الأزهر بين النص والمذهب/الخطاب

على مدى تاريخه، ومنذ النشأة، كان الأزهر هو أحد الأذرع التي تشتغل بها السلطة القابضة على دولاب الحكم في مصر. فإذا أرادت منه السلطة الفاطمية الشيعية — حين أنشأته في القرن الرابع الهجري — أن يكون بوقًا أيديولوجيًّا لها، تنشر من خلاله مذهبها، فإن ذلك بعينه قد كان هو نفس ما أرادته منه الدولة الأيوبية السُّنيَّة التي ورِثت دولة الشيعة في القرن السادس الهجري. ولقد كان من الحتم أن تكون «المذهبية» — تبعًا لذلك — هي العمود الرئيس الذي يقوم عليه بناء تلك المؤسسة العريقة. ورغم أن المذهبية هي نوعٌ من الحضور المتعيِّن للدين في لحظةٍ بعينها، فإنه يلزم تحرير الوعي من وهم مطابقتها مع الدين. حيث إن المذهب هو نتاج تعاملٍ بعينه، ضمن سياقاتٍ تاريخية ومعرفية محددة، مع نصوص الدين المنزَّلة؛ وبما يعنيه ذلك من أن المذهب هو — في حقيقته — تركيبٌ تتفاعل فيه عناصر الدين والمعرفة والاجتماع والسياسة. وإذ يعني ذلك أن المذهب يكون فيه من الدين بمثل ما فيه من الاجتماع والمعرفة والسياسة، فإن المأزق يتمثَّل في إنكار الحاملين له والقائمين عليه لأيِّ دورٍ يخص ما سوى الدين في بنائه، ويظل إصرارهم كاملًا على أن ما في «مذهبهم» هو من الدين وحده. بل إنهم يتجاوزون إلى اعتبار هذا المذهب الذي يتبنونه هو بمثابة التحقق المطابق للدين المنزَّل؛ وذلك في مقابل غيره من مذاهب الآخرين التي هي بمثابة هرطقاتٍ أو تقوُّلاتٍ لأهل الأهواء والبدع.

وإذ يبدو لازمًا تعيين معنى المذهب، فإنه يمكن القول بأنه هو أدنى ما يكون إلى الإطار المتضمِّن لمجموع أقوال (مكتوبة أو منطوقة) تندرج تحت جملة مبادئ عامة تكون بمثابة الأسس التي يقوم عليها تركيبٌ يتميز بالانتظام والنسقية. ولعله يلزم التنويه هنا بأن هذا المعنى يرتقي بالمذهب إلى المقام الذي يكون فيه رديفًا لمفهوم «الخطاب» الذي يكون له نفس المعنى بالضبط، بحيث يمكن استعمال الواحدة من المفردتين محل الأخرى. وإذ يبدو — والحال كذلك — أن السمة الجوهرية للمذهب هي الكليَّة والشمول التي تجعله يتسع لكل ما يحدث داخله من أقوالٍ متباينةٍ تخصُّ أفرادًا وأزمنةً مختلفة، فإن ذلك يئول إلى أن مقاربة المذهب/الخطاب بما هو مجرد أقوالٍ جزئيةٍ لا يجمعها إلا محض تجاورها، تبقى من قبيل المقاربة غير المعرفية، وبالتالي غير المؤثرة. ويترتب على ذلك أن أي محاولةٍ لتجديد المذهب/الخطاب لا تتجاوز في تعاملها معه حدود الأقوال الجزئية المندرجة في ساحته، وتتجاهل ما يقوم وراءها من الإطار الكلي الحاكم لها، لن تعدو كونها محاولة تلفيق غير منتجةٍ. إذ الحق أن سعيًا جِديًّا إلى تجديد المذهب/الخطاب لا بد أن يتخذ نقطة ابتدائه من التأثير في الإطار الكلي الحاكم للأقوال الجزئية المنطوق بها داخله، وإلا فإن الأمر لن يتعدى حدود تبديل قولٍ بآخر ضمن نفس الإطار الكلي الحاكم؛ وبحيث تظل هيمنة هذا الإطار الحاكم قائمةً على حالها.

