الجزء الأول

١

خطرَت الفكرة على ذهني، في الواقع، في اليوم الذي حصلتُ فيه على طقم أسناني الجديد.

أتذكر ذلك الصباح جيدًا؛ فقُرابة الساعة الثامنة إلا الرُّبع قفزت من على السرير ودخلت الحمام مسرعًا، مباشرةً قبل أن يتمكن الطفلان من الدخول. كان صباحًا موحشًا من صباحات شهر يناير، بسمائه المُعَكرة الرمادية، الضاربة إلى الصُّفرة. بالأسفل، من المربع الصغير لنافذة الحمام، تمكنت من رؤية المساحة العُشبية التي تبلغ عشر ياردات طولًا، وخمس ياردات عرضًا، بسياجها من الشجيرات والرقعة الفارغة في المنتصف، التي نُسمِّيها الحديقة الخلفية. كانت تلك الحديقة الخلفية، بالسياج نفسه والعُشب نفسه، خلف كل منزل من منازل شارع إلزمير. الفارق الوحيد الذي قد يُميز منزلًا عن الآخر هو أنه عندما لا يكون ثَمة أطفالٌ في المنزل لا تكون في الحديقة تلك البقعةُ الفارغة في المنتصف.

كنت أحاول حلاقة ذقني بشفرة حلاقة كَليلة بعض الشيء، بينما كانت المياه تنساب في حوض الاستحمام. نظر إليَّ وجهي في المرآة، وأسفلها في كأس المياه الموضوعة على الرف الصغير فوق حوض الغسيل، كانت توجد الأسنان الخاصة بذلك الوجه. كان ذلك طقم الأسنان المؤقت الذي أعطاه لي طبيب الأسنان خاصتي وورنر لأستخدمَه حتى يصنع لي طقمًا جديدًا. إن وجهي ليس بذلك القُبح في الواقع؛ فهو وجهٌ من تلك الوجوه ذات اللون البني المائل إلى الحمرة التي دائمًا ما يُصاحبها شعرٌ سَمنيُّ اللون وعينان ذاتا لون أزرق فاتح. لم يُصبني الشيب أو الصلع قط، حمدًا لله، وعندما أُركِّب طقم أسناني لا يبدو عليَّ على الأرجح عمري الحقيقي، الذي هو الخامسة والأربعون.

ذكَّرت نفسي بضرورة شراء شفرات حلاقة جديدة، ودخلت إلى حوض الاستحمام وبدأت أغسل جسمي بالصابون. غسلت ذراعَيَّ (لديَّ ذراعان قصيرتان وسمينتان مبقعتان بالنمش حتى المرفقَين) ثم أخذت فرشاة الظَّهر وغسلتُ بها كتفَيَّ من الخلف، اللذَين لا أتمكن من الوصول إليهما بيدَي. إنه لأمر مزعج، ولكن ثمة أجزاء عدة في جسمي لا يُمكنني الوصولُ إليها هذه الأيام. الحقيقة هي أن جسمي يميل قليلًا إلى البدانة. لا أعني أنني أصبحت كالأشخاص الضخام الذين يظهرون في استعراضات المهرجانات؛ فوزني لا يتعدى تسعين كيلوجرامًا، وفي آخر مرة أخذتُ قياس خصري كان ثمانية وأربعين أو تسعة وأربعين، لا أتذكر بالتحديد. ولست كذلك مِمَّن يُعرَفون بالبدناء «المقززين»؛ فليس لديَّ ذلك البطن المتدلِّي إلى الركبتَين. كل ما هنالك أنني عريض الوَرِكَين وممتلئُ الأرداف بعض الشيء حتى أكاد آخذ شكل البرميل. هل تعرف ذلك النوع من الرجال البدناء الودودين والمتسمين بالنشاط، ذلك النوع الرياضي الضخم الذي يُطلِق عليه الناس اسم البدين أو المكتنِز، الذي دائمًا ما يكون روح الجمع وفاكِهتَه؟ أنا من هذا النوع. «البدين»، هذا هو الاسم الذي يُطلقونه عليَّ عادةً. بولينج البدين؛ فاسمي هو جورج بولينج.

ولكن في تلك اللحظة لم أكن أشعر بأنني روح الجمع وفاكهتُه. وقد هالني أنني في تلك الأيام كان ينتابني على نحو شبه دائم شعورٌ بالكآبة في الصباح الباكر، على الرغم من أنني أنام جيدًا وأن هضمي للطعام على ما يُرام. كنت أعلم سبب هذا الشعور بالطبع؛ إنه تلك الأسنان المؤقتة اللعينة، التي كانت تبدو كبيرةً بفعل المياه في الكأس، وكانت تبتسم لي كأسنان في جمجمة. لقد كان ينتج عن التقائها باللثة شعورٌ بغيض؛ لَذْعة وقُشَعْريرة شديدة كما لو كنت قد قضَمتُ تفاحة حامضة. إلى جانب ذلك، ولتعتقد ما تشاء، فإن طقم الأسنان يُمثل نقطة تحول في حياة المرء؛ ففي الوقت الذي تخسر فيه آخر سنة طبيعية في فمك، لن يعود باستطاعتك بالتأكيد أن تمزح متخيلًا نفسك أحدَ أبطال هوليوود الجذابين. وقد كنت بدينًا بالإضافة إلى كوني في الخامسة والأربعين. وعندما وقفت لأغسل نصفي الأسفل ألقيت نظرة على شكلي. إن ما يُشاع عن أن الرجال البدناء لا يُمكنهم رؤية أقدامهم مجرد هُراء، ولكن في الحقيقة عندما أقف على قدمَيَّ منتصب الظهر لا يُمكنني أن أرى إلا النصفَين الأماميَّين منهما. وقد خطر ببالي وأنا أغسل بطني بالصابون أنه لا يُمكن لامرأةٍ أن تنجذب إليَّ، إلا إذا كانت تتقاضى أجرًا على ذلك. لا يعني ذلك أنني كنت أريد أن تنجذب امرأة إليَّ في تلك اللحظة.

لكن ما أدهشني أنه في ذلك الصباح كانت ثمَّة أسباب من المفترض أن تجعلني في مِزاج أفضل؛ أهمها: أنني لم أكن ذاهبًا إلى العمل ذلك اليوم. إن السيارة القديمة، التي «أغطي» بها منطقتي (نسيت أن أخبرك أنني أعمل في مجال التأمين في شركة فلاينج سلامندر للتأمين على الحياة، والتأمين ضد الحرائق، والسطو على المنازل، وإنجاب التوائم، وغرق السفن، وتحطمها … وكل شيء.) كانت في الجراج قيد الإصلاح؛ وعلى الرغم من أنه كان عليَّ أن أمر على مكتب لندن لتسليم بعض الأوراق، فقد أخذت ذلك اليوم إجازة كي أذهب للحصول على طقم أسناني الجديد. إلى جانب ذلك، كان ثمة أمر آخر يشغَل ذهني من وقت لآخر في الفترة السابقة؛ إذ كان لديَّ سبعةَ عشر جنيهًا لم يعلم أحدٌ عنها شيئًا؛ أعني أحدًا من العائلة. وقد جرى الأمر على النحو التالي. وجد زميلٌ معنا في الشركة، يُدعى ميلورز، كتابًا بعنوان «علم التَّنجيم وسباقات الخيل»، الذي أثبت أن الأمر برُمَّته يعتمد على تأثير النجوم على ألوان الملابس التي يرتديها الفرسان. حسنًا، في أحد السباقات كانت تُشارك فَرَس تُدعَى عَروس القرصان، وكان حظها ضئيلًا في الفوز، ولكن فارسها كان يرتدي اللون الأخضر، الذي بدا أنه لون النجوم الطالعة. كان ميلورز المهووس بأمور التنجيم يُراهن بالعديد من الجنيهات على الفرس وترجَّاني أن أفعل مثله. في النهاية، ولإسكاته في المقام الأول، خاطرت بعشَرة شلِنات على الرغم من أنني لا أُمارس الرهانات في العادة. وكما هو متوقَّع، وصلت عروس القرصان إلى خط النهاية دون مجهود يُذكَر. أنا لا أتذكر التفاصيل على وجه الدقة، ولكن نصيبي كان سبعة عشر جنيهًا. وبدافع فطري — غريب على الأحرى، وربما يُشير إلى علامة فارقة أخرى في حياتي — اكتفيتُ بوضع النقود في البنك ولم أُخبِر أحدًا بالأمر. لم يسبق أن فعلتُ شيئًا كهذا من قبل؛ فالزوج والأب الصالح كان سيُنفِقها في شراء فستان لهيلدا (زوجتي) وحذاءين للطفلَين، ولكنني كنت زوجًا وأبًا صالحًا لمدة خمسة عشر عامًا، وكنت قد بدأت أضيق ذرعًا بالأمر.

بعدما وضعت الصابون على جسمي بالكامل، شعرت بالتحسُّن وتمدَّدت في حوض الاستحمام للتفكير في شأن الجنيهات السبعة عشر وفيمَ أُنفقها. بدا أن الاختيارَين المتاحَين أمامي هما إمَّا أن أقضيَ عطلة نهاية الأسبوع مع امرأة وإما أن أصرفها شيئًا فشيئًا على النثريات؛ كالسيجار وكئوس الويسكي المضاعفة. فتحتُ الصنبور للحصول على المزيد من الماء الساخن، وكنت أفكر في النساء والسيجار؛ وعندئذٍ سمعت ضوضاء كما لو أنَّ قطيعًا من الجاموس ينزل الدرجتَين اللتَين تقودان إلى الحمام. كانا الطفلَين بالطبع. إن وجود طفلَين في منزل بحجم منزلنا لهو أمرٌ أشبه بكمية كبيرة من الجِعَة في قدح صغير. كان ثَمة قرعٌ مسعور في الخارج ثم صرخةُ ألم.

«أبي! أريد الدخول!»

«لا يُمكنك ذلك. انصرف!»

«لكن أبي! أريد الدخول إلى مكان ما!»

«إذن ادخل مكانًا آخر. انصرف. فأنا أستحم.»

«أبي! أريد الدخول!»

لا فائدة من الأمر! أعرف أن هذه إشارة خطر قادم. المرحاض في غرفة الاستحمام، وبالطبع هو كذلك في منزل كمنزلنا. أخرجت السدادة من حوض الاستحمام ونشفت جسمي جزئيًّا بأقصى ما تمكنت من سرعة. وفي اللحظة التي فتحت فيها الباب، اندفع بيلي الصغير — ابني الأصغر البالغ من العمر سبعة أعوام — وتخطاني متفاديًا ضربة على رأسه كنت أُخطط لها. فقط عندما اقتربت من إنهاء ارتدائي لملابسي وبحثت عن رابطة عنق، اكتشفت أن عنقي ما زال عليه بعض الصابون.

