيِّ فيلسوف آخر، خصوصًا لو أخذت بعين الاعتبار المعيار الذي يستخدمه نيتشه على مدار عدة صفحات بلا انقطاع. مثل هذه التدفقات من البلاغة الممتزجة بالرؤية تعني أنك تشعر بالحاجة إلى البدء في قراءة كتبه وخصوصًا تلك التي صدرت في فترة حياته الوسطى بمجرد انتهائك منها؛ خجلًا من عدم قدرتك على الاستيعاب والتذكر. إنها عملية لا تنتهي أبدًا، ولهذا السبب نحن ممتنون للغاية. ومع هذا، يجب ألَّا يكون الاتسام بالمنهجية مبجَّلًا باعتباره رفضًا قائمًا على مبادئ معينة، في حين أنه ببساطة ما يتوارد إليه على نحو طبيعي؛ قارن أيَّ أجزاء من «تأمُّلات في غير أوانها» ﺑ «إنسان مفرط في إنسانيته» وسوف ترى التطور الهائل بمجرد توقُّفه عن محاولة كتابة نثر متتالٍ بطول مقال، فضلًا عن كتاب. وسواء أكانت هذه استراتيجية دفاعية أم لا، فإن لها نفس التأثير. أما مسألة كيفية التأقلم مع نيتشه، فعلى حدِّ علمي أنها لم تتمَّ الإجابة عنها بعدُ على نحو مُقنِع. اقرأ أيَّ كتاب أو مقال عنه، ولاحظ كيف يتمحور التركيز دائمًا على بضعة تعليقات معدودات له، على الرغم من عددها الهائل وفائدتها العميقة. وعلى نحو خاص — وينطبق هذا بالطبع على كتابي — يتم التعامل مع فقراتٍ مختارة قابلة للنقاش، ربما يشيع استخدامها لبضع سنوات، تمامًا مثل ما يحدث مع أيِّ كتاب أو نحوه من كتب نيتشه في أية مرة؛ في حين أن الجزء الأكبر من كتاباته لا يحظى أبدًا بأيِّ تناوُل على الإطلاق. ومن ثمَّ، فإن نيتشه هو الخاسر بالإضافة إلى كونه الفائز الظاهري في هذا التكتيك المُحدَّد. إنه يريدنا أن ندمج مأثوراته في حياتنا، ومع هذا يدَّعي أيضًا أنه يريدنا أن ننظر إليه بعين الشك الذي لا يتزحزح. إن التعمق بحقٍّ في أحد مأثوراته العميقة سيستغرق جزءًا كبيرًا من حياة المرء؛ إذ كيف في وسع المرء أن يفعل هذا ويبقى في الوقت نفسه بعيدًا بالقدْر الذي يتطلبه الشك؟ من الواضح أن المرء لا يستطيع ذلك. وفي الحقيقة، فإن أيَّ شخص يكتب كما يكتب نيتشه يطلب من قرَّائه قدرًا كبيرًا من الثقة، على الرغم من أنه يتظاهر أنه لا يطلب شيئًا على الإطلاق في هذا السياق.

أرى أن انتقاداتي لأسلوبه قد أصبحت أكثر تعاطفًا معه مما توقعت، وهو تأثير آخر مميَّز يحدثه نيتشه المحيِّر دائمًا في قرَّائه.