وإذا كان الأزهر قد نشأ — حسب ما هو معلوم — كأداة لسلطة الشيعة، فإن ما جرى من تبدُّل السلطة قد أجبره على الانخلاع من مذهب الشيعة ليتبنَّى مذهب الدولة الجديدة. وإذا كان الأيوبيون — وهم أصحاب الدولة الجديدة — قد قاموا بتحييد الأزهر، بل وحتى إغلاقه عبر إبطال صلاة الجمعة في رحابه، بعد أن أدركوا أنه لا سبيل إلى نجاح خططهم في استئصال المذهب الشيعي من مصر إلا بهذا التعطيل، فإنه يبدو أن الأزهر قد استوعب الدرس من هذه المحنة التي استمرت على مدى مائة عامٍ تقريبًا (١١٧١-١٢٦٧م). وهكذا فإن الأمر لم يقف به عند حد تبني المذهب السنِّي الذي استقدمت الدولة الجديدة الدعاة لينشروه في مصر من مختلف البلاد الإسلامية، بل إنه قد بالغ في التعصب له تكفيرًا فيما يبدو عن انتسابه الشيعي السابق.

ولقد جاء المذهب السنِّي إلى مصر بجَناحيه (الشافعي) في الفقه، و(الأشعري) في العقيدة؛ حيث كان «الأيوبيون من الغلاة في المذهب الشافعي، وكانوا من أتباع الأشعري.»١ ولم يختلف عنهم من خلفوهم في احتياز السلطة على مصر من المماليك الذين أخذ أحد أمرائهم (بدر الدين بيلبك الخازندار الظاهري) على عاتقه أمر استرجاع ما كان للأزهر من نفوذٍ قبل الأيوبيين. فقد «أنشأ منبرًا ومقصورة رتَّب فيها جماعة من الفقهاء لقراءة الفقه على مذهب الإمام الشافعي، ورتَّب في المقصورة أيضًا مدرسًا للحديث، وسبعة قُرَّاء لتلاوة القرآن الكريم. ورَصَدَ الأوقاف الدَّارَّة للإنفاق على تنفيذ هذا البرنامج، واستردَّ نائب السلطنة للجامع الأزهر الكثير من الأوقاف المحبوسة عليه، والتي كان بعض الناس قد اغتصبوها في أثناء حكم الدولة الأيوبية.»٢ ولقد كان لزامًا أن يرث الأزهر «من هنا التعصب المذهبي الشديد (للشافعي والأشعري) إلى حدِّ الإفتاء بالكفر وعدم صحة الاقتداء بالمخالف في المذهب (العقائدي).»٣ وخصوصًا بعد ما بدا من أن «العلماء قد أصبحوا في هذا العهد وما تلاه من عهود المماليك يعتمدون على الدولة، وما تعطيهم من إعانات، وما تُدِرُّه عليهم من غَلَّاتِ أوقاف، أو نِظارات في حياتهم، مما مكَّن للدولة من بقائهم في صفِّها.»٤ وبما يترتب على ذلك من فهم تعصبهم الزائد لمذهب الدولة.

