هارمونيكا

١

كلُّ ما في الأمر أنني أريد أن أحيَا ولا شيء آخر .. لقد تعرَّضت للموت مرتين، مرة شاهدته وفي الأخرى سبَّبته. وفي الحالتَين ارتعبت من مجرد التحديق إلى تلك الحقيقة التي أسمَوها موتًا.

دفنتُ أمي فقتلتُ قاتلَها ثم هربت وعبرتُ البحر مع المهاجرين فارًّا من موتٍ محتمل، ثم نجوت من موتٍ آخر عبر رحلتي صوبَ النجاة، ثم هِمتُ في البحر ووصلت إلى هذه الجزيرة، ولم أفهم بعدُ كيف يمكن لإنسانٍ ما أن يكون ثم يفنى ويزول، وكيف يمكن لإنسانٍ ما أن يُنهيَ حياةَ أحدهم؟ قد يكون الأمر غريبًا بعض الشيء ولكن لا بأس، فالمهم أن أعيش، وليس مهمًّا أن أجد لنفسي تفسيرًا ما لأيِّ شيء في حياتي.

قبل الآن عشتُ وحدي مع أمي؛ فقد مات أبي مذ كنتُ صغيرًا، أما زوجتي فقد هاجرَت إلى اليونان وتركَتني وحدي مع شقاء أمي، ولكن بعد أن ماتَت أو فلْأقُل: قُتلت، وبعد أن قَتلتُ مَن قتَلها، حينها لم أجد أمامي ولو خيطًا وحيدًا يربطني بالبقاء، وقد كنت طموحًا بما فيه الكفاية؛ إذ قرَّرت الرحيل إلى اليونان لألتقيَ بزوجتي مصادفةً وأكون معها، وحينها لا يكفي أن أكون موجودًا وحسب، بل عليَّ أن أتناسلَ في وجودي، وأكبر، وستكون لي عائلةٌ كبيرة ممتدة. «أجل، كنتُ بهذا القدر من السذاجة».

لم أكن أعرف أنني سأجد نفسي على هذه الجزيرة المجهولة.

إذن فقد نجوتُ مجددًا من الموت، أعرف أني الآن وحيد، وأعرف أن هذا ما لم أُرده يومًا، ولكن في لحظة الخطر يبقى الهدف الوحيد المنشود في الحياة هو أن أبقى على قيد الحياة، وبالفعل تبدو هذه الجزيرة كافية لأعيش؛ فكل سُبُل الحياة تتوفر هنا؛ ثمة جذوعٌ مقطوعة من الشجر، وبجانبها سبيكة معدنية حادة قادرة على قطعِ أيٍّ من الجذوع، جذوعٌ مستعدة في أية لحظة لتكون مركبي في أي رحيل قادم .. اقتربتُ من الجذوع وإذ بي أرى عدة حبات من الفواكه الاستوائية تُبشرني بأنني لن أموت جوعًا، فثمة الكثير منها. بل أكثر من ذلك، إنها تعترف صراحةً أن ثمة بشرًا يعيشون هنا يقطعون الجذوع ويقطفون الفواكه.

بعد لحظات من وصولي سمعتُ صوتَ عزفٍ يُشبه صوت الناي، يدندن على لحن أغنية «أعطني الناي وغنِّ.» وهنا قُطع الشك باليقين، لقد سبقني بشرٌ إلى هنا بالفعل .. ابتهجت وأخذت أنادي مغنِّيًا: «فالغنا سرُّ الوجود.» توقَّف العزفُ، وناديتُ بصوت أعلى: «الوجود .. الوجود.»

مرَّت دقيقة من صمتٍ متوجس، قبل أن تُطلَّ عليَّ امرأةٌ ثلاثينية جميلة جدًّا لولا أن شعرها مقطوع بصورة مريبة، كأنها قطعَته بنفس السبيكة التي قُطعت بها الجذوع، ترتدي فستانًا مزركشًا، ولا ترتدي حذاءً. تحمل بيدها قطعةً من قصب السكر، نحتَتها وصنعَت منها نايًا، أو ما يُشبه الناي.

يا إلهي كم تبدو الحياة سهلة! أيعقل أن تكون النجاة بهذه السهولة؟ بالفعل كانت ستكون بهذه السهولة لولا أنها صاحَت في وجهي: «ارحل عن جزيرتي.»

٢

أيعودُ ناجٍ من البحر مصادفةً إلى البحر الذي شرَع بقتله؟ ولستُ أتساءل عن أيِّ ناجٍ، أتحدَّث عني أنا الذي أريد النجاة بكل السبُل! أيعقل هذا؟ ببساطة لا، لم أَعُد إلى البحر ولم أعرِّض نفسي لأية مخاطرة، ولكني وفي الوقت نفسه قد لبيتُ رغبتها فابتعدت ولم أرحل. شعرتُ أنني بهذا إنما أُنقذ نفسي منها، هي التي قالت إن تلك جزيرتها ولا تريد لأحد أن يُشاركها فيها. ولكن أيعقل لامرأةٍ مجنونة حافية ذات شعر مقطوع تعيش وحدها في جزيرة رحبة أن تقتل؟ لا يهمني أن أعرف فلست أريد أن أعرف شيئًا.

إني، والحق أقول، أرفض أن أنزلق إلى أية فكرة أو أسئلة قد تقودني يومًا ما إلى البحث في معنى الحياة، فمن معرفتي بنفسي قد بدَا واضحًا أنني أريد أن أحيَا وحسب .. عليَّ إذن أن أواصل السير، كما أفعل الآن، على غير هدًى.

مشيتُ في جزيرة لا أعرفها ولا أعرف إن كانت هي نفسَها التي وصلتُها سابقًا أم لا، فلستُ أرى جذوعًا ولا ثمارًا ولا صوت ناي، وبعد ساعة من حياتي أنفقتها في المشي وصلتُ إلى المرأة الثلاثينية مجددًا.