٢

سننتقل الآن إلى مراجعة مختصرة لبعض مواقف نيتشه وآرائه الرئيسية، حسبما أنظر إليها، مع توجيه تركيزٍ أكبر على الطريقة التي تعمل بها هذه المواقف والآراء على حمايته من حوادث الحياة ومفاجآتها، وهو آخر شيء كان سيرغب نيتشه في أن يكون معصومًا منه. ومع هذا، يتراجع غالبًا مستوى الإلغاز في أكثر آرائه إرباكًا — من حيث مؤدَّاها وسبب اعتناقه لها — لو تقبَّل المرء أن طموح نيتشه كان منصبًّا على تكوين علاقة مع العالم وتجربته معه بحيث لا يزعجه شيء أو يروِّعه أو يصيبه بالاشمئزاز أو يجرحه. وإنه لمن الصعب تكوين هذه العلاقة؛ لأن المرء لو استطاع ذلك لأصبح عظيمًا. وقد تتضح حدَّة الأمر أكثر بتأمُّل موقف نيتشه مجددًا تجاه الشفقة. فالشفقة، بالنسبة إليه، كثيرًا ما تكون مجرد عَرَضٍ لحالةٍ أكثر عمقًا وبؤسًا مما تبدو عليه؛ إذ إن المرء، أيًّا كان، يتأثر كثيرًا بالمعاناة إلى الدرجة التي يحاول عندها تخفيف تلك المعاناة بدلًا من إدراك أنها منتشرة في كلِّ مكانٍ حتى إن محاولة تخفيفها تُعتبَر ضربًا من السذاجة. وعلى المرء أن يتبنَّى موقفًا مختلفًا تجاه الحياة، يجعل الشفقة أمرًا تافهًا. لم يصرِّح نيتشه قط بموقفه بهذا القدْر من الصراحة، ربما بسبب استيائه الشديد من دنوِّ المعاناة لدرجة أنه يرتكب الخطيئة الكبرى بكونه مهووسًا بتأمُّل الشفقة. ولو كان الإشفاق على الناس والتصرف وفقًا لذلك هو أساسًا مضيعة للوقت وللمجهود، إذن فبعد مرحلة معينة — تلك المرحلة التي يتخطاها نيتشه بلا جدال — يصبح أيضًا استمرار الحديث والخوض في هذا الموضوع مضيعة للوقت وللمجهود، ولا سيَّما أمام جمهور عنيد. والحل عندئذٍ أن ينتقل المرء إلى مستوًى لا تكون فيه الشفقة أحد الهموم التي يكترث لها، وأن يُظهِر ذلك أمام الآخرين؛ مما يجعله النموذج الذي ما كان نيتشه نفسه ليعترض عليه.

من أيِّ منظور يمكن أن يأمل المرء عمل ذلك؟ يمكن للمرء القول بأن هذا هو همُّ نيتشه التام في الكتب التي ألَّفها في ذروة نضوجه، قبل حلول الفترة النهائية من حياته. وفي واقع الأمر يُعتبَر الجزء الوارد في «العِلم المَرِح» الذي يسبق مباشرةً تحليله الأكثر شهرة عن الشفقة وتأثيراتها هو الجزء الذي يوضح فيه طموحه، وإن كان يفعل ذلك بطريقة بدائية. كما يكشف، على نحو عفوي، مدى يأس المثل الذي يصفه. سوف أقتبس فقط جزءًا منه؛ إذ إن الاستشهاد بمجرد مقطع لنيتشه في أكثر صوره البلاغية تألُّقًا يمكن أن يظلَّ له تأثير مدهش:

كلُّ من يستطيع أن يشعر بتاريخ الإنسانية في جملته بصفته «تاريخه الخاص»، سيشعر — بنوع من التعميم الكبير — بمرارة المريض الذي يفكر في الصحة، بمرارة الشيخ الذي يفكر في أحلام الشباب، بمرارة العاشق الذي انتُزِعت منه معشوقته، بمرارة الشهيد وهو يرى مثله الأعلى ينهار … لكن أن يتحمل المرء هذا الكمَّ الهائل من المرارات من كلِّ الأصناف، أن «يستطيع» تحمُّلها … أن يتحمل كلَّ هذا في روحه، أن يتحمل ما هو قديم جدًّا، وما هو جديد جدًّا، أن يتحمل الخسائر والآمال والغزوات وانتصارات الإنسانية، أن يملك كلَّ هذا في روح واحدة في نهاية المطاف، ويركزه في إحساس واحد، هذا بالتأكيد ما ينبغي أن يشكِّل سعادةً لم تعرفها الإنسانية قط حتى الآن؛ سعادة إله، كلها قوة وحب، كلها دموع وضحكات، سعادة توزع باستمرار، مثل الشمس عند المساء، ثروتها لا تنضب وتُفرَّغ منها في البحر الذي لا يشعر — مثل الشمس — أنه الأكثر ثراءً إلَّا حين يُجدِّف فيه أفقرُ صياد بمجاديف مُذهَّبة! آنذاك سيُسمَّى هذا الإحساس الإلهي إنسانية!