من البغيض أن يكون عنقك زلقًا بالصابون. إنه شعور لزج ومقزز؛ والغريب في الأمر أنه مهما حرَصْت على إزالة الصابون عنه بالإسفنجة، فبمجرد أن تكتشف أنه زلق يُصاحبك هذا الشعور اللزج طوال اليوم. نزلت الدَّرَج بمزاج سيئ وعلى استعداد أن أكون سيئ الطبع.

غرفة الطعام في منزلنا، مثل غرف الطعام الأخرى في منازل شارع إلزمير، هي مكان صغير وضيق، تبلغ مساحته أربعَ عشرة قدمًا طولًا، واثنتَي عشرة قدمًا عرضًا، أو ربما اثنتَي عشرة قدمًا طولًا وعشر أقدام عرضًا؛ والخوان المصنوع من خشب البلوط ذو الطراز الياباني، بدورقَي الخمر الفارغَين وحامل البيض الفِضي الذي أعطته والدة هيلدا لنا هديةً في زفافنا، كان يضيِّق المكان. كانت العجوز هيلدا عابسة خلف إبريق الشاي، في حالتها المعتادة من الذعر والرعب بسبب إعلان صحيفة «نيوز كرونيكال» عن ارتفاع سعر الزبد، أو شيء من هذا القبيل. لم تكن قد أوقدَت مِدفأة الغاز؛ وعلى الرغم من أن النوافذ كانت مغلقة، فقد كان المنزل باردًا برودةً موحشة. انحنيت للأسفل وأشعلتُ المدفأة بعود ثقاب، وأخذت أتنفَّس بصوت عالٍ من أنفي (فالانحناء يجعلني دائمًا ألهث بشدة) في نوع من التلميح لهيلدا. نظرت إليَّ نظرة خاطفة بطرف عينَيها كما كانت تنظرها إليَّ دائمًا عندما تعتقد أنني أفعل شيئًا متهورًا.

إن هيلدا في التاسعة والثلاثين من عمرها، وعندما قابلتها أولَ مرة كانت تبدو تمامًا كالأرنبة البرية. وهي لا تزال كذلك بعضَ الشيء، ولكنها أصبحَت شديدة النحافة ويشوبها بعض الذبول، مع كآبة دائمة ونظرة قلقة في عينَيها، وعندما يزيد انزعاجها عن المعتاد تُحدِّب كتفَيها وتشبك ذراعَيها أمام صدرها كامرأة غجرية عجوز تجلس أمام موقدها. إنها من هؤلاء الأشخاص الذين يستمدون متعتهم الأساسية في الحياة من توقُّع الكوارث؛ الكوارث التافهة فقط بالطبع. أما الحروب والزلازل والأوبئة والمجاعات والثورات، فلا تأبهُ لها. زيادة سعر الزبد وتضخم فاتورة الغاز وتلف أحذية الطفلَين وقسط الراديو؛ هذا ما تهتم به هيلدا كل يوم. إنها تُدرك ما اكتشفتُ مؤخرًا أنه متعة فعلية والمتمثِّلَ في أن تتحرك ذهابًا وإيابًا وذراعاها أمام صدرها، بينما تعبس في وجهي قائلةً: «ولكن يا جورج الأمر في غاية الخطورة! ولا أعلم ماذا سنفعل! فلا أعلم من أين سيأتي المال! لا يبدو أنك مُدرِك لخطورة الأمر»، وهكذا دواليك. إنه من الراسخ بثباتٍ في عقلها أننا سينتهي بنا الحال في ملجأ للفقراء. الغريب في الأمر هو أننا إذا حدث في يوم وذهبنا إلى أحد ملاجئ الفقراء، فلن يكون لدى هيلدا حرجٌ قِيدَ أنملة بقدر ما يكون لديَّ؛ بل إنها في الواقع قد تستمتع كثيرًا بشعور الأمن هناك.

كان الطفلان قد سبَقاني بالفعل إلى الدور الأرضي، وقد اغتسلا وارتديا ملابسهما في سرعة البرق كما يفعلان دائمًا عندما لا تكون أمامهما فرصةٌ لإبعاد أي شخص آخر عن الحمام. وعندما جلست إلى طاولة الإفطار، كانا يخوضان جدالًا وصل إلى مرحلة «لقد فعلت ذلك!» «لا، لم أفعل!» «بل فعلت!» «لا، لم أفعل!» وبدا لو أنهما سيظلان هكذا طوال النهار حتى أمرتهما أن يتوقفا. ليس لديَّ أطفال سواهما؛ بيلي الذي يبلغ من العمر سبعة أعوام ولورنا التي تبلغ أحد عشر عامًا. ينتابني شعور غريب تجاه الطفلَين؛ فمعظم الوقت لا أكاد أُطيق النظر إليهما، ناهيك عن مُحادثاتهما التي لا تُحتمَل. إنهما في تلك السن المملة الطامحة لاحتياجات العيش البسيطة؛ حيث يدور تفكير الطفل حول أشياء مثل المساطر والمقالم ومَن حصل على أعلى درجة في مادة اللغة الفرنسية. في أحيان أخرى، خاصةً عندما يكونان نائمَين، أشعر بشيء مختلف تمامًا؛ إذ أقف في بعض الأحيان أمام سريرَيهما في ليالي الصيف المضيئة وأشاهدهما وهما نائمان، بوجهَيهما المستديرَين وشعرهما الكتَّاني اللون الأفتح من لون شعري بعدة درجات، ويُعطيني هذا ذلك الشعور الذي تُحس به حين تقرأ قول الإنجيل إن أحشاءك قد حَنَّتْ؛ ففي تلك الأحيان أشعر أنني مجرد غلاف حبوب جاف لا يُساوي شيئًا، وأن قيمتي الوحيدة هي في أن أجيء بهذَين الكائنَين إلى الحياة وأطعمهما حتى يَكبرا. ولكن ذلك الشعور لا يستمر إلا للحظات، بينما أغلب الوقت يكون وجودي المنفصل عنهما مهمًّا للغاية لي، وأشعر أنه ما زالت أمام كلب عجوز مثلي حياةٌ طويلة ومزيدٌ من الأوقات الجيدة، وفكرة أن أكون وديعًا كالبقرة الحلوب التي تُطعِم الزوجة والأطفال لا تروق لي.

لم نتحدث كثيرًا في ساعة الإفطار. وقد كانت هيلدا في ذلك المزاج «لا أعلم ماذا سنفعل!» من ناحية بسبب سعر الزبد، ومن ناحية أخرى بسبب قُرب انتهاء إجازات الكريسماس وكان لا يزال علينا دفعُ خمسة جنيهات مصاريف للمدرسة عن الفصل الدراسي الأخير. أكلت بيضتي المسلوقة وفردت بعضًا من مربى جولدن كراون على قطعة من الخبز. تُصر هيلدا على شراء هذا الشيء. إن سعره خمسة بنسات ونصف البنس، ومكتوب على الملصق خاصتِه بأصغر خط يسمح به القانون: إنه يحتوي على «نسبة معينة من عصير الفاكهة متعادل الحموضة». استفزني ذلك فتحدثت، بالطريقة الغاضبة التي أتحدث بها في بعض الأحيان، عن أشجار الفاكهة متعادلة الحموضة متسائلًا عن شكلها والبلدان التي تنمو فيها حتى أثَرت في النهاية غضب هيلدا. لم يكن ذلك لأنها تُمانع من سخريتي منها، ولكن لأنها على نحو غامض تظن أنه من الكريه أن نَسخر من أي شيء نُوفر فيه بعض المال.

ألقيت نظرة على الصحيفة، ولكن لم تكن ثَمة أخبار تُذكَر. في الجنوب في إسبانيا وفي الجانب الآخر في الصين كان الناس يتقاتلون كعادتهم؛ وعُثِر على ساقَي امرأة في غرفة انتظار بمحطة للسكك الحديدية؛ وكان زفاف الملك زُوجو على كف عِفريت. وفي النهاية، في حوالي الساعة العاشرة، وقبل ما كنت أتوقع، خرجت إلى البلدة. ذهب الطفلان للعب في الحدائق العامة. كان صباحًا باردًا برودة موحِشة. وبمجرد أن تخطَّيت عتبةَ الباب، هبَّت ريحٌ كريهة التصقت بالصابون المتبقي على عنقي، وجعلتني أشعر فجأة بأن ملابسي لم تعد صالحةً للخروج وأن كل ما فيَّ لزج.

٢

هل تعرف الشارع الذي أسكن فيه، شارع إلزمير بمنطقة غرب بلتشلي؟ حتى إذا لم تكن تعرفه، فبالتأكيد تعرف خمسين شارعًا آخر يُشبهه تمامًا.

تعرف كيف تنتشر هذه الشوارع في جميع الضواحي الداخلية والخارجية. وهي تتشابه دائمًا. إنها طويلة، بصفوف طويلة من منازل صغيرة نصف مستقلة — إن أرقامها في شارع إلزمير تصل إلى ٢١٢، ومنزلنا هو المنزل رقم ١٩١ — تُشبِه منازل الإيجار المملوكة للبلديَّة، بل هي أكثر قبحًا عادةً؛ حيث الواجهات المكسوَّة بالجِصِّ، والبوابات المطليَّة بزيت القَطِران، وسياج الشجيرات، والأبواب الأمامية الخضراء. ومن سكانها آل لوريل وميرتل وهوثورن ومون إبري ومون ريبوس، وبيل فيو. ربما في منزل واحد من كل خمسين منزلًا يُوجَد شخص غير اجتماعي مِمَّن قد ينتهي بهم الحال في ملجأ للفقراء، والذي قد طُلي بابه الأمامي باللون الأزرق وليس الأخضر.

هذا الإحساس اللزج حول عنقي قد أكسبني مِزاجًا أشعر فيه بالإحباط. من الغريب أن تشعر بالكآبة بسبب عنق زلق؛ إذ يبدو أنه يسلبك كل نشاطك، مثلما تكتشف فجأة في مكان عامٍّ أن نعل أحد زوجي حذائك قد انخلَع. لم تكن لديَّ أيُّ أوهام عن نفسي في ذلك الصباح، ولكن الأمر كان كما لو كنتُ أقف على مسافة وأُشاهد نفسي أنزل إلى الشارع بوجهي الأحمر البدين وطقم أسناني وملابسي القديمة. إن رجلًا مثلي لا يقدر على أن يبدو كالوجهاء. وحتى إذا رأيتني على مسافة مائتَي ياردة، فستعلم على الفور أنه ليس بالضرورة أنني أعمل في مجال التأمين، بل بائع متجوِّل أو مندوب مبيعات؛ فالملابس التي كنت أرتديها كانت في الواقع الزيَّ الرسمي لمن يعملون في مثل مهنتي. لقد كنتُ أرتدي بدلة رمادية بخطوط متعرجة كانت في حالة سيِّئة بعض الشيء، ومِعْطفًا أزرق قيمته خمسون شِلنًا، وقبَّعة مستديرة، ولا أرتدي قفازًا. ويبدو عليَّ ذلك المظهرُ المميز لهؤلاء الذين يبيعون أشياء بعمولة، وقد كان مظهرًا غليظًا وفظًّا. في أفضل أوقاتي، عندما أشتري بدلة جديدة أو عندما أُدخن السيجار، قد أبدو مثل وكيل مراهنات بسباقات الخيل أو صاحب حانة، وعندما أكون في أسوأ حالاتي، قد أبدو مثل بائعي المكانس الكهربائية؛ أما في الأوقات العادية، فقد يُمكنك جيدًا معرفةُ أي نوع من الرجال أنا. «لا بد أنه يتقاضى من خمسة إلى عشرة جنيهات في الأسبوع.» هكذا ستقول لنفسك بمجرد أن تراني. من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، أُعَد في المستوى المتوسط لسكان شارع إلزمير.

