كلمة المؤلف (اليوم)

وقعت في يدي أخيرًا نسخة الملقِّن لمسرحية «المرأة الجديدة» التي كتبتُها عام ١٩٢٣م، ومثَّلَتْها «جوقة عكاشة» عام ١٩٢٦م. ولم أرَ بأسًا في نشرها اليوم؛ لما أوحته إليَّ، وما قد توحيه إلى قارئ هذا الجيل، من ملاحظات. وأول ما لفت نظري، وأنا أراجعها، بعد ثلاثين عامًا بالتقريب، هو موقفي من «حركة سفور المرأة» التي نشطت في ذلك الحين! ذلك الموقف الذي ينمُّ عن خوف وقلق! وكان مصدر الخوف والقلق، كما سجَّلَتْه المسرحية، راجعًا إلى ناحيتين: أثر السفور في فكرة الزواج عند الشباب من الجنسين، وأثر الاختلاط السافر في الزوجية المستقرة وحياة الأسرة. وقد كان القلق والخوف على الشباب من أن ينصرفوا عن الزواج، ما دامت المرأة قد خرجت لهم سافرة، وأن يجدوا في تقارب الجنسين وسهولة الاتصال بينهما ما يطفئ رغبة التلاقي عن طريق الزواج، كما كان الخوف والقلق من السفور في الأسر، واختلاط زوج هذه بزوجة ذاك أو بغيرها، أن يؤدي الأمر إلى انهيار الحياة الزوجية. وما من شكٍّ عند قارئ الجيل الحاضر في أن بعض تلك المخاوف لم يكن لها محل؛ فالأيام قد أثبتت أن سفور المرأة لم يؤثر في فكرة الزواج بصورة تدعو إلى الانزعاج. أما تزعزُع الحياة الزوجية العصرية من أثر الاختلاط فقد يكون موضع اعتبار، وإني أترك تقدير هذا الخطر ودرجته للمعنيِّين بالإحصاء الاجتماعي في مجتمعنا الحديث.

على أنَّ من الإنصاف لحركة المرأة الجديدة، في ماضيها وحاضرها، أن نعترف بأنَّ الكثير من مخاوف اللحظة قد لا تحقِّقها ظروف الغد؛ فالتندُّر — على مطامع المرأة السياسية اليوم — قد يكون تجنِّيًا مُسرفًا، عندما نرى في المستقبل أنَّ أوضاع المرأة الجديدة قد استقرَّت، دون أن يقع مما توهَّمنا شيءٌ ذو خطر. لقد تعودنا اليوم منظر المحامية والصحفية والأستاذة والموظفة، وما من شيء يمنع من تعوُّدنا غدًا منظرَ النائبة والشيخة والوزيرة. كثير من أفكارنا الحاضرة سيبدو غريبًا في عين المجتمع الذي سيولد بعد ثلاثين عامًا.

تأتي بعد ذلك ملاحظة تتعلَّق بالأدب؛ فمراجعتي لهذه القصة نبَّهتني إلى أن قضايا العصر ومشكلات المجتمع كانت منبعَ وحيٍ لنا منذ ثلاثين عامًا أو تزيد؛ فالقول أحيانًا بأن أدبنا الحديث لائذٌ بأبراج العُزلة، مقطوعُ الصلة بالمجتمع وأفكاره واتجاهاته؛ هو قول مجحِف في الكثير الغالب، وربما كان الباعث عليه عدم التفريق بين أدب الدرس والبحث، وأدب التصوير والخلق؛ فالأدب المرموق في بلادنا العربية، حتى مطلع هذا الجيل، كان أدب البحث والدرس، وهو بطبيعته يدعو أدباءه إلى أن يعكفوا على النصوص القديمة، وهم بغوصهم في هذه النصوص والمتون تنقطع بالضرورة صلتُهم بما حولهم من شئون.

ولكن هذا ليس كلَّ الأدب، وهذا ما بدأنا نفطن إليه آخرَ الأمر؛ فالجانب الآخر المقابل لأدب البحث والدرس هو أدب التصوير والخلق، وهو في أغلبه لا يمكن، بحكم طبيعته، أن يغفل عن مادته الأساسية للتصوير، وهي الحياة الحاضرة، والأفكار المعاصرة؛ لأن الباحث إذا كان لا بُدَّ له أن ينبش الماضي، فإن المصوِّر لا بُدَّ له أن يستلهم الحاضر، وهذان الوجهان للأدب يكمل أحدهما الآخر؛ فأدب البحث والدرس يجلو نصوص الأجيال الغابرة، وأدب التصوير والخلق يقدِّم النصوص التي سيفحصها الأدباء الباحثون في الأجيال القادمة … وهكذا دوالَيك.

لهذا أعتقد أن أدب التصوير والخلق لا يستطيع أن يقطع صِلته بقضايا عصره ومشكلات مجتمعه دون أن يجد العَنَت والإرهاق اللذَين يلقاهما مَن يُرْغَم على ترك النموذج الحي ليصور من الذاكرة؛ فأدبنا التصويري إذَن قد استلهم في أغلب الأحيان، منذ زمن طويل، مجتمعَه وبيئته، واستخدم الريشة التي رآها مناسبة لأداء الألوان الطبيعية دون تحرُّج أو احتفال برأي المتزمِّتين. هذه الحرية الفنية في تسجيل البيئة بلغاتها، قد أخرجت ثروة من الأعمال والأزجال فيها من صور مجتمعنا المعاصر ما سوف يتأمله الباحثون في مستقبل الأيام؛ ذلك أن لكل عصر طائفتَه من الأدباء الدارسين، فجيلنا الحاضر هو جيل البحث في المتون الفصيحة، وربما جاء الجيل القادم بباحثين في المتون الفصيحة والشعبية على السواء. كما أنه قد يؤكد مكانة الأدب التصويري، ويطلق حرية تعبيره ويحدد أهدافه؛ ذلك أن القائلين بصلة الأدب بمجتمعه يخلطون أحيانًا بين مهمة الأدب ومهمة الصحافة، فليس هدف الأديب أن ينغمر في المناسبات انغمار الصحفي ليخرُج بشيء سريع يمضي سريعًا؛ ولكن هدفه أن يتشرَّب حاضره بتُؤدة لينضحه بعدئذٍ شيئًا لا يمضي بمُضي الأيام.

أما بعدُ، فتلك بعض خواطر، أثارتها مراجعة هذه المسرحية القديمة، ولعلها تثير في قراء جيلها والأجيال الأخرى بعض الخواطر والذكريات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