ولقد كان لا بد أن يؤدي هذان العاملان إلى حصول ما جرى من التطابق الكامل بين الأزهر والمذهب؛ على النحو الذي جعل منه (أي الأزهر) مؤسسة مذهبية بامتياز. وبطبيعته؛ فإن كل كِيان مذهبيٍّ لا بد أن ينتهي به الحال إلى وضع الجمود والانغلاق؛ وهو الوضع الذي آل إليه الأزهر فعلًا بحسَب ما ظهر جليًّا لأحد أهم أعلامه في القرن التاسع عشر، وهو الأستاذ الإمام محمد عبده. ورغم ما يلزم قوله من أن بعضًا من رجال الأزهر قد لعبوا أدوارًا سياسيةً واجتماعية مشهودة انحازوا فيها إلى عَوامِّ المصريين في مواجهة اعتسافات السلطة الغاشمة ومظالمها، فإنه يبقى أن ذلك لا يُغير شيئًا من حال الجمود التي كانت عليها المؤسسة. وإذ يبدو أن الجمود هو قرين المذهبية، فإنه يمكن تصور أن أي محاولةٍ لتخليص الأزهر من جموده لا بد أن تربط نفسها بالسعي إلى إخراجه من ضِيق المذهبية. وبالرغم من أن بعضًا من رجال الأزهر الكبار، كالأستاذ الإمام محمد عبده وفضيلة الشيخ محمود شلتوت، قد حاولوا ذلك فعلًا وأظهروا قدرًا من الانفتاح على المذاهب المغايرة كجزءٍ من السعي إلى إخراج الأزهر من هذه المذهبية الضيقة. وهكذا فإنه إذا كان الأستاذ الإمام قد انفتح على مذهب المعتزلة (في العقيدة)، وأفتى الشيخ شلتوت بجواز التعبُّد بالمذهب الجعفري (في الفقه)، فإنه يبقى أن هذه الجهود قد ظلت فردية، ولم تؤثر على وضع المؤسسة ككل.

ولسوء الحظ، فإن المذهب (الشافعي/الأشعري) الذي انحاز إليه الأزهر، وتعصَّب له، لم يكن سجنًا له وحده فحسب، بل إنه كان بمثابة سجنٍ ينحبس داخله العالم والإنسان والعقل جميعًا. فإنه إذا كان القول في المذهب الأشعري، في العقائد مثلًا، يحيل إلى جملة مفاهيم كلية تحكم كل ما يَرِد تحتها من أقوالٍ؛ وبكيفية تجد فيها هذه الأقوال النظام الذي يجعلها قابلة للفهم والتفسير، فإنه يمكن القول بأن مبدأ «الإطلاقية» هو بمثابة الثابت الذي تتمحور حوله كافة الأقوال المنطوقة في إطار المذهب/الخطاب الأشعري. وتعني هذه الإطلاقية أن موجودًا أوحد (الله في المجرد والحاكم في المتعيِّن) هو الذي يتفرَّد فحسب بالوجود والتأثير الحقيقي، وأن كل ما سواه هو محض موجوداتٍ شبحيةٍ لا حقيقة لها في ذاتها، بل من حيث هي علامات تدلُّ على هذا المطلق، أو أدوات يستخدمها. ويعني ذلك أنه إذا كان ليس في العالم الطبيعي إلا فاعل مطلق (هو الله)، فإنه ليس في العالم السياسي/الاجتماعي بدوره إلا فاعل مطلق أوحد (هو الحاكم). وإذ يحيل ذلك إلى أن الظواهر في العالم الطبيعي تحضر بما هي علامات تدل على فاعلها المطلق، فإن البشر يحضرون في العالم السياسي بما هم مجرد أدوات يفعل بها الفاعل المطلق في السياسة. وإذ المطلق يفعل — في العالمين الطبيعي والسياسي — بمحض إرادته (التي تكون بدورها مطلقة)، فإن ذلك يعني أن كلا العالمين يخلوان من أي قوانين موضوعيةٍ تنظم العلائق داخلهما. ومن هنا فإن الجواز والإمكان يكون هو المبدأ الحاكم لظواهر العالمين الطبيعي والسياسي في المذهب/الخطاب الأشعري؛ وبما يعنيه ذلك من اعتبار العالم الطبيعي محكومًا بإرادة الله، بمثل ما إن العالم السياسي محكومٌ بإرادة الحاكم.