أصبح الشارع لي وحدي تقريبًا؛ فقد هُرِع الرجال للَّحاق بقطار الثامنة وإحدى وعشرين دقيقة، وكان النساء يجلسن أمام مواقد الغاز. عندما يكون لديك الوقت للنظر حولك، وعندما يتصادف أن تكون في مِزاج جيد، فثمَّة شيء يجعلك تضحك بينك وبين نفسك عند السير في هذه الشوارع في الضواحي الداخلية والخارجية، والتفكير في هؤلاء الذين يعيشون فيها؛ لأنه، في نهاية المطاف، ما ظنُّك بهذا الشارع الذي يُسمَّى شارع إلزمير؟! إنه مجرد سجن بزنزانات مصطفَّة؛ صفٌّ من غُرف التعذيب شبه المنفصلة، حيث يرتجف ويرتعش هؤلاء الفقراء المصابون بالهزال الذي يحصلون في الأسبوع على خمسة جنيهات إلى عشرة جنيهات، وكل واحد منهم لديه مدير في عمله يُنغص عليه حياته، وزوجةٌ تستبد به كالكابوس، وأطفال يمتصون دمه كالعلقات. ثمة الكثير من الهراء مما يُقال عن معاناة الطبقة العاملة، ولكنني لستُ شديد الأسف على هؤلاء الكادحين. هل عرَفت يومًا عامل حفرٍ يظل مستيقظًا بالليل يُفكر في طرده من العمل؟ يُعاني أبناء الطبقة العاملة بدنيًّا، ولكنهم يُضْحون رجالًا أحرارًا عندما لا يعملون. ولكن في كل صندوق من تلك الصناديق الصغيرة المكسوة بالجِصِّ يسكن وغدٌ مسكين لا يتحرر قط إلا عندما ينام بعمق ويحلم بأنه يُلقي بمديره في قعر بئر ثم يُلقي عليه قطعًا من الفحم المتَّقِد.

في واقع الأمر، إن المشكلة الأساسية لدى أشخاصٍ مثلنا، بحسَب تصوري، هي أننا جميعًا نتخيل أن لدينا شيئًا قد نَخسره. بادئ ذي بَدْء، فإن تسعة أعشار سكان شارع إلزمير يتصورون أنهم يملكون منازلهم، ولكن شارع إلزمير والحي بأكمله الذي يُحيط به حتى تصل إلى هاي إستريت هو جزء من مشروع احتيالي ضخم باسم عقارات هيسبيريدز، وهو مِلك لجمعية البناء تشيرفول كريديت. تكاد تكون جمعيات البناء النصَّاب الأذكى في العصر الحديث. إن مجال التأمين الذي أعمل فيه يُمارس خداعًا أيضًا، أشهد على ذلك، ولكنه خداعٌ صريح مكشوفة أوراقه، بينما ما يُميز خداعَ جمعيات البناء هو أن ضحاياها يعتقدون أنها تعمل لمنفعتهم؛ إنها تضربهم بعنف ويُقبِّلون هم يدها. إنني أعتقد في بعض الأحيان أن عقارات هيسبيريدز يجب أن تُكرَّم بتمثال ضخم يُمثِّل إله جمعيات البناء، الذي سيكون تمثالًا غريب الأطوار، ومن بين أمور أخرى، سيكون ثنائيَّ الجنس. سيُمثل الجزء الأعلى من التمثال مديرًا عامًّا، بينما يُمثل الجزء الأسفل زوجةً بشكلها العائلي. وفي إحدى يدَيه سيحمل مِفتاحًا ضخمًا — مِفتاح ملجأ الفقراء بالطبع — وفي اليد الأخرى سيحمل ذلك الشيءَ الأشبه بالبوق الفرنسي الذي تخرج منه الهدايا، الذي يُطلقون عليه قرن الوفرة، والذي ستخرج منه أجهزة راديو محمولةٌ ووثائقُ تأمين على الحياة وأطقم أسنان وأقراص أسبرين وواقيات ذكَرية ومداحل حدائق إسمنتية.

في حقيقة الأمر إننا في شارع إلزمير لا نملك منازلنا، حتى عندما ننتهي من دفع أقساطها؛ فهي ليست حيازة عقارية خالصة، بل هي فقط حيازة على سبيل الإيجار. وهي قيمتها خمسمائة وخمسون جنيهًا تُدفَع على مدة ستِّين عامًا؛ وهي من ذلك النوع من المنازل التي إذا دفَعت سعرها نقدًا دُفعةً واحدة، فسيكون سعرها ثلاثمائة وثمانين تقريبًا. ذلك يُمثل فائدةً قدرُها مائة وسبعون لصالح شركة تشيرفول كريديت، ومن نافلة القول أن تشيرفول كريديت تتحصل على أكثرَ من ذلك من هذه العملية؛ حيث تشمل الجنيهات الثلاثمائة والثمانين ربحَ المقاول، ولكن تشيرفول كريديت، تحت اسم ويلسون آند بلوم، تبني المنازل بنفسها وتستولي على ربح المقاول، وكل ما تُضطَر إلى دفعه هو تَكلِفة مواد البناء، ولكنها تتحصل كذلك على مكسب من مواد البناء؛ إذ تبيع لنفسها تحت اسم بروكس آند سكاتربي الطوب والبلاط والأبواب وإطارات النوافذ والرمل والإسمنت، والزجاج على ما أظن. ولم أستغرب على الإطلاق عندما علمت أنهم تحت اسم مستعار آخَر يبيعون لأنفسهم الأخشابَ لصناعة الأبواب وإطارات النوافذ. وكذلك — وهو شيء متوقع جدًّا — فعلى الرغم من أننا قد صُدمنا جميعًا عندما اكتشفنا الأمر، فإن تشيرفول كريديت لا تلتزم دائمًا بتعهداتها. عندما بُنِيَت المنازل في شارع إلزمير كان من المفترض أن تكون مُحاطة ببعض المساحات المفتوحة، التي لم تكن لتكون مذهلةً للغاية، ولكن جيدة كي يلعب فيها الأطفال، وقد أطلقوا عليها اسم مروج بلات. لم يكن أيٌّ من ذلك موثَّقًا بالمستندات، ولكنه كان دائمًا معروفًا لدينا أن مروج بلات لن تُقام أبدًا. ولكن غرب بلتشلي كانت ضاحية متنامية، وافتُتح مصنع مربى روثويل في عام ١٩٢٨ ومصنع أنجلو أمريكي للدراجات المصنوعة من الصُّلب في عام ١٩٣٣، وكان عدد السكان في تزايد وارتفعت قيمة الإيجارات. لم أرَ قط السير هربرت كروم أو أيًّا من أصحاب الصيت في شركة تشيرفول كريديت وجهًا لوجه، ولكن يُمكنني تخيُّلهم ولُعابهم يسيل جشعًا؛ لذا، وصل عمال البناء فجأة وبدأ إنشاء المنازل على أرض مروج بلات. وبدأت صيحات الغضب تتصاعد من سكان هيسبيريدز، وأسسوا جمعية للدفاع عن حقوقهم، لكن بلا فائدة. لقد قضى علينا محامي كروم في خمس دقائق، وتم البناء على أرض مروج بلات. ولكن الخدعة الأكثر مكرًا حقًّا، تلك التي جعلتني أشعر أن العجوز كروم يستحق لقب البارون الذي كان يملكه، هي الخدعة الذهنية؛ فبفضل الوهم وحده الذي لدينا بأننا نملك منازلنا، وأن لنا ما يُسمَّى «قدمًا في المكان»، تحولنا نحن الساذَجين المساكين من سكان هيسبيريدز وغيرها من الأماكن المماثلة إلى عبيد كروم مخلصين للأبد. نحن جميعًا أصحابَ المنازل المحترمين، أو بالتحديد المحافظين (المؤيدين والمتملِّقين)، لم نَجرُؤ على أن نقتل الإوزَّة التي تبيض البيض الذهبي! وحقيقة أننا لم نكن بالفعل أصحابَ منازل؛ لأننا ما زلنا نُسدد أثمانها والرعب المميت من أن شيئًا قد يحدث قبل أن نتمكن من سداد آخر قسط ينخر في عظامنا، زادت ببساطة من تأثير الأمر علينا. جميعًا اشتُرِينا، والأدهى من ذلك أننا اشتُرِينا بمالنا الخاص. كل فرد من هؤلاء الأوغاد المدوسين بالأقدام المساكين يعمل ويعرق كي يدفع ضِعف السعر الحقيقي لمنزل من الطوب يُدعَى على نحو زائف «بيل فيو»، الذي يعني المنظر الجميل، ولكنه عكس ذلك تمامًا. وكل شخص من هؤلاء الضائعين المساكين على استعداد للموت في ميدان الحرب دفاعًا عن بلده ضد البلشفية.

انعطفت إلى شارع وولبول ثم إلى هاي إستريت، حيث القطار الذاهب إلى لندن في العاشرة وأربع عشرة دقيقة. كنت أمرُّ للتو على متجر لبيع الأشياء الرخيصة وتذكرت حينها الملاحظةَ التي وضعتُها في ذهني هذا الصباح لأشتريَ مجموعة من شفرات الحلاقة. وعندما وصلت إلى مكان بيع الصابون، كان مدير الفرع — أو أيًّا كان مسمَّاه الوظيفي — يسب الفتاة المسئولة هناك. بوجه عام، لم يكن ثَمة العديد من الناس في المكان في تلك الساعة من الصباح. في بعض الأحيان إذا ذهبت إلى هناك بعد وقت الفتح مباشرةً، فسترى جميع البائعات مصطفَّاتٍ لسماع سِبابهن الصباحي؛ لا لشيء إلا كي يستقمن في العمل خلال اليوم. يُقال إن سلاسل المتاجر الكبيرة هذه بها رجال لديهم قدرة خاصة على السخرية اللاذعة والإيذاء، الذين يُرسَلون من فرع إلى آخر ليُوبِّخوا الفتيات كي يعملن جيدًا. كان مدير الطابق شيطانًا قبيحًا ضئيل الحجم، أصغر من الحجم العاديِّ، بكتفَين مربَّعتَين تمامًا وشاربٍ رمادي شائك. وقد عنَّف لتوِّه الفتاةَ بشأنِ شيء ما، من الواضح أنه خطأٌ ما ارتكبته يتعلق بحساب الباقي من إحدى عمليات الشراء، وكان يلومها بصوت يُشبه صوت المنشار الدائري، قائلًا:

«أيتها الغبية! بالطبع لم تحسبيها جيدًا! بالطبع لم تفعلي. ستنالين عقابًا شديدًا، سترين. أيتها الغبية!»

