تصدير

بقلم جورج وودكوك

أخذت ماريا لويزا برنيري على عاتقها أن تقدم، في «المدينة الفاضلة عبر التاريخ»، وصفًا وتقييمًا نقديًّا لأهم الكتابات اليوتوبية (وسيلاحظ القارئ أنها لا تعني بالضرورة أشهرها)، منذ أضفى أفلاطون، في «جمهوريته»، شكلًا أدبيًّا على أحلام العصر الذهبي والمجتمعات المثالية التي لازمت الإنسان بغير شك، منذ أن بدأت المناقشات الواعية للمشاكل الاجتماعية. وأعتقد أن من الضروري استعادة بعض الوقائع على سبيل الذكرى في بضع كلمات لتفسير الشكل الذي اتخذه الكتاب. ففي عام ١٩٤٨م، عندما طرحت دار النشر على المؤلفة مشروع جمع مقتطفات من اليوتوبيات الشهيرة، وافقت على أن تتولى عملية الاختيار، ولكنها أكدت أن الخطة الأصلية التي قدمت إليها لم تكن كافية؛ إذ إن اليوتوبيات الشهيرة متاحة بصورة أو أخرى للقرَّاء الحريصين على الاطلاع عليها، وأن ما هو مطلوب حقًّا لم يكن جمع النصوص فحسب، وإنما هو كتاب يجمع المعلومات والتعليق عليها، فيقدم نماذج مسهبة، ويناقش في نفس الوقت النصوص، ويربط بينها بطريقة توضح تطور الفكر اليوتوبي، وتبين مكانته في تاريخ الأوضاع والأفكار الاجتماعية. ووافقت دار النشر على الفكرة مع تعديلات طفيفة، فشرعت، بدقتها المعهودة، في استقصاء اليوتوبيات المجهولة والمعروفة على حد سواء. وسوف يدرك القارئ مدى نجاحها في هذه المهمة حتى لو ألقى نظرة سريعة على هذا الكتاب وثَبْت مراجِعه، وسوف يرى القارئ أيضًا أن بعض اليوتوبيات التي انتشلتها من غياهب النسيان، مثل يوتوبيا جابرييل دي فوانيي Gabriel De Foigny، تجمع بين الطرافة الأدبية والأهمية الفكرية باعتبارها تأملات في التيارات الاجتماعية السائدة في عصرها. وفي بعض الحالات التي لم تتوافر فيها ترجمة إنجليزية لهذه اليوتوبيات، اضطرت ماريا لويزا برنيري إلى القيام بترجمتها بنفسها عن اللغة الفرنسية أو الإيطالية، كما حدث في حالة «ملحق رحلة بوجانفيل» لديدرو، و«رحلة إلى إياكاريا» لكابيه. أما فيما يتعلق «بمدينة الشمس» لكامبانيلا، فقد أعدت المؤلفة ترجمة جديدة عن الأصل الإيطالي الذي سبق النسخة اللاتينية ببضع سنوات، واعتمد عليه المترجم الإنجليزي الذي سبق أن ترجمها. وبقدر اطلاعي على الكتب العامة التي صدرت عن اليوتوبيات حتى الآن، أستطيع أن أؤكد أنه ليس بينها كتاب واحد يعدل هذا الكتاب في اتساع نطاقه أو في الجهد الذي بُذِل فيه لتقديم الموضوع بهذه الصورة الحية الشائقة.