«العِلم المَرِح»، ٣٣٧

يبدو إمعان النظر في التفاصيل أمرًا تافهًا للغاية في مواجهة هذه الفصاحة المؤثِّرة. إنها ضربة مُحكَمة سدَّدها نيتشه بكتابته هذه الفقرة، التي بلا شك تقدِّم تفسيرًا جديدًا تمامًا لمفهوم «الإنسانية»، قبل هجومه مباشرةً على التفسيرات القديمة، التي تربط هذا المصطلح باهتمام جوهري من أجل تجنب المعاناة أو تخفيفها. لو خاض المرء بالمعنى الشامل حياة بديلة لحياة الشفقة، فإن هذه «الإنسانية الجديدة» هي ما سيبلغها المرء. ومع هذا، هل يبدو منطقيًّا التسليم حتى باحتمالية بلوغ هذه الحالة السامية؟ يُعَد هذا الأمر منطقيًّا إلى حدٍّ ما في حال الحديث عن خوض الحياة ﺑ «كل» تجاربها، مثلما هو الأمر على مدار الفترة التي زاول فيها نيتشه الكتابة، وإذا لم تكن هذه التجربة الشاملة أسهل فإنها بطريقة ما أكثر تحملًا من خوض مجموعة مختارة من «الخسائر والآمال والغزوات وانتصارات الإنسانية». على الرغم من اشمئزاز نيتشه من «اللامشروط» وازدرائه له، فقد أدمن مصطلحًا وثيق الصلة به، وهو العمومي أو الشامل. لو استطاع المرء أن يتحمل معظم الأمور، فسيعني هذا أن ثمة أمورًا لم يتحملها، وهي حالة مفهومة. ولكي يكون المرء «شبيهًا بالإله»، أو شخصًا أو فيلسوفًا تراجيديًّا، فلا بد أن يتحمل كلَّ شيء. وعلى الرغم من صعوبة بلورة هذه الفكرة وتوضيحها، يعتقد نيتشه أنه يعرف أنها سوف «تشكِّل سعادة لم تعرفها الإنسانية قط حتى الآن.» أليس من الواضح أن الإنسانية، أو حتى الإنسان الأسمى، لن يعرف هذه السعادة أو لن يستطيع معرفتها، بما أنها ليست حتى ما سمَّاه كانط «مَثلًا تنظيميًّا»؟ إن نيتشه، بدلًا من ذلك، ينتشي بقدرته الفذَّة على استخدام الكلمات بأقصى درجات الغنائية والعاطفة لرسم الحالات الوحيدة التي ستجعل الحياة محتمَلة، والتي يتضح مع ذلك أنها جميعًا ثمارٌ يحصدها الشاعر الذي يتخلَّى عن المتطلبات المُلحَّة للفيلسوف.

ثمة أمر آخر في هذه الفقرة يستحق الذكر على نحو صارم. من الأمور التي توضِّح تناقضًا بين الشفقة — بوصفها اختلاطًا في المشاعر ينفر منه نيتشه بشدة — وبين هذه الإنسانية الجديدة؛ أن المرء في الحالة الثانية يتبنَّى موقفًا، دون إشارة إلى أن المرء سيفعل شيئًا محددًا. إذا تعاطفنا مع شخص معين مكروب، فإننا «نمارس دور القدر»، فنتجاهل «التسلسل الداخلي بأكمله والتعقيدات التي تمثل كربًا بالنسبة «إليَّ» أو بالنسبة «إليك».» على الجانب الآخر، إذا لجأ المرء إلى تبنِّي نطاق المشاعر الأكبر، أو بالأحرى الكوني، تجاه كلِّ شيء، فإن هذا لا يؤدي إلى شيء من حيث الفعل. في واقع الأمر، ثمة فعل يمكن تصوُّره، سيتوافق مع حالة نيتشه المرغوبة. ولكن، على الرغم من كلِّ الحيوية المذهلة التي يتسم بها نثرُه، فإنه يبدو لي في هذه اللحظة أن نيتشه لم يكن متحمِّسًا تجاه فكرة الفعل، وإنما كان متحمِّسًا تجاه فكرة الكتابة، التي هي بلا شك جزءٌ من تفسيرِ سبب الحيوية التي يتسم بها نثره. ومجددًا، ما الذي يُفترَض أن يفعله بقيَّتنا بالطاقة والحيوية اللتين يستطيع حشدهما؟