وقبل أن أمنع نفسي من النظر إليهما، لمحت عينايَ الفتاة. لم يكن من اللطيف أن ينظر إليها رجل بدين مثلي في منتصف العمر بوجهه الأحمر بينما تتلقى السباب. صرفت وجهي بأسرعِ ما تمكنت وتظاهرت بالاهتمام بالأشياء الموضوعة على طاولة البيع المجاورة؛ حلقات الستائر أو غيرها من الأشياء. انتبه لها مرة أخرى، وقد كان أحد هؤلاء الذين ينصرفون ثم يعودون إليك فجأةً مندفعين كاليعسوب.

وقال لها: «بالطبع لم تحسبيها جيدًا! فلا يُهمك إن خسرنا شلنَين. لا يُهمك على الإطلاق. ما قيمة الشلنَين بالنسبة لك؟ إنك لا تكلفين نفسك عناء حسابها جيدًا. أيتها الغبية! لا يُهمك سوى مصلحتك. لا تُفكرين في الآخرين، أليس كذلك؟»

استمر هذا الصراخ لمدة خمس دقائق تقريبًا بصوت يصل إلى منتصف المتجر. وتابع الانصراف عنها ليجعلها تظن أنه انتهى من توبيخها، ثم العودة إليها فجأة مندفعًا ليخوض جولة تعنيف أخرى. وأثناء ابتعادي شيئًا فشيئًا قليلًا ألقيت نظرة خاطفة عليهما. كانت الفتاة صغيرة في الثامنة عشرة من عمرها تقريبًا، ممتلئة قليلًا بوجه غير مبالٍ بعض الشيء، من ذلك النوع الذي لا يُحسن حساب الباقي بأي حال. تحوَّل لونها إلى الوردي الباهت وكانت تتلوى، في الواقع كانت تتلوى من الألم؛ فقد كان الأمر تمامًا كما لو أنه كان يُمزقها بالسوط. وكانت الفتيات عند طاولات البيع الأخرى يتظاهرن بعدم سماع شيء. كان شيطانًا ضئيل الحجم قوي البنية قبيحًا، من ذلك النوع المشاكس من الرجال الذين يفردون صدورهم ويضعون أيديَهم أسفل أطراف معاطفهم؛ ذلك النوع الذي يصلح أن يكون في رتبة رقيب أول، ولكنه ليس طويلًا بما يكفي. هل تُلاحظون كثرة الرجال الضَّئيلي البِنْية في الأعمال القائمة على التنمر؟ كان ملتصقًا بها بوجهه وشاربه وجميع جسمه تقريبًا؛ كي يصرخ في وجهها مباشرةً، بينما الفتاة بالكامل تتورد خجلًا وتتلوَّى.

وأخيرًا، قرر أنه قد قال ما فيه الكفاية، وانصرف مختالًا كأميرال على سطح مؤخرة سفينة، واقتربتُ من طاولة البيع لأشتري الشفرات. لقد علم أنني سمعت كل كلمة، كما علمَت هي كذلك، وكلاهما كان يعلم أنني أعلم أنهما يعلمان. ولكن الأسوأ في الأمر أنه لمصلحتي عليها أن تتظاهر بأنَّ شيئًا لم يحدث وتتصرف بذلك السلوك المتحفِّظ من الحفاظ على المساحة بيننا، التي يجب على البائعات أن يُحافظن عليها بينهن وبين الزبائن من الرجال. كان عليها تمثيل دور الشابة الناضجة لنصف دقيقة بعد أن رأيتُها تُسَب كالخادمات. كان وجهها لا يزال متوردًا وكانت يداها ترتجفان. طلبتُ منها شفرات رخيصة وبدأت تبحث عنها في صينيَّة الشفرات التي بقيمة ثلاثة بنسات. ثم استدار الشيطان الضئيل مدير الفرع نحونا، وللحظة ظن كلانا أنه كان قادمًا ليُعيد الكَرَّة. جفلَت الفتاة ككلب رأى سوطًا، ولكنها كانت تنظر إليَّ بطرف عينَيها. يُمكنني أن أرى أنها كانت تكرهني كرهها للشيطان لأنني قد رأيتها وهي تُسَب. يا له من أمر غريب!

انصرفت ومعي شفرات الحلاقة. وأخذت أسال نفسي: لماذا يتحمَّلن ذلك؟ إنه الخوف بالتأكيد؛ فإن نبسن ببِنْت شَفة ردًّا على الإهانة، فسيُطرَدن. وكذلك الأمر في كل مكان. فكَّرت في أمر الشاب الذي يخدمني في بعض الأحيان في متجر البقالة الذي نتعامل معه والذي ينتمي لسلسلة متاجرَ تحمل نفس الاسم. إنه فتًى ضخمٌ للغاية في عمر العشرين، بوجنتَين كالوردتَين وساعدَين ضخمَين؛ ومن الأرجح أن يعمل في الحِدادة. وها هو في سُترته البيضاء منحنيًا على طاولة البيع فاركًا يدَيه ومرددًا: «نعم سيدي! صحيحٌ جدًّا يا سيدي! طقس لطيف بالنسبة لهذا الوقت من العام يا سيدي! كيف يُمكنني أن أتشرف بمساعدتك اليوم يا سيدي؟» وهو في الواقع يطلب منك أن تُهينه، وأن تُعطيَه الأوامر بالطبع، والزَّبون دائمًا على حق. الشيء الذي يُمكنك أن تراه على وجهه هو الفزع المميت من أن تُبلغ عن أنه غير صبور ومِن ثَم يُطرَد من عمله. إلى جانب ذلك، كيف له أن يعرف أنك لست أحدَ الجواسيس الذين تُرسلهم الشركة لمراقبة سير العمل؟ الخوف! نحن نسبح فيه. إنه العنصر الأساسي للحياة التي نعيشها؛ فكل من لا يرعبه فقدان عمله يرتعب من الحرب أو الفاشية أو الشيوعية أو من شيء ما. يتصبَّب اليهود عرقًا عندما يتذكرون هتلر. خطر في ذهني أن ذلك الوغد الضئيل ذا الشارب الشائك ربما كان في ذلك المشهد اللعين أكثرَ خوفًا على عمله مما كانت الفتاة؛ فلربما كانت لديه عائلة يعولها، وربما هو في المنزل، رجل حليم ولطيف يزرع الخيار في حديقته الخلفية، ويدع زوجته تجلس على حجره وأولاده يشدون شاربه، مَن يعلم. وعلى المنوال نفسه قد لا تكون قد سمعت عن قاضٍ في محاكم التفتيش الإسبانية أو أحد من كبار المسئولين في الشرطة السرية للاتحاد السوفييتي دون أن تسمع أنه في حياته الخاصة كان رجلًا جيدًا وطيبًا، وزوجًا وأبًا صالحًا، ويرعى طائر الكناري الأليف الذي يُربيه، وما إلى ذلك.

كانت الفتاة الواقفة إلى طاولة بيع الصابون تنظر إليَّ وأنا أخرج من الباب، وكادت لتقتلني إن كان باستطاعتها. عجبًا، لقد كرهَتني بشدة لأنني رأيتها! كرهتني أكثر مما كرهت مديرها.

٣

كانت ثمة طائرة قاذفة للقنابل تطير على ارتفاع منخفض فوق القطار الذي كنت أركب فيه. ولمدة دقيقة أو دقيقتَين بدَت متزامنة في حركتها مع القطار. وكان يجلس أمامي رجلان سوقيَّان يرتديان معطفَين رثَّين، وكان من الواضح أنهما مروِّجان من نوع متدنٍّ؛ فلربما كانا مُروجَي جرائد. كان أحدهما يقرأ صحيفة «ديلي ميل»، والآخر كان يقرأ صحيفة «ديلي إكسبريس». ويُمكنني أن أستشف من سلوكهما أنهما يظناني مثلهما. أما في الجهة الأخرى من العربة، فقد كان يجلس كاتبا محامٍ بحقيبتَين سوداوَين ويتبادلان أطراف حديث مليءٍ بالهُراء القانوني الذي يُعنَى به إبهارُنا وإعلانُ أنهما لا ينتميان للقطيع من العامة.

كنتُ أشاهد الأجزاء الخلفية للمنازل التي نمرُّ عليها. وكان القطار بعد غرب بلتشلي يمر أغلب الوقت على أحياء فقيرة، ولكن ثمة شعورًا بالسلام يأتيك من النظر إلى الساحات الخلفية الصغيرة ببعض الأزهار الموجودة في صناديق والأسطح المستوية؛ حيث تنشر النساءُ الملابس وأقفاصَ الطيور المعلَّقة على الجدران. تمايلَت الطائرة القاذفة للقنابل السوداء الكبيرة قليلًا، وارتفعت في الهواء حتى إنني لم أعد أستطيع رؤيتها. كنت أجلس وظهري إلى المحرك. وكان أحد المروجين الجالسين أمامي قد نظر إلى الطائرة بانتباهٍ لمدة ثانيةٍ واحدة فقط. أعلم ما كان يُفكر فيه؛ لأنه كان ما يُفكر فيه أي أحد. لا يتطلب الأمر أن تكون رفيعَ الثقافة كي تُفكر في هذه الأمور في أيامنا هذه. في غضون سنتَين أو سنة، ما الذي سيكون علينا فعله عندما نرى مثل هذه الأشياء؟ هل سنختبئ في السراديب ونُبلل سراويلنا من الخوف؟

وضع المروج صحيفة «ديلي ميل» خاصته، وقال:

«لقد تحدد الفائز بسباق تيمبلجيت.»

كان كاتبا المحامي يقولان بعضَ الهراء المتخصصِ عن المِلْكية التامة المطلقة والمقابل الاسمي. تحسس المروج الآخر جيبَ صدريته وأخرج سيجارة ملتوية من ماركة وودباين. وتحسس الجيب الآخر ثم مال نحوي، وقال:

«هل معك أعواد ثقاب أيها البدين؟»

بحثت عن أعواد الثقاب. «البدين»، ألاحظتَ ما قال؟ إنه أمر مثير للاهتمام حقًّا. لمدة دقيقتَين تقريبًا توقفت عن التفكير في القنابل، وبدأت أُفكر في شكلي كما كنت أتفحصه في الحمام هذا الصباح.

