الفصل الخامس

يوتوبيات القرن التاسع عشر

يرتبط تاريخ اليوتوبيات في القرن التاسع عشر بميلاد الحركة الاشتراكية، ويصعب أحيانًا تمييز المشروعات التي تنتمي لعالم الفكر اليوتوبي من تلك التي تدور في فلك الإصلاح الاجتماعي. ويكاد لا يوجد واحد من الكتب التي نُشِرت في هذه الحقبة إلا ووصف في فترة أو أخرى بأنه يوتوبي.

وفقدت الكلمة نفسها معناها الأصلي، وأصبحت تعني التفكير المضاد للتفكير العلمي. وغالبًا ما استُعمِلت كلمة «يوتوبي»، من جانب الاشتراكيين الذين زعموا أنهم علميون، ليقذفوها في وجوه خصومهم دلالة على التحقير والاستهجان، وبفضل هؤلاء القضاة الماركسيين تضخمت قائمة يوتوبيات القرن التاسع عشر تضخمًا شديدًا.

وقد عرَّف فردريك إنجلز في كتابه «الاشتراكية اليوتوبية والعلمية»، كلمة يوتوبي، ولقي هذا التعريف قبولًا واسعًا. وبينما ظلت كلمة اليوتوبيا حتى ذلك الحين تعني المجتمع المثالي المتخيَّل الذي يصعب أو يستحيل تحقيقه، فقد قدَّم لها إنجلز معنًى أوسع بكثير، وضم إليه كل الخطط والمشروعات الاجتماعية التي لا تعترف بتقسيم المجتمع إلى طبقات، ولا بحتمية الصراع الطبقي والثورة الاجتماعية، كما أدخل سان سيمون وفورييه وأوين في زمرة اليوتوبيين، وذلك بحجة أنه «ليس فيهم واحد يمثل مصالح طبقة البروليتاريا التي أفرزها التطور التاريخي. إنهم مثل الفلاسفة الفرنسيين الذين لا يكتفون بتحرير طبقة بعينها، وإنما يطمحون لتحرير البشرية بأكملها دفعة واحدة.»

ويأخذ إنجلز على الكُتَّاب «اليوتوبيين» أنهم لم يفهموا أن الاشتراكية لن تكون ممكنة إلا عندما يحقق النظام الرأسمالي درجة معينة من التطور:

«إن الظروف السيئة للإنتاج الرأسمالي، والظروف السيئة للطبقة التي تقابلهما نظريات سيئة. وقد حاول اليوتوبيون أن يستخرجوا حل المشكلات الاجتماعية — التي ظلت كامنة في الظروف الاقتصادية غير المتطورة — من داخل الذهن البشري. فالمجتمع في نظرهم لا يقدم إلا الأخطاء، ومهمة العقل هي إزالة هذه الأخطاء. ولهذا كان من الضروري اكتشاف نظام اجتماعي جديد أكثر كمالًا وفرضه على المجتمع من خارجه بواسطة الدعاية، أو بفرض التجارب النموذجية عليه كلما أمكن ذلك. وقد دفعت هذه النظم الاجتماعية الجديدة بأنها يوتوبية، وكلما أمعن أصحابها في شرحها واستكمال تفاصيلها، زاد انزلاقها إلى الخيالات المحضة.»

والواقع أن وصف إنجلز لليوتوبيات الاشتراكية وصف صحيح في جوهره. فأغلبها يريد لجميع وسائل الإنتاج والتوزيع أن تكون ملكًا عامًّا مشتركًا، ولكنها لا تعتقد أن الثورة ضرورية لتحقيق هذا وهي تتصور بإمكان الدولة أن تتولى تسيير الآلية الاقتصادية بطريقة سلمية، وذلك عندما يوافق أغلبية السكان على أن هذا هو أنسب الحلول. وهي لا تؤمن بوجود صراع بين الطبقات، ولا بأن البروليتاريا هي الطبقة الوحيدة القادرة على القيام بالثورة. وهي تؤكد أيضًا — على خلاف النظريات الماركسية — أن المجتمع الجديد يمكن إيجاده في أي وقت وأي مكان، بشرط أن تصمم الحكومات والشعوب على ذلك، وأخيرًا فإنها لا ترى أن هناك أي علاقة بين تطور الرأسمالية وإمكانية إيجاد مجتمع جديد.

على أن إنجلز لم يكن محقًّا في زعمه بأن المشروعات «اليوتوبية» أقل واقعية من مشروعات الاشتراكيين العلميين. فمن الصعب، على ضوء تاريخ القرن الماضي، أن نحدد على وجه الدقة أي مدرسة من المدارس الاشتراكية تستحق أن توصف بأنها «يوتوبية» فالتطور الكبير للرأسمالية لم يقرِّب على الإطلاق يوم اندلاع الثورة، بل خلق طبقة جديدة من التقنيين والمديرين، والعمال المرتفعي الأجور، وقادة الاتحادات العمالية الذين تطابقت مصالحهم مع مصالح الطبقة الرأسمالية. والبلدان الأوروبيان الوحيدان اللذان حاولا، خلال الثلاثين عامًا الماضية، إحداث ثورات اجتماعية، وهما روسيا وإسبانيا، لم تكن الرأسمالية قد وصلت فيهما بعد إلى درجة عالية من التطور. وقد رأينا فضلًا عن ذلك أن اشتراكية الدولة قد تحققت بشكل جزئي في بلاد عديدة، لا بفضل نضال الطبقة العاملة، بل عن طريق حكومات أمسكت بزمام السلطة من خلال برلمان منتخب. والأغرب من هذا من وجهة النظر الماركسية، أن الحكومات الفاشية قد اضطرت إلى تبني إصلاحات اجتماعية شبيهة بتلك الإصلاحات التي دعا إليها الاشتراكيون.

إن الاشتراكية، كما نعرفها اليوم،١ أقرب إلى تصورات الاشتراكيين «اليوتوبيين» منها إلى تصورات كارل ماركس مؤسس الاشتراكية العلمية. وهي لم تعد تعترف بحتمية الصراع الطبقي، وإنما تهدف إلى تحقيق إصلاحات اجتماعية تدريجية يمكن أن تزيل الفروق الاقتصادية بين الرأسماليين والعمال. بل إن بنية المجتمع في بلد مثل روسيا، التي تزعم أنها حققت ثورة ماركسية، هي في الحقيقة أشبه ببنية المجتمعات التي وصفها بعض الكُتَّاب اليوتوبيين منها بتلك التي تنبأ بها ماركس أو لينين. ولهذا قد يكون من الحكمة أن نتخلى عما يبدو اليوم تقسيمًا تعسفيًّا للاشتراكيين إلى يوتوبيين وعلميين، وأن نقتصر على دراسة أهم الأعمال التي تدخل في التراث اليوتوبي من خلال تصويرها لمجتمعات مثالية في بلد خيالي أو في مستقبل خيالي.

كان الفكر اليوتوبي في عصر النهضة قد تلقى دفعة قوية من الأفكار الفلسفية الجديدة، وتأسيس الدول القومية، واكتشاف العالم الجديد. ومع بداية القرن التاسع عشر وقعت أحداث لا تقل عن ذلك خطرًا وبعثت فيه حياة جديدة، من ذلك الآثار التي ترتبت على الثورة الفرنسية، والتطور السريع للصناعة، وتبلور النظم الاشتراكية. وكانت الثورة الفرنسية قد قوَّت الطبقة الوسطى (البرجوازية)، ولكنها أكدت في الوقت نفسه حقوق العمال والفلاحين الذين أظهروا استعدادهم للدفاع عنها بالقوة. ولم تستطع البرجوازية المنتصرة أن تغمض عينيها عن المظالم الاجتماعية التي كان من الممكن في أي لحظة أن تنطلق منها حركة ثورية قوية. وحاولت قلة من المفكرين الإنسانيين ومحبي البشر أن تخفف من البؤس المتفاقم للشعب، وذهب البعض إلى حد المطالبة بالمساواة التي دعا إليها فلاسفة ما قبل الثورة وكانت أحد الأهداف التي توقع الناس من الثورة تحقيقها.

غير أنهم لم يثقوا في الشعب، وأشفقوا من لجوئه إلى الوسائل الثورية لتغيير النظام، ولذلك سعوا إلى التوصل لحل سلمي من خلال الإصلاح الاجتماعي. لقد كانوا يكتبون، كما أوضح كروبوتكين في مقدمة كتابه «غزو الخبز» أثناء فترة رد الفعل التي أعقبت الثورة الفرنسية، ولفتت أنظارهم جوانب فشلها أكثر من جوانب نجاحها، فلم يثقوا بالجماهير، ولم يلجئوا لها لإحداث التغييرات التي اعتقدوا أنها ضرورية، بل وضعوا ثقتهم في حاكم عظيم يكون بمنزلة «نابليون اشتراكي» يمكنه أن يفهم الروح الثورية الجديدة ويقتنع بأهميتها والحاجة إليها من خلال التجربة الناجحة للمجتمعات أو الاتحادات، ويحقق بالطرق السلمية وبقوة شخصيته الثورة التي تعود على الجنس البشري بالرخاء والسعادة. إن العبقرية العسكرية المتمثلة في نابليون لم يمضِ على حكمها لأوروبا سوى وقت قصير، فما الذي يحول دون ظهور عبقرية اجتماعية تقود أوروبا وتبعث الحياة في الإنجيل الجديد؟

استطاعت الثورة الصناعية أن تفتح آفاقًا جديدة، وتصور الكثيرون أنها قدمت الحل لمشاكل الفقر وعدم المساواة. وبدا أن زيادة الإنتاج لن تقف عند حد، وأنه ليس ثمة ما يمنع أي إنسان من أن يعيش كما يعيش البرجوازي. فالمساواة لن تكلف أحدًا أي تضحية، ما دام المجتمع الجديد لن ينتقص من الرخاء الذي يتمتع به الأغنياء، بل سيرفع الفقراء إلى مستواهم. وإذا كانت اليوتوبيات في الماضي قد أكدت الحاجة إلى التحرر من الخيرات المادية، فإن يوتوبيات القرن التاسع عشر قد التمست السعادة من إشباع الحاجات المادية المتزايدة بصفة مستمرة. ولم يقتصر الأمر في الواقع على إتاحة التقدم الصناعي للمزيد من الترف والرفاهية، بل إن الموقف من اللذات المادية قد تغير برمته تغيرًا تامًّا. كان الناس في يوتوبيا مور يعيشون حياة خشنة قاسية، ولم يكن السبب في ذلك هو الفقر والعوز، إذ كان الذهب والفضة متوافرَين لديهم وبإمكانهم شراء السلع من البلاد الأجنبية وتحسين مستوى معيشتهم، بل كان يرجع إلى اعتقادهم بأن الترف سيؤدي حتمًا إلى الفساد والانحلال. وتصور الكُتَّاب اليوتوبيون، باستثناء عدد منهم مثل فرانسيس بيكون، أن التقدم معناه تحسين أحوال الناس من النواحي العقلية والجسدية والأخلاقية، وأن ذلك لن يتحقق بالاهتمام الزائد بالسلع المادية، ولا بالانغماس الشديد في المتع واللذات التي يمكن أن تفسد العقل. ولن نجد مثل هذه الاهتمامات الأخلاقية عند كُتَّاب اليوتوبيا في القرن التاسع عشر، فهم ماديون بشكل مخجل، ولا يتورعون عن حساب نصيب الفرد من السعادة بمقدار ما يملك من قطع الأثاث والملابس وألوان الطعام الذي يتناوله في كل وجبة. ويندر أن نجد أحدًا يناهض هذا الاتجاه، باستثناء وليم موريس في يوتوبياه «أخبار من لا مكان».