بدأ الأمر أنني سمعتُ صوتها تحكي مع إحداهن، واستطعتُ أن ألتقط بعض الكلمات قبل أن أَصِل إليها. كانت تقول لإحداهن أنها تعفنت، وقالت أيضًا: «ستزولين ككلِّ باطل زائل .. ولكن ماذا بعد الفناء؟»

ولم أسمع أكثر من ذلك .. وهل كنت بحاجة لأكثر من ذلك حتى أشعرَ بالريبة والخوف من تلك المرأة الغريبة؟ .. الحقيقة أن المشهد الذي شاهدتُه لا يقلُّ غرابة عن الصوت. فلم أجد الأخرى التي كانت تُحدِّثها، أما هي فكانت تقف في منطقة مرتفعة إلى الأعلى مني، وإلى الأسفل منها صخرة تحجب عني رؤية التفاصيل، وبجانبها ثمة شجرة باسقة تتدلَّى من أحد أغصانها ضفيرة صفراء حادة كما الشمس، تمتد الضفيرة إلى الأسفل بحيث تتوارى في نهايتها وراء الصخرة، وتبدو الضفيرة مشدودة إلى الأسفل بحيث ينحني الغصن ولم ينكسر. وبدَا واضحًا إلى حدِّ اليقين أن تلك الضفيرة كانت منذ أيام قليلة تُشكِّل امتدادًا لشعر المرأة المقطوع.

اقتربتُ خطوةً لأفهم إلى أين تمتد الضفيرة، فإذ بي أشتمُّ رائحةً نتنة تهبط من الأعلى، وهنا امتزجت الغرائب الثلاثة؛ الصوت والصورة والرائحة، وشكَّلَت في داخلي شعورًا واحدًا غريبًا حفَّز فضولي لأفهم ما الذي يحدث، فاقتربتُ أكثر وأنا أهمُّ بالصعود إلى الأعلى، فأسرعَت المرأة إلى الصخرة واضعةً كفَّيها على أطرافها وصاحت في وجهي: خطوة أخرى كفيلة بأن أحطمك بدفعة بسيطة من يدي لهذه الصخرة!

تسمَّرتُ ولم أُجِبها بشيء، فرمقَتني قليلًا وواصلَت: أستطيع ذلك .. أجل .. أنا أستطيع أن أدفع الصخرة، ألَا تصدق؟

أخذت خطوةً إلى الوراء؛ فقد بات واضحًا لكم أنني لا أريد أن أموت، وها هي ذي تُهددني بحياتي كما فعلت في السابق، إنها ترفضني قولًا واحدًا كما فعلت في السابق، هي لا ترفضني لشخصي بل ترفض أن يشاركَها في الجزيرة أحد، أي أحد. وهي صادقة أشد الصدق في تهديدها لي، وقد بدا ذلك واضحًا في وضعية جسدها وملامح عينَيها المكتظة بالافتراس، وقد باتت تُشبه قطةً حُشرت في ركن ضيق وتُخبِّئ خلفها صغارها، فيما تَحدِج المعتدي بنظرة تملؤها الشراسة. أما أنا فلم أعتدِ على أحد، ولست أعرف إن كانت تُخبِّئ عزيزًا كصغار القطة وراءها، وتستعد لأن تُقتَل لأجله أم أنها محض مجنونة. كلُّ ما أعرفه أنها قطعَت بالسبيكة ضفيرتَها وعلَّقَتها ولكن ما شأني أنا؟ فلست أطمح بعد الآن أن أعرف أيَّ شيء عنها .. أريد أن أحيا وحسب .. وهي قادرة على قتلي؛ فإن كنت أنا الضعيف والعاجز قد تمكنت ذات لحظة انفعالية بأن أقتل، فكيف بها وهي التي تعرف أكثر من أي أحد في الكون كلَّ شبر من هذه الجزيرة .. حتمًا تستطيع قتلي.

– ما خطبُك؟

قالت وهي تحافظ على وضعيتها الهجومية فعُدْت خطوات أخرى إلى الوراء حتى أصبحتُ في مأمن من صخرتها، وحينها تملكَتْني نوبة لا بأس بها من الجسارة، وقلت لها بأنني لم أرحل عن الجزيرة ولن أفعل؛ فليس من حق أحد أن يستوليَ على ما هو مشاع، أخذتُ نفَسًا من الصمت وأردفت: لن أُجازف بحياتي مرةً أخرى؛ فأنا أرفض الموت .. لن تقتليني، أتسمعين؟ لقد نجوتُ مرارًا من الموت ولن أعطيَه فرصةً أخرى للتمكن مني .. سأبتعد عنكِ الآن، ولكن دعيني وشأني.

لم أكن أريد ذلك البتة .. كثيرة هي الأشياء التي لم أكن أريدها، حلمتُ بأن أَصِل اليونان بدون شقاء وألتحق بزوجتي، وهناك سنعيش معًا، ونُنجب ما يكفي لأكون ربًّا لعائلة كبيرة وممتدة. أما إن لم أستطع فكان يكفي أن أُمارس وجودي هنا مع امرأة جميلة لولا شعرها المقطوع، ومَن يدري فقد يصبح جزءًا من جمالها! أما الآن وبعد أن اصطدمت بالخطر في البحر وهنا، فلم يكن مني إلا أن أحتفظ بحياتي وأنجوَ، ابتعدت وأنا أقول لها: سأرحل بهدوء عن هذه البقعة وأجد لنفسي مكانًا آمنًا أعيش فيه .. صدِّقيني لن أُزعجَك.

ما لبثتُ أن أدرتُ ظهري حتى أوقفَتْني مناديةً: سآتي معك.

٣

«وماذا تفعلين هنا؟» سألتُها، فأجابت: «أنتظر زرياب.»

وراحت تعزف كما اعتادت أن تفعل، إنها تُجيب ولا تتحدث إلا ما ندر، كان عليَّ أن أجدَ صياغات مختلفة للأسئلة ذاتها حتى أعرفها جيدًا، وقد فعلتُ.

عرفتُ أن اسمها هارمونيكا، وهذا ليس اسمها الحقيقي، بل هو الاسم الذي منحه لها زرياب، وهذا أيضًا ليس اسمَه الحقيقي .. قد أسماها هارمونيكا وأسمى نفسه زرياب .. كانَا معًا في كلية الفنون، هو مغنٍّ وهي عازفة .. ليس ثمة ما هو مثير في قصتها إلا أنها وعندما سألتُها عن اسمها الحقيقي، أجابتني: «لا أتذكَّر». حينها عرفتُ كم من الوقت انقضى وهي تمكث ها هنا في جزيرة لا يقطن فيها إنسٌ ولا جان.