صحيحٌ للغاية أنني بدين؛ وفي الواقع فإن الجزء العلوي من جسمي يُشبه كثيرًا حوض الاستحمام، ولكن المثير للاهتمام، على ما أظن، هو أنه فقط لأنه تصادف وكنت ممتلئًا بعض الشيء، فإن كل شخص تقريبًا وحتى الغرباء عنك تمامًا سيُعطون الحق لأنفسهم أن ينعتوك بهذا اللقب المهين؛ تعليقًا على مظهرك. افترض أن رجلًا كان أحدب أو لديه حوَلًا في عينَيه أو شفة أرنبية، فهل ستُناديه بصفة تُذكِّره بذلك؟ ولكن كل رجل بدين يُطلِق عليه الناس الألقاب كأمر واقع. أنا من ذلك النوع الذي يضربه الناس على ظهره ويلكمونه في صدره بشكل تلقائي، وكلهم تقريبًا يظنون أنني أحب ذلك. إنني لا أدخل في أي وقت من الأوقات إلى حانة كراون في بودلي (حيث أذهب إلى هناك مرة في الأسبوع من أجل العمل) دون أن يهمزني في ضلوعي هذا الأحمق ووترز، الذي يعمل مندوب مبيعات متجوِّلًا لشركة سيفوم للصابون، ولكنه دائم الوجود تقريبًا في حانة كراون، ويُغني قائلًا: «هنا، يرقد البدين المسكين توم بولينج!» وهي المزحة التي لا يمل منها أبدًا الحمقى اللعناء في الحانة. لووترز إصبع يشبه قضيبًا من الحديد. يظنون جميعًا أن الرجل البدين ليست لديه أي مشاعر.

أخذ المروِّج عودَ ثقاب آخرَ منِّي كي يُسلِّك أسنانه به ورمى لي بالعُلبة. أطلق القطار صفارتَه على جسر حديدي؛ وقد ألقيت نظرة بالأسفل حيث لمحت عربة بضائع لأحد المخابز وسلسلة طويلة من العربات المحملة بالإسمنت. الغريب في الأمر، حسبما كنت أظن، أنهم نوعًا ما على حق بخصوص الرجال البدناء؛ فالرجال البُدناء في الحقيقة، وخاصة هؤلاء الذين وُلدوا على هذه الحال — أي كانوا بُدناء منذ الطفولة بعبارةٍ أخرى — ليسوا كباقي الرجال. إذ تأخذ حياتهم بأكملها منحنًى آخر يميل للكوميديا الخفيفة؛ ولكن في حالة ذَوي البِنْية الضخمة كمن يجلبونهم في استعراضات المهرجانات أو في الواقع أي أحد يزيد وزنه على مائة وخمسة وعشرين كيلوجرامًا، لا تكون حياتهم كوميديا خفيفة بقدر ما تكون مسرحيةً هزْلية رخيصة. شهدتُ البدانة والنحافة في حياتي، وأعرف الفرق الذي تُحدِثه السمنة في مظهر المرء. إنها تحرمك نوعًا ما من التأثر الشديد بالأشياء. أشك في أن رجلًا عاش حياته كلها بدينًا، رجلًا نُعِت بالبدين منذ نعومة أظفاره، أشك في أنه قد شعر يومًا بأي مشاعرَ عميقة حقيقية. إذ كيف له أن يشعر بتلك الأمور؟ إنه ليس له أيُّ خبرة فيها؛ فلا يُمكنه حتى أن يلعب دورًا تراجيديًّا في أحد المشاهد؛ لأن المشهد الذي يُوجَد فيه رجل بدين لا يكون تراجيديًّا بل كوميديًّا. فلتتخيَّل رجلًا بدينًا في دور هاملت، على سبيل المثال! أو ممثلًا كأوليفار هاردي في دور روميو. وجدت الأمر كوميديًّا للغاية عندما كنت أُفكر فيه قبل بضعة أيام وأنا أقرأ رواية اشتريتها من مكتبة بوتس، وكان اسمها «الحب الضائع». اكتشف البطل في الرواية أن حبيبته قد فضَّلَت عليه رجلًا آخر. وهو رجل من هؤلاء الذين تقرأ عنهم في الروايات من ذَوي الوجوه المرهَفة الشاحبة والشعر الداكن والدخل الخاص. أتذكر تقريبًا ما جرى في ذلك الجزء من الرواية:

جال ديفيد في الغرفة ذهابًا وإيابًا ضاغطًا بيدَيه على جبينه، وبدا أن الخبر قد أحدث له صدمة، ولوقتٍ طويل لم يستطع تصديقَ الأمر. شيلا خانته! هذا مستحيل! وفجأة باغته الإدراك، ورأى الحقيقة العارية بكل رعبها. كانت ثقيلة عليه للغاية؛ فانهار في نوبة مفاجئة من البكاء.

على أي حال، كان شيئًا من هذا القبيل. وجعلني ذلك أُفكر في الأمر، وقد بدا لي كالآتي. هكذا من المتوقع أن يتصرف كل الناس أو بعضهم؛ ولكن ماذا عن رجل مثلي؟ لنفترض أن هيلدا ذهبت لقضاء إحدى عطلات نهاية الأسبوع مع شخص آخر — لا أعني أن الأمر سيُهمني في شيء، بل في الواقع سيُسعدني أن أكتشف أنها لا تزال تملك هذا القدر من الحيوية — ولكن لنفترض أن الأمر يُهمني، فهل سأنهار في نوبة مفاجئة من البكاء؟ هل سيتوقع أحد أن أفعل ذلك؟ لا يُمكنك توقع ذلك من شخص بمثل حجمي؛ سيبدو الأمر شائنًا تمامًا.

كان القطار يسير على جسر. وأسفلنا على مسافة غير بعيدة يُمكن رؤية أسقف المنازل التي تمتد بلا توقف؛ تلك الأسقف الحمراء الصغيرة، التي ستسقط عليها القنابل، والتي كانت مضاءةً قليلًا في هذه اللحظة؛ لأن شعاعًا من أشعة الشمس كان ساقطًا عليها. من الطريف أننا لا نتوقف عن التفكير في أمر القنابل. بالطبع لا شك في أنه سيحدث قريبًا؛ إذ يُمكنك أن تعرف مدى قربه من نبرة التفاؤل التي يتحدثون بها عنه في الصحف. كنت أقرأ مقالًا في صحيفة «نيوز كرونيكال» منذ بضعة أيام، وجاء به أن الطيارات القاذفة للقنابل لا يُمكنها أن تتسبَّب في أي ضرر هذه الأيام؛ فالمدافع المضادة للطائرات قد تطورَت كثيرًا لدرجة أن الطائرة القاذفة للقنابل يجب أن تبقى على ارتفاع عشرين ألفَ قدم. يعتقد الكاتب، كما لاحظت، أنه إذا كانت الطائرة على ارتفاع بعيد فلن تصل القنابل إلى الأرض، أو الاحتمال الأكبر أن ما يعنيه في الواقع هو أنها لن تُدرك ترسانة أسلحة وولويتش وستضرب فقط أماكن مثل شارع إلزمير.

ولكن إجمالًا أعتقد أن الأمر ليس بذلك السوء أن يكون المرء بدينًا. من الأشياء المميزة للرجل البدين أنه دائمًا مشهور؛ فليس هناك في الواقع أيُّ صحبة، من وكلاء المراهنات إلى الأساقفة، لا يجد الرجلُ البدين له بينهم مكانًا ويشعر بالارتياح وسطهم. أما عن النساء، فالرجل البدين محظوظ بينهن أكثرَ مما يعتقد الناس؛ من الهراء أن تتخيل، كما يفعل بعض الناس، أن المرأة تنظر إلى الرجل البدين على أنه مجرد مزحة. إن الحقيقة هي أن المرأة لا تنظر إلى أي رجل كمزحة إذا استطاع أن يخدعها بزعمه أنه يُحبها.

يجب أن تعرف أني لم أكن بدينًا طوال حياتي، ولكني اكتسبت وزنًا زائدًا منذ ثماني سنوات أو تسع، وأظن أنني قد اكتسبت فيها أغلب صفات الرجل البدين. ولكن في الواقع كذلك أني لست بدينًا من الداخل، أي من الناحية الذهنية. لا! لا تُسئ فَهمي. لا أحاول أن أبدو لك وديعًا كزهرة ناعمة، أو أن أبدوَ من هؤلاء الذين يبتسمون لك بينما هم يُعانون ويتألمون، وما إلى ذلك؛ فلا يمكن لأحد أن يعمل في مجال التأمين إذا كان لديه أي من هذه الصفات. أنا فظ متبلد الإحساس وأتكيف مع بيئتي. ما دامت الأشياء في أي مكان في العالم تُباع بالعمولة، ويحصل الناس على سُبل معيشتهم بوقاحة تامة وغيابٍ للمشاعر النبيلة؛ فإن رجلًا مثلي سيسلك ذلك المسلك. في كل الأحوال تقريبًا أستطيع كسب العيش، الذي يكون دائمًا بحد الكفاف ولم يُمثل ثروة قط، وحتى في أثناء الحرب والثورة والوباء والمجاعة يُمكنني أن أدعم نفسي للبقاء على قيد الحياة أكثر من معظم الناس. أنا من ذلك النوع من الرجال، ولكن لديَّ شيء آخر في داخلي، في الأغلب أثر متخلف من الماضي، وسأُخبركم به لاحقًا. أنا بدين ولكني نحيف من داخلي. ألم يخطر ببالك من قبل أن ثمة رجلًا نحيفًا داخل كلِّ رجل بدين، تمامًا كما يقولون إن هناك تمثالًا كامنًا في كل قالب من الحجر؟

الرجل الذي استعار أعواد ثقابي كان يُخلل أسنانه جيدًا وهو يقرأ صحيفة «ديلي إكسبريس».

قال: «لا يبدو أنهم قد أحرزوا تقدمًا كبيرًا في قضية الساقَين.»

قال الآخر: «لن يتمكنوا من حلها أبدًا؛ إذ كيف يُمكن معرفة شيء من زوج من السيقان؛ فكل السيقان متشابهة، أليس كذلك؟»

قال الأول: «قد يتعقبون الجاني من خلال قطعة الورق التي لفَّهما بها.»

