سؤال الهُوية في مصر

صراعات الحاضر تتقنَّع بالماضي

يشيع التصور بأن الهوية هي نَموذج أعلى أو أمثل للوجود يقوم ثابتًا في الماضي، وأن كل تفكير هُوِيَّاتي إنما يتغيا التطابق مع هذا النَّموذج الأمثل القائم في الماضي القريب أو البعيد. ومن هنا فإن ما يردده الفُرَقاء عن هوية مصر من أنها فِرعَونيةٌ أو إسلامية أو ناصرية أو غيرها، لا يعني إلا أن الفِرعَونية أو الإسلامية، أو حتى الناصرية، تتحول من تجارِبَ تاريخية مشروطة بظروفِ تَبَلوُرِها، إلى نماذج عليا قائمةٍ هناك على نحوٍ موضوعي، وأنه يلزم إكراه الحاضر على التطابق معها. ولعل ذلك يعني أن التفكير الهوياتي على هذا النحو هو، في جوهره، نوعٌ من التفكير بالنموذج؛ وبما يقوم عليه من التسامي بالنموذج في مقابل التدني بالواقع، على النحو الذي يحدد نوع العلاقة بينهما.

والحق أن النظر المتأني في الأمر، يتكشَّف عن أن الحاضر يُمارس توجيهًا للماضي على نحوٍ يدعم به تصورًا بعينه للهوية؛ وبما يمكن أن يئول إليه ذلك من أن الحاضر — وليس غيره — هو مركز الهوية. ويعني ذلك طبعًا إمكان القول بأن كل صراعات الهوية هي، في جوهرها، صراعاتٌ على الحاضر. ويتفرع عن ذلك أن كل قول في الهوية هو — في حقيقته — قولٌ تأويليٌّ، ما دام الحاضر هو مركزه. وضمن سياق هذا القول التأويلي فإن صورة الماضي — التي يبتغي التفكير الهوياتي التطابق معها — تكون تركيبًا يلعب الوعي دورًا حاكمًا في بنائه. وبالطبع فإن ذلك يعني أن صورة الماضي — التي يُراد التطابق معها — لا تتميز بحضورٍ موضوعيٍّ محايد يستقل عن الوعي، وقابل للإمساك به، وقياس مدى التطابق معه. فإنها، كتركيب يلعب الوعي دورًا في بنائه، تكون مسكونةً بما يقصد إليه الوعي في الحاضر؛ وهو ما لا يمكن أن يكون جزءًا من الماضي من جهة، كما لا يمكن أن يكون وجودًا مُحايدًا قائمًا هناك بمعزلٍ عن منتجيه.

حقًّا إن هذه الصورة تتركب من عناصرَ قائمة في الماضي، ولكن ترتيب تلك العناصر في البناء نفسه، على النحو الذي يُسهم في تكريس صورة بعينها لهذا الماضي، يظل عملًا من أعمال الوعي. فإنها تخضع — ضمن هذا الترتيب — لضروبٍ من الإظهار والإخفاء، والإنطاق والإسكات، والتركيز والتهميش على نحوٍ تخرج به من حقيقتها، لتصبح مجرد وَحَداتٍ صُغرى تكتسب معناها من انتمائها إلى البناء الكلي لصورة الماضي المرسومة. فهي لا تنطق بما تحمله في حقيقتها الخاصة، بقدر ما تنطق بما تفرض عليها الصورة الكلية — التي يلعب الوعي دورًا حاكمًا في رسمها — أن تنطق به. ولعل في ذلك تفسيرًا لما قاله أحدهم من أن «كل تاريخ هو تاريخٌ معاصر»، من دون أن يلغي ذلك حقيقة أنه يكون قولًا عن الماضي. وبالطبع فإن «المعاصرة» هنا لا تعني أن يصبح الحاضر ساحة لإعادة أحداث الماضي، بقدر ما تعني أن الحقيقة التاريخية هي تركيبٌ يلعب المؤرخ — بحسَب ما يملك من الرؤى والأدوات المعرفية — دورًا في بنائها. وبعبارة أخرى، فإنها — أي المعاصرة — لا تعني إلا انفتاح الحقيقة التاريخية، وخضوعها للإغناء الدائم.

