القرآن والتاريخية

تثور بين وقتٍ وآخر مسألة «القرآن والتاريخية» بين من يُقال إنهم يسعون إلى تبخيس القرآن باختزالهم له في كونه محض نصٍّ تاريخي، وبين من يتصورون — في المقابل — أن الموقف الواجب منه هو تقديسه عبر التعالي به فوق أي تاريخٍ. ولسوء الحظ، فإن هذا التباين إنما ينبني على نوعٍ من الفهم المشوَّش وغير المنضبط لمفهوم التاريخية؛ على النحو الذي يجعل منه ساحةً للتناحر والتنابذ. وضمن هذا السياق، فإنه يبدو أن المفاهيم تتخلى عن دورها كفضاءات للتحاور والتواصل، وتتحول إلى ساحاتِ تَناحُرٍ وتَقاتُل، حين تصبح مجرد أدواتٍ تَحسم بها الأيديولوجيا معاركها القاتلة. ومن هنا وَجَبَ أن يكون ضبط مفهوم «التاريخية»، عبر تحريره من حمولته الأيديولوجية الثقيلة وإعادته إلى مجاله المعرفي، هو نقطة البَدء في أي سعيٍ يقصد إلى ترتيب العلاقة بينه وبين القرآن.

فقد اتسعت «التاريخية» على النحو الذي لم تَعُدْ معه مسكونةً بالدلالة الوضعية التي وصمها بها القرن التاسع عشر، وبلغتْ ذروتها في النظرية التي تجعل من الأبنية الفكرية والمعنوية مجرد انعكاساتٍ لحركة التاريخ المادي. وهكذا فإنها قد تحولت — في سياق التطورات المعرفية التي عرَفها القرن الماضي — إلى الإطار الشفَّاف الذي تتخلَّق داخله القابلية للفهم وإنتاج المعنى؛ بما يعنيه ذلك من أنها قد تحولت إلى بحثٍ في «الفَهم»، بعد أن كانت بحثًا في النشأة والأصل. وضمن هذا السياق، فإن القول عن تاريخية أي شيء لم تَعُدْ تتعلق بالسؤال عن «أصله» بقدر ما تتعلق بالسؤال عن إمكان «فهمه»؛ على النحو الذي يئول إلى أن التاريخية لا تعني ما هو أكثر من جملة الشروط التي تجعل الفهم حدثًا ممكنًا. وبالطبع فإنه يترتب على ذلك أن إلحاق وصف «التاريخي» بأي شيء — وحتى القرآن — لا يعني إلا القول بأنه يكون قابلًا لفعل الفهم؛ على النحو الذي يكون معه نزع التاريخية عن الشيء معادلًا للقول بعدم قابليته لأي فهمٍ؛ وهو ما لا يمكن لأحدٍ أن يقبل به بالنسبة للقرآن.

وحين يدرك المرء، أن القرآن نفسه يُشير، وعلى نحوٍ صريحٍ، إلى وجوب توافر الشروط التي تجعل الفهم ممكنًا لبعض ما ورد فيه، فإن ذلك يعني إقرارًا منه بجوهرية التاريخية له هو نفسه؛ وذلك بما هي جملة الشروط التي تجعل فهم ما ورد فيه ممكنًا. ولعل ذلك ما تنطق به — بكل القطع واليقين — قصة موسى والعبد الصالح التي أوردها القرآن في سورة الكهف. فإذ يتابع موسى العبد الصالح — الذي تقول التفاسير القديمة أنه الخِضر — فإنه يَشهد قيامَه ببعض الأفعال التي لا تكون مفهومة له؛ من قبيل خرق السفينة وقتل الغلام وهدم الجدار، ولهذا فإنه ينكرها ويعاتب الخِضر على إتيانها. والملاحَظ أنها لا تكون مفهومة له؛ لأنها تكون معزولةً عن الإطار الحاوي للشروط التي تجعلها قابلة للفهم، ولهذا فإنه ما إن يدرك هذه الشروط إلا ويتغير حكمه على هذه الأفعال؛ فيقبلها ويعتذر عن تسرُّعه في الحكم عليها.

وهكذا فإنه يبدو أن القرآن إنما يستهدف بطريقته في إيراد هذه القصة إبراز مدى الأهمية القصوى للإطار الحاوي للشروط التي تجعل الحدث — أي حدثٍ — قابلًا للفهم. فإذ يقوم أولًا بإيراد أفعال العبد الصالح معزولة عن الإطار الذي يجعلها قابلة للفهم؛ عارضًا لما يَتْبع ذلك من الأحكام المتسرِّعة التي يُصدرها موسى عليها بالإنكار بسبب ما يخفى عنه مما يحيط بها ويفسرها، ثم ما يقوم به أخيرًا من ربط هذه الأفعال المُنكرة بالإطار الذي يجعلها قابلة للفهم؛ وبما يترتب على ذلك من قبول موسى لها، وتغيير حكمه عليها، فإنما ليبين أن الفعل لا معنى له معزولًا عمَّا يحيط به من دائرة أوسع من الأحداث التي يكون هو مجرد جزءٍ منها، ولا معنى له في ذاته. ولعله يمكن القول بأن القرآن هنا يُقدم نوعًا من المعنى العميق للتاريخية الذي تتبدى فيه بوصفها جملة الترابطات التي يكتسب الحدث الجزئي معناه داخل تشابكاتها.

وقد انعكست التاريخية، بحسب هذا المعنى، على الطريقة التي تعامل بها الجيل الأول من المسلمين مع القرآن؛ إلى الحد الذي يبدو فيه أنهم قد تصوروه على نحوٍ تاريخيٍّ. فإنه لو أن صحابيًّا، مثل عمر بن الخطاب، قد تعامل مع القرآن على أنه «مقدسٌ» لا صلة له بالتاريخية لما كان له أن يفعل ما فعله في مسألتي «المؤلفة قلوبهم» «وتوزيع الغنائم» مثلًا. فإنه لم يتعامل مع ما ورد بخصوصهما في القرآن على أنها أقوالٌ «مُقدسةٌ» معزولة عن غيرها مما يحيط بها ويفسرها، بل تعامل معها في إطار تشابكاتها الأوسع، وبما أتاح له إمكان الانتقال عن الأحكام الواردة بخصوصها في القرآن. ولعل هذا الذي فعله ابن الخطاب يحيل إلى أن هذه التشابكات الأوسع ليست مجرد إطارٍ خارجيٍّ محايد يوجد فيه القرآن لكي يفعل فيه ويغيِّره، بل إنه يبدو أن هذا الإطار الواسع من التشابكات يكون بدوره فاعلًا في القرآن، إلى حدِّ ما يقوم به من تغيير أحكامه. وإذ يفعل ذلك الإطار الواسع من التشابكات في القرآن، على هذا النحو، فإن ذلك يعني أنها تدخل في تركيبه؛ بما يقطع به ذلك من وجوب القول بتاريخيته.

وفي الختام، فإنه يلزم القول بأن شيئًا، ولو كان منزَّلًا من الله، لا بد أن يصبح تاريخيًّا في ذات اللحظة التي يُلامس فيها عالم البشر؛ وهي اللحظة التي لا يقدر البشر على الحديث عن القرآن إلا ضمن حدودها. وإذا كان المسلمون قد راحوا يستوعبون القرآن، ضمن حدود تجربتهم، حين راحوا يلتمسون أسبابًا لنزوله، فإنه لا معنى لما فعلوه إلا أنهم كانوا يخلعون عليه التاريخية … فهل يفهم المتنطعون؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