كان عليَّ أن أعرف المزيد ولكنها لا تُجيد الاسترسال، أو هكذا بدَت في البداية، لا تُجيد إلا العزف .. كانت تعزف عبر ما يُشبه الناي، تُكرِّر اللحن نفسه وأحيانًا تُغني أثناء العزف: «أعطني الناي وغنِّ». ولْأَعترف أن شيئًا ما راقني فيها، ليس الصوت ولا الكلمات، ربما أثارَتني الطريقة التي تُردد فيها عبارة: «بعد أن يفنى الوجود» .. كانت تُكرِّرها باستمرار، وبشعورٍ آخذٍ في الشرود والحزن أحيانًا. كأنها بتلك الغصة في صوتها كانت تريد قولَ شيء ما، وهي لا تقول إلا عندما تُسأل؛ لذا سألتها حول انتظارها البائس: كم مضى من الوقت وأنت هنا؟

أجابت ببرود: لا أتذكَّر.

من البديهي أن أظن أنها فقدَت الذاكرة، لكنها تعرف أن لها عاشقًا اسمه الجديد زرياب، وأنها درسَت الموسيقى والآن تعزف .. إنها تعرف شيئًا ما عن ذاكرتها، ترددت قليلًا ثم أردفت: إذن فقد انقضى وقتٌ طويل على حياتكِ هنا.

– هكذا يبدو.

– ماذا فعلتِ به؟

– كنت أنتظرُ ..

هذه المرة لم تُوجز في الحديث، ربما شعرت بإلحاحي وربما كانت تحب الحديث عن الانتظار، وهذا ما دفعها للإسهاب، فراحَت تحكي لي عن انتظارها الطويل لزرياب .. كل تلك السنوات تخطَّتها في انتظار مَن لن يأتي .. ذكَّرَتني بلاهتُها بمسرحية «في انتظار غودو». تذكَّرتُ أن أحدًا لن يأتيَ مهما طال الانتظار .. ألم يأنِ للبشر أن يمتنعوا عن الانتظار بعد تلك الصفعة التي صقَّ «غودو» بها وجهَهم؟ أما زال البشر ينتظرون؟ لقد غضبت، إني أعترف، هناك ما يُثير الغضب حتى لو عزفتُ عن معنى الحياة؛ فالأمر مثير للحنق حقًّا! رفعتُ صوتي قليلًا: وهل يعرف أين أنتِ؟ وهل تعرفين أنتِ ذلك؟ وإن كان سيأتي فلِمَ يدَعُكِ ترحلين وحدك؟ ويتركُكِ كلَّ تلك السنين تنتظرين!

– لا أعرف.

لقد عادت إلى الإجابات القصيرة. يبدو أنها من ذاك النوع من الناس الذين يخشون معرفة الحقيقة، الحقيقة القاسية، تلك الفجة المتجبرة بنا نحن بني البشر .. لقد أخبرَتني فيما بعد أنها لا تعرف أين هي، ولا هو يعرف. وألحقَتها بكلمتَين باردتَين: أسئلتك غريبة.

لم يكن مني إلا أن أضحك وبكل ما أُوتيت من دهشة، ورفعتُ صوتي أكثر مع شيء من الضحك: غريبة؟ حسنًا، كم تأخَّر عن موعده، أتعرفين؟ أم هو سؤال غريب آخر؟

– لا أعرف شيئًا عن الوقت .. يبدو أنك من أولئك الذين يُثيرون الشفقة.

لم أستطع التوقُّف عن الضحك وسألتُها: وهل ثمة من صنفٍ بشري يُدعَى الصنف المثير للشفقة؟

وواصلتُ ضحكي فيما رفعَت صوتها ليطغوَ على ضحكتي: أولئك الذين يُعلِّقون حياتهم بمحض رقم جامد، يمشي وتلفُّ عقاربه .. يتصاعد ثم يعود إلى نقطة الصفر .. أربعٌ وعشرون ساعة تُسيِّر يومنا، تمشي بنا وتعود وتُعيدنا إلى حيث البداية.

أجبتُها بجدية: لا يمكن أن أتصور الوقتَ رقمًا ويمضي .. لقد عملتُ في مصنع ما، وكانت حياتي كلها مرهونة بالوقت .. ثمة ساعةٌ للطعام وأخرى لبدء العمل وغيرها للانتهاء، ووقت للحصول على الأجر، و…

قاطعَتني بهدوء: ثم ما تلبث أن تبدأ من جديد دون أن يأبَه الوقت بمعاناتك .. هي ذي الحياة يا عزيزي: أن تفعل أيَّ شيء يقتل الوقت.

– اسمعي .. لقد قررتُ أن أعزف عن مجرد التفكير بمعنى هذه الحياة .. يكفي أن أعيشها .. ولكن .. لحظة، أنت لا تعرفين ما معنى الوقت! .. ربما لأنك نأيتِ بنفسك عن العالم الذي نعرفه، وربما لأن منطقَ الجزيرة لا يتوافق مع منطق العالم، لا يهمُّ .. إن الوقت أقسى من محض رقم .. هو يُشبه زجاجة ماء أخيرة لهائمٍ يمشي في عرض الصحراء .. كلما شرب شربةً ينقص الماء ولا سبيل لعودة قطرة واحدة مما يستهلك .. ويراقب الهائم الماء في الزجاجة، هو بذلك يراقب كم بقي عليه ليموت .. هكذا الوقت هارمونيكا .. الساعة تعود إلى نقطة الصفر، ولكنها قبل ذلك تسلب منَّا يومًا من حياتنا نخسره إلى الأبد .. ونحن باستهلاك يوم آخر من حياتنا إنما نقترب يومًا من الموت.

لقد كانت طول الوقت تنظر فيَّ وأنا أستطرد أكثر في الحديث، وما إن انتهيتُ حتى أدارَت وجهَها .. واتضح لي بصورة جيدة أنها لم تتفق مع ما أقوله، وما لم أفهمه هو شرودها في تلك اللحظة. لم أستطع أن أفهم أين ذهبت، وكل ما حدث أنها عادَت للعزف مجددًا، وراحَت ترفع صوتها مغنيةً: «فأنينُ الناي يبقى بعد أن يفنى الوجود.» لقد أربكني تجاهلُها، فاصطنعتُ معركةً معها، وقلتُ منفعلًا: لا أنينُ الناي ولا الموسيقى ولا شيء يبقى يا عزيزتي.

توقَّفَت عن العزف وقالت بهدوء: يبقى الجمال.