في الأسفل يُمكنك رؤيةُ أسقف المنازل تمتدُّ بلا توقف، وتلتفُّ في كل اتجاه مع التفافِ الشوارع، ولكنَّها تمتد بلا توقف كما لو كنا نمرُّ فوق سهل ضخم. أيًّا كان الطريق الذي تأخذه إلى لندن، فستمر على عشرين ميلًا تقريبًا من المنازل الممتدة دون توقف. يا إلهي! كيف للطائرات القاذفة للقنابل ألَّا تضربنا عندما تأتي؟ فنحن رقعة كبيرة وواضحة في مركز الهدف. ستُصيبنا دون سابق إنذار على الأرجح؛ إذ مَن ذا الذي سيكون بذلك الحمق حتى يُعلن عن الحرب قبلها في هذه الأيام؟ لو كنت مكان هتلر، لأرسلت الطائرات القاذفة للقنابل في أثناء مؤتمر لنزع السلاح. يومًا ما في صباح هادئ وفي أثناء تدفق الموظفين على جسر لندن، وبينما تُغرد طيور الكناري وتنشر النساء العجائز السراويل النسائية على الحبال، سنسمع أزيز المدافع وأصوات قذف القنابل. ستتطاير حينئذٍ المنازل في الهواء، وتنغمر السراويل النسائية بالدماء، وتُغرد طيور الكناري على الجثث.

أعتقد أنه أمر مثير للشفقة على نحوٍ ما. نظرت إلى الأسطح الممتدة بلا توقف كالبحر الكبير، فرأيت أميالًا وأميالًا من الشوارع، ومتاجر الأسماك المقلية، والكنائس الصغيرة، وصالات السينما، والأزقَّة الممتلئة بالمطابع الصغيرة، والمصانع، والعمارات السكنية، والمشروعات الصغيرة، ومعامل الألبان، ومِحَطات الوقود، وغيرها الكثير. إنه لمكان هائل! ويا لها من سكينة تامة تلك التي تغشاه! إنه كبَرِّية كبيرة بلا وحوش؛ بلا إطلاق نار أو قذف بالقنابل اليدوية أو ضرب بالعصي المطاطية. إذا فكرت في الأمر، ففي إنجلترا بأكملها في هذه اللحظة ليس ثَمة نافذةٌ واحدة في غرفة نوم يُطلِق من خلالها أحدٌ النار بمِدفع رشَّاش.

ولكن ماذا بعد خمسة أعوام من الآن؟ أو عامَين؟ أو عام واحد؟

٤

سلَّمت أوراقي في مكتب لندن. كان وورنر أحد أطباء الأسنان الأمريكان الذين تمتاز أسعار خدماتهم بأنها منخفضة، وكانت غرفة الفحص لديه، أو «الرَّدْهَة» كما يحب أن يُسميَها، في منتصف مبنًى كبير من المكاتب، بين مكتب مصوِّر ومكتب تاجر جملة للواقيات الذكرية. وصلت مبكرًا عن موعدي، ولذا كان ثمة وقتٌ لتناول بعض الطعام. لا أعلم ما الذي جعلني أذهب إلى حانة للوجبات السريعة من منتجات الألبان وغيرها، رغم أنني أتجنب تلك الأماكن عادةً. نحن الذين نتحصل على خمسة إلى عشرة جنيهات أسبوعيًّا لا يُمكننا الاستفادةُ كثيرًا من أماكن تناول الطعام في لندن. إذا كنت ترى أن المبلغ الذي يجب أن يُنفقه المرء في وجبة هو شلن وثلاثة بنسات، فأمامك إما ليون أو إكسبريس ديري أو إيه بي سي؛ وإلا فستأكل وجبة خفيفة كئيبة في إحدى الحانات؛ نصف لتر من الجِعَة المُرة وشريحة فطيرة باردة، تكون شديدة البرودة حتى إنها تكون أكثر برودة من الجعة. خارج حانة منتجات الألبان، كان الأولاد يُروجون للطبعات الأولى للصحف المسائية.

وخلف طاولة البيع الحمراء البراقة، كانت تقف فتاة بقبعة بيضاء طويلة أمام ثلاجة، وفي مكان ما في الخلف كان الراديو يُصدر صوتًا عاليًا ومزعجًا. ما الذي جاء بي إلى هنا بحق الجحيم؟ سألت نفسي هذا السؤال عندما دخلت. ثمة أجواء في تلك الأماكن تُصيبني بالإحباط. كل شيء هناك أملس وبرَّاق وانسيابي؛ فتُوجد مَرايا وطلاء مينا وألواح كروم، أينما نظرت، وكل الاهتمام بالديكور وليس بالطعام. لا يوجد هنا طعام حقيقي على الإطلاق، وإنما هي أشياء بأسماء أمريكية، وهي كأشياء وهمية لا يُمكنك تذوقها، ويصعب التصديق في وجودها. كل شيء يأتي من كرتونة أو علبة من الصفيح أو يخرج من الثلاجة أو ينبعث من صنبور أو ينضغط من أنبوب. ولا توجد راحة أو خصوصية؛ فالمكان كله مجهَّز بتلك الكراسيِّ المرتفعة التي لا ظهر لها، الموضوعةِ إلى مكان ضيق لتتناول الطعام عليه، والمرايا في كل مكان حولك. هناك نوع من الدعاية يطفو على الأرجاء مختلطًا بضجيج الراديو، ما يُشعر بأن الطعام لا يهم، وكذلك الراحة، وكذلك أي شيء عدا أن يكون كل شيء أملس ولامعًا وانسيابيًّا. كل شيء انسيابي في هذه الأيام، حتى الرصاصة التي يحتفظ بها هتلر ليُطلقها عليك. طلبت فنجان قهوة كبيرًا وقطعتَين من نقانق الفرانكفورتر. وضعت الفتاة ذات القبعة البيضاء الطعام أمامي بالفتور نفسه الذي تُلقي به بيض النمل لسمكة زينة.

خارج الباب صاح بائع صحف: «ستار، نيوز، إستاندرد!» رأيت العنوان يُرفرف أمام ركبتَيه: «الساقان. اكتشافات جديدة.» هل لاحظت أنهم كتبوا كلمة «الساقان» فقط. إنها اختصرت إلى هذا. منذ يومَين، وجدوا ساقَي امرأة في غرفة انتظار بمحطة للسكك الحديدية، وكانت الساقان ملفوفتَين بقطعة من الورق البني؛ ومع انتشار الخبر في طبعات الصحف المتتالية، كان من المفترض أن يهتم الشعب كله ويتعاطف مع صاحبة هاتَين الساقَين المدمرتَين، لدرجة أنهم لا يحتاجون إلى مزيد من المقدمات الصحفية. وكانت الساقان الوحيدتان في الأخبار في ذلك الوقت. فكرت وأنا أتناول قطعة من الخبز، إنه لغريب أمر هؤلاء القتلة الكسالى اليوم؛ فبعد كل هذا التقطيع لأجسام الناس، يترك المجرم أجزاءً منها في أنحاء القرى. أين ذلك من الدراما القديمة لتسميم أفراد العائلة، مثل قضايا كريبين وسيدون والسيدة مايبريك؟ الحقيقة على ما أعتقد أنه لا يُمكنك ارتكاب جريمة قتل جيدة إلا إذا كنت تعتقد أنك ستُشوى في الجحيم على إثرها.

في هذه اللحظة، أخذت قضمة من إحدى قطعتَي النقانق خاصتي، ثم يا إلهي!

حقيقةً لم أتوقع أن يكون لهذا الشيء مذاق جيد؛ فقد توقعت ألا يكون له مذاق، مثل قطعة الخبز، ولكن هذه كانت تجرِبة لا تُنسى. دعني أحاول أن أصفها لك.

لنقانق الفرانكفورتر جلد مطاطي، بالطبع، وطقم أسناني لم يكن متناسبًا بشكل جيد معها؛ فكان عليَّ أن أُحركه كالمنشار قبل أن أتمكن من غرس أسناني في جلد النقانق، وفجأة! انفجر ذلك الشيء في فمي كالكُمَّثرى الفاسدة؛ إذ كان شيئًا لينًا فظيعًا يتسرَّب في جميع أرجاء لساني. أما عن المذاق، فلبرهة لم أستطع تصديق الأمر، فلففت لساني حوله مرة أخرى وجرَّبتُه ثانيةً. لقد كان عبارة عن سَمك! نقانق، شيء يُسمونه فرانكفورتر، محشوٌّ بالسمك! نهضت وخرجت على الفور دون أن أمس قهوتي. الرب أعلم ماذا قد أرادوا أن يكون مذاق هذا الشيء.

بالخارج، لوَّح بائع الصحف بصحيفة «إستاندرد» في وجهي وصاح: «الساقان! اكتشافات رهيبة! وأسماء كل الفائزين في سباق الخيل! الساقان! الساقان!» كنت لا أزال أدحرج ذلك الشيء حول لساني، وأبحث عن مكان أستطيع أن أبصقه فيه. تذكرت شيئًا كنت قد قرأته في صحيفة ما عن مصانع الأطعمة تلك في ألمانيا حيث يُصنَع كل شيء من شيء آخر تمامًا، ويُسمُّون ذلك بالطعام الاصطناعي. تذكرت كذلك أني قرأت أنهم كانوا يصنعون النقانق من السمك، ويصنعون السمك بلا شك من شيء آخر مختلف. جعلني ذلك أشعر أنني قد أخذت قضمة من العالم الحديث واكتشفت أصوله الحقيقية. هذه هي الطريقة التي تسير بها الأمور اليوم؛ كل شيء برَّاق وانسيابي، كل شيء مصنَّع من شيء آخر. السليوليد والمطاط وفولاذ الكروم في كل مكان، والمصابيح القوسية متوهجة طوال الليل، والأسقف الزجاجية فوق رءوسنا، وأجهزة الراديو تصدح كلها بالنغمة نفسِها، والغطاء النباتي يتضاءل، والإسمنت يُغطي كل شيء، والسلاحف المزيفة ترعى أسفل أشجار الفاكهة المتعادلة الحموضة. ولكن عندما يتعلق الأمر بضروريات الحياة وتغرس أسنانك في شيء صلب، مثل النقانق، فهذا ما ستحصل عليه؛ سمك فاسد في جلد مطاطي، انفجار شيء قبيحٍ في فمك.

عندما وضعت طقم أسناني الجديد، شعرت بتحسن كبير. إنه يتلاءم جيدًا وبسلاسة مع اللثة، وعلى الرغم من أنه قد يبدو من السخف أن أقول إن طقم الأسنان من شأنه أن يشعرك بأنك أصغرُ سنًّا، فهذه حقيقة. جرَّبت أن أبتسم لنفسي في نافذة أحد المتاجر، ولم يكن الأمر سيئًا كما ظننت؛ فعلى الرغم من أن وورنر خدمته رخيصة الثمن، فهو فنان جدًّا ولا يُريدك أن تبدوَ كمن يظهرون في إعلانات معاجين الأسنان. وهو لديه خِزانة كبيرة مليئة بأطقم الأسنان — التي أراني إياها ذات مرة — كلها مرتبة حسب الحجم واللون، وهو يختار منها كصائغٍ يختار أحجارًا كريمة لعِقْد. كان سيظن تسعةُ أشخاص من بين كل عشرة أشخاص أن أسناني طبيعية.