وقد أكدت ماريا لويزا برنيري، في عرضها لليوتوبيات، الطابع التسلطي غير المتسامح لمعظم هذه الرؤى، بحيث إن الاستثناءات مثل يوتوبيات موريس، وديدرو ودي فوانيي، لا تشكل إلا أقلية ضئيلة جدًّا. وقد أشارت المؤلفة كذلك إلى حقيقة مهمة، وهي أن الماركسيين، على الرغم من ادعائهم العلمية على النقيض من الاشتراكيين اليوتوبيين، فإن تجاربهم الاجتماعية الفعلية كانت تنتهي من الناحية العلمية إلى التصلب في بنية متحجرة بصفة عامة، بل تبنت كثيرًا من الملامح المؤسسية الفردية التي اتسمت بها اليوتوبيات الكلاسيكية. ومن حسن الحظ أن العبر المستخلصة من هذا التطور لم تغب عن أذهان الناس في أيامنا هذه، سواء أكانوا مثقفين أم عمَّالًا. إن رؤى المستقبل المثالي، الذي يتم فيه تنظيم وتحديد كل فعل بعناية فائقة ويدمج في دولة نموذجية، كما هي الحال في مشروعي كابيه وبيلامي اليوتوبيين، هذه الرؤى لم تعد تتمتع بشعبيتها السابقة، ومن المستحيل اليوم أن يحرز أي كتاب منها الشهرة التي حققتها يوتوبيا «التطلع للوراء» لبيلامي في نهاية القرن التاسع عشر. ومن الأمور التي لها دلالتها أن الكُتَّاب الواعين بالشرور الاجتماعية في عصرنا لا يكتبون فحسب يوتوبيات مضادة؛ لتحذير الناس من أخطار التمادي في تنظيم الحياة تنظيمًا صارمًا، بل إن كتبهم تتمتع بنفس الشعبية التي تمتعت بها الرؤى الهزيلة التي قُدمت قبل عام ١٩١٤م عن جنة الاشتراكية.

ومنذ أن وُضع كتاب «رحلة مع اليوتوبيا»، صدر كتابان مهمان في هذا الموضوع كان من الممكن بلا شك أن تشير إليهما ماريا لويزا برنيري، لو قُدر لها أن تبقى على قيد الحياة. وأحد هذين الكتابين هو «الفرد والماهية» لأولدس هكسلي، وهو رؤية فاجعة للمستقبل، بعد الحرب النووية، عندما يتحول سكان كاليفورنيا إلى عبدة الشيطان، ويقيمون مجتمعًا عقيدته الكراهية والحقد. إنه كتاب يحتل مكانته في التراث اليوتوبي، ويؤكد الدرس المستفاد منه لعصرنا الحاضر تأكيدًا يفوق في ضراوته اليوتوبيا المضادة السابقة لنفس المؤلف، وهي «عالم طريف شجاع». أما اليوتوبيا المضادة الثانية فهي رؤية «عام ١٩٨٤» لجورج أورول، وهي رؤية أكثر عنفًا من الرؤية السابقة لعالم دمرته السلطة، كما أنها توشك أن تكون هي النتيجة المنطقية لجمهورية أفلاطون، ولكل اليوتوبيات الأخرى المعادية للفردية الإنسانية. وفي رواية «مهبط الطائرات رقم ١» لأورول تتحطم الفردية بصورة نهائية. بل إن التفكير نفسه يُنَظَّم فيها تنظيمًا لم يكن ليتصوره واحد من اليوتوبيين المبكرين. وربما استطعنا أن نتخيل مقدار السعادة التي كان يمكن أن يشعر بها أحد اليوتوبيين المتسلطين في الماضي، وهو يضع يده على أسلوب يمكنه من خلق فكر موحد، لأن كل هذه الأشياء كانت في تلك الأيام بعيدة جدًّا عن أن تكون موضوع رؤى تأملية مريحة. أما في أيامنا فقد أطبقت علينا الكوابيس، وتجسدت يوتوبيات الماضي من حولنا، وبدأنا ندرك في النهاية أن أكثر هذه المشروعات اليوتوبية إغراءً في مظهره لا بد أن يتحول بالضرورة إلى سجن رهيب، ما لم يقم على أساس ثابت ومأمون من الحرية الفردية، كما هي الحال في ذلك الاستثناء الرائع، وهو يوتوبيا وليم موريس «أخبار من لا مكان».

إن أهمية كتاب ماريا لويزا برنيري لا تقتصر على الجانب الأكاديمي وحده. فهو ليس مجرد جمع ونقد لليوتوبيات، ولكنه في واقع الأمر يقدم، بأسلوب مدهش، العلاقة الوثيقة والحتمية التي تربط بين التفكير اليوتوبي والواقع الاجتماعي، كما يحتل مكانه بين الكتب المهمة التي ظهرت في السنوات الأخيرة لكي تحذرنا، من وجهات نظر مختلفة، من المصير المشئوم الذي ينتظر أولئك الذين بلغ بهم الغباء إلى حدِّ وضع ثقتهم في عالم شديد التنظيم والإحكام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