وغنيٌّ عن البيان أن هذا التصور لطبيعة العالمين كان لا بد أن يفرض حضورًا بعينه للعقل. فحين تَحضُر الظواهر الطبيعية كعلاماتٍ تدلُّ على المطلق (الله)، فإن ذلك يعني أنها لا تكون موضوعًا لعقلٍ يسعى إلى اكتشاف قوانينها والعلم بها، بقدر ما تكون موضوعًا لعقلٍ يسعى بها إلى تثبيت الإيمان بالمطلق القائم وراءها. وليس من معنًى لذلك إلا أن هذا التصور لظواهر الطبيعة كعلاماتٍ على المطلق يترابط مع نوعٍ من العقل «الاستدلالي» الذي هو — في جوهره — عقلٌ «لاهوتي» دائري لأنه ينتهي إلى نفس النقطة التي يَبتدئ منها. فإذ يَبتدئ هذا العقل من الإيمان بالله كواقعةٍ أوَّليةٍ، فإنه يتعامل مع الظواهر الطبيعية على النحو الذي ينتهي به إلى تثبيت هذا الإيمان الذي يبدأ منه. وهكذا فإن «الإطلاقية» الحاكمة للمذهب/الخطاب الأشعري لا تنتهي فحسب إلى تكريس تصورٍ للعالمين الطبيعي والسياسي يفتقران إلى أي ارتباطٍ ضروريٍّ بين ظواهرهما، بل وتئول إلى تكريس نوعٍ من العقل اللاهوتي الدائري؛ الذي هو عقلٌ مغلقٌ بطبيعته. ويعني ذلك أن المذهب/الخطاب الأشعري ينتهي إلى الإفقار الكامل لكلٍّ من الطبيعة والسياسة والعقل.

ولقد ظل الأزهر، منذ راح مع المماليك «يتزايد — على قول المقريزي — أمرُه حتى صار أرفع الجوامع بالقاهرة قدرًا»، بمثابة الحارس الأمين على هذا المذهب/الخطاب الذي بدا أنه هو نفسه — وبسبب ما ينبني عليه من الإطلاقية — مجرد حارسٍ لأصول التقليد في الاجتماع والسياسة والعقل. وحين بدا أن هذا المذهب/الخطاب يواجه تحدِّيًا كبيرًا بسبب المآلات العنيفة التي راح ينتهي إليها مع فصائل الإسلام السياسي التي خرجت من أعطافه، فإن كثيرين قد راحوا يطالبون الأزهر بفعل شيءٍ في مواجهة هذا التحدي. وبدلًا من أن يُظهر قدرةً على مواجهة هذا التحدي، عبر التحول من دور الحارس لهذا المذهب/الخطاب إلى دور الدارس له، فإن رجاله قد راحوا دومًا يختارون الأيسر؛ وهو إلقاء الخطب البليغة الموشَّاة بالنصوص البديعة من القرآن والحديث، ويتفلَّتون من المواجهة الجِديَّة مع هذا المذهب/الخطاب الذي يمارس، متخفيًا، هيمنة كاملة على طرائق تلقي هذه النصوص البليغة؛ وبما يئول إلى توجهها لخدمة مقاصده المضمَرة. وهكذا فإنهم يتجاهلون — أو حتى يجهلون — أن المذهب/الخطاب يفرض على الحاملين له طرائق في تلقي هذه النصوص تئول إلى تفريغها من الحمولة المثالية التي تنطق بها. فإن المذهب/الخطاب يكون بالنسبة لحامله بمثابة الباب الذي تأتيه منه النصوص؛ وهو بابٌ يمتلئ بالعديد من القواعد المعرفية التي تكون أشبه بقوالب تتحدد بحسبها صور الدلالات وأنماط المعاني.