ألقيت نظرة على نفسي بالحجم الكامل في نافذة أخرى كنت أمرُّ أمامها، وقد هالني أنني وجدت نفسي في الواقع لستُ بذلك السوء. أعترف أنني بدين بعض الشيء، ولكن الأمر ليس مثيرًا للاشمئزاز؛ فقط ما يقول عنه الخيَّاطون «جسم ممتلئ»، كما أن بعض النساء يحببن الرجل ذا الوجه الأحمر. أعتقد أنني ما زلت أتمتع بالحيوية. تذكرت الجنيهات السبعة عشر، وعزمت بلا أدنى شك على أن أُنفقها على امرأة. كان لديَّ ثَمة وقت لتناول الجِعَة قبل أن تُغلَق الحانات، فقط لتطهير الأسنان؛ وقد شعرت بالغنى لامتلاكي سبعة عشر جنيهًا، فتوقفت أمام متجر السجائر واشتريتُ سيجارًا بستة بنسات من النوع الذي أحبه كثيرًا. يبلغ طول السيجار الواحد من ذلك النوع ثمانيَ بوصات، وهو مصنوع بالكامل من أوراق نقية من هافانا. أظن أن الملفوف ينمو في هافانا كنموه في أي مكان آخر.

عندما خرجت من الحانة، شعرت باختلاف نوعًا ما.

شربت كأسَين من الجعة أمدَّاني بدفء داخلي، وكان دخان السيجار يتسرب حول أسناني الجديدة، ويُعطيني شعورًا بالانتعاش والنظافة والسلام الداخلي. شعرت فجأة أنني أقرب إلى أن أكون مفكِّرًا أو فيلسوفًا. كان جزء من ذلك يرجع إلى أنه لم يكن لديَّ عمل أؤديه، ورجع ذهني إلى التفكير في الحرب كما فعلت في صباح هذا اليوم عندما كانت الطائرة القاذفة للقنابل تطير فوق القطار. شعرت بنوع من الإحساس التنبُّئي، ذلك الإحساس الذي يجعلك تتوقع نهاية العالم ويُشعِرك بنوع خاص من المتعة.

كنت أسير غربًا إلى شارع إستراند، ورغم برودة الجو بعض الشيء، سرتُ ببطء للاستمتاع بالسيجار. كان الازدحام المعتاد الذي تشق طريقك فيه بصعوبة واصلًا للرصيف، وكان على وجوه الجميع ذلك التعبيرُ الأبله الثابت الذي يعتلي وجوهَ الناس في شوارع لندن، وكان هناك الازدحام المروري المعتاد بالحافلات الحمراء الكبيرة التي تتحسس طريقها بين السيارات وزئير المحركات وصفير أبواق السيارات. أظن أن تلك الضوضاء كافية لإيقاظ الموتى، ولكنها ليست كافية لإيقاظ هؤلاء القوم. شعرت كما لو أنني الشخص الوحيد المستفيق في مدينة من السائرين نيامًا. هذا وهمٌ بالتأكيد؛ فعندما تسير وسط حشد من الغرباء، يكاد يكون من المستحيل ألا تتخيل أنهم جميعًا تماثيلُ شمعية، لكنهم أيضًا يرونك كما تراهم على الأرجح. وهذه الحالة التنبُّئية التي تنتابني هذه الأيام، ذلك الشعور بأن الحرب على الأبواب وأن الحرب هي نهاية كل شيء، لا تنتابني وحدي؛ فكلنا يشعر بالأمر، بشكل أو بآخر. أعتقد حتى أنه بين الأشخاص الذين يعبرون الطريق في هذه اللحظة لا بد أن ثَمة رجلًا قد ارتسمت في ذهنه صورٌ تجمع بين انفجارات القذائف والوحل. أيًّا كانت الفكرة التي تُفكر فيها، فهناك ملايين الأشخاص الذين يُفكرون في الأمر نفسِه في اللحظة نفسِها. ولكن هذا ما كنت أشعر به: جميعنا على ظهر مركب واحد يحترق، ولا يعلم أحدٌ بالأمر إلا أنا. نظرت إلى الوجوه التي تتسم بالغباء التي مرَّت أمامي، ورأيتهم كالديوك الرومية في شهر نوفمبر حيث نأكلها في عيد الشكر؛ فلم يكن لديهم أدنى فكرة عما سيحدث لهم. كان الأمر كما لو أنني مُنِحتُ تقنية الأشعة السينية في عينَي، ويُمكنني أن أرى هياكلَ عظمية سائرةً أمامي.

تخيلت المستقبل بعد بضع سنوات، ورأيت هذا الشارع — لنقُل — بعد خمس سنوات أو ثلاث (إذ كان من المتوقع أن تندلع الحرب في عام ١٩٤١) بعد بدء القتال.

لا، لم يتحطَّم كل شيء، فقط حدثت بعض التغييرات المتمثلة في بعض الشظايا والقذارة، وأصبحت نوافذُ المتاجر فارغة تقريبًا ومليئة بالغبار حتى إنه لا يُمكنك النظر خلالها. وفي شارع جانبي، ثمة حفرة ضخمة خلَّفتها القنابل ومجموعة من المباني المحترقة التي بدَت كالسن المجوفة. لا بد أن ذلك بفعل مُركَّب الثرميت. كل شيء هادئ هدوءًا غريبًا، والجميع شديدو النحافة. تأتي فصيلة من الجنود مسرعة، جميعهم في نحافة جَرَّافَة العشب، ويجرُّون أقدامهم. وللقائد شارب لولبي، ويقف كمِدَكِّ البندقيَّة، ولكنه نحيفٌ أيضًا ويسعل بشدة على نحو يكاد يُمزق أحشاءه. ويتخلل سعالَه محاولاتُه للصياح في الجنود بذلك الأسلوب القديم الذي يستخدمونه في ساحات تدريب الجنود؛ «أنت يا جونز! ارفع رأسك! علامَ تنظر في الأرض؟ كل أعقاب السجائر قد التُقِطَت منذ سنوات.» وفجأة تُداهمه نوبة من السعال يُحاول إيقافها، لكنه لا يستطيع، فينحني بشدة لأسفل ويكاد يلفظ أحشاءه، ثم يتحول وجهه إلى اللون الوردي والأرجواني، ويرتخي شاربه، وتدمع عيناه.

يُمكنني سماع دويِّ صفَّارات إنذار الغارات الجوية وأصوات مُكبرات الصوت تصدح عاليًا بأن قواتنا المجيدة قد احتجَزت مائة ألف أسير. وأرى مؤخرة غرفة في دور علوي في برمنجهام حيث يبكي صبي عمره خمس سنوات ويصرخ طالبًا قطعة خبز، وأمه لم تعد يُمكنها التحمل، فتصيح فيه فجأة قائلةً: «اخرس أيها الوغد الصغير!» ثم تُخلعه ثوبه وتضربه بشدة على مؤخرته؛ لأنه ليس ثمة أي خبز ولن يكون. أرى كل ذلك. أرى الملصقات والطوابير على الطعام وزيت الخروع والهراوات المطاطية والمدافع الرشاشة التي تُطلق النيران بغزارة من نوافذ غرف النوم.

هل سيحدث ذلك؟ لا أحد يعلم. في بعض الأيام يستحيل تصديقُ أن هذا سيحدث. وفي أيام أخرى أقول لنفسي إنه خوف نابع مما نقرؤه في الصحف. وفي أيام أخرى أعلم حتى النخاع أن الأمر آتٍ لا محالة.

عندما وصلت بالقرب من تقاطع تشارينج كروس، كان الأولاد يُنادون على طبعة تالية من الصحف المسائية؛ حيث المزيد من الهراء حول الجريمة. «الساقان: بيان جرَّاح شهير.» ثم جذب انتباهي عنوان آخر: «تأجيل حفل زفاف الملك زُوجو» الملك زُوجو! اسم عجيب! يكاد يكون من المستحيل أن تُصدق أن رجلًا باسم كهذا ليس زِنْجيًّا شديدَ السواد كالفحم.

ولكن في هذه اللحظة حدث شيء غريب؛ فاسم الملك زُوجو — الذي أظن أنه اختلط بصوتٍ ما في حركة المرور أو رائحة روث الخيول أو شيء من هذا القبيل؛ لأنني رأيته عدة مرات ذلك اليوم — قد أيقظ شيئًا في ذاكرتي.

إن الماضيَ لشيء غريب. إنه يُرافقك باستمرار. أعتقد أنه لا تمر ساعة على الإطلاق دون أن تُفكِّر في أشياء حدَثت منذ عشرِ سنين أو عشرين سنة، وعلى الرغم من ذلك فهي معظمَ الوقت لا وجود لها؛ فهي مجردُ مجموعة من الحقائق التي تعلَّمناها كغيرها من العديد من الأشياء في كتب التاريخ. ثم يأتي منظر أو صوت أو رائحة بالصدفة، وخاصةً الرائحة، لتُحفز ذكرياتك؛ ولا يأتي الماضي لك فحسب، بل تصبح فعليًّا في الماضي. كان هذا ما حدث لي في هذه اللحظة.

وجدت نفسي في الكنيسة الرعوية ببلدة لوير بينفيلد، وقد عدت ثمانية وثلاثين عامًا إلى الوراء. بالحديث عن المظهر الخارجي، أعتقد أنني كنت لا أزال أسير في شارع إستراند وأنا بدين وفي الخامسة والأربعين من عمري وبطقم أسنان وقبعة مستديرة، ولكن في داخلي كنت جورج بولينج البالغ من العمر سبع سنوات، وأحد الأبناء الصغار لصامويل بولينج، تاجر الذرة والحبوب القاطن في ٥٧ هاي إستريت بلوير بينفيلد. كنَّا في صباح يوم الأحد، ويُمكنني أن أشم رائحة الكنيسة. كيف يُمكنني أن أشم رائحتها؟! تعلم الرائحة التي تكون في الكنائس، تلك الرائحة الخاصة المألوفة التي تنمُّ عن أن المكان به رطوبة شديدة وأتربة وتعفُن. وثمة نفحة من شحم الشموع، وربما دخان بخور، ورائحة بعض الفئران؛ وفي صباح يوم الأحد تمتزج بتلك الرائحة قليلًا رائحةُ الصابون الأصفر وصوف الملابس، ولكن الرائحة السائدة هي رائحة الأتربة والعَفن المألوفة، التي تُشبه رائحة الموت والحياة ممتزجَين معًا. إنها كرائحة غبار الجثث في الواقع.