سيكون من الممل والمحبِط الخوض في النصوص الرئيسية لإقرار نيتشه وإثبات أنها تعكس درجة مماثلة من اللاخصوصية والتشوق للتعامل على نحو متزامن مع كلِّ شيء؛ مما يعني في أية حالة أن المرء لا تكون لديه أدنى فكرة عما يجب أن يفعله «الآن»، أو السبب في وجوب أن يفعل أيَّ شيء بخلاف أيِّ شيء آخر. ومرةً أخرى، لا يسعنا إلَّا أن نتفاجأ بالمفارقة في تدقيق نيتشه الشديد الذي يتوافق مع الرغبة في عدم إنكار أيِّ شيء، لكي يُكذَّب ادعاء زرادشت بأن «الحياة كلَّها جدال على الذوق والتذوق»، بالتأكيد بسبب الإصرار الذي نقره جميعًا. وبينما يشجع المرء موقف الإقرار المريح، هل يكذب على نفسه أم «يغيِّر شكل» الماضي بشيءٍ خِلاف ذلك؟ وبينما تتحول كلُّ «هكذا كان» إلى «هكذا أردته»، فهل هذا جزء من خداع النفس أم شيء أكثر سموًّا؟ يميل المفسِّرون، فيما عدا استثناءات قليلة جديرة بالثناء، إلى عدم طرح هذه الأسئلة، كما لو أنها في حدِّ ذاتها إهانات موجَّهة إلى الذوق السليم.

إن الفقرة المأخوذة من «العِلم المَرِح»، التي تدور حول إكساب حياة المرء أسلوبًا مميزًا، تُثِير نفس الموضوعات. وفي واقع الأمر، ثمة إيحاء فيها بأن المرء هو صاحب الفعل والتصرف، كالحال عندما يتحدث نيتشه عن «الممارسة الصبورة والجهد اليومي»؛ على الرغم من أنها مجددًا تُراجِع مواقف تبدو أهم: «في هذا الموضع سترنا قبحًا لم نستطع اقتلاعه، وفي الموضع الآخر تحوَّل إلى جمال رفيع.» ومع هذا، عندما نتذكر أن شخصية المرء هي التي تكون محل النظر والتفكير، فماذا يكون هذا «التحول» إلا كذبًا على النفس؟ لنفترض أنني قلت شيئًا لشخص لكي أهينه، وأجِد لذلك وقعًا بغيضًا ومخزيًا عندما أتذكره. هل أخبر نفسي بأنني كان لدي دافع بديل؟ هل يمكنني دائمًا أن أقنع نفسي بأنني شخص صالح؟ هل تصرفي هذا سيساهم في تحسين شخصيتي؟ عندما يقول نيتشه بعد ذلك بتسعة أجزاء، في عبارة مميزة: إننا «نريد أن نكون الشعراء في حياتنا»، نتذكر أنه يقول في كتابه التالي، متخفِّيًا وراء شخصية زرادشت: «الشعراء يكذبون على نحو مفرط، ولكن للأسف، زرادشت أيضًا شاعر.»