ولعل ذلك يعني أن الهوية ليست كينونةً مغلقة قائمة هناك في الماضي، وأنه ليس بالمستطاع تعيينها والإمساك بها في نقائها لإكراه الحاضر على التطابق معها، بقدر ما إن المفهوم يحيل إلى هوية تركيبية يساهم الحاضر — المتغير دومًا — في بنائها وإغنائها. وإذن فإنها هوية مفتوحة لا تكفُّ عن الاتساع لكل ما يطرأ على الواقع نفسه من تطورات تكون سببًا في إغناء تلك الهوية، وليس طمسها بحسب ما يتصور أنصار الهوية النقية المغلقة. وتبعًا لذلك، فإنها تكون هوية ذات طابعٍ استيعابيٍّ تعددي وغير أحادي، بل إنها تتسع لحضور الاختلاف والآخَرِيَّة.

وإذ يبدو — والحال كذلك — أن كل صراعٍ على الحاضر لا بد أن تتمخض عنه إثارة سؤال الهوية، فإن «سؤال الهوية» قد أصبح العنوان العريض لكل لحظات الصراع على الحاضر التي اندلعت في مصر على مدى القرن الفائت تقريبًا. ولأن الصراع على الحاضر في مصر كان — ولا يزال للآن — ساحة للانقسام بين من يرون أنه لا حاضر — ولا مستقبل — لمصر إلا مع الإسلام وأهله، وبين من يرون — في المقابل — أنه لا مجال لهذا الحاضر — ومعه المستقبل — إلا مع الحداثة وأهلها، فإن الهوية، بدورها، قد كانت ساحة لمثل هذا الانقسام.

وإذ كان القرن العشرين هو اللحظة التي شهدت بروز ما يدل على تعاظم وعي المصريين ببلدهم، فإنه يجوز تصور أنه كان ساحة التداول الرئيسة لإثارة السؤال عن الهوية المصرية. ولعله يمكن النظر إلى ما كتبه طه حسين، في نهاية ثلاثينيات هذا القرن، عن «مستقبل الثقافة في مصر» على أنه أحد التجلِّيات الكبرى للانشغال بسؤال الهوية في مصر. وإذ كان الكتاب واضحًا ومباشرًا في القطع بأنه لا مستقبل — ولا حاضر — لمصر إلا عبر البحر الذي يصلها بأهل الشمال من الأوروبيين، فإنه كان لا بد أن يحفِّز على ظهور نقيضه الذي تبلور في حقل الدرس الفلسفي الإسلامي البازغ آنذاك؛ والذي راح يُلحُّ على فرضية الأصالة الإسلامية في المقابل.

وهكذا فإنه إذا كان الدرس الحديث للفلسفة الإسلامية قد بدأ في التبلور في مصر آنذاك، وعبر جهود الشيخ مصطفى عبد الرازق بالذات، فإنه يبدو أن هذا التبلور قد تحقَّق في ارتباطٍ جوهريٍّ مع ما أثاره طه حسين بما كتبه عن هوية مصر. وقد تفرَّع ذلك عن حقيقة أن هذه النشأة كانت إحدى آليات المواجهة مع موجة استعماريةٍ أوروبيةٍ عاتيةٍ تكتسح معظم بلدان العالم الإسلامي. ولأن هذه الموجة الاستعمارية كانت مصحوبة بحركة استشراقية تقوم على التشكيك في أصالة الحضارة الإسلامية؛ وذلك من خلال ما تقوم به من رد الفكر الإسلامي إلى أصولٍ يونانية، فإنه كان لا بد من الدفاع عن أصالة الحضارة الإسلامية من جانب الباحثين المسلمين. ومن هنا فإن سؤال الهوية كان — بحسَب ما تكشف قراءة النص المؤسِّس في الدرس الفلسفي الإسلامي الحديث — هو الإطار الذي تبلورت ضمنه الدراسة الحديثة للفكر الفلسفي والإسلامي على العموم.