وكمثالٍ، فإنه يمكن الإشارة إلى ما يفعله شيوخ الأزهر الآن حين يستدعون من القرآن ما يستندون إليه في تقرير مبادئ الحرية والرحمة والسماحة، وغيرها من القيم الإنسانية السامية، فإنهم يتجاهلون أن ما يتهدَّد هذه المبادئ بكيفيةٍ مباشرة ليس نصوص القرآن، بقدر ما هو نمط المذهب/الخطاب الذي يقومون هم أنفسهم بحراسته. وإذ المشكلة — والحال كذلك — ليست في نصوص القرآن، بل في الطريقة المستقرة التي رسَّخها المذهب/الخطاب (الشافعي/الأشعري) — الذي تحققت له السيادة شبه الكاملة في الإسلام — للتفكير فيها، فإن ذلك يعني أن حل المشكلة لا يكون أبدًا في استعادة نصوص الدين السمحة، والاكتفاء بالتأثير على الجمهور بسمو بلاغتها. بل الحل يكمن في تفكيك البنية المعرفية العميقة للخطاب الأشعري المهيمن الذي يوجِّه النصوص لكي تنطق بما يريده منها؛ ولو كان هذا الذي يريده منها يتعارض مع ما يسعى خطاب القرآن لتثبيته. وبالطبع فإن المذهب/الخطاب يُمارس هذا التوجيه لدلالة النصوص من خلال جملة قواعد يفرضها، ويُلزم بالتعامل معها وكأنها من مسلمات الدين التي لا يجوز حتى مجرد التفكير فيها؛ وذلك من قبيل: الناسخ والمنسوخ، والإجماع، والعبرة بعموم اللفظ … وغيرها من القواعد التي باتت، لرسوخها، من قبيل ما يستحيل أن يكون موضوعًا لتفكيرٍ أو سؤالٍ.

ومن هنا فإنه إذا كانت ظروف مصر الراهنة قد فرضت على الأزهر أن يلعب دورًا سياسيًّا لا يعرف أن يؤديه إلا بالاستدعاء الكثيف من القرآن لنصوص السماحة والمودة التي يدبج بها بيانات التهدئة وترطيب الأجواء، فإن المرء يتمنى لو أنه يتجاوز ذلك إلى الوعي بدورٍ معرفيٍّ يساهم به في دعم الاتجاهات الساعية إلى التفكيك المعرفي النقدي لبنية الخطاب الشافعي/الأشعري المهيمن، وتعرية مضمونها الأيديولوجي، والكشف عن آلياتها المعرفية التي ترسخ بها سيادتها التي تستعصي على أي تحدٍّ. فمن دون هذا التفكيك لن يكون النص قادرًا على النفاذ إلى الواقع والتأثير فيه؛ حيث البنية الراسخة هي أشبه ما تكون بالشبكة التي يجري اصطياد النص في أحابيلها، فيعجز إلا عن النطق بالدلالة التي تظل معها الوظيفة الإيديولوجية للبنية فاعلةً، ولو كان ذلك عبر إسكات الدلالة التي تتوافق مع نظام الخطاب القرآني.

وهنا فإنه يمكن الإشارة إلى الكيفية التي قرأ بها حاملو نفس المذهب/الخطاب — الذي يحرسه الأزهر — من المفسرين آية عدم الإكراه في الدين التي لا يتوقف شيوخ الأزهر ودُعاته عن استدعائها لتقرير مبدأ حرية الاعتقاد. ولعل المثال يأتي مما أورده القرطبي في تفسيره لهذه الآية؛ حيث يعدد وجوه اختلاف العلماء في قراءتها، والتي تكاد تنتهي — وللغرابة — إلى أنها آية للإكراه والإجبار، وليس العكس.