لقد أثَّر «آباء الاشتراكية» بطبيعة الحال في يوتوبيات القرن التاسع عشر تأثيرًا كبيرًا. ولا يرجع تأثير فوريه وسان سيمون وأوين في اليوتوبيات إلى كتاباتهم النظرية وحدها، وإنما يرجع إلى خططهم ومشروعاتهم العينية المحددة للإصلاح الاجتماعي، وإلى «القرى التعاونية» أو الاتحادات التي ألهمت العديد من ملامح اليوتوبيات المتأخرة. والواقع أن أوين (١٧٧١–١٨٥٨م) وفورييه (١٧٧٢–١٨٣٠م) يشذان من بعض الجوانب عن الاتجاه الرئيسي للفكر الاشتراكي في القرن التاسع عشر، فلم يدعوَا إلى الحكومة المركزية والتوسع في تصنيع الريف، بل آمنا بضرورة إنشاء تعاونيات زراعية صغيرة ومستقلة. وأوين هو أول من بادر باقتراح إنشاء هذه التعاونيات الزراعية الصغيرة التي لا يزيد عدد سكانها على ثلاثة آلاف نسمة، على إحدى الحكومات المستنيرة، واشتراط أن تعتمد على الاكتفاء الذاتي وأن تدار إدارة مستقلة. ويقوم بإدارة الشئون الداخلية فيها مجلس عام يتألف من كل أعضاء الجماعة التعاونية الذين تتراوح أعمارهم بين الثلاثين والأربعين عامًا، بينما يدير الشئون الخارجية مجلس عام آخر، يتألف أعضاؤه ممن تتراوح أعمارهم بين أربعين وستين عامًا.

وجميع أعضاء «الكوميون» متساوون، ويأخذون نصيبًا متساويًا من السلع المنتجة، كما أن المجالس العامة تُحكَم وفقًا لقوانين الطبيعة الإنسانية. وعندما تتم تغطية العالم كله بالاتحادات الفيدرالية للتجمعات الزراعية، تصبح الحكومات غير ضرورية وتختفي تمامًا. وربما كانت أفكار «أوين» عن التعليم هي صاحبة التأثير الأكبر في الكُتَّاب اليوتوبيين، فقد أكَّد في كل كتاباته أن «طبع الإنسان — بغير استثناء واحد — محدد من قبل، وأن أسلافهم هم المسئولون أساسًا عن ذلك، وهم الذين يعطونه، أو يمكن أن يعطوه، أفكاره وعاداته، وهم القوى التي تحكم سلوكه وتوجهه.» ولذلك فإن مهمة التعليم هي تمرين الناس على أن يعيشوا «بغير تعطل، ولا فقر، ولا جريمة ولا عقاب». وتعددت محاولات «أوين» لوضع أفكاره موضع التطبيق العملي، وذلك بدءًا بنيولانارك New Lanrak وانتهاء بالكوميونات التي أسسها في أمريكا، وكانت هذه المحاولات مصدر إلهام لعدد آخر من التجارب المشابهة، ولا يندر في القرن التاسع عشر أن نجد أن اليوتوبيات كانت وراء ظهور العديد من الحركات التعاونية.

وكثيرًا ما ارتبط اسم «فورييه» باسم «أوين» بسبب بعض وجوه الشبه السطحية بين المفكرين، وبالرغم من إشارات فورييه الدائمة إلى أوين بعبارات تنم عن استخفافه به وتقليله من شأنه. وقد لُقِّب فورييه، وذلك بغير حق بالقياس إلى أوين، «باب الاشتراكية»، مع أنه لم يؤمن بفكرة جماعية السلع، بل نفر منها في الواقع نفورًا شديدًا، ورأى أن عدم المساواة لا غنى عنه لاستمرار الحياة في مجتمعه المثالي. وعلى الرغم من أنه كان في صف إلغاء الأجور، إلا أنه دعا إلى ضرورة توزيع الأرباح وفقًا لحجم رأس المال المستثمر، وحصيلة العمل، وقدرات المساهمين ومواهبهم الفردية. ومع ذلك فقد آمن بأن على المجتمع أن يتكفل بالذين يرفضون العمل، لا لتحرير العمل من طبيعته الإجبارية أو القهرية فقط، بل لأن المجتمع عليه واجبات تجاه أفراده سواء أنتجوا أم لم ينتجوا.

ثم إن العمل نفسه لا بد أن يكون محبَّبًا جذَّابًا، وأن يبعث على البهجة والاستمتاع بحيث يقل عدد الكسالى والمتعطلين إلى الحد الأدنى.

لم يضع فورييه ثقته في أي حكومة مستنيرة، بل كان أمله أن يجد راعيًا ثريًّا يمكنه أن قدم التمويل اللازم لإنشاء التعاونيات، وأن يذهل الناس إعجابًا بنتائجها الرائعة بحيث تعم الأرض كلها في أسرع وقت. وقد زعم أن ميزة النظام الذي يدعو إليه هو أنه يجمع مصالح الرأسماليين والعمال والمستهلكين بتوحيد جميع هذه الوظائف في الفرد الواحد. وهذه الأفكار هي التي أخذ بها العديد من الاتحاديين (أنصار تكوين الاتحادات) في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، بل ما زال يتمسك بها قطاع لا بأس به من الحركة الاشتراكية في أيامنا. وقد لاحظ شارل جيد في كتابه «تاريخ المذاهب الاقتصادية». «أن البرنامج الذي لا يهدف فقط إلى إلغاء الملكية، بل إلى العمل على اختفاء الأجير بإعطائه الحق في الملكية على أساس مبدأ المساهمة في رأس المال المشترك، والذي يتطلع للنجاح، لا عن طريق الدعوة لإثارة الحرب والصراع بين الطبقات، بل بتشجيع التعاون بين رأس المال والعمال والكفاءات الإدارية، والذي يحاول التوفيق بين المصالح المتصارعة للرأسمالي والعامل، والمنتج والمستهلك، والمدين والدائن، وذلك بإدماج هذه المصالح جميعًا في شخص واحد — مثل هذا البرنامج لا يمكن أن يكون شيئًا عاديًّا أو متواضعًا. لقد ظل هو المثل الأعلى للطبقات العاملة الفرنسية حتى حلت محله التجمعات الماركسية الشمولية، ويحتمل في النهاية ألَّا يكون التخلي عن ذلك المثل الأعلى إلا مسألة وقتية …»

إن غرابة شخصية شارل فورييه قد حالت بينه وبين التأثير الواسع النطاق، ولكن كتاباته تحتوي على ثروة كبيرة من الأفكار التي تجعلها منبعًا لا ينفد معينه لإلهام المصلحين الاجتماعيين، بل إن أشد خصومه عداوة له لم ينجوا من تأثيره. صحيح أن تصوراته المستقبلية عن المدن المزدهرة بالحدائق التي ستحل محل الكتل الضخمة للمدن الكبيرة، ودعوته للتوسع في زراعة البساتين التي تستغل كأسواق بدلًا من التوسع في زراعة المساحات الشاسعة من الأراضي، واهتمامه بدراسة الوسائل التي تجعل العمل جذَّابًا، وتوصياته عن التعليم والتربية الجنسية، صحيح أن هذه كلها لم تلفت إليها سوى انتباه أقلية ضئيلة، ولكنها وصلت على كل حال عن هذا الطريق إلى الكثيرين ممن لم يقرءوا كتاباته.

ومع أن فورييه نفسه لم يستطع أبدًا أن يحقق حلمه بإقامة الفالينسترات Phalansteries، فقد قامت على أساس أفكاره تجمعات أو (كوميونات) في كل من فرنسا وأمريكا، وكان أشهرها — رغم أنها لم تدم طويلًا — مزرعة بروك Brook Farm٢ في الولايات المتحدة، كما أنشئت بعض الاتحادات للمنتجين والمستهلكين وفق مبادئه وحققت قدرًا من النجاح.

ولا بد لنا أيضًا من الإشارة إلى سان سيمون (١٧٦٠–١٨٢٥م) بوصفه أحد آباء الاشتراكية، فقد قدم هو وأتباعه — الذين ربما تفوقوا عليه في هذا — مجموعة من الأفكار التي يمكن أن نجدها متضمنة في الكثير من يوتوبيات النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وعلى حين كان كل من أوين وفورييه يمثلان — من بعض الوجوه — نوعًا من رد الفعل المضاد للاتجاه إلى التصنيع، وذلك بمطالبتهما بالرجوع للتجمعات الزراعية الصغيرة، فقد كان سان سيمون هو أحد المؤيدين المتحمسين للنظام الصناعي الجديد وللطبقة الحاكمة الجديدة التي أوجدتها الثورة الكبرى وزاد التوسع السريع في الصناعة من ثرائها. كان النبلاء والكهنة هم الذين يحكمون المجتمع في ظل النظام القديم. وقد غدا من الضروري أن تحل محلهم البرجوازية التي كانت مهمتها الأساسية هي تشجيع تقدم العلم والصناعة. ومن السخف، كما يقول سان سيمون، أن يُحكَم المجتمع الصناعي من قبل النبلاء الذين لم يعد هناك أي مبرر لوجودهم، أو من قبل الساسة الذين لا يعرفون شيئًا عن المشاكل الصناعية.

ولا بد أن يختفي الشكل القديم للحكومات التي لم تعد لها أي فائدة للمجتمع. وقد بيَّن سان سيمون بكل وضوح في الوثيقة الشهيرة التي عرفت «بأمثولة سان سيمون» (ونشرت عام ١٨٣٢م) أن الجزء الحيوي من المجتمع يتألف من العلماء والتقنيين (الفنيين) ورجال البنوك ورجال الأعمال، لا من السياسيين وموظفي الدولة أو الكهنة: «دعونا نفترض، على حد قوله، أن فرنسا فقدت فجأة خمسين من أهم أطبائها وخمسين من أكبر علماء الكيمياء فيها، وخمسين من أنبغ علماء الفسيولوجيا، وخمسين من أكفأ رجال البنوك، ومائتين من أفضل تجارها، وستمائة من أبرع الزراعيين وخمسمائة من أمهر صناع الحديد وأقدرهم … (إلى آخر قائمة الصناعات الأساسية) ونظرًا لأن هؤلاء الرجال هم أهم المنتجين الذين لا يمكن الاستغناء عنهم، وأبرز المسئولين عن أهم المنتجات، فلن تلبث الأمة، في اللحظة التي تخسرهم فيها، أن تتحلل وتصبح مجرد جسد بلا روح، وتتردى في أعين الأمم المنافسة إلى حالة من الضعف المهيمن، وتبقى في هذا الوضع الهامشي ما بقيت الخسارة قائمة وأماكن هؤلاء الرجال شاغرة. ودعونا الآن نفترض فرضًا آخر. تخيلوا أن فرنسا احتفظت بكل عباقرتها، سواء في الفنون والعلوم أو في الحرف والصناعات، ولكنها لسوء الحظ فقدت في نفس اليوم شقيق الملك، وهو دوق أنجوليم، وكل أعضاء الأسرة المالكة، وكل رجال البلاط الأكابر، وكل وزراء الدولة — سوا أكانوا على رأس الإدارة أم لم يكونوا — وكل أعضاء المجلس السري الخاص، وكل المختصين بالتظلمات، وكل المارشالات، والكاردينالات، ورؤساء الأساقفة، وكبار القساوسة والكهنة، وكل المديرين الفرعيين، وكل موظفي الحكومة، وكل القضاء، وعلى رأس هؤلاء أجمعين مائة ألف من أصحاب الأملاك، وهم صفوة نبلاء الدولة. سوف يتألم الفرنسيون بالتأكيد لهذه الكارثة الرهيبة، ولكن فقد مائة وثلاثين ألفًا من الأفراد المعروفين في الدولة بحسن السمعة سيثير حزنًا من النوع العاطفي الخالص، ولن يؤثر في المجتمع تأثيرًا يذكر».٣

كان سان سيمون قد أعلن عام ١٨١٦م أن السياسة هي علم الإنتاج، وأن من الممكن أن تدرج برمتها ضمن علم الاقتصاد. وطالب بأن تتحول فرنسا إلى مصنع، وأن تنظم شئون الأمة على غرار نموذج ورشة عمل كبيرة. وسوف تختفي في المجتمع الجديد كل الفروق الطبقية، ولن يبقى إلا العمال، مع العلم بأن هذه الكلمة ستستخدم بمعناها الواسع لتشمل أصحاب المصانع والعلماء ورجال البنوك والفنانين. ولكن هذا لا يعني أن يصبح الجميع متساوين، ما دام كل فرد سيأخذ طبقًا لقدراته (بل وطبقًا لرأس المال المستثمر).