ويبدو أنه إذا كان سؤال الهوية ينطوي — في جوهره — على ترتيب العلاقة مع الحاضر الذي يضغط على الذات ويفرض نفسه عليها، فإنه يقتضي ترتيبًا — في الآن نفسه — للعلاقة بين الذات والماضي أيضًا. بل إن رد الذات على الحاضر قد يتحقَّق كله من خلال تحديد موقفها من الماضي. وبالطبع فإنه بحسب ما يتم ترتيب علاقة الذات مع الحاضر، يكون ترتيب العلاقة بينها وبين الماضي. وهكذا فإن رد الشيخ مصطفى عبد الرازق على الضغط الأوروبي الحديث على الذات الإسلامية، كان هو ما دفعه إلى ترتيب العلاقة بين هذه الذات وبين اليونان (أجداد الأوروبيين) في الماضي. ويعني ذلك — على نحوٍ صريحٍ — أن الموقف من أوروبا الحديثة، وشكل حضورها في مصر، كان هو الذي يقف وراء تحديد نوع (الماضي) الذي تنتمي إليه مصر.

ويبدو أن الموقف من أوروبا الحديثة قد شغل المفكرين المصريين بقوةٍ، في النصف الأول من القرن العشرين، وبالذات عند نهاية الثلاثينيات. ولقد كانت تلك هي اللحظة التي كتب فيها الشيخ مصطفى عبد الرازق كتابه (تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية)، ولعله يمكن القول إن هذا الكتاب قد ظهر في سياق الحوار مع أحد أكبر المفكرين المصريين، وهو طه حسين الذي كان قد كتب — آنذاك — كتابه (مستقبل الثقافة في مصر). فعلى إثر توقيع معاهدة ١٩٣٦م التي استهدفت تنظيم العلاقة بين مصر وإنجلترا على النحو الذي مَنحت فيه إنجلترا نوعًا من الاستقلال الشكلي لمصر، كتب طه حسين نصَّه الذي ركَّز فيه على ترتيب العلاقة الثقافية بين مصر وأوروبا، على النحو الذي يجد فيه الترتيب الجديد للعلاقة السياسية بين مصر وإنجلترا ما يدعمه في الفضاء الثقافي. فقد بدا له أن الترتيب الجديد للعلاقة السياسية بين البلدين يقتضي أن يكون له أساسٌ ثقافيٌّ يرتكز عليه، مما دفعه للبحث عنه في الماضي البعيد. وهكذا فإن ما قاله عن أن مصر كانت في الماضي جزءًا من حوض البحر المتوسط الذي يربطها بأوروبا، هو في حقيقته تأسيسٌ لما ينبغي أن تكون عليه الرابطة بين مصر وأوروبا في الحاضر والمستقبل. وهنا يلزم التنويه بأن طه حسين لم يكن وحده، من المفكرين المصريين، الذي يرى أن مستقبل مصر يتحدد بارتباطها الوثيق مع أوروبا، بل شاركه آخرون في هذا التفكير، لعل من أبرزهم (سلامة موسى). وبقدر ما كان هؤلاء يربطون مصر بأوروبا فإنهم كانوا يُقللون من قيمة الارتباط بالشرق كمحدِّد لمستقبل مصر؛ بمعنى أن مستقبل مصر لن يتحدد — عند هؤلاء — بارتباطها بمحيطها الإسلامي، أو الشرقي على العموم.

وفي مقابل هذا التصور لمستقبل مصر في ارتباطها مع أوروبا عبر البحر المتوسط، على النحو الذي بدا معه أن أصالتها أو هويتها الإسلامية تتعرض للتهديد، فإن ثمة من راح يُدافع عن الأصالة الإسلامية على العموم، وكان من هؤلاء بالطبع الشيخ (مصطفى عبد الرازق) الذي يمكن القول إن المقالة الأساسية لمدرسته الفكرية هي الدفاع عن الأصالة الإسلامية، على الخصوص. ومن غير شكٍّ فإن هذا الدفاع عن الأصالة الإسلامية كان ردًّا، ولو من طريق غير مباشر، على دعاوَى ربط مصر بأوروبا التي يُنافح عنها المفكرون المصريون. وهكذا فإن كون المستشرقين — الذين ينكرون على الحضارة الإسلامية أي أصالةٍ — هم الخصم الذي كتب مصطفى عبد الرازق كتابه في مواجهتهم، لا يمنع من أن يكون طه حسين وسلامة موسى من الذين اهتم الكتاب بالرد عليهم أيضًا.

