الرمية الأخيرة

«إلى الشهيد غسان عباس الريماوي،
ذاك الذي حسم سؤال الموت والحياة.»

١

إنها الرمية الأخيرة .. رمية لا دور للحظِّ فيها .. فالإنسان هنا مَن يختار، هو صاحب القرار .. هي رمية بوجهَيها؛ الموت والحياة .. هل كان عليه أن يختار حياته؟ ذاك الإنسان الذي قضى السنوات الأخيرة من حياته في مجابهة ندية مع الموت إلى أن تعطَّلَت خلاياه وأجهزته.

وحدها الأجهزة الأمنية ما تعمل؛ تلك التي عرفت حياة غسان جيدًا، ولكنها لم تستطع أن تجد ذلك الإله العملاق في جسده الصغير، الواهن، المتهالك والعاجز، ذاك الذي كان أشبهَ بستارة تعصفها الريح!

٢

الرمية الأولى .. تنطلق قطعةُ النقد من يد الضابط «خيمي» فيما كان غسان ينظر في وجه شقيقه المكبَّل أمام الدورية، أحد الجنود يصوِّب بسلاحه على وجه أخيه وقطعةُ النقد لم تزَل تعلو.

الضابط يدنو من غسان فيما كانت الخلايا السرطانية تنتشر بشراسة محاولةً تمزيقَ جسدِ غسان الذي غدا نحيفًا وهزيلًا. ثم راح يُحدق في وجه «خيمي» الذي كرَّر العبارة للمرة الثالثة: الأمر بسيط، والخيارات واضحة: أن تموت أو أن نأذنَ لك بالعلاج كي تعيش .. الاختيار سهل، لو أن كل خيارات الحياة بهذه السهولة!

يومن «خيمي» بأن الإنسان بمنتهى البساطة عليه أن يختار حياته .. لكن غسان يعرف جيدًا معنى «أن أكون»؛ لذا تبدو خياراته دائمًا صعبة ومفاجئة، نظر غسان في وجه «خيمي» متذكِّرًا أيام اعتقاله قائلًا: أيعقل أن هذا الوجه يستطيع أن يمنح الحياة؟

نسيتُ أن أقول إن قطعة النقد سقطت أرضًا وحُسم الأمر.

٣

كانت قطعةُ النقد تتقلَّب في الهواء ما بين الطبيب وغسان، ينظر الطبيب إلى غسان بعينَين آملتَين أن يختار نجاته إلى أن سقطت أرضًا، أحنَى الطبيب ظهره يأخذها عن الأرض وهو يتحدث وكأنما يُحدِّث نفسه: إذن فقد فشلت محاولة التهريب إلى القدس؟

أشعل غسان سيجارةً ولم يُجِب.

– وتدخن أيضًا؟ ألم أطلب منك أن تكفَّ عن هذا؟

سحب نفَسًا عميقًا من السيجارة وتنهَّد ينفث الدخان بصورة تلخص حكايته مع السجائر، ثم قال بعد صمت: لم أسمع كلام الضابط عندما وضعني أمام خيار كهذا .. أنسيت أنه أيضًا وضعني في مأزق ما بين الموت أو الحياة؟

– أمَّا أنا فلستُ الضابط، والتوقف عن التدخين لا يتساوى بالاعتراف عما يُضمر أخوك.

أخذ قسطًا من الصمت قبل أن يُردف: ماذا ستفعل الآن؟ .. السرطان قد توغَّل في دمك، عليك أن تجد خيارًا لا يحمل موتك.

أمسك غسان بقطعة النقد ونظر في وجهَيها يقول: لا أعرف خيارًا كهذا.

– ولكن يا غسان أنت الخاسر .. في كل دقيقة تأخير تزداد بحجمها الخلايا وتخسر من حياتك.

– ليس مهمًّا أن أنجوَ من موتي .. المهم أن أنجوَ من حبِّي الشديد للحياة بتجلياتها .. إنها تداعبني بمغرياتها وسجائرها وفتاتها التي كنتُ أحبها، تُداعبني بطريقي الجميل من بيتي إلى مقهى البلدة، ذاك الذي كان محضَ طريق أمضي فيه بلمح البصر، لا أعرف له من بداية ولا نهاية، وصار الآن طويلًا وشاقًّا أحسبه بالخطوة وفي كل خطوة يزداد تلهُّفي لرائحة المقهى والرفاق، وصار فنجان القهوة يحمل معه متاعب الطريق وشقائي ولهاثي واستراحاتي الطويلة والكثيرة على أرصفته.

٤

إنها الرمية الأخيرة .. مضى الوقت فيما مضى السرطان منتشرًا في جسد غسان المفخخ بالخلايا السرطانية .. لو يستطيع تفجير نفسه في مكتب العقيد بل في جهاز المخابرات بأكمله .. لو يستطيع ذلك فتتناثر الخلايا في الجهاز بأكمله عساهم يُدركون أمام أية خيارات يقف غسان وفي أيِّ مأزق هو.

«فلنحذف السطور الأخيرة فربما تكون قاسيةً، ولكن كيف يتوقف العقيد «الفلسطيني» عن ابتزازه؟»

توقَّف العقيد عن اطِّلاعه الطويل والممل على ملف غسان، وكرَّر ما بدأ الجلسة به: كما أخبرتُكَ؛ قضية سفرك وعلاجك أبسط مما تتصور .. تستغرق أقل من ثانية .. هي ضغطةُ زرٍّ على حاسوبي .. الأمر بسيط يا غسان، أفلا تساعدني بمساعدتك يا صديقي؟

ابتسم غسان وهو يرد: سمعتُ الكلام نفسه من الضابط «خيمي»، أتعرفه؟

لم يكن غسان ليتصور أن يصفعه العقيد في هذه اللحظة تحديدًا، تحسَّس جبينه وهو يبتسم، فيما راح العقيد يُخفي وجهه وراء حاسوبه كأنه قد غاب فيه.

٥

سقط شعر رأسه مع سقوط الأمل الأخير بالحياة وسقوط أجهزة المخابرات، ومع سقوط كل شيء كان ثمة ما يقرع جدران صدره وينبض بحياة ما، كأنه «الموت يلد حياة» .. ذاك الموت الذي كان خيارًا، ونادرًا ما يجسر المرء على اختيار الموت.

كل شيء قد سقط فتحالفت الخلايا السرطانية مع أجهزة المخابرات وأجهزة الطب العاجزة وأجهزة غسان المعطلة في احتلال واحد انقضَّ عليه وحاصره من كل جانب .. وقتله سريعًا قبل أن يصحوَ ذاك الإله الضخم الذي بدأ بدودة الرفض.

سقطَت قطعة النقد الأخيرة أرضًا على إحدى وجهَيها. كثيرون قالوا بأنه وجه الموت، أما الذين عرفوا غسان فقالوا: كان وجه الحياة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