فقد «قيل هي منسوخةٌ، لأن النبي قد أكره العرب على دين الإسلام وقاتلهم، ولم يرضَ منهم إلا الإسلام، قاله سليمان بن موسى، قال: نسختها آية يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ. ورُوِيَ هذا عن ابن مسعود وكثيرٍ من المفسرين.»٥ وتبعًا لذلك فإنه لا مجال لتفعيل حكم عدم الإكراه؛ ابتداءً من أن الآية التي تنطق به هي موضوع للنسخ الذي هو — حسب قول أحد الآباء المؤسسين للخطاب الأشعري المهيمن: «الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بخطابٍ آخر، على وجهٍ لولاه لاستمر الحكم المنسوخ. ومن ضرورة ثبوت النسخ على التحقيق رفع الحكم بعد ثبوته.»٦ وهكذا فإن اعتبار آية عدم الإكراه منسوخةً يعني أن حكمها قد بات مرفوعًا ولم يعد فاعلًا؛ لأن معنى النسخ يعني رفع الحكم بعد ثبوته؛ بمعنى أنه النفي الكامل لدلالة عدم الإكراه عن الآية.
ولسوء الحظ، فإن الأمر لم يختلف كثيرًا عند من قالوا: إنها «ليست منسوخةً»؛ حيث إنهم قد قيَّدوا حكمها، فجعلوه مخصوصًا مُقيَّدًا، وليس عامًّا مطلقًا. فقد مضوا إلى أنها «إنما نزلت في أهل الكتاب خاصة، فإنهم لا يُكرهون على الإسلام إذا أدوا الجزية.»٧ وهكذا فإنهم لم يكتفوا بتخصيص حكم الآية بأهل الكتاب، بل جعلوه مشروطًا بأدائهم للجزية؛ بما يعنيه ذلك من إمكان إكراههم إذا لم يؤدُّوها. وبحسب هؤلاء، فإن «الذين يُكرَهون هم أهل الأوثان، فلا يُقبل منهم إلا الإسلام، فهم الذين نزل فيهم يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ٨ وإذن فإن القول بأن الآية ليست منسوخةً، هو في حق أهل الكتاب فقط، ولكن عدم نسخها في حقهم ليس مطلقًا، بل موقوفٌ على شرط أداء الجزية. وأما في حال أهل الأوثان فإنها منسوخة مطلقًا. وعلى أي الأحوال، فإن ثمة من سيَبلُغ إلى حدِّ اعتبار تلك الآية منسوخة في حق الجميع بما فيهم أهل الكتاب؛ حيث إن آية «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ نزلت، ولم يؤمر يومئذٍ بقتال أهل الكتاب، ثم إنه نسخها، فأمر بقتال أهل الكتاب في سورة براءة.»٩ وهكذا فإن الأمر قد انتهى إلى المحاصرة الكاملة للآية لكي لا تنطق إلا بما يقوله الخطاب، ولو كان ذلك على حساب القرآن.

وإذا كان إخضاع الآية لقاعدة النسخ (سواء كانت منسوخة على قول البعض، أو غير منسوخة على قول آخرين) قد آل إلى تثبيت دلالة الإكراه، فإن قراءتها بقاعدة «سبب النزول» سوف تَؤُول إلى تثبيت ذات الدلالة تقريبًا. ومن هنا فإن الأقوال الثلاثة التي أوردها «القرطبي» كسببٍ لنزول الآية تتضافر جميعًا في توجيه دلالتها نحو تثبيت الإكراه. ويتفرع عن ذلك حقيقةُ أنها تجعل حكم عدم الإكراه منحصرًا في أفرادٍ محددين شهدوا وقائع بعينها، على النحو الذي يؤدي إلى أن حكمها يتعلق فقط بمن نزلت فيهم، ولا يتجاوزهم إلى من سواهم.