ولعل نقطة البَدء في قراءة الدرس الذي أنجزه عبد الرازق تنطلق من متابعة كيفية تعاطيه مع النص الفلسفي القديم، وهي المتابعة التي تكشف عن أن الانشغال الغالب لهذا الدرس قد انحصر، منذ بداياته وحتى الآن، في مجرد ترتيب العلاقة بين النص الإسلامي والنص اليوناني. وبالطبع فإن ذلك يرتبط بابتداء هذا الدرس على يد المستشرقين الذين كان لا بد أن يؤسسوه على قاعدة أن «العلوم الإسلامية مؤسسة منذ بدء نشأتها على علوم اليونان وأفكار اليونان، بل وعلى أوهام اليونان، حتى لا يكاد يَفهم آراء حكماء الإسلام، ولا مذاهبَ قدماء المتكلمين ولا بدعَ المبتدعين، من لم يكن له بحكمة اليونان معرفةٌ شافية، لا مجرد إلمام. وهذا لا يحتاج إلى أي برهانٍ، بل نُعوِّل فيه على العِيان. فصار هذا التاريخ (للفكر اليوناني)، والحالة هذه، كالمقدمة الضرورية لتاريخ التمدن الإسلامي لا يسع أحدًا من هذه الأمة إهماله، ولا طالب الحكمة جملة.»١ وهكذا تتأتى مركزية النص اليوناني من كونه الأصلَ المُدرَك — حسب المستشرق — بمجرد العِيان، ومن غير حاجةٍ إلى أي برهان، للنص الفلسفي الإسلامي.
والحق أن هذا الترتيب للعلاقة على نحوٍ يكون فيه اليونان — بعلومهم وأفكارهم، وحتى أوهامهم — أصلًا لكل ما عرفته الثقافة الإسلامية من آراء ومذاهب، وحتى بدع، إنما كان يتحدد بوضع المستشرق الذي «جرت العادة تقليدًا أن ينتسب مباشرة إلى الإدارة الاستعمارية؛ وهو ما يعني بالطبع ضرورة الإقرار بأن ما يقوله المستشرق أو يقوم به بوصفه باحثًا علميًّا إنما يتم في سياق مغرق في السياسة.»٢
وهكذا فإن الممارسة الاستشراقية كانت، في العمق، جزءًا من ممارسةٍ سياسيةٍ ذات طابع استعماريٍّ؛ بما يعني أنها كانت من قبيل الإنشاء للسلطة وليس المعرفة، وهي السلطة التي راحت تُحقق نفسها عبر تفريغ الثقافات موضوعِ الدرس من أي إبداع يخصها، والسعي إلى اختزال وردِّ كل فكرة فيها إلى أصل في الخارج؛ هو تراث الغرب نفسه. ولعل ذلك هو الأصل العميق في هيمنة المنهج الفيلولوجي بأدواته الملائمة لتحقيق هذا القصد الاختزالي على نظام الاستشراق إلى اليوم. فإذ «اشتهر هذا المنهج خصوصًا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكان أصحابه ينتهون إلى إنكار كل ما للمؤلف أو الفيلسوف أو صاحب الفن أو الحضارة المعينة، من طرافةٍ وشخصية وقدرة على الابتكار والخلق، فكانوا ينظرون إلى هؤلاء كخليطٍ يمكن أن ينحلَّ إلى عناصر موجودة من قبل»٣ (في ثقافة الدارس المسيطر وتراثه بالطبع)، فإن «مجمل النصوص الحديثة تشهد بجلاءٍ على الاستمرارية الإبستميائية والإبستمولوجية (المعرفية) لهذا الخطاب (أو المنهج) الاستشراقي، وذلك من حيث إننا نجد فيها نفس المنهجية والاهتمامات النَّموذجية الخاصة بطرازٍ محدَّدٍ من المعرفة يتمثل في البحث عن المصادر والأصول وضبط سلسلة الناقلين (الإسناد) واختزال الحقيقة التاريخية إلى مجرد جردٍ للوقائع والتسلسل الزمني الدقيق …، ودراسة التأثيرات التي يُمارسها الكُتَّاب القدماء على الكتَّاب المحدثين، وتتبع هذه التأثيرات في نصوصهم.»٤ وإذن فإن آلية تفتيت النص الفلسفي الإسلامي وإهدار كليته، هي التي هيمنت، ولا تزال، على بناء الاستشراق ونظامه. وغنيٌّ عن البيان أن هذه الآلية تتجاوب — على نحوٍ ظاهرٍ — مع كون الاستشراق هو تعبيرًا، في العمق، عن إرادة السلطة، وأيديولوجيا الهيمنة؛ وذلك من حيث ما تُتيحه من توفير الشرط المعرفي والسيكولوجي الذي يجعلها ممكنة.