وواصلَت العزف كأنها تُخبرني بأنها لا تريد معارك معي، ولكني لم أسمح بأن نصمتَ .. أريد أن أمارس أيَّ شيء من حياتي، لا يمكن أن يكون الصمتُ جزءًا من الحياة .. أردت يومها أن أحكيَ وأمشيَ ونتسامر ونغنِّيَ حتى الهزيع الأخير من الليل .. أن نفعل أي شيء.

مضينا ليلتنا ما بين كرٍّ وفرٍّ كلاميَّين، لقد جذبَتني بأبسط الأشياء .. ليس بغنائها ولا بعزفها وحسب .. كان يكفي أن أنظر إليها وهي تحكُّ ما بين أصابعها المتسخة، لقد فعلَتها أكثر من مرة وبمنتهى البساطة .. هارمونيكا لا تعرف أن البشر يرتدون الأحذية، لقد نسيَت ذلك، وقد قاسَت سنين طويلة وهي تنتظر زرياب .. أخبرَتني عن الوحدة والانتظار .. إنها تعرف الوحدة بأقسى حالاتها .. ولم تقنط من الانتظار .. إنها تؤمن بأنها تعيش معنى الجمال .. ذاك الذي نصنعه، كما تقول، ثم نجعله يشكِّلنا كما يشاء، ثم تردف «الجمال عدوُّ المنطق.» أما أنا فبالطبع شعرتُ بسخافتها .. أجل إنها سخيفة بل سخيفة جدًّا .. ولكن أيمكن أن أقول لامرأة تُعجبني أنها سخيفة؟

على مشارف الصباح سألتها: كيف وصلتِ إلى هنا؟

فأجابَت بأنهما اختارَا .. هي تُؤمن بأن الإنسان وحده مَن يختار، وهو حرٌّ في ذلك .. هو مجبور بأن يكون حرًّا في خياراته. هنا أيضًا كان عليَّ أن أضحك، وكان عليها أن تُدافع عن نفسها من سخريتي وتُكرِّر بوضوح أعلى: بالطبع الإنسان هو مَن يختار، وهذا مقلق لأمثالك؛ فهو يجعلك مسئولًا عن خياراتك في الحياة، وهذا ما يجعلك كثيرَ التفكير قليل الممارسة.

مرةً أخرى تُزعجني .. ومرةً أخرى أتجاهل الأمر، وتركتُ لها أن تُواصل قصتَها بعيدًا عن فلسفة الاختيار الساذجة، وما إن أنهَت بعضًا من قصصها فهمتُ أنها لا تذكرُ إلا ما يتعلق بزرياب، فهي تعرف أنه تركها تسافر وحدها ليلحق بها بعد يومين، ولكنها لا تعرف كيف سافرت، تعرف لماذا اختارت البحر معه ولكنها لا تعرف كيف وصلت الجزيرة.

– وماذا بعد؟

قلت وكُلِّي دهشة مما تتصرف، فأجابت: أنتظرُه، ليأتِ.

– حتى الآن؟

هزَّت رأسها قبل أن تقول: نحن مجبرون أن نجدَ شيئًا ما ننتظره حتى لا نموت. وكما فهمت فأنت لا تريد الموت.

بات واضحًا أن كلانا يريد أن يحيَا .. ولكن ما معنى ذلك؟ لقد أخبرتُها بأنني كنت أسعى للحاق بزوجتي، وهناك سأمارس وجودي، وهل لهذا معنًى أيضًا؟ لا أعرف. لا أعرف شيئًا .. كان واضحًا لكلينا أنَّني لا أريد إلا أن أتزوج وأتناسَل وأظل إلى الأبد موجودًا .. قلت لها إن الجمال يفنَى .. تجرَّأتُ واعترفت بأننا لسنا أحرارًا وأن الجمال لا معنى له إن انتهينا.

كل ما في الأمر أنني أردت عائلةً فهي الأثر الوحيد المضمون في هذا العالم .. أما هارمونيكا فلم تُجبني بشيء .. مجددًا تصمت، ترفض شيئًا ما مني، لا أعرف ما هو .. ها أنا ذا أعود إلى الأسئلة مجددًا .. ولكن لا بأس فقد كان يجب أن أسألها مجددًا «ماذا بعد؟» لتردَّ بنفس الإجابة، لأسألها بإلحاح: ولو جاء زرياب مصادفةً، ماذا بعد؟

– سأعانقه.

– وماذا بعد؟

– نُغنِّي معًا، فهو يمتلك صوتًا جميلًا.

– وماذا بعد؟

– نجلس على الشاطئ ونُحصي النجوم.

«يا لَسخافتها!» قلت في سرِّي وسألتُها بصوت أكثر وضوحًا: ماذا بعد؟

– لا شيء!

– حسنًا .. لا شيء إذن.

– أجل. لا شيء.

غضبتُ وأردفت: حرفيًّا لا شيء .. أنت وهو ووجودكما والناي والجمال .. فناء .. ليس ثمة ما يبقى بعد الموت!

– يبقى الجمال، ألم أُخبرْك؟

إنها مصرَّة إذن على هذا النوع الساذج من المثالية. قلت بشيء من الهدوء: كل شيء زائل! .. فما معنى الجمال إن غِبْنا عنه؟ وما معنى الوجود بأكمله إن غاب مَن يُدركه؟ صدِّقيني: نحن عابرون رغم كل ما نفعله؛ صراعاتنا، حقائقنا الصغيرة والكبيرة، انتظاراتنا التي تسخر منها، كلها ستهوي إلى عدمٍ لحظةَ موتنا!

– شيءٌ ما يبقى .. وإلَّا لِمَ نحيَا؟

غابَت مجددًا في عَزْفها وغِبتُ مجدَّدًا وأنا أومِن بأن شيئًا ما يبقى .. أعرف جيدًا أن حياتنا ما هي إلا رحلة من الولادة إلى الموت، وأن وجودنا ما هو إلا محاولة لأن نخلِّد الطريق والرحلة، لقد ذقتُ من البؤس أكثر من غيري، ورغم ما عشتُه من تعاسة وفقدان، إلا أنني ازددتُ إيمانًا بحقيقة بسيطة خاصة بي وهي أن الحياة نفسها هي مشروعي في الحياة، ولكن هارمونيكا لا تفهم .. لا تفهم ولا تريد أن تفهم، وأنا أومن مثلها أن شيئًا ما يبقى. نظرتُ إلى عينَيها وهي تعزف، وقلت فيما أنا أنظر إليها: أجل .. شيء ما يبقَى.