وتكمن أصالة سان سيمون في إعطائه مهمة إدارة البلاد لأفضل رجال الصناعة، والعلماء، ورجال البنوك … إلخ، أي أن حكومة «المديرين» ستحل محل حكومة السياسيين القديمة. وإذا كنا قبل مائة عام أو أكثر قد بدأنا في الحديث عن الطبقة الإدارية أو عن «الثورة الإدارية» فإن سان سيمون قد تنبأ بأن الثورة الصناعية ستؤدي إلى ظهور طبقة حاكمة جديدة. وسوف نرى فيما بعد كيف يردد إدوارد بيلامي أصداء من سان سيمون، وذلك عندما حاول إقامة يوتوبياه (التطلع للوراء) على أساس اشتراكي. وقد شاعت في القرن التاسع عشر فكرة أن إدارة الأشياء يجب أن تحل محل حكم الناس، وأن كل مشاكل المجتمع ستتحول إلى مشاكل الإنتاج. وفي أحد المشروعات العديدة التي قدمها سان سيمون عن الحكومة، نجده يعطي السلطة التنفيذية لمجلس نواب يتألف من ممثلين لرجال التجارة والصناعة والزراعة، الذين يمكنهم أن يقبلوا أو يرفضوا الاقتراحات التشريعية التي تُعرَض عليهم من قبل مجلسَين مؤلفَين من العلماء والفنانين والمهندسين، والمهمة الوحيدة لهذه «الحكومة» هي العمل على زيادة الثروة المادية للبلاد. ولم يترك هذا النظام فرصة القيام بأي مبادرة لجماهير العمال، الذين لم يثق فيهم سان سيمون على الإطلاق. وهو يقول في هذا الشأن «إن مشكلة التنظيم الاجتماعي يجب أن تُحلَّ من أجل الشعب. أما الشعب نفسه فهو سلبي وكسول ويجب إسقاطه من حسابنا في أي بحث للمشكلة. وأفضل وسيلة لذلك هي أن يعهد بإدارة الشئون العامة إلى القادة أو الرؤساء الصناعيين الذين سيحاولون دائمًا وبشكل مباشر أن يتوسعوا في آفاق مشروعاتهم إلى أقصى حدٍّ ممكن، بحيث تؤدي جهودهم في هذا الاتجاه إلى أعظم قدر من التوسع في حجم العمل الذي تنفذه جماهير الشعب». وعلى الرغم من اعتراف المفكرين الاشتراكيين بأن تعالي سان سيمون على طبقة «البروليتاريا»، قد صدمهم صدمة شديدة، إلا أن الفكرة القائلة بأن إدارة البلاد من شأن الخبراء، وأن الآلة المسيرة للدولة ينبغي أن تتكون من لجان أو مفوضيات من التقنيين (الفنيين) ورجال الصناعة، هي فكرة يمكن أن نجدها في كثير من الكتابات الاشتراكية، وذلك كما رأينا في روسيا التي أوجدت طبقة إدارية مُنحت — وكان من الممكن أن يؤيد ذلك سان سيمون — امتيازات اقتصادية وسياسية، على الرغم من أنه كان سيستنكر بشدة مسألة الاحتفاظ بحزب سياسي وبسياسيين محترفين.

وبينما لم يُعوِّل كل من أوين وفورييه وسان سيمون إلا قليلًا على تدخل الدولة لتغيير بنية المجتمع، فإن لوي بلانك Louis Blanc٤ هو أحد الاشتراكيين الأوائل الذين أسندوا إلى الدولة مهمة إصلاح المجتمع. وقد أكد أن واجب الدولة هو الحرص على احترام «حق العمل» وبذلك نقضي على الجرائم التي ترجع بأجمعها إلى الفقر. ولن تستطيع الحكومة القضاء على البطالة والفقر والانحطاط الأخلاقي الذي ينتج عنهما إلا عن طريق القضاء على المنافسة. بذلك تصبح مهمتها أن تقوم بدور «المنظم الأعلى للإنتاج»، وأن تبدأ بإنشاء ورش عمل اجتماعية في معظم الفروع المهمة للصناعة، وأن تتوسع فيها بالتدرج لتشمل البلاد بأسرها. ومن حق الدولة أيضًا أن تصبح هي المالك الوحيد لجميع وسائل الإنتاج، على الأقل ما دامت باقية فيها الأشكال المختلفة لعدم المساواة؛ لأن تحقيق المساواة الكاملة سوف يؤدي إلى تلاشي الدول.
عرض لوي بلانك اقتراحاته عن الإصلاح الاجتماعي في كتيب بعنوان «تنظيم العمل» L’organisation Du Travail، نُشِر عام ١٨٣٩م، وتمتع بشعبية كبيرة في ذلك الوقت، وكثيرًا ما وُصِف هذا الكتيب بأنه يوتوبيا، على الرغم من أنه هو العكس من ذلك تمامًا، إذ إنه مجرد اقتراح بإصلاح اجتماعي مباشر، وبداية تأسيس نظام جماعي للإنتاج. ومما يثبت أن لوي بلانك نفسه قد اعتقد اعتقادًا قويًّا بإمكان تطبيق اقتراحاته تطبيقًا عمليًّا أنه طالب الجمعية العمومية، بعد ثورة عام ١٨٤٨م، بإنشاء وزارة للتقدم لتنفيذ الخطة التي رسمها في «تنظيم العمل». وكان من رأيه أن وزارة التقدم هي التي ستدفع حركة الثورة، فتؤمِّم البنوك والسكك الحديدية والمناجم، وتستغل الأموال في إقامة ورش عمل اجتماعية في أهم فروع الصناعة. كذلك ستقوم الدولة بتعيين موظفين لإدارة المصنع في عامه الأول، وما إن يتعرف العمال كل منهم على الآخر ويهتموا بالمشروع حتى يقوموا بأنفسهم باختيار ممثليهم. وسوف يكون لكل عضو من أعضاء ورش العمل الاجتماعية الحق في التصرف في نتاج عمله بالطريقة التي يراها مناسبة، ولكن التدبير الواضح للحياة الاجتماعية بالإضافة إلى امتيازها الذي لا يتطرق إليه سرعان ما يؤديان إلى تحويلها من تجمع موجه للعمل إلى تجمع طوعي لإشباع الحاجات والملذات. كذلك قدَّم لوي بلانك خطة للزراعة الجماعية للأرض عن طريق إيجاد ورش عمل زراعية واجتماعية تسير على مبادئ مشابهة للمبادئ التي تسير عليها ورش العمل الصناعية الاجتماعية. ولم يوضع مشروع لوي بلانك أبدًا موضع التنفيذ، كما أن محاولة الحكومة إقامة ورش عمل أهلية في عام ١٨٤٨م لم يقصد من ورائها إلا التشكيك في صحة أفكاره، ومع ذلك فإن العديد من الجمعيات التعاونية التي ظهرت في فرنسا في ذلك الحين ترجع لتأثير كتاباته.

إن يوتوبيات القرن التاسع عشر التي استوحت النظريات التي ذكرناها باختصار هي يوتوبيات فاقدة الروح بصورة تدعو للحزن والاكتئاب. فهي تهدف إلى إقامة آلية اجتماعية ضمن الانتظام الكامل للحياة في المجتمع وتكفل الرفاهية المادية لكل فرد فيه.

بيد أن فردية الإنسان ضائعة تمامًا في هذه الآليات البالغة التعقيد. كما أن الدولة تغدو فيها أشبه بإله لا متناهي الحكمة والكرم، ومعصوم على الدوام من الخطأ، وإذا ارتكبت خطأً فلن يملك أحد القوة لتصحيحه. وسواء تمت إدارة اشتراكية للدولة عن طريق الاقتراع العام، كما في «رحلة إلى إيكاريا» لكابيه، أو من خلال التسلسل الصناعي كما في «التطلع للوراء» لبيلامين فإن النتيجة واحدة؛ لا يستطيع الإنسان أن يعبر عن شخصيته إلا من خلال القنوات التي تسمح بها الدولة. لقد أصبح جهازًا آليًّا ذاتي الحركة (أوتوماتون)، فهو يعمل عددًا من الساعات التي يفرضها عليه القانون، ويؤدي المهام والواجبات التي جعلها التصنيع الزائد مملة وغير شخصية. ونتاج عمله يكدس في مخازن هائلة الأحجام ليستهلكها مجتمع لا تربطه به أي صلة حقيقية؛ لأن ضخامته ومركزيته لا يسمحان بإقامة علاقات حميمة معه. وتبذل أحيانًا بعض المحاولات لخلق الإحساس بالروح الجماعية عن طريق حشد جميع سكان الحي الواحد في مطاعم مشتركة مثلًا، ولكنها تظل وسيلة مصطنعة شأنها شأن العديد من التنظيمات التي نجدها في يوتوبيات القرن التاسع عشر. لقد كانت وحدة الجماعة في اليوتوبيات السابقة وحدة وظيفية، كما رأينا في مدينة المسيحيين لأندريا، فالعمال الذين يشتغلون بمهنة واحدة يتقابلون لمناقشة المشاكل المتعلقة بعملهم، والجماعة بكامل أعضائها تلتقي لمناقشة كمية الطعام، والملابس، والأثاث … إلخ وسائر ما يحتاجون إليه، والإنتاج منظم وفقًا لاحتياجات أعضاء الجماعة الذين يعرفونهم عن قرب نظرًا لصغر حجم الجماعة. أما في يوتيوبيات القرن التاسع عشر فإن حجم الاستقلال الممنوح للجان المصانع أو لاتحادات المستهلكين حجم مزيف. فعندما تنظم الدولة كل شيء بفضل خبرائها ومكاتب الإحصاء فيها فلن يبقى سوى القليل الذي يمكن للعمال أن يتناقشوا حوله. وقد صدق «ممفورد» عندما قال:

«إن هذه اليوتوبيات تتحول إلى شبكات من الصلب والأشرطة الحمراء اللاصقة، بحيث نشعر بأننا وقعنا في شرك كابوس عصر الميكنة، وأننا لا نستطيع النجاة منه أبدًا … لقد صارت الوسيلة هي الغاية، ونُسِيت المشكلة الحقيقية للغاية … ويخالجني الشك في قدرة أي فلاح ذكي من الهند أو الصين على الخروج من هذا الكم من اليوتوبيات بفكرة واحدة، لها أي معنى أو تأثير في الحياة التي عاشها، وما أقل ما يتبقى للإنسان لو أمكنه أن يفرغ من تسوية مشاكل التنظيمات الآلية والسياسية.»

وهناك لحسن الحظ بعض اليوتوبيات القليلة التي يجد فيها الإنسان نفسه مرة أخرى، حيث لا ينحدر إلى مستوى الآلة التي يتعين إطعامها وتدبير الملبس والمسكن لها، مثل أي قطعة «ماكينة» تتطلب الحرص في التعامل معها إذا أُرِيد استخراج أقصى عائد منها، وحيث لا يتم تشكيله منذ صباه ليصبح «مواطنًا صالحًا»، أي مواطنًا مطيعًا للقانون طاعة كاملة، وعاجزًا عن التفكير لنفسه تفكيرًا مستقلًّا. وأحب هذه اليوتوبيات ذات النزعة الاشتراكية الحرة وأكثرها جاذبية هي يوتوبيا وليم موريس «أخبار من لا مكان» فهي تتصف بصفات العمل الأدبي القادر على اجتذاب القراء سواء داخل هذا البلد (أي إنجلترا) أو خارجه. وهناك أيضًا عدد من الروايات الخيالية مثل رواية «العصر البلوري» ﻟ «و. ﻫ. هدسون» W. H. Hudson ورواية و. ﻫ. ماللوك W. H. Mallock «الجمهورية الجديدة» اللتين لا تدعيان أنهما تقدمان مشروعًا مبرأً من الأخطاء لمجتمع كامل، وإنما تصفان نمط المجتمع الذي يتمنى المؤلفان أن يعيشا فيه. ومهما جنحت مثل هذه الروايا إلى الإغراب في الخيال، فإنها — كما قال هدسون نفسه — تؤثر في معظمنا تأثيرًا رقيقًا متصلًا، لأنها تنبع من إحساس مشترك بيننا وهو الإحساس بالسخط على النظام السائد للأشياء، الذي يمتزج بإيمان أو أمل غامض في نظام أفضل يمكن أن يتحقق يومًا ما … (ولا يسع الواحد منا إلا أن يسأل صاحبه: ما هو حلمك أو مثلك الأعلى؟ ما هي أخبار من لا مكان؟) ومهما يشعر الإنسان بأن مجتمع «هدسون» الخالي من الجنس أو «المنزل الريفي» اللطيف ﻟ «ماللوك» لا يجذبانه كثيرًا إليهما، فهو لا يملك إلا الاعتراف بأن هذين الكاتبين اليوتوبيين ينعشان فؤاده بعض الشيء بالقياس إلى أولئك «المخلِّصين» الذين لا حصر لهم، والذي غُصَّ بهم طريق القرن التاسع عشر. وقد كان بودي أن أضمِّن هذا القسم مقتطفات من رواية بتلر (أيروهين) لأنها تسخر من أفكار عديدة يتكرر التعبير عنها في يوتوبيات القرن التاسع عشر، وبصفة خاصة فكرة الاعتقاد بأن التوسع في استخدام الآلة سيجلب السعادة للجنس البشري بطريقة آلية، ولكن «أيروهين» لا يمكن اعتبارها يوتوبيا، لأنها تنتمي، كما لاحظ ديزموند مكارثي، لنفس «فئة الروايات التي تنتمي إليها (رحلات جليفر)، وتعبر عن حضارة خيالية يلجأ إليها المؤلف لكي يتمكن من نقد حضارتنا». وقد استعضت عن الروايات السابقة ببعض المقتطفات من رواية أويجين ريشتر، «صور من المستقبل الاشتراكي»، وهي يوتوبيا هجائية خالية من أي طموحات فلسفية، وإن كانت تقدم عددًا كبيرًا من الاعتراضات التي تثيرها في الذهن يوتوبيات اشتراكية-الدولة.