وإذا كان الترتيب الاستشراقي للعلاقة بين النص الفلسفي اليوناني (كأصل) وبين النص الفلسفي الإسلامي كمجرد (هامشٍ) على هذا الأصل، قد هيمن — لسوء الحظ — على أعمال بعض الكُتَّاب المسلمين من الذين «أعلنوا أن الفلسفة الإسلامية هي فلسفة الفلاسفة الكندي والفارابي وابن سينا وابن باجة وابن طفيل وابن رشد … تلك الطائفة التي عُرفت باسم فلاسفة الإسلام، وحاولوا بمنهج المقارنة أن يبيِّنوا التطابق التام بين ما يُسمَّى فلسفة إسلامية وبين الفلسفة اليونانية أو الهيلينية القديمة، وحاولوا أن يردُّوا الأولى إلى الثانية مع تفصيلاتٍ جزئية، إما في منهج العرض أو منهج التنظيم أو التنسيق.»٥ فإن ثمة من سعى إلى تبخيس وتقليص هذا الطابع الاختزالي للنص الفلسفي الإسلامي وردِّه إلى النص اليوناني كأصلٍ له، بل والطموح إلى الارتفاع بهذا النص إلى مستوى الأصل أيضًا، انطلاقًا من أنه إذا كان «ليس بين العلماء نزاع في أن الفلسفة الإسلامية متأثرةٌ بالفلسفة اليونانية ومذاهب الهند وآراء الفرس، وهذا هو الذي يجعل الباحثين في تاريخ التفكير الإسلامي والفلسفة الإسلامية من الغربيين يقصدون في دراستهم إلى استخلاص العناصر الأجنبية التي قامت الفلسفة الإسلامية على أساسها، أو تأثرت بها في أدوارها المختلفة، يجعلون ذلك همَّهم، ويتحرَّون، على الخصوص، إظهار أثر الفكر اليوناني في التفكير الإسلامي واضحًا قويًّا، فإنه ليس من العدل إنكار ما لهذه الأبحاث من نفعٍ علميٍّ، بالرغم مما قد يُلابسها من التسرع في الحكم على القيمة الذاتية لأصل التفكير الإسلامي، وعلى مبلغ انفعال هذا التفكير بالعوامل الخارجية من غير اعتبارٍ لما يمكن أن يكون له من عمل فيها. والعوامل الأجنبية المؤثرة في الفكر الإسلامي وتطوره، مهما يكن من شأنها فهي أحداثٌ طارئةٌ عليه، صادفته شيئًا قائمًا بنفسه، فاتصلت به ولم تخلقه من عدم، وكان بينهما تمازج أو تدافع، لكنها، على كل حالٍ، لم تمح جوهره محوًا.»٦ وهكذا تبلور موقف الرائد الأول والكبير (الذي هو مصطفى عبد الرازق) في تأكيد أصالة النص الفلسفي الإسلامي في مواجهة النص اليوناني، ابتداءً من أن العلاقة بينهما لم تكن مجرد تطابقٍ وتمازج، بل إنها قد انطوت أيضًا على نوعٍ من الإزاحة والتدافع. والغريب أن ثمة من راح — من موقع المدافع عن الأصالة أيضًا — ينتقد هذه الرؤية انطلاقًا من أنها «اعتبرت فلسفة الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وغيرهم من شرَّاح فلسفة اليونان، فلسفة إسلامية فيها أصالة وإبداع، وفي هذا مجافاة للبحث العلمي الذي أثبت أن هؤلاء الفلاسفة لا يمثلون على الإطلاق — فيما تركوا من كتب وصلت إلينا — الأصالة الإسلامية الفلسفية، إنما هم امتداد لفلسفة هؤلاء الآخرين (اليونان)، ومراكز إسلامية للفلسفة اليونانية القديمة في عالمٍ جديدٍ (هو عالم الإسلام). ولم يقبل هذا العالم فلسفتهم، بل اعتبرها خارجة عليه ولا تمثله ولا تمتُّ إليه.»٧ وهكذا كان لا بد أن يئول منطق الدفاع عن الأصالة إلى طرد النص الفلسفي (الإسلامي) خارج حدود الثقافة الإسلامية كليًّا؛ وهو الطرد الذي لم يتأثر، فيما يبدو، بالسعي الذي تبلور — مع الرائد الكبير — إلى اعتبار النص الفلسفي الإسلامي من قبيل الأصل أيضًا.