وهكذا يواصل نيتشه حديثه، أو هذا ما يبدو لي، فيظل دائمًا مؤمنًا بالواحدية، بكيان عضوي واحد، من نوع ما؛ في «مولد المأساة» آمن بالواحد البدائي الذي يدعم المظهر الأبولوني. وبعد توقفه عن الإيمان باحتمالية وجود أيِّ نوع من النظام الميتافيزيقي، ظلَّ مرتعبًا من أهوال الوجود، ولكن تعتمد جميع وسائله على الإصرار على ضرورة أن نرى الوجود من جانب «واحد». لماذا يُفترَض أن يؤدي هذا إلى جعل الأمور أفضل وأسهل أو أيًّا كان ما يريدها عليه؟ مع هذا، ثمة جزء آخر طلسمي في «العِلم المَرِح» ٢٧٦، يتسم بالجمال الشديد، مرة أخرى، لدرجة أنه يأسِر لبَّ المرء من كثرة التفكير فيه. تتحدث هذه الفقرة عن عدم الرغبة في أن يتغير أيُّ شيء عما هو عليه، وعن أن صرف النظر هو إنكاره الوحيد. وهذا ليس بشيء أكثر من مجرد تلميح إلى فكرَتَيْه المفضَّلتين: حب القدر والتكرار الأبدي؛ فالأولى هي صيغة لتقبل كلِّ ما تقدمه الحياة كيفما يكون، والثانية هي السبب في أن ينحو المرء هذا المنحى في حياته.

في كتاب «إرادة القوة»، الذي لم أزل معترضًا بصفة عامة على استخدامه، ولكني لا أنكر أنه يحتوي على العديد من الفقرات التنويرية، يقول نيتشه: «الأخلاق: أو «فلسفة الاشتهاء» … «يجب أن تختلف الأمور»، ««سوف» تختلف الأمور»: سيصبح عدم الرضا عندئذٍ جرثومة الأخلاق»:

يمكن للمرء إنقاذ نفسه منها، أولًا بانتقاء الحالات التي لا ينتاب المرء فيها هذا الشعور؛ وثانيًا باعتناق احتماليته وسخافته؛ لأنه لكي ترغب في أن يختلف شيء عما هو عليه يعني أن ترغب في أن يتغير كلُّ شيء، وهو أمرٌ ينطوي على نقد استنكاري للكلِّ. ولكن الحياة نفسها هي تلك الرغبة!

«إرادة القوة»، ٣٣٣

هذه سمة مميزة لنيتشه؛ نظرًا لكونه عبقريًّا بحق. كما أنها سمة متناقضة. فإذا كانت الحياة، كما قال ستاتين، تعني الرغبة في تغيُّر الأمور عما هي عليه، إذن فهكذا هي أيضًا حياة نيتشه، هذا إذا حكمنا بناءً على الأدلة التي تقول إنها كانت كذلك بالتأكيد. وعلى الرغم من أن «حب القدر» هو شعاره، فإن «قدره» هو أن يشجب بانفعال القدر، أو الوضع الراهن. هل يمكن أن يتيح لنفسه هذا؟ إذا حكمنا بناءً على الجزء ١١ من «نشيد الثمل»، الذي سبق لي اقتباسه، فإنه لا يستطيع. أن تقول نعم لسعادة واحدة يعني أن تقول نعم لكلِّ شيء. ولكننا مجددًا نرى نيتشه الشاعر الغنائي الماهر له اليد العليا، إنه شاعر غنائي يخدم الإنسان الذي يؤمن أنك لو رأيت الوجود كله وحدةً واحدة، فعندئذٍ ستُقرُّه، أو على الأقل ستُلزَم بإقراره كله لو أقررتَ جزءًا واحدًا فيه. ولكن حقيقة أن جميع الأشياء «متسلسلة ومتداخلة ومتعاشقة» لا تعني أن المرء يحب ذلك. إذا كانت الحياة «هي» الرغبة في تغيُّر الأشياء واختلافها عما هي عليه — وهذا بالتأكيد جانب كبير من الحياة، بل إنه في واقع الأمر الدافع الذي يملكه الناس لتبرير معظم ما يفعلونه — إذن فمن الحتمي أن يريد المرء إحداث بعض هذه الاختلافات. ومثلما يقول نيتشه في فقرة مماثلة ولكنها مختلفة على نحو حاسم ومأخوذة من كتاب «ما وراء الخير والشر»، ٩: «الحياة؛ أليست بالضبط إرادةَ كونٍ مغاير لهذه الطبيعة؟ أليست الحياة تقديرًا وتفضيلًا وظلمًا ومحدودية وإرادة كون مختلف؟ ولْنفترض أن شعاركم الآمِر ﺑ «العيش وفقًا للطبيعة» يعني أساسًا «العيش وفقًا للحياة»، كيف بوسعكم «ألَّا» تفعلوا ذلك؟ ولمَ تجعلون ما أنتم عليه، وما يجب أن تكونوا عليه، مبدأً؟» ولكن إذا كنت مضطرًّا إلى أن تكون ما أنت عليه، فلا فائدة من أن تجعل من «أيِّ شيء» «مبدأً»، بما في ذلك «حب القدر». لا يقدم نيتشه هنا أية إشارة تبين كيف أن ما يسمِّيه المرء رِوَاقية الإقرار لا ينحدر إلى ما يشير إليه بازدراء في موضع آخر بصفته «استكانة».