ابتسمَت وواصلَت العزف، وهنا تعبتُ منها، تعبت من تجاهلها عن جهل أم قصد، لست أعرف، فأوضحتُ: ليس الجمال .. قد يكون الموت هو الحقيقة الأقسى، وأننا بوعينا لحقيقة الموت إنما نَعِي قسوة الحياة نفسها؛ لذا وجب على البشرية أن تتحايل على الموت.

توقَّفَت عن العزف، فقلتُ مصارحًا: ما الجدوى من الجمال إن كان صاحبه سيموت؟ لمَن سيبقى؟

– للبقية من الأحياء، ألَا يكفي؟

– لا .. يجب أن يبقى شيءٌ منَّا أولًا.

لقد ضحكَت وهي تقول: أسخفُ فكرة للخلود هي التناسل للوجود.

إذن فهي تفهمني منذ البداية .. ورغم ذلك لم أكتفِ بهذه الإجابة وطلبتُ منها أن توضح أكثر، فقالت: إنها فكرة تزدرينا وتستخفُّ بإنسانيَّتنا .. تجعل منا محضَ مركب محمَّل بالجينات .. وفي اللحظة التي تتسرب جيناتُنا إلى أولادنا نفقد أنفسنا تمامًا.

– ولكنها قبل ذلك تضمن لنا الاستمرار.

– وما الجدوى؟ أيُّ حيوانٍ تافهٍ، يا عزيزي، يستطيع فعْلَ ذلك وبكلِّ تواضع، ولا يضطر لأن يصرع الدنيا أنه تمكَّن من تمرير جيناته .. أترى كم تزدرينا هذه الفكرة وبكل قبح؟

– ومَن قال إن الحقيقة دائمًا جميلة؟

عادَت إلى صَمْتها، دون أن أفهم هل تتجاهلني، أم تسخر مني، أم أنها تشردُ مجددًا؟ كل ما أعرفه أنني أحتاجها بقدر ما أحتاج الحياة. ولو أنفقتُ تلك الساعات في الثرثرة بأمور كهذه فذاك لم يكن إلا محاولة لأن أكونَ معها.

٤

استيقظتُ ولم تكن .. ناديتُها ولم أسمع أيما إجابة، رفعتُ صوتي مغنِّيًا: «وأنين الناي يبقى بعد أن يفنى الوجود.» لقد ناديتها بكلمات الأغنية كاملةً، وأحسستُ بشيء في داخلي يسخر مني؛ ذاك أنني أرفض هذه الكلمات، ولا تعنيني الأغنية في شيء. يبدو أنني من ذاك النوع الذي يمتلك قدرةً مهولة على الإلقاء بأفكاره مهما كانت، ويتبنَّى أية فكرة تربطه بالمرأة التي يرغب بها ويريد أن يحيا معها.

لم يكن عليَّ إلا أن أمشيَ وأعود إلى منطقة «الخطر»، تلك التي لا تريدني أن أعرف شيئًا عنها، هناك حيث الشجرة والضفيرة والرائحة النتنة، وبالفعل ذهبت ورأيتُها دون أن تراني، لقد قطعَتْ بالسبيكة جزءًا آخر من شعرها، كانت تبدو كمازوخيٍّ يهوَى تعذيب نفسه، تقطع من شعرها كمَن يقطع من جلده ولحمه .. ثم تنزل وتتوارى خلف الصخرة، وبعد هنيهة تصرخ .. أجل لقد صرخَت، وقالت: «لا شَعْر يكفي!» ثم بكت، وقالت: «الديدان ستجد لنفسها ألف منفذ إلى هذا الجسد البائس.» وما هي إلا لحظات حتى وقفَت وراحَت تحكي بانفعال عارم كممثلٍ تراجيدي يؤدي مونولوج النهاية: «أنا الآن هنا .. لقد تحدثتُ مع الغريب .. أعرفُ أنكِ ترفضين ذلك. لا لم أطرده، لقد كذبت، لم أكذب، بل طلبتُ إليه الرحيل في البداية ولم يفعل .. أنا أحتاجه .. تعرفين ذلك حقَّ المعرفة .. وحده مَن يُتيح لي ممارسة وجودي .. أما أنتِ؟ أنتِ الآن لا شيء .. فناء ثم لا شيء .. لقد انتهيتِ تمامًا، أتعرفين؟ قبل كل شيء قد انتهيتِ .. زرياب أنهى حياتكِ منذ زمن طويل .. تعفَّنتِ وأنتِ تنتظرين مَن لن يأتي .. والآن ماذا؟ أنا هنا وأنتِ لا شيء .. مَن منَّا يستطيع الاستمرار؟ قد يأتي الغريبُ ويتعثر بجثَّتِك ولكن ما معنى ذلك؟ هل يعني موتَ كلينا؟ أم موت واحدة وحياة الأخرى؟ .. حتى الآن، أنا الباقية .. ككل شيء، كفكرة الغريب عن الجينات .. البقاء للأصلح .. للفكرة الأفضل .. للأقوى .. اختاري ما تشائين، لا يهمُّ، وإن كان لكل هذا معنى فهو أن من حقي أن أختارَ حياتي وأستمرَّ فيها كما أشاء الآن وهنا.»

انتهَت من حديثها وانطفأَت حرقتُها شيئًا ما مع المحافظة على شيء من الغضب، ثم قفزت لتنزل من الأعلى إلى الأسفل، تعثَّرَت بحجر صغير جدًّا، وكادَت تقع لولا أنها تمالكَت نفسها في آخر لحظة، لقد نظرنا معًا إلى قدمها، كانت تقف على رءوس أصابع قدمٍ واحدة .. كلانا استغرب الأمر .. وبعد هنيهةً واصلَت نزولها برقصة ملفتة، والتقَت بي في الأسفل، وهذا ما أحيَا غضبَها مجددًا.

– ماذا تفعل؟

لقد اشتعل عددٌ مهول من الأسئلة في رأسي، ولم أعرف من أين أبدأ، إلى أن سألتُها في نهاية الأمر: لِمَ تقطعين شعرَكِ بهذا الشكل؟

أجابت بحسم: لا شأن لك.