في تلك الأيام كان طولي حوالي أربع أقدام. وكنت أقف على وِسادة الركوع كي أتمكَّن من الرؤية عبر المقاعد الخشبية أمامي، وكان يُمكنني الشعورُ بملمس رِداء أمي الأسود المصنوع من الصوف في يدي. وكنتُ أشعر كذلك بجوربي المرفوع فوق ركبتَيَّ — فقد كنا نرتديها بهذا الشكل في تلك الأيام — وحافَة الياقة العريضة البيضاء التي كانوا يأزرونني بها في صباح يوم الأحد. يُمكنني كذلك سماعُ أزيز آلة الأرغن وصوتَين قويَّين يَصْدعان بالمزامير؛ ففي كنيستنا كان ثمة رجلان يقودان الغناء، وفي الواقع كانا يُغطيان على الآخرين فلا يُسمَع لأحد غيرِهما صوت. كان أحدهما يُدعى شوتير، وكان سمَّاكًا، وكان الآخر العجوز ويثرال، وكان نجَّارًا وحانوتيًّا. وكانا قد اعتادا الجلوس كلٌّ منهما أمام الآخر على كِلا جانِبَي صحن الكنيسة على المقعدَين الخشبيَّين الأقرب للمنبر. كان شوتير رجلًا قصيرًا وبدينًا بوجه أملس شديد الحمرة وأنفٍ كبير وشارب متدلٍّ ولحية تبعد كثيرًا عن فمه. أما ويثرال فقد كان مختلفًا تمامًا؛ فقد كان شيطانًا عجوزًا في نحو الستين من عمره، نحيفًا وطويلًا وقويًّا، وذا وجه كالجمجمة وشعر رمادي متيبس يبلغ طوله نصف بوصة في جميع أنحاء رأسه. لم أرَ قطُّ رجلًا على قيد الحياة يبدو تمامًا كالهيكل العظمي مثلَه؛ إذ يُمكِنك رؤية كل خط في الجمجمة في وجهه، كما أن جلده كان كالرَّق، وكان فكُّه الكبير الأشبهُ بالمصباح مليئًا بالأسنان الصفراء التي تصعد وتهبط كفكِّ هيكل عظمي في أحد متاحف التشريح. ولكن مع كل هذا الضعف بدا قويًّا كالحديد؛ كما لو أنه سيعيش مائة عام وسيصنع توابيتَ كل فرد في تلك الكنيسة قبل أن يموت. كان صوتاهما مختلفَين كذلك؛ فقد كان في صوت شوتير نوعٌ من الصخب اليائس والمعذَّب، كشخص في عنقه سكين يصرخ بآخر كلماته طلبًا للمساعدة. أما ويثرال فقد كان ذا صوت كضوضاءِ قصف الرعد المروِّعة والمضطربة المتولدة من أعماقه، كصوت دَحْرجة براميلَ ضخمة ذهابًا وإيابًا تحت الأرض. وعلى الرغم من مقدار الضوضاء التي يُصدرها، تعلم دائمًا أنَّ لديه المزيد منها الذي لم يُصدره بعد. أطلق عليه الأطفال اسم رامبيل تامي (أي قرقرة البطن).

وقد اعتادا الترتيل كما لو أن كلًّا منهما يرد على الآخر، وخاصةً عند تلاوة المزامير، وكان ويثرال من ينطق دائمًا بالجزء الأخير. أعتقد حقًّا أنهما كانا صديقَين في حياتهما الخاصة، ولكن عندما كنت طفلًا كنت أتخيلهما عدوَّين لَدودَين يحاول كلٌّ منهما إخراسَ الآخر. عندما كان يصيح شوتير: «الرب راعيَّ»، كان ويثرال يرد: «فلا يُعوِزني شيء» فيُغطي بصوته عليه تمامًا. كان يُمكنك دائمًا معرفةُ القائد من بينهما. اعتدت أن أنتظر بشغف على وجه خاص المزمور الذي يتحدث عن سِيحُون ملك الأَمُورِيِّين وعُوج ملك بَاشَان (وهذا ما ذكرني به اسم الملك زُوجو). كان شوتير يستهل الترنيم قائلًا: سِيحُون ملك الأَمُورِيِّين Sihon king of the Amorites، ثم لنصف ثانية تقريبًا كنت تسمع باقيَ المصلين يتغنَّون بكلمة و and، ثم كان جهير ويثرال يَصدح بنغمة كموجة عاتية ويُغطي على صوت الجميع في عبارة عُوج ملك بَاشَان Og the king of Bashan. أتمنى لو أن بإمكاني أن أُسمِعك ضوضاءه التي تُشبه صوت البراميل المتدحرجة والمدمدمة تحت الأرض عندما يصل لكلمة Og؛ حتى إنه اعتاد على إدغام آخر حرف في كلمة and في الكلمة التي تليها، ما جعلني وأنا صغير جدًّا أظن أن الآية تقول: دوج ملك بَاشَان Dog the king of Bashan. ولكن بعد ذلك، عندما تعلمت الأسماء الصحيحة، رسمت صورة في ذهني لسِيحُون وعُوج، فرأيتُهما كتمثالَين من تلك التماثيل المصرية القديمة التي رأيت صورًا لها في موسوعة بيني، تلك التماثيل الحجرية الضخمة التي يبلغ ارتفاعها ثلاثين قدمًا والجالسة على عروشها الواحد أمام الآخر، وأيديهم على ركبهم، وتعلو وجوهَهم ابتسامةٌ غامضة وباهتة.

كيف لي أن أتذكر كلَّ ذلك؟! هذا الشعور الغريب — كان مجرد شعور؛ إذ لا يُمكنك وصفه بأنه أحد الأنشطة — الذي اعتدنا أن نُسميه «الكنيسة»؛ ورائحة الجثث المألوفة تلك، وحفيف ملابس يوم الأحد، وأزيز الأرغن، والأصوات الجهورية، وبُقعة الضوء من الفتحة في النافذة التي تتسلَّل ببطء أعلى صحن الكنيسة. بطريقة أو بأخرى كان البالغون قادرين على إقناع الأطفال بأن هذا الأداء الغريب كان ضروريًّا. وكنت تُصدق ذلك تمامًا كما تُصدق الإنجيل، الذي كنت تتعرض له بجرعات كبيرة في تلك الأيام؛ فقد كانت نصوصه على كل حائط، وكنت تحفظ أجزاء كاملة من العهد القديم عن ظهر قلب. وحتى الآن فإن رأسي مملوء ببعض آياته: «وفعل بنو إسرائيل الشر في عينَي الرب»، «وأَشِيرُ أقام على ساحل البحر، وفي فُرَضِه سكَن»، «واتبعهم من دان إلى بئر سبع»، «ضربه هناك في بطنه فمات». لم تفهم معناها قط، ولم تحاول أو تُرِد الفهم؛ فقد كانت مجرد نوع من الأدوية، شيئًا ذا مذاق غريب عليك أن تبتلعه، وأن تعلم أنه ضروري بشكل أو بآخر. إنه هراء أسطوري حول أشخاص بأسماء مثل شِمعي ونبوخذ نصر وأخيتوفيل وحشبدانة؛ هؤلاء الأشخاص الذين يرتدون أثوابًا كثيفة وطويلة ولهم لِحًى آشورية، ويركبون الجِمال بين المعابد وأشجار الأرز ويفعلون المعجزات؛ يُقدمون عطايا محرقة، ويهيمون على وجوههم في أتانين النار المتقدة، ويُثبتون بالمسامير على الصلبان، وتبتلعهم الحيتان. وكل ذلك ممزوج برائحة المقابر المألوفة والملابس الصوفية وأزيز الأرغن.

كان ذلك هو العالم الذي رجعتُ إليه عندما رأيت الخبر في الصحيفة عن الملك زُوجو. لبُرهة لم أتذكر ذلك العالمَ فحسب، بل دخلت فيه. بالطبع لا تدوم مثل هذه الانطباعات لأكثر من ثوانٍ معدودة؛ بعد ذلك بقليل، كان الأمر كما لو أنني قد فتحت عينَيَّ مرة أخرى، ووجدت نفسي في الخامسة والأربعين وسط الزحام المروري في شارع إستراند. لكن ذلك ترك نوعًا من الأثر عليَّ؛ ففي بعض الأحيان عندما تخرج من قطار أفكارك، تشعر كأنك تصعد لأعلى بعد أن كنت غاطسًا في مياه عميقة، ولكن هذه المرة حدث العكس تمامًا؛ فقد شعرت كما لو أنني عندما رجعت إلى عام ١٩٠٠ كنت أتنفس هواءً حقيقيًّا. حتى الآن وأنا أفتح عينَيَّ، إن جاز القول، فإن كل هؤلاء الحمقى الذين يمشون في عجلة من أمرهم ذهابًا وإيابًا والملصقات ورائحة البنزين الكريهة وزئير المحركات، كل ذلك بدا لي غير حقيقي مقارنةً بصباح الأحد في لوير بينفيلد منذ ثمانية وثلاثين عامًا مضت.

رميت السيجار وأكملت سيري ببطء. كان يُمكنني أن أشَم رائحة الجثث، كما يُمكنني أن أشَمَّها الآن؛ فقد رجعت إلى لوير بينفيلد وأنا الآن في عام ١٩٠٠. بجوار مَعْلَف الخيول في السوق، كان حصان الحمَّال يحمل مِخلاته في فمه. وفي متجر الحلوى بأحد الأركان كانت الأمُّ ويلر تَزِن كُرات البراندي بقيمة نصف بنس. وكانت عربة السيدة رامبلينج تمر بالنمر الجالس في الخلف في بنطاله القصير المُبيَّض وذراعاه مطويتان. وعمي إيزيكيال كان يَسُب جو تشامبرلين. وكان رقيب التجنيد يرتدي سترته القرمزية، وأفروله الأزرق الضيق، وقبعته الصغيرة المستديرة، وكان يتبختر جَيئة وذهابًا ويلف شاربه. وكان السكارى يتقيَّئون في الفناء خلف حانة جورج. كانت الملكة فيكتوريا في وندسور، والله في السماء، والمسيح على الصليب، ويونان في بطن الحوت، وشدرخ وميشخ وعبدنغو في أتون النار المتَّقدة، وسِيحُون ملك الأَمُورِيِّين وعُوج ملك بَاشَان يجلسان على عرشَيْهما ناظرًا كلٌّ منهما إلى الآخر، لا يفعلان شيئًا بالتحديد، فقط موجودَين ومحتفظَين بمكانَيهما كمسندَين للحطب المشتعل في موقد أو كالأسد وأحادي القرن رمزَي المملكة المتحدة.

هل ولَّى هذا العالم للأبد؟ لست متأكدًا، ولكني أقول لك إنه كان عالمًا جيدًا للعيش فيه، وأنا أنتمي إليه، وأنت أيضًا تنتمي إليه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