وإذا كان يبدو، هكذا، أن الدرس الفلسفي الإسلامي خلال النصف الأول من القرن العشرين، قد انطوى على التباين بين اتجاه يلح على تصور النص الإسلامي مجرد هامش على النص اليوناني/الأصل، وبين اتجاه يقبل بالأثر اليوناني بالفعل، ولكن مع السعي إلى تأكيد نوعٍ من الأصالة للنص الإسلامي في مواجهة النص اليوناني، انطلاقًا من أن العلاقة بينهما قد انطوت على التمازج والتدافع معًا، فإنه يبدو وكأن ثمة انقسامًا، ضمن اتجاه التهميش، بين من يقبل بوضع النص الفلسفي الإسلامي كمجرد هامشٍ للأصل اليوناني، مع الاحتفاظ به قائمًا داخل الثقافة الإسلامية في نفس الوقت، وبين من يقبل بالوضع نفسه للنص الفلسفي كمجرد هامشٍ، ولكن مع طرده وإقصائه خارج حدود الثقافة بالكلية. والمهم أن الدرس قد ظل منطويًا، في كل الأحوال، على مجرد الانشغال بترتيب العلاقة بين اليونان والإسلام، وهو الترتيب الذي بدا، وقتئذٍ، متكئًا على آليتي التفتيت والبعثرة للنص من جهة، والعزل عن السياق (التاريخي والاجتماعي والحضاري والثقافي)، إلى حدِّ الطرد من الثقافة كليًّا، من جهة أخرى. وهو ما يعني أن النصوص كانت تحضر كشظايا صورية مبعثرة وهائمة في فضاء المجرد، وعلى نحوٍ لا يسمح فقط بكل ضروب الاختزالات والمطابقات بينها، بل ويجعل أساس تفسير النص الفلسفي الإسلامي ومركزه قائمَين في الخارج عند اليونان.