ولم تطلب إليَّ الرحيل بل وقفت صامتةً، ولأول مرة يكون الصمت بهذا الثقل، لقد كان صمتًا طاغيًا وكثيفًا كالوحل، إنها لا تُخفي سرًّا، بل حياةً كاملة لا أحد يعرف عنها شيئًا .. لم أعتَدِ الإلحاح ولكن صَمْتها يلحُّ على فضولي .. ربما ليس الفضول .. ثمة ما هو أبعد من ذلك، قد تكون الرغبة، بادئ الأمر كانت محضَ رغبة بالبقاء وعدم الموت .. رغبة بالتناسل .. أما الآن فهي رغبة جامحة بالدخول إلى عالمها .. لقد سألتها عن شعرها مجددًا وحياتها، وعن الجثة التي كانت تُحدِّثها في الأعلى، وبقيتُ أسأل وهي لا تُجيب إلى أن انفجرت: لا شأنَ لأحد في حياتي .. لقد أنهى حياتي، أتعرف؟ زرياب .. أجل زرياب أخفى ملامحي وحياتي وأنا أبهتُ يومًا بعد يوم .. أنا لا أذكر اسمي، أتعرف؟ لا أعرف شيئًا عني .. أعرف أن أبي لم يكن يحبُّني وأن أمي امرأة مسكينة ولا شيء آخر .. أما الآن ومنذ أقل من دقيقة فقط، فأتذكَّر أنني ..

تنهدت ثم قالت بهدوء: أنا لستُ عازفة .. لقد دخلت قسم الرقص .. زرياب مَن أرادني موسيقية.

أخذنا جولةً أخرى من الصمت قبل أن تقول ببرود وهدوء مفاجئين: لا أحب العزف يا رجل! .. أتعرف؟ زرياب لا يستطيع العزف .. وصوته قبيح أيضًا .. نعم صحيح .. صوته نشاز .. أجل أجل نشاز .. أيستحق رجل بصوت بشع ونشاز أن أنتظره كل ذلك الوقت؟

قلتُ محاولًا إخفاء ضحكتي: أريد أن أضحك، ولكني خائف .. أيغضبك لو ضحكت؟

هي مَن ضحكت لحظتها، وهنا تيقنت من أنها ليست سوية العقل .. «فليكن، وماذا يضير؟ المجانين والفئران والبشر يتناسلون».

انتهَت من الضحك لتبدأ بالرقص وحدها، «ألم أَقُل إنها مجنونة؟» رقصَت، هكذا، فجأة .. وليس هذا وحسب، بل جذبَتني من يدي وراقصَتني .. أنا لا أعرف الرقص ولكني راقصتها .. وما هي لحظات من رقص لا معنًى له حتى بدأت تغنِّي وهي تُراقصني .. لقد غنَّت مقاطع من جدارية محمود درويش، وشاركتُها الغناءَ، وكرَّرنا هذا المقطع مرارًا: «هزمتْكَ هزمتْكَ ..

هزمتْكَ يا موتُ الفنونُ جميعها ..

هزمتْكَ وانتصرَت وأفلتَ من كمائنك الخلودُ

فاصنع بنا واصنع بنفسك ما تريد ..

وأنا أريد .. أريد أن أحيَا.»

لقد رفعتُ صوتي معها مغنِّيًا: «أريد أن أحيا.» وتوقفنا لحظتها عن الرقص بشفاه قريبة جدًّا، فحاولتُ تقبيلها. أبعدتني، فقلت: «لم أقصد». ردَّت بسخرية: «عفوًا؟» هنا كان يجب أن أغيِّر الموضوع، وأقول: كليشيه .. أقصد أن نغنِّيَ ونرقص على هذا المقطع في مكان كهذا، كليشيه، ولكنه غير مزعج فهو يناسب الحالة.

ردَّت بجدية: متى ستفهمون يا معشر الرجال، أن الرقص ليس تأشيرة دخول للجنس؟

لا أعرف من أين أتَتني الجسارة وسألتها: لمَ لا؟

السؤال الصريح ساعدها كثيرًا لتُجيب بوضوح: لأني لستُ مركبًا لجيناتك .. أنت تريد الاستمرار وحسب!

– وأنتِ؟

– أريد أن أمارس وجودي وحسب.

ضحكتُ وأنا أقول: هذه عبارتي أنا .. قلتُها لكِ سابقًا أليس كذلك؟

– لا تَقُلها .. بل مارسها .. دَعْنا نمارسها معًا دون ممارسة للجنس، أيمكن ذلك؟

اتضح أن كلانا اتفق ضمنًا على الحديث بهذا الأمر وبمنتهى الصراحة، وغدا واضحًا مدى حاجتي إليها .. لشخصها ولرحمها .. من المؤرق أن تُعطيَني الجزيرة أملًا بالنجاة ولا أجد فيها أيَّ سبيل للاستمرار .. لقد حدَّثتُها عن أمي وعن حلمي بالعائلة الكبيرة الممتدة .. حدَّثتُها عن الخوف والعجز السابق في الإنجاب.

لم أتمكَّن يومًا من الإنجاب .. الخوف يمنع أي إنسان من فعل هذا .. الخوف .. ذاك الشعور اللعين الذي يجعل مني عاجزًا عن أبسط الأمور .. رفضتني زوجتي وهاجرت إلى اليونان .. بقيت وحدي مع أمي، ولم تكبر العائلة بل نقصت زوجتي قبل أن أخسر أمي أيضًا .. كان يجب أن أهاجر إليها، هناك، حيث الأمل في مستقبل أكثر وضوحًا وأقل خوفًا .. لقد عشت الخوف بكل حالته .. قاسيتُ في المصنع وفي الفقر والفقدان، لقد مارست القتل والدفن والهرب .. ولم أمارس يومًا الحياة بمعناها البسيط والهادئ .. أخبرتها بكل هذا وحدثتها أنني أُشبهها بطريقة أو بأخرى، فهي تنتظر مَن لن يأتي، وأنا ذاهب إلى مَن لا ينتظرني .. زوجتي هربت ولا تنتظرني .. وعندما قررتُ الذهاب إليها لم أكن أعرف إن كنت سألتقيها أم لا، وإن التقينا فلست أعرف إن كنا سنكون معًا أم أننا سنفترق بشكل أكثر وضوحًا وحسمًا .. ولكن كان يجب أن أفعل شيئًا. كنت بحاجة لأن أتحرك متجاوزًا ما كنت فيه من سكون.