إنَّ ادِّعائي بأن نيتشه يحاول أن يجعل نفسه معصومًا مُتضمَّن بالفعل فيما كنت أقوله. والمثير للدهشة، بالنسبة إلى شخص كان من شعاراته الأخرى «عِشْ حياة الخطر!» أنه لا يريد فيما يبدو أن يتفاجأ، ويريد أن يكون مستعدًّا لأيِّ حدث طارئ، إذا جاز التعبير، بادِّعاء أنه ضروري، ومن ثمَّ فهو ليس حدثًا طارئًا على الإطلاق. «أيًّا كان» ما يحدث، فهو يريده؛ وبتناقض عجيب للغاية، فإنه يدَّعي أن أيًّا كان ما «حدث بالفعل»، فإنه قد أراده. ومن خلال الأسلوب التعميمي الذي يكتب به، فإنه ليس مضطرًّا للتعامل مع حالات لا يبدو فيها الإنسان الأعلى مختلفًا عن الهمجي بادِّعاء أنه أراد حدوث هذا. وهو يعتقد، بإعلانه معتقدات الضرورة الكونية البعيدة المنال، ثم بادعائه التكرارية اللانهائية لما تُملِيه، أنه أوضح بأنه لن يوجد أبدًا شيء جديد ولا يمكن أن يوجد أبدًا شيء جديد، تحت الشمس أو حتى لو كانت الشمس نفسها. ومع هذا، فعلى مستوًى دقيق، يظل شديدَ الذكاء مقارنةً بأي شخص آخر — بل ذكيًّا لدرجة أنه مضطر إلى الانتقال إلى الجانب الآخر المتطرِّف — فيما يتعلق بهذه «القمم» التي هو مولع بها. وهو مستعدٌّ لتحري الحرص والدقة على نحو استثنائي ليشرح إلى أيِّ مدًى تكون الأشياء مُروِّعة وغير محتمَلة — بما في ذلك الناس على وجه الخصوص. وما دام لم يزل عند مستوى الأشياء والأشخاص، فإن الرعب المُعجِز سوف يستمر في التنامي. ولذا عندما يُقرُّ أمرًا فلا يمكن أن يكون ذلك باختيار أشياء موافق عليها؛ إذ إنها جميعًا «متداخلة» مع ما يبغضه. عليه أن يأخذ كلَّ الظواهر التي يكرهها، ويتعامل معها ﺑ «مأساوية الفتور»، وينظر إليها بتعالٍ، وعندئذٍ يصبح أخيرًا قادرًا، بفضل الرؤية الضبابية، على أن يقول نعم لكلِّ شيء. وفي سبيل ذلك، فإنه يتخلَّى عن كلِّ ما يجد فيه قيمة بالفعل، عن طريق تظاهره أنه لا يقدِّر شيئًا أكثر من آخر. ويتعذَّر التمييز بين هذا النوع من السموِّ وبين عدم الإدراك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