ولعل أغرب ما جاء في تفسير هذه الآية هو ما قيل من أن معناها: «لا تقولوا لمن أسلم تحت السيف: مجبَرًا مُكرَهًا.»١٠ بمعنى أن قوله تعالى: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ يعني أن الله نفسه ينفي وصف الإكراه عن فعل إجبار المرء على تغيير دينه؛ لأنه يُقرر أن الفعل لا يكون إكراهًا ما دام يتعلق بتغيير الدين إلى الإسلام بالذات. فارتباط الفعل بالدين — ولو كان فعلَ إجبارٍ — ينفي عنه وصف الإكراه. هنا يتجاوز الأمر تخصيص الدلالة أو قصرها على فئة بعينها إلى نفي دلالة عدم الإكراه بالكلية. فإن آية لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ تعني — حسب هذه القراءة — أن الله يقرر بنفسه أن الإجبار على تغيير الدين ليس إكراها، لأن الله ينفي عن الفعل — ولو كان جبرًا — وصف الإكراه ما دام يكون على الدين.
وهكذا فإن المذهب/الخطاب يقوم بإحكام قيوده حول النص، بكيفية لا يكون معها قادرًا على النطق خارج ما تقتضيه التحديدات الصارمة لتلك القيود. ولقد بدا أن صرامة تلك التحديدات تبلغ إلى حدِّ أنها لا تسمح للنص إلا بالنطق بما يريده منه المذهب/الخطاب، ولو كان ذلك على حساب القرآن. وتظل هذه القيود التي تتمثل في قواعد وآليات معرفية (كالناسخ والمنسوخ وأسباب النزول والتخصيص والقصر وغيرها) بمثابة الطرق التي تمرُّ عبرها كل عمليات فهم النص وقراءته. بل إنه يجري النظر إلى أي فهم يتحقق من خارج هذه الطرائق على أنه من «عبث العابثين وزيغ الزائغين، وجراءة القائلين على الله بغير علم.»١١ وبالطبع فإن ذلك يعني أن الأزمة ليست في «القرآن»، بقدر ما هي في المذهب/الخطاب الذي يحدد — على نحوٍ خفيٍّ — كل عمليات التلقي القرائي له.

ويعني ذلك وجوب تفكيك هذا المذهب/الخطاب على النحو الذي يسمح للقرآن بإنتاج الدلالات المنفتحة التي تتفق مع نظام خطابه؛ وبما يدل عليه ذلك من الصراع جليًّا بين المذهب/الخطاب والقرآن. إذ الحق أن نوع الدلالة التي يوجه هذا المذهب/الخطاب إلى إنتاجها، إنما تبقى — بحسب ما بدا في قراءة آية لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ — من قبيل الدلالة ذات الطابع الإقصائي المغلق، في مقابل ما يبدو أنها الدلالة المنفتحة التي يدور عليها خطاب القرآن.

وإذ يبدو — والحال كذلك — أن المشكلة ليست في القرآن، بل في الخطاب الذي يقبض على نصوصه ويقوم بتوجيه دلالتها ضد منطق ومقاصد القرآن نفسه. فهل يدرك الأزهر أن عليه القيام بتفكيك هذا المذهب/الخطاب الذي يقوم بحراسته، ليس فقط من أجل مصر، بل من أجل القرآن نفسه؟ وإذا أدرك فهل تُراه يقدر؟!

١  محمد عبد المنعم خفاجي: الأزهر في ألف عام، ج١ (مكتبة الكليات الأزهرية) القاهرة، ط٢، ١٩٨٨م، ص٨٥.
٢  عبد العزيز الشناوي: الأزهر جامعًا وجامعة، ج١ (الهيئة المصرية العامة للكتاب) القاهرة، ٢٠١٣م، ص١٠٥-١٠٦.
٣  محمد عبد المنعم خفاجي: الأزهر في ألف عام، ج١ (سبق ذكره) ص٨٥.
٤  المصدر السابق، ٨٦.
٥  القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، تحقيق: عبد الله عبد المحسن التركي، ج٤ (مؤسسة الرسالة) بيروت، ط١، ٢٠٠٦م، ص٢٨٠.
٦  الجويني: كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلة، تحقيق: محمد يوسف موسى وآخر (مكتبة الخانجي بمصر) القاهرة ١٩٥٠م، ص٣٣٩.
٧  القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ج٤ (سبق ذكره) ص٢٨١.
٨  المصدر السابق، ج٤، ص٢٨١.
٩  السابق، ج٤، ص٢٨١.
١٠  نفسه، ص٢٨١.
١١  محمد عبد الفضيل القوصي: رؤية إسلامية في قضايا العصر (دار السلام) القاهرة ط١، ٢٠١٢م. ص٤٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