ورغم كل ما قلت، فقد رفضَتني مجددًا، ولكن رفضها هذه المرة كان حزينًا .. لقد قالت إنها لا تريد أحدًا .. لقد أقسمَت لي أنها موجودة، دون أن أفهم، وأن الموجود بالضرورة حر .. وهذا ما يُقلقها: يؤرقها التفكير بوجودها، وحريتها كشخص موجود، ومعنى حياتها الذي تصنعه عبر الحياة. «أجل، إنها تُرهق نفسها بترهات كثيرة من هذا القبيل.»

وأنا أيضًا بِتُّ أشعر بامتعاض شديد ثم قلت وفي داخلي توسُّل أرعن: «لا يكفي أن أكون وحدي لأكوِّن قبيلةً.»

وقد انتقيتُ هذه الكلمات تحديدًا من نفس القصيدة كي أجد جسرًا للتواصل بيننا؛ فإن كانت ترفضني لشخصي فقد تتقبلني لاقتباسي من قصيدة استخدمتُها آنفًا وتحبها. ولكنها ترفض الفكرة ولا ترفضني لشخصي، فقد قالت: القبيلة لا تعني لي شيئًا، ولا المجتمع، ولا الخلود .. أريد أن أكون .. وأيضًا أريدك جانبي، فلا تتخلَّ عني .. ولكن أرجوك توقف عن محاولاتك بالتقرب من جسدي.

– سأنسحب من كل المحاولات، ولكن ألا تظنين بأن الحرية التي تحدَّثتِ عنها قادرة لوحدها أن تلغيَ مجتمعًا كاملًا محتملًا على هذه الجزيرة ويحق له أن يوجد؟

– أرأيت كم هو قاسٍ أن يعيَ الإنسان لوجوده؟ لو كنت أرنبًا لتناسلت دون أن تعيَ .. المأزق الإنساني بدأ من لحظة إدراكنا لوجودنا.

ابتعدَت وهي تقول: سأفكر بذاكرتي .. فقد أستطيع البدء من هناك.

وبالفعل، راحَت تسترجع ذاكرتها في محاولة لأن تكون موجودةً، دون أدري ما الذي يدفعها لتُثبت بل وتُقسم أنها موجودة .. بدأت تُحصي الضفائر لتُحصيَ سنوات حياته على الجزيرة، وصمتَت طويلًا وهي تفكر محاوِلةً لتعرف شيئًا عن ذاكرتها، اسمها، عائلتها، أبيها، وكل ما يتعلق بماضيها.

لقد توقَّفَت عن انتظار زرياب، وراحت تنقب في ذاكرتها لتبدأ حياتها، أما أنا فقد بدأتُ أنتظر بجدية سفينةً متجهة إلى اليونان .. وهنا سألتني: «أحقًّا تنتظر السفينة؟» فقلت: «سفينة متجهة إلى اليونان.» ضحكت قبل أن أردف: «نحن مجبرون أن نجد شيئًا ما ننتظره حتى لا نموت، أليس كذلك؟»

ربما كان كلانا يسخر من نفسه، ولكن لا بأس .. ففي لحظة كتلك، أن يلتقيَ مجنونان سيموتان يومًا ما، فليس أمامهما إلا البحث عن دوافع لوجودهما .. استسلمَت لهذه الحقيقة المرفوضة بالنسبة لي، ولم أتوقَّع يومًا بأنني سأتصالح معها. لقد كررت هارمونيكا عبارتها حول الانتظار، ولكنها هذه المرة أردفت معترفةً:

«إن وجودي هنا لم يكن إلا مقاومةً مستمرة لفكرة الانتحار.»

٥

لقد انتحرت هارمونيكا.

قالت لي يومًا إن الانتحار خيارٌ أكثر سخافةً من الحياة نفسها، وإن الحياة برمَّتها ما هي إلا تحدٍّ لفكرة الموت، ورغم هذا فقد انتحرت.

بدأ الأمر عندما أضعتُها مجددًا، فذهبتُ إلى الشجرة والضفيرة، صعدتُ إلى الأعلى، لفتني كم هي طويلة ضفيرتها ومع كل جدلة في شعرها كان هناك حياة لها على هذه الجزيرة .. ذهبتُ بنظري إلى آخر الضفيرة وراء الصخرة فصدمني أنها صنعَت من الضفيرة حبلَ مشنقة وكان ملتفًّا حول عنقِ امرأةٍ بلا ملامحَ واضحة، ولكني افترضتُ ضمنًا أنها جثة هارمونيكا.

اهتزَّت ركبتاي وسقطتُ إلى الجثة ذات الرائحة النتنة، ولم أستطع أن أحتمل فكرة أن أكون أنا قد تمكنتُ من القتل ذات جنون وهي قد استطاعت أن تقتل نفسها ذات فاجعة .. لم أكن أعرف إن كان الحزن الذي شعرتُه هو حزن على فقدان مَن لم أعرفه جيدًا، أم هو حزن على مستقبل فارغ في جزيرة فارغة، أم هو تعاطف فطري، أم هو رفض لفكرة أن يُنهيَ أحدٌ حياتَه .. أم هو حزن من نوع آخر.

لا يهمُّ .. أما المهم فهو أن هارمونيكا جاءَت ورأتني أمام الجثة .. «الأمر جنوني أليس كذلك؟» ربما .. ولكن هذا ما حدث .. لقد جاءت من وراء ظهري وهي تقول بشرود: كنت أعرف أنك ستأتي يومًا ما إلى الجثة.

في لحظة كهذه لا يجدر بي إلا أن أشكَّ في نفسي، وأفكِّر: هل تهيأ لي أني رأيتُ جثتها منذ هنيهة، أم يتهيأ لي أني أراها الآن أمامي .. ولم يكن مني إلا أن نظرتُ إلى كليهما مشدوهًا. وبعد برهة قالت: لستُ أذكر مَن منَّا الذي قال إن الحياة في الجزيرة لا تتبع لمنطق العالم.

قلت متوجسًا: الموت حقيقة وليس بمنطق!

– الموت ربما، قد يكون حقيقة، ولكن لا حقيقة محتومة لما بعد الموت.