وهكذا يبقى «سؤال الهوية» هو المهيمن على وعي القائمين بالدرس الحديث للنص الفلسفي، وذلك من خلال مَحْوَرَتِهِم لهذا الدرس حول مجرد ترتيب العلاقة بين نصهم الإسلامي وبين النص الفلسفي اليوناني. وبالطبع فإن التباين بينهم في نوع الترتيب الذي يتصورونه لهذه العلاقة لا يؤثر أبدًا في اندراجهم تحت مظلة «خطاب الهوية» الفَضفاضة. ولسوء الحظ، فإن هذا التَّمَحْوُرَ حول الهوية كان لا بد أن يحول دون إنتاج معرفةٍ علمية منضبطة بالنص الفلسفي الإسلامي، على النحو الذي يلزم معه جعل «سؤال الهوية»، هو نفسه، موضوعًا «للسؤال».

والغريب حقًّا هو ما يبدو من أن التماثل يظل قائمًا بين من يُلح على الهوية المتوسطية لمصر (طه حسين) وبين من يؤكد على هويتها الإسلامية (مصطفى عبد الرازق)؛ وذلك من حيث تنبني الهوية، في الحالين، على ترتيب العلاقة مع أوروبا بالذات. وإذ يؤشر ذلك على دخول الآخَرية في تركيب الهوية عندهما معًا، فإن حقيقة أن ضغوط «السياسة» كانت هي التي تقف وراء هذا التركيب قد جعله أدنى ما يكون إلى التركيب «التجاوري» منه إلى التركيب «التفاعلي». فمن جهته، كان طه حسين مدفوعًا بضغوط الحالة السياسة التي أنتجتها ظروف توقيع معاهدة ١٩٣٦م بين مصر وإنجلترا. وبالطبع فإن تجاوب مصطفى عبد الرازق معه، ولو كان بالسير في الاتجاه النقيض، لا بد أن يكون محكومًا بضغوط نفس الحالة السياسية. ورغم أن ذلك يؤشر، بدوره، على أن الحاضر هو مركز التفكير في تلك الهوية، فإن هناك فارقًا بين أن يكون الحاضر أساسًا لقولٍ تأويليٍّ تنصهر فيه كل عناصر الهوية من دون اعتساف يئول إلى إقصاء — أو إسكات — بعض عناصرها، وبين أن يكون أساسًا لقولٍ يتمُّ فيه إقصاء بعض هذه العناصر على نحوٍ متعسفٍ. وفي كلمة أخرى، فإنه الفارق بين أن يكون الحاضر أساسًا لقولٍ «معرفي»، وبين أن يكون أساسًا لقول «أيديولوجي». ولعل ما يبدو من أن سؤال الهوية لم يُبارحْ موقعه، على مدى العقود، منذ اللحظة التي بلور فيها الرجلان خطابهما، لَمِمَّا يؤكد على أن ضغوط الحاضر لا تزال تحدد كل قولٍ في الهوية على نحوٍ أيديولوجي، وهو ما يلزم الوعي به — توطئة لتجاوزه — إذا كان القصد هو بناء مصر جديدة ومختلفة حقًّا.

١  سانتلانا: دروس التعاليم الفلسفية، نشره عصام الدين محمد علي، في: تاريخ المذاهب الفلسفية (منشأة المعارف بالإسكندرية) الإسكندرية، ١٩٨٩م، ص٣٤. وتتأتى القيمة القصوى لهذه الدروس من أنها تمثل أول محاولات الدرس الحديث للفلسفة الإسلامية في مصر والعالم العربي.
٢  إدوارد سعيد: تغطية الإسلامي، ترجمة: سميرة نعيم خوري (مؤسسة الأبحاث العربية) بيروت، الطبعة الأولى، ١٩٨٣م، ص١٦-١٧. فإذ انطلقت عمليات التوسع الاستعماري الأوروبي، مع ابتداء الكشوف الجغرافية، تُخضع العالمين القديم والجديد، فإن هذه العمليات من الاحتلال والاستيطان الكامل للأرض، ما كانت لتتحقق إلا وقد سبقها نوعٌ من التطويع للبشر والإخضاع للعقل. وهو ما تبلور لإنجازه كل من (الاستشراق) و (الأنثروبولوجيا)، وقد انطويا — لذلك — على إرادة للسلطة تتخفى وراء إرادة المعرفة. إذ فيما عرَف العالم القديم حضاراتٍ معروفةً وذات تراثٍ مكتوب، هي الإسلامية والبوذية والكونفوشيوسية، اتسع لها الاستشراق، كنوعٍ من الإنشاء الساعي للسلطة لا المعرفة — حسب (إدوارد سعيد) في كتابه المهم عن (الاستشراق) — فإن العالم الجديد لم يعرف إلا أشتاتًا مبعثرةً من بشر وسكان أصليين اعتبرهم الغرب بُدائيين وغيرَ متحضرين؛ لانتمائهم إلى عالمٍ غريب عنه بالكلية من حيث اللغة والسلوك والثقافة، فجاء تبلور الأنثروبولوجيا كأداة للنفاذ إلى هذا العالم وإخضاعه. ولهذا فإن الاستشراق لم يكن وحده الذي انبنى في سياق السياسة وإرادة السلطة، بل وكذلك الأنثروبولوجيا.
٣  كارل هينرش بيكر: تراث الأوائل في الشرق والغرب، منشور في عبد الرحمن بدوي (مترجم): التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية (دار النهضة العربية) ط٣، القاهرة ١٩٦٥م، ص٣.
٤  محمد أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ترجمة هاشم صالح (منشورات مركز الإنماء القومي) بيروت ط١، ١٩٨٦م، ص٢٥٨-٢٥٩.
٥  علي سامي النشار، نشأة التفكير الفلسفي في الإسلام، ج١ (دار المعارف بمصر) القاهرة ط٧، ١٩٧٧م، ص٤٦.
٦  مصطفى عبد الرازق: تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية (مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر) القاهرة ط٣، ١٩٦٦م، ص٩٨.
٧  علي سامي النشار، نشأة التفكير الفلسفي في الإسلام، ج١ (سبق ذكره)، ص٤٧، ٤٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