اقتربتُ من هارمونيكا، وقصدتُ ألا أنظر إلى الوراء، وقلت بانفعال: لحظة .. أخبريني .. مَن هذه الراقدة في الحفرة؟

كانت واقفةً أمامي، أقول الحق، رأيتُها جيدًا، لمستُها، وجدتها بالفعل، وكانت حزينة جدًّا، بائسة، كانت تمتلك من الوجع ما لم أختبره في حياتي، مشَتْ صوب الحفرة، تعثَّرَت بحجر آخر ولم تقع، إنها تتعثر أيضًا كسائر البشر الموجودين في العالم، وتمشي تمامًا مثلنا، وكأي بشري وقفَت أعلى الحفرة وقالت: تعبتُ من الانتظار .. أو تعبت .. الأجدر أن أقول تعبنا أليس كذلك؟

انفجرتُ منفعلًا: قولي أيَّ شيء!

وهنا أخذَت نفَسًا واسترسلَت: انتظرتُ زرياب لوقت طويل لا أذكره .. تعبتُ من انتظاره لدرجة أنني تمنيت أن يكون قد مات غرقًا في البحر على أن يتركني في تلك الحالة المريبة من الانتظار البائس .. أتعرف تلك اللحظة التي يتحول فيها كلُّ شيء في حياتك إلى عبث؟ عبث وأسئلة، لا أعرف شيئًا من حولي .. لم أَعُد متأكدة من أي شيء في حياتي .. انتظار وحسب .. حياتي هنا لم تكن إلا محاولة يومية للتأكيد على وجودي، أقول الصدق رغم ما في العبارة من تناقض ظاهري مع مقاومتي لفكرة الانتحار .. عبثتُ بالماء وعجنتُه بالتراب حتى صار طينًا .. وضعت الطين أرضًا وجربتُ أن أترك أثرًا على الصخرة .. يا الله كم كنت ضعيفةً! أبحث عن وجودي في الطين وعن المعنى في عبث الجزيرة! .. لقد حفرت هذه الحفرة .. إني أصنع شيئًا ما .. لقد نزفتُ دمًا ولمستُه بيدي .. ضربتُ كفَّ يدي بالصخرة وطبعتُ أثرَ يدي هناك .. قد رأيت الطين والدم وكل آثاري ولم أتيقن بعدُ من وجودي.

شعرت ببدني يقشعر، وجسدي ينقبض على نفسه، لساني أصبح ثقيلًا ولم أتمكن من إيقاف الرجفة في شفتي، وشعرت بنفسي أهذي وأنا أقول: لستُ أفهم أيَّ شيء .. معدتي تؤلمني .. أمعائي ..

قاطعتني منفجرةً: تنقبض وتكاد تتمزق، والقلب ينبض بسرعة، الجسد يوهن والنفَس ثقيل، وشيء ما صلب داخل الصدر يضرب في قلبك .. أنا أيضًا أصابني كل هذا قبل أن أقطع الضفائر وأقف محتارةً: أأستخدمها لصناعة قارب من الجذوع وأرحل عبره إلى أي مجهول آخر؟ أم أصنع منها حبل مشنقة وأتخذ آخر قرار بحياتي أن أُنهيَ حياتي .. ولم يكن مني إلا أن انتحرتُ.

صمتنا مجددًا، هي لا ترغب بالحديث وأنا عاجز عن أي شيء .. مجددًا أشعر بالعجز.

راحَت تسكب الماء على الجثة؛ كي لا تتعفن، وأخبرتني أنها ما إن انتحرَت حتى استيقظَت لترى جثتها أمامها، ولم تستطع دفنها .. أي فعل كانت ستفعله كان سيهدد وجودها .. شيء ما فيها يستمر .. ثمة ما يبقى بعد الموت .. ليس المهم أن يكون حقيقيًّا أم وهمًا .. أيمكن أن نكون نحن أنفسنا الأثر الذي نتركه؟ لقد قلت إن الموت حقيقة والانتحار ممارسة للحقيقة .. وقد قالت بأن لا شيء في حياتها هنا كان يقينيًّا .. الموت هو اليقين الوحيد .. أما وجودها فقد بقيَ .. ذاك الوجود الذي شكَّت في كل تفاصيله .. بقيَ بعد الموت، وبقيَت شكوكُها حوله .. طلبَت الحديث معي، وأصرَّت على بقائي هنا، تلك هي الممارسة الوحيدة الممكنة للوجود .. وفي هذه اللحظة شعرت بخوف مريب، فربما لا يوجد منطق هنا، ولأتفق ضمنًا بأنه «لم يَمُت أحد تمامًا.» ولكن هناك شيء مرعب لشخص مثلي يريد أن يكون .. ربما الوجود نفسه هنا مغاير أو غائب .. قد تكون حاجتي الملحَّة لشريك يقاسمني المستقبل والتناسل هي مَن دفعَتني لأن أتخيل هارمونيكا. ربما تكون هذه المرأة الغريبة ما هي إلا وحي من الرغبة. وربما لم تنتحر بل جاءت فالتقت مصادفةً بجثة وتخيلت أن نهاية الطريق هنا هي الانتحار فعلقت هناك. لا شيء يقيني.

تملَّكني الخوف حقًّا، تجاهلتُها تمامًا، أحضرتُ الجذوع التي كانت ستكون سبيلي للنجاة وصنعت منها تابوتًا، وضعتُه فوق الجثة .. لأقُل جثة الغريبة ولو بشكل مبدئي .. وظل الخوف مسيطرًا .. فلم يكن مني إلا أن حدثتُها وأنا أصنع التابوت دون أن أنظر: هارمونيكا .. أنت هنا؟ .. أريد أن أراك .. سأنتهي حالًا من التابوت وأرفع عيني وسأراك، أليس كذلك؟ يجب أن أتأكد من أني لم أزل أستطيع رؤيتك .. يقال إن كل ما هو متخيل يظهر في لحظة العجز عن التفسير، أما الآن وبعد أن فهمت فلا يجدر بأيِّ متخيل أن يظهر .. يجب أن أراك لأتأكد أنا الآخر من وجودي .. أنت هنا أليس كذلك؟

ولم أجسر أن أرفع عيني لأرى .. ولم أنظر إلا عندما سمعتُها تعزف .. لقد عادَت للعزف بمحض إرادتها.

كانت في الأسفل، حيث بدأَت حكايتُنا؛ أنا من هناك وهي من هنا، أما الآن فهي في الأسفل وأنا في الأعلى، وما هي لحظات حتى مرَّت سفينة من جانب الجزيرة التفتُّ إلى هارمونيكا وقلت: تلك سفينة ذاهبة إلى اليونان.

توقَّفَت عن العزف نهائيًّا، أما أنا فقلت العبارة ولم أتحرَّك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