وهناك عدد قليل من يوتوبيات القرن التاسع عشر التي يمكننا أن نقرأها اليوم دون أن نشعر بالملل التام، اللهم إلا إذا نجحت في تسليتنا بخداع مؤلفيها لأنفسهم وتصورهم أنهم مُخلِّصو الجنس البشري. ولقد احتوت يوتوبيات عصر النهضة على ملامح عديدة جذابة، ولكن اتساع آفاق الرؤية فيها يستوجب الاحترام، أما يوتوبيات القرن السابع عشر فقد طرحت العديد من الأفكار المتطرفة، ولكنها كشفت عن عقول ساخطة نفَّاذة يمكننا أن نتعاطف معها. وعلى الرغم من أن الفكر الذي تعبر عنه يوتوبيات القرن التاسع عشر يعد من نواحٍ كثيرة فكرًا مألوفًا لنا، فإننا نشعر مع ذلك بأنها غريبة عنَّا أكثر من يوتوبيات الماضي البعيد. ومع أن هؤلاء الكتاب اليوتوبيين قد حركت أقلامهم دوافع سامية، إلا أن المرء لا يسعه إلا أن «يشعر بالمرارة تجاه القرن التاسع عشر» كما شعر العجوز في «أخبار من لا مكان»، بالمرارة حتى من الحب الذي يسرف هؤلاء الكُتَّاب اليوتوبيون في إغداقه على البشر، لأنهم يبدون أشبه بالأمهات الحنونات القلقات اللائي يقتلن أبناءهن من فرط الاهتمام والعطف، بدلًا من أن يتركنهم يستمتعون بلحظة واحدة من الحرية.

(١) ايتيين كابيه (١٧٨٨–١٨٥٦م): «رحلة إلى إيكاريا»

ربما يغفر لنا القارئ بعض الضيق والعصبية ونحن نتعامل مع كتاب يقول عنه مؤلفه: «اتخذت «رحلة إلى إيكاريا» شكل الرواية، ولكنها في الحقيقة بحث في الأخلاق، والفلسفة، والاقتصاد الاجتماعي والسياسي، وهي ثمرة جهد طويل، وبحث واسع، وتأمل متواصل. ولا يكفي قراءتها لكي تُفهَم فهمًا صحيحًا، بل يجب أن تعاد قراءتها ودراستها أكثر من مرة.» ومما يزيد الأمر صعوبة أن كابيه نفسه يخبرنا أن كتابه: «مستلهم من حب خالص ومتوقد للبشرية.» ولعل العبارة الثانية أن تكون أكثر دقة من الأولى. فايتيين كابيه ينتمي إلى ذلك النمط من المصلحين الاجتماعيين الذين يتكافأ حبهم غير المحدود للبشرية مع إيمانهم بقدرتهم على إنقاذها.

ولد كابيه عام ١٧٨٨م لعائلة من الطبقة العاملة، ولكنه تلقى تعليمًا جيدًا وأصبح محاميًا يتمتع بقدر من الشهرة. كان قد انجذب إلى السياسة منذ صباه، ووقف في صف المؤيدين للملكية المستنيرة. وعندما تولى لويس فيليب الملك، وكان قد علق عليه آمالًا كبيرة، عُيِّن في منصب النائب العام في كورسيكا. ولكن رعونته واندفاعه صوَّرا له أنه يمكن أن يفرض نصائحه على الملك، وسرعان ما حل عليه الغضب وفقد منصبه. وعاد إلى باريس حيث كرس نفسه للعمل في صحيفة «الشعب» التي سبق له تأسسيها وتحريرها، وفي عام ١٨٣٤م تعرض للمحاكمة بسبب إحدى المقالات التي كتبها. وحُكِم عليه بالسجن لمدة سنتين أو النفي لمدة خمس سنوات، فاختار النفي ولجأ إلى إنجلترا.

وصل كابيه إلى لندن في شهر مايو عام ١٨٣٤م وأرهقه الفراغ الذي فرضته عليه الحياة في المنفى بعد النشاط المحموم الذي مارسه كمحامٍ وصحفي ونائب في الجمعية الوطنية. ومنعه جهله باللغة من الاتصال بالشعب الإنجليزي. وبقيت لندن بالنسبة إليه، كما يقول مؤرخ حياته ج. برودومو J. Proudhommeaux، «سجنًا حقيقيًّا لمدة خمس سنوات». ولجأ، مثل غيره من مشاهير المنفيين، إلى المتحف البريطاني، حيث عكف في قاعة المطالعة على «بحوثه الواسعة» لكتابة «رحلة إلى إيكاريا». وربما كانت التسهيلات التي أتاحتها مكتبة المتحف هي المسئولة نسبيًّا عن افتقار كتابه إلى الأصالة.

حُفظت الملاحظات التي جمعها كابيه للاعتماد عليها في كتابة يوتوبياه وملأت ألف صفحة صغيرة؛ ولذلك فلا محل للسؤال عن «الأصول» التي رجع إليها كما يحدث في معظم الحالات. وقد أقبل على العمل بذمة وهمة عالية، وإذا لم يكن قد استطاع دائمًا أن يقرأ النصوص الأصلية، فقد اطلع على الأقل على تحليلات لمعظم اليوتوبيات، وعكف على دراسة الأوقيانوسة لهارنجتون، وعلى يوتوبيا مور قبل كل شيء. وإذا كان لنا أن نصدقه، فإن قراءته لمور هي التي وجَّهته لدراسة نظام مشاعية السلع وما إن اكتشف أن «السبب في رذائل الجنس البشري وتعاسته يكمن في التنظيم السيئ للمجتمع، وأن الرذيلة الأساسية التي يقوم عليها هذا التنظيم هي عدم المساواة»، حتى بدأ يبحث بحثًا منهجيًّا عن المفكرين والفلاسفة والأنبياء أو الحركات السابقة التي عبرت عن وجهة نظر مشابهة. واكتشف أن هناك عددًا كبيرًا من حلفائه في الرأي، وأنهم لا يقتصرون على الكُتَّاب اليوتوبيين، بل يضمون «السيد المسيح، وآباء الكنيسة، والمسيحيين الأوائل، وحركة الإصلاح الديني، وفلاسفة القرن الثامن عشر، والثورة الأمريكية، والثورة الفرنسية، والتقدم العلمي، وأنهم جميعًا يدعون إلى المساواة والإخاء بين البشر والأمم».

تأثر كابيه تأثرًا قويًّا، وبشكل مباشر وغير مباشر — على الرغم من عدم اعترافه بهذا — بالأفكار الشيوعية لأتباع بابيف. وكان قد قرأ كتب فيليب بوناروتي حول «مؤامرة المساواة أو مؤامرة بابيف» الذي ظهر في عام ١٨٢٨م. ورغم أن هذا الكتاب لم يشده كثيرًا في ذلك الوقت، إلا أنه استعار بشكل غير واعٍ عددًا كبيرًا من الأفكار التي ألهمت الحركة البابوفية. أضف إلى هذا أن مشرع إقامة مجتمع المساواة و«المشاعية القومية الكبرى في استهلاك الثروة»، وتسليم جميع السلطات الإدارية لدولة مركزية، وجعل الإرادة العامة للمجتمع هي صاحبة السيادة، وهو المشروع الذي دعا إليه بابيف ورفاقه، قد أثر تأثيرًا كبيرًا في الفكر الاشتراكي في النصف الأول من القرن التاسع عشر في فرنسا.

لقد اهتمت النزعة الاشتراكية الفرنسية بشكل أساسي، كما أوضح دافيد تومسون في كتابه عن «مؤامرة بابيف»، بتحقيق المساواة الكاملة بين الناس، وكانت في سبيل هذا الهدف على استعداد للتضحية بحرية الفرد (على مذبح) الدولة. وبينما حاول حتى أكبر أنصار المساواة في إنجلترا، وهو جيرارد ونستنلي، أن يوفق بين المساواة وبين التمتع بدرجة عالية من الاستقلال الشخصي، وأن يختزل اختصاصات الدولة إلى الحد الأدنى، فقد أُسْنِدَت إلى الدولة في فرنسا مهمة تأسيس «المشاعية القومية الكبرى في الثروة» التي ستضمن تحقيق المساواة بين جميع المواطنين. ومع أن كلمات مثل مشاعية الثروة، والمساواة، والإخاء، تتكرر بصورة مستمرة في كتابات البابوفيين، كما تكررت بعد ذلك في كتابات كابيه، إلا أن كلمات الحرية والحقوق الفردية لا تُذكَر فيها على الإطلاق، كما أنها تتجاهل تمامًا إمكانية الصراع بين مصالح الدولة ومصالح الفرد.

وإذا كان هناك اختلاف طفيف بين البرنامج العلمي لإعادة البناء الاشتراكي كما دعا إليه البابوفيون وبين البرنامج الذي وضعه كابيه، فإنهما يختلفان اختلافًا كاملًا حول وسيلة إقامة نظامها الشيوعي. فبينما أراد بابيف أن يقلب الحكومة بالقوة بمساعدة حزب منظم تنظيمًا جيدًا، اعتقد كابيه أن «مشاعية السلع يمكن أن تتحقق بسهولة بمجرد أن تتبناها الأمة أو حكومتها … وهذه المشاعية لا يمكن إقامتها كما تصور بابيف عن طريق التآمر والعنف، بل بالمناقشة والدعاية والإقناع وقوة الرأي العام.»

كذلك وثق كابيه ثقة أكبر ممن سبقوه في التطور الصناعي، وأكد أن «التقدم الصناعي يجعل تحقيق مشاعية السلع أمرًا أيسر مما كان عليه في أي وقت مضى، فالتطور غير المحدود لقوى الإنتاج في الوقت الحاضر بفضل استخدام البخار والآلات يمكن أن يهيئ المساواة في الوفرة، ولا يوجد نظام أنسب منه للنهوض بالفنون والرقي بالملذات المعقولة للحضارة.»٥

ويحتمل أن يكون روبرت أوين، الذي اطَّلع كابيه على أعماله أثناء إقامته في لندن، هو الذي اقتدى به الأخير عندما حاول أن يضع نظرياته موضع التطبيق العملي، وذلك بتأسيس بعض التجمعات «الإيكارية» في أمريكا، وقد ظهرت «رحلة إلى إيكاريا» لأول مرة عام ١٨٣٩م في طبعة محدودة تحت عنوان «رحلة ومغامرات اللورد وليم كريسدال في إيكاريا»، ثم أعيد عنوانها الحالي في يناير عام ١٨٤٠م وحققت نجاحًا فوريًّا، وصدر منها خمس طبعات من عام ١٨٤٠م إلى عام ١٨٤٨م واستقبلت يوتوبيا كابيه، في غمرة البطالة والفقر اللذين انتشرا بين الطبقة العاملة الفرنسية في ذلك الوقت بحماس شديد وترحيب لا نظير له. وتعاون العمال الذين لا يملكون ثمن الكتاب على شرائه، وظهرت في جميع أنحاء فرنسا جمعيات تنادي بأفكار كابيه عن الإصلاح الاجتماعي، وجُمعت الأموال لإقامة بعض التجمعات الإيكارية في أمريكا.

وقرر كابيه حوالي سنة ١٨٤٧م، أي عشية ثورة ١٨٤٨م، أن يضع نظامه موضع التطبيق العملي، وبدأ في تسجيل الأعضاء الذين سيشكلون نواة أمة جديدة في أمريكا. وسافر إلى لندن عام ١٨٤٧م ليتشاور مع أوين عن الموقع الذي يمكن أن تقام عليه المستعمرة الأولى، فنصحه بإقامتها في تكساس. وقد ثبت بعد ذلك أن هذا الاقتراح لم يكن موفَّقًا، فبعد محاولات فاشلة في تكساس انتقل أول المستعمرين الإيكاريين إلى مستعمرة سابقة لطائفة المورمون.٦ في «ناوفو» بالقرب من سانت لويس، حيث تولى كابيه الإدارة بنفسه (وذلك بعد أن لعب دورًا نشطًا في ثورة باريس لعام ١٨٤٨م، التي قام خلالها بقيادة أحد النوادي الاشتراكية ذات التأثير الواسع)، ولكنه اضطر للعودة إلى باريس عام ١٨٥٣م، وبعد رحيله ضعفت «الكوميونة» ضعفًا شديدًا من جراء الصراعات الداخلية. ولما رجع كابيه إلى أمريكا عجز تمامًا عن إعادة النظام والاستقرار للمستعمرة، ومات عام ١٨٥٦م ميتة رجل تخلى عن جميع الأوهام. ومع ذلك بقي عدد من الكوميونات (التجمعات التعاونية) الإيكارية بعد ذلك التاريخ لبضعة عقود، إلى أن تفكك آخرها في عام ١٨٩٨م.

لقد وصفت رحلة كابيه إلى إيكاريا بإنجيل الشيوعية الإيكارية، والحقيقة أنها تزيد على كونها مجرد يوتوبيا. فالقسم الأول الذي يصف بلدًا خياليًّا نُظِّمت فيه «أمة» عظيمة في جماعة يمكن اعتباره يوتوبيا بالمعنى الصحيح، ولكن القسم الثاني يشرح كيفية إقامة نظام شيوعي، ويناقش «نظرية الجماعة ومذهبها مع الإابة عن كل الاعتراضات التي قد تثار ضدها»، أما القسم الثالث فهو تلخيص للمبادئ التي يقوم عليها نظام الجماعة (أو الكوميونة).

إن الأسباب التي تجعل إحدى اليوتوبيات شعبية تساوي في غموضها الأسباب التي تتحكم في أي كتاب يحقق رواجًا كبيرًا بين الناس، ومع ذلك فإن يوتوبيا كابيه يمكن أن تعطينا بعض الدلالات على الخصائص اللازمة للنجاح. ويبدو أن أولى هذه الخصائص هي أن يتخلى الإنسان الذي يصف البلد الخيالي بقدر الإمكان عن أي تحفظ في إعجابه به، وأن يرسم له صورة زاهية الألوان بشكل صارخ. ولا شك في أن إقحام قصة حب رومانسية يعد وسيلة مؤكدة لزيادة فرص النجاح، مهما تكن القصة مغرقة في العاطفية وبعيدة الاحتمال، كما أن أحد العوامل التي تزيد من سحر القصة أن اللورد الإنجليزي شاب وسيم لا يستطيع إخفاء إعجابه بمعجزات الديمقراطية، وأن الخياطات وصانعي الأقفال الذين قابلهم في اليوتوبيا كان من الممكن في ظل النظام القديم أن يكونوا أميرات ودوقات. وقد قدَّم كابيه كل هذه الخلفية العاطفية وأكثر منها. ولعل هذا يفسر نجاح الكتاب على الرغم من افتقاره للأصالة، ومن التكرار الشديد في كثير من أجزائه، ومن أسلوبه الذي يتعذر قراءته في هذه الأيام. وأيًّا كان الدور الذي ساهمت به المغامرات الشخصية للورد وليم كريسدال، وفاتنات إيكاريا اللائي التقى بهن أثناء رحلته إلى أكمل بلد في العالم، في نجاح الكتاب ورواجه، فلن يمكننا التطرق إليها في هذا المقام، ولذلك سنبدأ بوصف مختصر لهذا البلد.

تقع إيكاريا في موقع ملائم يعزلها عن بقية العالم بجبال تحوطها من الشمال والجنوب، ونهر يجري إلى الشرق منها والبحر من الغرب. وهي تنقسم إلى مائة محافظة متساوية بصورة أو أخرى في الحجم وعدد السكان. وتنقسم كل محافظة إلى عشر كوميونات (تجمعات محلية) متساوية في الحجم. وتقع المدينة الرئيسية للمحافظة في مركزها تقريبًا، كما تقع المدينة الرئيسية للكوميون في مركزه. ويتكون كل كوميون، بجانب مدينته الرئيسية، من ثماني قرى وعدد من المزارع الموزعة بانتظام على أراضيه. وهناك شبكة كثيفة من الطرق والسكك الحديدية والقنوات تربط كل أجزاء البلاد. ويرجع الفضل في الترتيب المتناسق للمدن والبلدان — كما في يوتوبيا مور — إلى منقذ البلاد ومشرِّع قوانينها الذي أعطاها كذلك اسمه وهو إيكاروس.

وقد أُعيد بناء العاصمة إيكاريا طبقًا لخطة فائقة البراعة، لم تكتفِ بتحديد شكلها بدائرة شبه كاملة، بل حولت كذلك مسار النهر في خط مستقيم وحصرته بين ضفتين منيعتين. وفي مركز المدينة يتفرع النهر إلى فرعين تقع بينهما جزيرة ذات شكل دائري أيضًا بطبيعة الحال. وفي الجزيرة مربع مزروع بالأشجار، وفي وسطه يقع المبنى الرئيسي للمدينة تحيط به حديقة فخمة، وفي المركز من هذه الحديقة يرتفع عمود هائل يعلوه تمثال ضخم يهيمن بشموخه على كل المباني الأخرى. وكل شيء في إيكاريا منظم بأقصى قدر ممكن من الحرص على التناسق. وجميع الشوارع مستقيمة ومتسعة. وهناك خمسون شارعًا رئيسيًّا تخترق المدينة بموازاة النهر، وخمسون أخرى متعامدة معه بزوايا قائمة، وبين الشوارع ميادين مزينة بحدائق جميلة، كما توجد حدائق خلفية في جميع المنازل تقوم الأسر التي تملكها بزراعتها.

ويستخدم سكان المدينة الاختراعات الحديثة بصورة مكثفة لتزويدهم بكل التيسيرات الممكنة للحياة. وهناك «عربات الشارع» وهي صورة مبكرة من العربات التي تجرها الخيول، وتسير كل دقيقتين، وأعدادها التي تبلغ الألوف تمر في اتجاهات مختلفة، وينتظرها الناس في محطات مسقوفة، وتُتَّخذ كل الاحتياطات الضرورية لمنع الحوادث، مثل الأماكن المحددة لعبور المشاة، التي تميزها علامات تشبه علامات المرور الحالية.

إن النظافة، والنظام، والكفاءة، والاهتمام بالتخطيط، والدقة الرياضية التي تميز حياة المواطنين تنعكس على كل مظهر من مظاهر وجودهم. فكل شيء منسق بعناية من قبل الدولة وبمساعدة الخبراء بعد التشاور مع الأمة بأجمعها. وليس هناك مكان للعفوية أو لغرائب الخيال في يوتوبيا كابيه، فالقانون قد حدد كل شيء، بدءًا من تخطيط المدن حتى شكل القبعات، ومن الجدول الزمني الصارم حتى قائمة الطعام لكل يوم من أيام الأسبوع. ونظام الحكم في إيكاريا جمهوري، كما أن السيادة فيها لإرادة الشعب، وإن كانت لا تعبر عن نفسها إلا من خلال الجمعيات الوطنية أو عن طريق النواب.

وفي هذه الفقرة يشرح أحد أعضاء الكومنولث الإيكاري «مبادئ التنظيم الاجتماعي في إيكاري»:٧

«لما كان التجربة قد أقنعت أهل إيكاريا بأن السعادة مستحيلة بغير التعاون والمساواة، فإنهم يشكلون معًا مجمعًا قائمًا على المساواة التامة وهم جميعًا أعوان ومواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، كما يشتركون بالتساوي في تحمل مسئوليات حياتهم التعاونية والتمتع بمزاياها، ويكونون أسرة واحدة تؤلف بين أعضائها روابط الإخاء.

ولهذا فنحن شعب أو أمة من الإخوة، ولا بد أن تتجه جميع قوانيننا إلى تحقيق المساواة المطلقة بيننا، وذلك في كل الحالات التي لا تكون فيها هذه المساواة مستحيلة من الناحية المادية … وكما نشكل مجتمعًا واحدًا، وشعبًا واحدًا، وأسرة واحدة، فإن أرضنا، بمناجمها الكامنة في أعماقها وببنائها الخارجي، تشكل ملكية واحدة هي ملكيتنا الاجتماعية.

وكل ما يملكه الأعضاء المتعاونون ملكية شخصية، مع كل ما تنتجه الأرض والصناعة، يشكل رأس مال اجتماعيًّا واحدًا.

والملكية ورأس المال الاجتماعيان ملك للشعب كله بغير تفرقة، فهو الذي يعمل ويستغلهما بالتعاون، وهو الذي يديرهما بشكل مباشر أو عن طريق نواب، ثم يتقاسم جميع المنتجات بالتساوي.

وجميع الإيكاريين شركاء متعاونون ومتساوون، وهم ملزمون بممارسة حرفة وأداء ساعات عمل متساوية، ولكنهم يوظِّفون ذكاءهم في تدبير كل الوسائل الممكنة لتخفيض عدد ساعات العمل وجعله محببًا للنفس وخاليًا من الأخطار.

ويقوم رأس المال الاجتماعي بتوفير كل أدوات العمل والمواد الخام، كما تُودَع كل منتجات الأرض والمنتجات الصناعية في مخازن عامة.

ويوفر لنا رأس المال الاجتماعي الطعام والملابس، والمسكن والأثاث، وذلك طبقًا للجنس والعمر والظروف الأخرى التي يحددها القانون.

بهذا تكون الجمهورية أو المجتمع التعاوني هو المالك الوحيد لكل شيء، وهو الذي ينظم عماله، وينشئ مصانعه ومخازنه، ويتابع حرث الأرض، وبناء المنازل، وتوفير كل ما هو ضروري للمأكل والملبس والمسكن لكل أسرة وكل مواطن.

ولما كان التعليم هو أساس المجتمع والقاعدة التي يرتكز عليها، فإن الجمهورية توفره بالتساوي لكل طفل من أطفالها، تمامًا كما توفر لهم الغذاء، ويتلقى الجميع نفس التعليم الأساسي، بالإضافة إلى التعليم المتخصص الذي يناسب مهنة كل منهم، ويهدف هذا التعليم إلى تكوين عمال مهرة، وآباء طيبين ومواطنين صالحين، ورجال حقيقيين …»

ويواصل المتحدث باسم الإيكاريين وصفه لمبادئ «التنظيم السياسي لإيكاريا» فيقول:

«وكما أننا جميعًا متعاونون ومواطنون، ونملك حقوقًا متساوية، فمن حقنا جميعًا أن ننتخب ونُنتخب، فضلًا عن أننا أعضاء في الشعب وفي الحرس الشعبي.

ونحن باتحادنا نكون الأمة أو بالأحرى الشعب، لأن الشعب في إيكاريا يشمل كل السكان دون استثناء.

ولسنا في حاجة إلى القول بأن السيادة للشعب، وأن له وحده، بالإضافة إلى السيادة، سلطة وضع عقده الاجتماعي، ودستوره وقوانينه، ومن الأمور المستحيلة في نظرنا أن نتصور أن فردًا واحدًا، أو أسرة واحدة، أو طبقة واحدة يمكن أن يدفعهم الطموح غير المعقول إلى السيادة علينا. والشعب الذي يملك السلطة العليا يملك كذلك، ومن خلال الدستور والقوانين، تنظيم كل شيء متعلق بشخصه، وأفعاله، وملكيته، وطعامه، وملبسه، ومسكنه، وتعليمه، وعمله وحتى متعه ولذاته.

ولو استطاع شعب إيكاريا أن يتجمع بسهولة وعلى فترات متكررة في قاعة أو وادٍ، لاستطاع أن يمارس سيادته ويضع دستوره وقوانينه. وما دام هذا أمرًا مستحيلًا من الناحية المادية، فإن الشعب يفوض سلطاته التي لا يمكنه ممارستها بشكل مباشر، ويحتفظ لنفسه ببقية السلطات. إنه يفوض للمجلس الشعبي السلطة لإعداد دستوره وقوانينه، ويفوض السلطة التنفيذية في متابعة تنفيذها، ولكنه يحتفظ بحق انتخاب كل ممثليه وكل أعضاء المجلس التنفيذي، وحق الموافقة على اقتراحاتهم وأعمالهم أو رفضها، بجانب تحقيق العدل، والمحافظة على النظام والسلام العام.

ولهذا فإن كل الموظفين العموميين ممثلون للشعب، وقد تم انتخابهم لفترة زمنية مؤقتة، وهم مسئولون أمام الشعب، ويخضعون للإعفاء (من مناصبهم)، ولمنع التراكم والطموح للوظائف، لا يوجد تعارض بين الوظائف التشريعية والوظائف التنفيذية.

ويتكون التمثيل الشعبي من ألفي عضو تدور مناقشاتهم في قاعة واحدة. وهو مجلس دائم الانعقاد، ويُجدَّد نصف أعضائه كل عام. وتخضع أهم قوانينه لتصديق الشعب.

ويتألف المجلس التنفيذي من رئيس وخمسة عشر عضوًا يمكن تغيير نصفهم كل عام، كما يتبع المجلس الشعبي تبعية تامة.

ويمارس الشعب حقوقه من خلال جمعياته ومجالسه المنتخبة، وفيها تتم الانتخابات والمناقشات والأحكام.

وللتيسير على الشعب في ممارسة حقوقه، قُسِّمت البلاد إلى مائة محافظة صغيرة، تنقسم بدورها إلى ألف كوميون (تعاونيات محلية) متساوية في الحجم وعدد السكان.

وأنت تعلم أن كل عواصم المحافظات تقع في مركز المحافظة، وكل عواصم الكوميونات في مركز الكوميون، وقد رُتِّب كل شيء بحيث يتمكن جميع المواطنين من حضور اجتماعات المجالس الشعبية بانتظام.

وبينما تهتم الكوميونات وجميع المحافظات من خلال ممثليها بالشئون العامة والمصلحة القومية، فإن كل محافظة وكل كوميون يهتم بصفة خاصة بالشئون المتعلقة بمصالح الكوميون والمحافظة، وبهذه الطريقة لا تهمل أي قضية أو مشكلة.

وبفضل هذا التقسيم إلى ألفي مجلس كوميوني، يشارك الشعب في مناقشة قوانينه، سواء بعد أن قبل مناقشات ممثليه.

وللتأكد من أن الشعب قادر على المناقشة وهو على علم تام بالموضوع المطروح لأخذ الرأي فيه، فإن كل شيء يتم في النور أمام الرأي العام، ويسجل قسم الإحصاء كل الحقائق، وينشر كل شيء في الجريدة الشعبية التي توزع على جميع المواطنين.

وللتأكد أيضًا من أن كل المسائل تعالج معالجة دقيقة وشاملة، فإن المجلس الشعبي وجميع مجالس الكوميونات، أي الشعب كله، يقسم إلى خمس عشرة لجنة أساسية تختص بالتعليم، والزراعة، والصناعة، والغذاء، والملبس، والمسكن، والتأثيث، والإحصاء … إلخ. بهذا تضم كل لجنة أساسية نسبة تبلغ خمسة عشر مواطنًا من مجموع العدد الكلي للمواطنين، كما يخصص خيرة الأذكياء من أبناء الشعب الذين أحسنت تربيتهم وتعليمهم لاكتشاف كل الإصلاحات والتحسينات الممكنة ووضعها موضع التنفيذ العملي.

هكذا يكون تنظيمنا السياسي جمهورية ديمقراطية، أو بالأحرى ديمقراطية خالصة …

وتتجه الإدارة الجماعية للشعب بصفة دائمة نحو تحقيق المساواة السياسية والاجتماعية، والمساواة في السعادة والحقوق، والمساواة الشاملة والمطلقة؛ فحقوق التعليم، والغذاء، والملبس، والمسكن، والأثاث، والعمل والاستمتاع، وحقوق الانتخاب، والصلاحية للترشيح والمناقشات جميعها حقوق متساوية لنا جميعًا، وكل محافظاتنا، وكوميوناتنا ومدننا، وقرانا، ومزارعنا ومساكننا، متماثلة بقدر الإمكان. وباختصار ستجد المساواة والسعادة في كل مكان.»

ويتولى الرسَّام الفرنسي الشاب يوجين Eugene مهمة وصف الجوانب المختلفة لحياة الإيكاريين، وقد اختار هذا الفنان إيكاريا لتكون منفًى له بعد ثورة يوليو. وهو يصور في رسائله لأخيه الذي آثر البقاء في باريس، إنجازات النظام الإيكاري بإعجاب يبلغ حد الافتتان. ويستعير كابيه قلم يوجين ليطرح جانبًا ذلك التحفظ الطفيف الذي رأى ضرورة مراعاته عند الحديث عن اللورد الإنجليزي، ولهذا نجده يسرف في استخدام علامات التعجب، والحروف المائلة والكبيرة بحرية وأكثر من المعتاد …

رسالة يوجين لشقيقه

«آه يا عزيزي كاميل! كم أشعر بانكسار القلب عندما أفكر في فرنسا وأرى السعادة التي يتمتع بها شعب إيكاريا! سيمكنك أن تحكم بنفسك عندما تعرف شيئًا عن تنظيماتهم المتعلقة بالغذاء والملبس.

الغذاء

فيما يتعلق بأول حاجات الإنسان، شأنها في ذلك شأن سائر الحاجات، فإن كل شيء في بلدنا التعس متروك للمصادفة ولإساءة التصرف المخيفة. أما هنا فكل شيء على العكس من ذلك، قد تم تنظيمه على ضوء العقل المستنير والرعاية الكاملة.

تخيل أولًا، يا أخي العزيز، أن كل شيء يتعلق بالغذاء قد نظَّمه القانون. والقانون هو الذي يقبل أو يرفض أي نوع من التغذية.

لقد شكل نواب الشعب لجنة من العلماء بالتعاون مع المواطنين، ومهمة هذه اللجنة هي إعداد قائمة بكل أنواع الأطعمة المعروفة، تبين الصالح منها والضار، وخصائص كل نوع منها.

وقد زادوا على ذلك بتحديد أي هذه الأنواع الصالحة من الطعام ضروري ومفيد ولذيذ، وطبعوا هذه القائمة طبعات عديدة توجد نسخة منها في حوزة كل أسرة.

ثم إنهم أضافوا إلى ذلك وصف الطرق المناسبة لإعداد كل نوع من أنواع الطعام، ولدى كل أسرة دليل لفن الطبخ.

وبمجرد الموافقة على قائمة الأطعمة الصالحة، قامت الجمهورية بإنتاجها بواسطة العاملين في الزراعة، ووزعتها على العائلات، ولما كان من المستحيل على أي فرد الحصول على طعام آخر غير الطعام الذي يتم توزيعه، فسوف تتبين من هذا أنه لا يستطيع تناول شيء لا توافق عليه الجمهورية.

وتحرص الدولة على البدء بإنتاج ما هو ضروري، ثم تنتج ما هو نافع ومفيد، وأخيرًا ما هو لذيذ وممتع بأكبر كميات ممكنة.

وتعطي الدولة لكل الأفراد أنصبة متساوية، بحيث يتسلم كل مواطن نفس الكمية من طعام معين إذا وُجِد منه ما يكفي الجميع، ويأخذ منه كل فرد بالتناوب في حالة توافره، وذلك كل عام أو كل يوم، وبالنسبة لقطاع معين من السكان.

بهذا يأخذ كل فرد نصيبًا متساويًا من كل الأطعمة دون تفرقة بينهم، ابتداء من الأطعمة البسيطة إلى أكثرها تعقيدًا، ومِن ثَم لا يتغذى سكان إيكاريا تغذية جيدة فحسب، بل أفضل مما تتغذى عليه أغنى الشعوب في البلاد الأخرى …

وقد درست اللجنة التي أشرت إليها من قبل وحددت عدد الوجبات، ومواعيد تناولها، ومدتها، وعدد ألوان الطعام وطبيعتها والنظام الواجب اتباعه عند تقديمه، مع تنويع هذه الأطعمة بشكل مستمر، ليس فقط حسب الفصول والشهور، بل كذلك حسب الأيام، بحيث تختلف وجبة كل أسبوع عن وجبة الأسابيع الأخرى.

وفي السادسة من صباح كل يوم، وقبل أن يبدءوا العمل، يتناول كل العمال، أي كل المواطنين، إفطارًا خفيفًا في ورشهم، ويقوم مطعم المصنع بإعداده وتقديمه.

وفي التاسعة، يتناولون وجبة صغيرة في الورشة، بينما تتناول زوجاتهم وأطفالهم هذه الوجبة في المنزل.

وفي الثانية، يتناول جميع سكان الشارع الواحد في مطعم الجمهورية الوجبة الرئيسية التي قام بإعدادها أحد متعهدي التغذية في الجمهورية.

وتتناول كل أسرة عشاءها في منزلها الخاص بين التاسعة والعاشرة مساء، وتقوم الزوجات بإعداد هذه الوجبات.

وتبدأ جميع هذه الوجبات بشرب نخب إيكار العظيم، راعي العمال، والعائلات، والمواطنين أجمعين.

ويتكون العشاء غالبًا من الفاكهة، والكعك، والحلوى. ولكن وجبة الغداء المشتركة، التي يتم تناولها في القاعات الفخمة المزينة زينة أنيقة، والتي تتسع لعدد من المواطنين يتراوح بين الألف والألفين، تفوق في روعتها أي شيء يمكنك تخيله. فأجمل مطاعم ومقاهي باريس لا تعد في رأيي شيئًا بالقياس إلى مطاعم الجمهورية. قد لا تصدقني حين أقول لك — بصرف النظر عن وفرة ولذة الوجبات وكونها مزينة بالورد وبأشياء أخرى عديدة — إن الموسيقى العذبة تسحر الآذان بينما تستمتع حاسة الشم بالروائح الذكية.

وعندما يتزوج الشباب لا يحتاجون إلى إنفاق مهورهم على الولائم السخيفة التي تدمر مستقبل أطفالهم، فالوجبات الرئيسية التي يجدها الزوج في مطعم الزوجة، وتجدها الزوجة في مطعم الزوج، وتحضرها العائلتان في منزليهما، تضارع أشهى الوجبات في البلدان الأخرى.

ولكن تأكد أن هذه الوجبات المشتركة اقتصادية إلى حد كبير بالقياس إلى الوجبات المستقلة، بالإضافة إلى أنها تقدم طعامًا أفضل.

وثق أيضًا أن هذه الوجبات المشتركة بين العمال والجيران لها مزايا كبرى، فهي تحث الجماهير على التآخي، وتخفف عبء العمل المنزلي على النساء …

ربما تريد أن تعرف كيف يتم توزيع الطعام، ليس هناك شيء أبسط من هذا، ولكنه سيثير إعجابك حتمًا للمرة الثانية.

توزيع الطعام

اعلم أولًا أن الجمهورية هي التي تحتكر إنتاج جميع أنواع الطعام، وأنها تقوم بجمعه وتخزينه في مخازنها الضخمة التي لا حصر لها.

ويمكنك بسهولة أن تتخيل القباء الجامعة للكوميونات التي تشبه مثيلاتها في باريس ولندن، وهي مخازن كبرى للدقيق، والخبز، واللحم، والسمك، والخضراوات، والفاكهة … إلخ.

ولدى كل مخزن في الجمهورية، مثل نظيره في مخابزنا ومحلات بيع اللحوم عندنا، قائمة بالمطاعم والورش والمدارس المستشفيات والعائلات التي يمدها باحتياجاتها، والكمية التي يجب أن يرسلها لكل منها.

وفي المخزن موظفون، وأوعية، ووسائل النقل والأدوات الضرورية الصالحة لتوزيع الطعام.

ولما كان كل شيء يعد في المخزن قبل طلبه، فإن المؤن التي تكفي العام، والشهر، والأسبوع، والمؤن اليومية تسلم للمنازل في المنطقة الخاصة بكل مخزن.

وينظم توزيع هذه المؤن بطريقة مدهشة. لن أقول لك شيئًا عن النظافة التامة التي تعم كل مكان باعتبار أنها شيء طبيعي، ولكن لن يفوتني أن أخبرك بأنه توجد في كل مخزن سلة وإبريق ومكيال مخصص لكل أسرة، وعليه علامة بعدد أفرادها ومقدار ما تحتاج إليه من الخبز واللبن … إلخ، وجميع هذه الأوعية مزدوجة، بحيث إذا تم تسليم الوعاء المملوء، يعاد الوعاء الفارغ مرة أخرى للمخزن. وفي مدخل كل بيت توجد كوة في الجدار يجد الموزع فيها الوعاء الفارغ ويستبدل به وعاءً آخر ممتلئًا، وبهذه الطريقة يتم التوزيع في وقت محدد، ويتم الإعلان عنه بإصدار صوت خاص، بغير إزعاج للأسرة أو تضييع لوقت الموزع.

ويمكنك أن تدرك، يا صديقي العزيز، مدى الاقتصاد في الوقت والمزايا التي يتمتع بها هذا النظام المتبع في التوزيع.

أضف إلى هذا أن كل شيء كامل في هذا البلد السعيد، الذي يسكنه أناس يستحقون تسميتهم بالبشر، فهم حتى في أتفه الأشياء يستخدمون دائمًا ذلك العقل السامي الذي أنعمت عليهم به العناية الإلهية ليبلغوا السعادة.

الملابس

وكما ينظم القانون الأمور الخاصة بالغذاء، فهو ينظم كذلك كل شيء يتعلق بالملابس. وقد شكلت لجنة استشارات الجميع، وفحصت الملابس التي يرتديها الناس في البلاد كافة، وسجلت قائمة بأشكالها وألوانها (وقد طبعت في كتاب رائع تملك كل أسرة نسخة منه) وحددت فيها ما يصح اختياره منها وما ينبغي تجنبه، كما رتبت جميع الملابس بحسب ضرورتها وفائدتها وجمالها.

وقد حُرِّم ارتداء الملابس الشاذة التي تفتقر إلى الذوق … ولم يصنع حذاء أو غطاء واحد للرأس دون أن تسبقه دراسة له تمهيدًا للموافقة على وفق خطة ونموذج معين.

وكل إنسان يرتدي نفس الملابس، فلا يوجد مجال للحسد أو التباهي. ومع هذا فيجب ألا يتصور أحد أن الزي الموحد هنا ليس متنوعًا، فمن حسن الحظ أن الملابس يمكن أن تجمع بين التنوع ومزايا الزي الموحد. ولا يلبس المواطنون من الجنسين بشكل مختلف فقط، وإنما يبدل كل منهم ملابسه حسب العمر والحالة، لأن الاختلاف في الملابس يدل دائمًا على ظروف الشخص ووضعه. فالطفولة والصبا، والبلوغ والنضج، والعزوبة أو الزواج، والترمل أو الزواج للمرة الثانية، ومختلف المهن والوظائف، كلها أوضاع تدل عليها الملابس. وجميع الأفراد الذين ينتمون لظروف واحدة يرتدون زيًّا موحدًا، ولكن ألف زي موحد مختلفة الأشكال يقابلها ألف وضع مختلف.

والاختلاف بين هذه الأزياء الموحدة يكمن أحيانًا في اختلاف الخامات والألوان، وأحيانًا أخرى في الشكل أو في علامة مميزة.

وضع في اعتبارك أيضًا أنه إذا كانت البنات من نفس السن، فإنهن يلبسن من نفس الخامة والشكل، ويختلف اللون حسب أذواقهن أو ملاءمته لهن، فيكون له لون معين مناسب للشقراوات ولون آخر للسمراوات.

وضع في الاعتبار أيضًا أن نفس الشخص يرتدي بذلة بسيطة ومريحة للعمل، وأخرى للمنزل، وواحدة لاستقبال الضيوف وأخرى للاجتماعات العامة، بجانب بذلة فخمة للولائم والاحتفالات، وجميعها مختلفة بعضها عن بعض. بهذا يكون التنوع في الملابس بغير حدود.

وقد حُدِّد شكل كل ثواب من هذه الثياب بحيث يمكن صنعه بأيسر وأسرع طريقة ممكنة، وبأرخص سعر ممكن أيضًا.

وجميع الملابس والقبعات والأحذية تتصف بالمرونة من الناحية العملية، بحيث تناسب الأحجام المختلفة. وهي جميعًا مصنعة تصنيعًا آليًّا، سواء بشكل كلي أو جزئي، بحيث لا يجد العمال صعوبة في إضفاء اللمسات الأخيرة عليها.

ويتم تصنيع كل الملابس تقريبًا لكي تناسب أربعة أحجام أو خمسة أحجام مختلفة، وبذلك لا يحتاج العمال لأخذ المقاسات بشكل مسبق.

هكذا تُصنَع كل هذه الملابس بكميات هائلة مع تصنيع الأقمشة في نفس الوقت، ثم يتم إيداعها في مخازن ضخمة حيث يثق كل فرد في أنه سيجد كل ما يحتاج إليه وما يستحقه طبقًا للقانون.

وأود أن أحدثك عن النساء، آه يا عزيزي كاميل، كم ستحب هؤلاء الإيكاريين، وأنت تشبهني في أدبك ولطفك وتوقد مشاعرك نحو هذه التحف الرائعة التي أبدعها الخالق، كم ستحبهم إذا رأيتهم وهم يحوطون النساء بالاهتمام، والاحترام، والتكريم، ويركزون عليهن كل أفكارهم وهمومهم وسعادتهم، ويبذلون كل جهدهم لإرضائهن وإسعادهن، ويفعلون كل ما في وسعهم لجعلهن أكثر جمالًا، وعلى الرغم من جمالهن الطبيعي، وذلك لكي يزدادوا بهجة وسرورًا بعشقهم لهن. فيا لهن من نساء سعيدات. ويا لهم من رجال سعداء. ويا لإيكاريا السعيدة. ويا لتعاستك يا فرنسا.»

وليس هناك داعٍ لأن نصف بالتفصيل الجوانب الأخرى من التنظيم الاجتماعي في إيكاريا، لأنها جميعًا على هذا النمط نفسه. وهناك دائمًا لجنة من الخبراء التي تضع، بعد دراسة دقيقة، خطة نموذجية لأفضل منزل في المدينة، وأفضل مائدة للطعام، وأفضل مزرعة، وأفضل برنامج دراسي أو نصب تذكاري، وتتبنى الأمة بالإجماع هذا النموذج ويصبح قانونًا. كذلك حدد القانون جدولًا زمنيًّا صارمًا لكل السكان، فيتحتم عليهم أن يستيقظوا في الخامسة صباحًا، ويعملوا حتى الثانية بعد الظهر، ويروحوا عن أنفسهم حتى التاسعة، ويلتزموا بعد العاشرة مساءً بحظر التجوال الذي يستمر حتى الخامسة من صباح اليوم التالي.

ومن واجب كل مواطن أن يعمل لأجل الجمهورية عددًا معينًا من الساعات التي يحددها القانون. وعندما يغادر الأولاد المدرسة في سن الثامنة عشرة، والبنات في سن السابعة عشرة، يتعيَّن عليهما اختيار حرفة أو مهنة. وإذا قُدِّمت طلبات عديدة شغل وظيفة معينة يتم اختيار الأنسب عن طريق المسابقات. ولكي يصبح أحد المواطنين كاتبًا فعليه أيضًا أن يجتاز اختبارات معينة. ويُسمَح للرجال بالتقاعد في سن الخامسة والستين، وللنساء في سن الخمسين، ولكن العمل في إيكاريا خفيف وممتع ويغري معظمهم بالاستمرار في الوظيفة بعد سن التقاعد. ويحبب العمل للمواطنين بالسماح بفترات طويلة للراحة والاستجمام، والمحافظة على نظافة المصانع والاستخدام المكثف للآلات. (والظاهر أن كابيه قد تأثر تأثرًا واضحًا وعميقًا بالتطور الصناعي لإنجلترا خلال فترة إقامته فيها، ومع أنه لم يقلل من أهمية الزراعة، فإنه أراد أن يجعل إيكاريا أكثر تقدمًا من الناحية الصناعية من إنجلترا. وقد وصف في يوتوبياه عددًا من «الاختراعات» بلغ من الكثرة حدًّا يجعل القارئ يفكر أحيانًا في الرجوع إلى أحد المكاتب المختصة بتسجيل براءات الاختراع …)

ولا توجد في إيكاريا مهنة تحط من كرامة الإنسان، لأن القانون يحرم أي عمل غير صحي أو غير أخلاقي، فليس هناك على سبيل المثال أصحاب حانات، ولا يسمح لأي مواطن بصنع الخناجر. ويُحتَرم صانع الأحذية مثله مثل الطبيب، كما أن أحد رجال القضاء المرموقين صانع أقفال، على حين أن ابنته تعمل في حياكة الملابس. وقد ترتب على إلغاء الأجور أن العمل يستحيل أن يؤدي إلى رفع مستوى المعيشة، ومِن ثَم إلى خلق أرستقراطية جديدة. أضف إلى هذا أن التعليم يرسخ في وعي كل مواطن أن جميع المهن مفيدة للمجتمع بشكل متساوٍ، ويجب أن تُحتَرم بقدر متساوٍ. والعمال الذين يتميزون بإنجاز يفوق المهمة المحددة لهم أو بابتكار شيء نافع يُكافَئُون على ذلك بتكريم عام.

ويتم الإنتاج الصناعي في مصانع ضخمة تسير على نظام «خطوط العمل». ففي إحدى المطابع مثلًا يتجمع خمسة آلاف عامل في نفس المبنى، حيث توجد ماكينات عديدة تقوم بإنجاز العمل الذي يتطلب خمسين ألف عامل. ويرتب كل شيء بحيث تحول الأسمال إلى ورق يُستعمَل مباشرة في الطباعة، وعندما يجف الورق يتم نقله إلى قسم التجليد حيث تجري عمليات المراجعة والتخريم والتجليد، وتُجهَّز الكتب لنقلها للمكتبات. ويتم العمل في مصنع الساعات بنظام عسكري.

يشغل المصنع المخصص لصناعة الساعات مبنًى يقوم على مساحة ألف قدم مربعة، ويتألف من ثلاثة طوابق مثبتة بأعمدة حديدية بدلًا من الحوائط السميكة، وبهذه الطريقة يتكوَّن كل دور من حجرة واحدة مضاءة إضاءة كاملة.

وتوجد في الدور الأرضي آلات ضخمة وثقيلة تُستعمَل في خرط المعدن وصب الأجزاء. ويُقسَّم العمال في الدور الأعلى إلى مجموعات بعدد الأجزاء التي يصنعونها، وكل مجموعة منها تختص بصنع أجزاء معينة. وهم يعملون بنظام وانضباط دقيق وكأنهم في معسكر.

ويشرح أحد العمال كيف ينجز هذا «الجيش الصغير» العمل:

«إننا نصل في السادسة إلا ربعًا صباحًا، ونغير ملابسنا ونرتدي ملابس العمل. ونبدأ العمل في السادسة تمامًا مع رنين الجرس. وفي التاسعة ننزل إلى قاعة الطعام ونتناول وجبتنا في صمت، بينما يقرأ واحد منا جريدة الصباح بصوت مرتفع. وبعد انتهاء العمل في الواحدة وترتيب وتنظيف كل شيء، نهبط لغرفة الملابس حيث نجد كل ما نحتاج إليه للاغتسال، ثم نرتدي ملابس الخروج للذهاب مع عائلاتنا لتناول الوجبة الرئيسية وقضاء بقية اليوم كما يروق لنا.

وقد تعوَّدنا في أثناء العمل أن نراعي الصمت الشديد لمدة ساعتين، وخلال الساعتين التاليتين نتحدث مع جيراننا، ونغني بقية الوقت لأنفسنا أو لمن يستمعون إلينا، وغالبًا ما نغني معًا.»

ربما بدت ورشة العمل النموذجية التي تصورها كابيه يوتوبية حقًّا، وذلك بالقياس إلى الظروف السائدة في مصانع القرن التاسع عشر، ولكن النظام العسكري، وتصنيع جزء محدد من الآلة مدى الحياة، يمكن أن يكون عملًا قهريًّا شأنه شأن الظروف غير الصحية.

وبرغم أنه لا يوجد غني ولا فقير في إيكاريا، ولا سياسيون وعسكريون محترفون، ولا شرطة ولا سجون، فإننا نشعر بعدم ارتياح غريب عندما نكتشف أنها تشترك مع النظم الشمولية للقرن العشرين في ملامح عديدة، فالعمارة الضخمة التي تذكرنا بإيطاليا على عهد موسوليني، والولع الشديد بالأزياء الموحدة والنظام الحديدي، وعبادة الديكتاتور الميت إيكار الذي تُعلَّق صورته البارزة في جميع الميادين العامة، ويردد اسمه بصفة دائمة في الأغاني والخطب، كل هذه أمور تستثير الذكريات المؤلمة. ولن يدهشنا أن نسمع أن الكتب أُحرِقت في إيكاريا مع بداية تأسيس النظام، وأن الرقابة الصارمة تتحكم في إنتاج كل الأعمال الفنية. ونبحث عبثًا عن مكان واحد يُسمَح فيه لفردية الإنسان بأن تعبر عن نفسها. وإصرار كابيه على تأكيد أن «السيادة للإرادة الشعبية» يثير الشك في نفوسنا، إذ لا يقول لنا كيف يمكن للأمة في مجموعها أن تتفق على كل التفاصيل الدقيقة للحياة. أضف إلى هذا أن الحكمة الشاملة «لخبرائه» يتعذر قبولها أكثر من كل ما ذكرناه، إذ يتساءل المرء في عجب عن تلك المبادئ التي يصممون وفقًا لها الزي الموحد للأرملة الإيكارية التي تتزوج للمرة الثانية بعد وفاة زوجها.

إن الولع الشديد بالنمط الموحد في كل شيء، والمركزية وهيمنة الدولة، أمور موجودة في معظم اليوتوبيات، ولكنها في «رحلة إلى إيكاريا» تصل إلى حد التطرف الشديد الذي يجعلها شبيهة، من نواحٍ عديدة، باليوتوبيات النقدية الساخرة في هذا القرن الذي نعيش فيه.

(٢) لورد ليتون (١٨٠٣–١٨٧٣م): «الجنس القادم»

على خلاف معظم يوتوبيات القرن التاسع عشر، لم تحاول «الجنس القادم» للورد ليتون٨ أن تقدم خطة عينية مفصلة للإصلاح الاجتماعي يمكن أن تقبل التحقق بشكل واقعي. فهي رواية خيالية عن «شكل الأشياء القادمة في عهد آتٍ»، وتكمن أهميتها في الرؤية الجريئة والمثيرة للرعب التي تصورها. وقبل مائة عام خلت، أي عندما نُشِرت هذه الرواية، بدا من أغرب الغرائب أن يتخيل أحد جنسًا من البشر زُوِّد كل واحد منهم «بعصا فريل»، وهي نوع من القنبلة النووية القادرة على تدمير شعوب بأكملها في بضع ثوانٍ، ولكننا نجد اليوم العلماء والفلاسفة والصحفيين ومعهم رجل الشعوب يتناقشون بشكل جدي حول المشاكل التي أوجدها هذا الاكتشاف.

ومن المصادفات التي تبعث على السخرية أن يعهد اللورد ليتون لأحد الأمريكيين بمهمة تحذير العالم من وجود أمة قوية تعيش في أحشاء الأرض، قادرة بفضل قنابلها النووية على أن تهزم الشعب الأمريكي متى شاءت، ولعله قد أراد أن يؤكد في الأذهان ما يمكن أن يُوصَف بأنه درس في التواضع عندما وصف أفراد هذا «الجنس القادم» بأنهم يشبهون الهنود الحمر من وجوه عديدة، وأنهم ليسوا فقط «أقوى في بنيتهم وأضخم في حجمهم» من البشر الذين يعيشون فوق سطح الأرض، وإنما يملكون كذلك أجنحة تمكنهم من الطيران من النوافذ والرقص في الهواء …

ويبعث أول احتكاك بهذا الجنس المتفوق من البشر في نفس الرحَّالة الأمريكي حالة من الدهشة المحمومة، تدفعه للهجوم على مُضيفيه المجنحين، مما يحملهم على تنويمه تنويمًا مغناطيسيًّا وإبقائه على هذه الحالة لعدة أسابيع. وعندما يُسمح له بالاستيقاظ يجد أن مضيفيه، بفضل قوتهم الخارقة، قد تعلموا لغته وعلموه لغتهم، ثم يتبادلون المعلومات عن العالم الذي يقع فوق سطح الأرض والعالم الواقع تحت سطحها. ويُبدي سكان هذا العالم الأخير للجنس الذي ينتمي له جليفر، كما يمنعونه من الكلام عن عالم ما فوق سطح الأرض خشية أن يفسدهم …

وبعد أن يتغلب الرحَّالة على صعوبة اللغة، يصبح قادرًا على التعرف على حضارة «الجنس القادم». وأول اكتشاف يتوصل إليه هو أنهم يستعملون «الفريل» الذي استطاع أن يحكم على قوته الخارقة المذهلة:

«إنهم يتمكون من إحداث تغييرات في الحرارة، أي في الطقس، بتشغيل الفريل بطرية معينة، وإذا شغلوا بطرق أخرى شبيهة بتلك التي تستعمل في التنويم المغناطيسي والبيولوجيات الكهربية وغيرهما، مع تطبيقها بشكل علمي من خلال موصلات الفريل، يمكنهم أن يؤثروا في العقول والأجسام الحيوانية والنباتية.

ويمكن تنظيم هذا السائل وتصعيد فاعليته إلى الحد الأقصى على كل أشكال المادة الحية أو غير الحية على السواء، كما يمكنه أن يدمر ويسحق مثل وميض الصواعق، ولكنه إذا استعمل بشكل مختلف يمكنه أن ينشط الحياة أو يزيد من قوتها، وأن يشفي من الأمراض … وبهذه القوة الفعالة يشقون الطرق في أشد المواد صلابة، ويتوسعون في زراعة الوديان بنسف الصخور المنتشرة في البرية القاحلة تحت سطح الأرض، ومنها يستمدون النور لإضاءة مصابيحهم، إذ ثبت لهم أنه أنصع وأنعم وأصح من المواد الأخرى السريعة الاشتعال التي استخدموها من قبل.»

إن اكتشاف «الفريل» هو الذي حوَّل التنظيم الاجتماعي للأمة التي تسكن تحت الأرض تحوُّلًا كاملًا، ومعرفة الفريل والاستفادة من قواه الفعَّالة ليست منتشرة بين جميع السكان الذين يعيشون تحت الأرض، وإنما تقتصر على جماعات معينة تسمي نفسها «فريل يا» بمعنى «الأمم المتحضرة»، وتملك التفوق على تلك الأمم التي لم تكتشف سر «الفريل». ولم يبقَ السر داخل الأمم المتحضرة في أيدي الحكومات فقط، وإنما اطَّلع عليه الشعب كله مما أدى إلى إلغاء الحكومات بشكلها المألوفة لنا، وإلى تغيير كامل في بنية المجتمع.

إن نتائج الاكتشاف المزعوم لوسائل توجيه القوة للفريل كانت ملحوظة بشكل خاص في تأثيرها في السياسة الاجتماعية. ولما شاعت المعرفة بهذه النتائج وتم التحكم فيها توقفت الحرب بين مكتشفي الفريل، لأنهم برعوا في فن التدمير إلى حد إلغاء أي تفوق في الأعداد، والنظام، أو القدرة العسكرية. والنار المستقرة في جوف قضيب تتحكم فيه يد طفل، يمكن أن تبعثر أقوى الحصون أو تشق طريقها المتأجج باللهب من طليعة الجيش المعادي إلى مؤخرته. وإذا التقى جيشان يمتلكان هذه القوة الفعالة، فمعنى ذلك هو القضاء عليهما معًا. وهكذا ولى عصر الحروب، ولكن توقف الحروب سرعان ما أدى إلى ظهور نتائج أخرى مؤثرة في الوضع الاجتماعي. فقد أصبح الإنسان تحت رحمة الإنسان بشكل كامل، لأن كل من يقابله يستطيع، إذا أراد، أن يهلكه في لحظة واحدة، وترتب على هذا أن اختفت بالتدريج مفاهيم الحكم بالقوة من النظم السياسية والأشكال والصيغ القانونية. وإذا كانت العادة قد جرت على المحافظة على تماسك الجماعات الكبيرة المتناثرة في أماكن نائية، عن طريق القوة، فلم يعد هناك ما يدعو الآن لتفوق دولة على أخرى في عدد السكان، سواء للمحافظة على وجودها أو للتفاخر بالتوسع في أراضيها.

وهكذا تفتت كيان مكتشفي الفريل، خلال أجيال قليلة، بطريقة سلمية إلى جماعات أصغر. وكان عدد الأسر في القبيلة التي حللت بينها لا تزيد على اثني عشر ألف أسرة، وكل قبيلة تشغل قطعة أرض تكفي حاجاتها، ويرحل السكان الزائدون في فترات محددة للبحث عن منطقة أخرى تتسع لها. ولم تكن هناك أي ضرورة للاختيار التعسفي لهؤلاء المهاجرين، إذ كان هناك دائمًا عدد كافٍ من المتطوعين للرحيل بمحض اختيارهم.

ونظام الحكم في أمم الفريل هو «حكم الفرد الخير»، ولكن دور الحاكم ومجلس الحكماء مقتصر على إدارة البحث العلمي وتشجيع تقدمه:

«انتخبت هذه الجماعة الواحدة حاكمًا أسمى يلقب باسم «تور» Tur؛ وهو يحتفظ بمنصبه طوال الحياة بشكل اسمي، ولكن يندر أن يغريه البقاء فيه مع اقتراب الشيخوخة. والواقع أنه لم يكن في هذا المجتمع ما يغري أي عضو من أعضائه بالتشبث بالمناصب، فهو لا يحاط بأي شكل من أشكال التكريم، ولا يوجد شيء يشعره بأنه يتقلد منصبًا مرموقًا، ولا يتميز الحاكم الأسمى عن بقية الشعب بمسكن فخم أو دخل مرتفع، كما أن الواجبات الملقاة على عاتقه خفيفة وسهلة إلى حد عجيب، ولا تتطلب مستوًى فائقًا من الطاقة أو الذكاء. ولما كان خطر الحرب قد تلاشى، فهم لا يحتفظون بجيوش، كما أن اختفاء شكل الحكومة القائمة على القوة أغناهم عن تعيين قوات للشرطة، وما نسميه بالجريمة شيء غير معروف على الإطلاق لدى أمم «الفريل يا»، كما لا توجد عندهم محاكم جنائية. وتحال الحالات النادرة للنزاعات المدنية إلى تحكيم الأصدقاء الذين يختارهم طرفا النزاع، أو يقوم مجلس الحكماء بالبت فيها … ولا يوجد محامون محترفون، وقوانينهم مجرد اتفاقات ودية، إذ لا مجال لفرض القوانين بالقوة على المعتدي الذي يحمل في عصاه قوة تدمير قضاته. وهناك عادات ونظم تعوَّد الناس منذ أجيال على الخضوع لها في صمت، وإذا شعر أي فرد أن هذا الخضوع أمر صعب عليه، ترك الجماعة من تلقاء نفسه وذهب لأي مكان آخر.

وقد استقر لديهم نوع من الاتفاق المماثل لذلك الذي قامت عليه الحياة في عائلاتنا الخاصة، وذلك حين نقول لأي فرد بالغ من الأسرة التي نستقبلها أو نستضيفها: «ابقَ أو اذهب، حسبما تعجبك عاداتنا ونظمنا أو لا تعجبك.» ومع ذلك فعلى الرغم من عدم وجود قوانين بالمعنى الذي نفهمه من هذه الكلمة، فلا يوجد جنس فوق سطح الأرض متقيد بالقانون (مثل هذه الأمة المتحضرة)، لقد صارت طاعة القانون عند هذه الجماعة أشبه بالغريزة التي غرستها الطبيعة فيهم.»

ولم تلغَ الملكية ولا النقود، ولكنهما لا تمنحان من يملكهما أي امتيازات سياسية أو اجتماعية:

«إن الفقر بين أهل «آنا» Ana (وهذا هو اسم العائلة الكبيرة التي ينتمي إليها السكان الذين يعيشون تحت الأرض) غير معروف مثله مثل الجريمة تمامًا، ولا يرجع هذا إلى أن الملكية مشتركة بينهم، أو أنهم جميعًا متساوون في حجم أملاكهم أو في ترف مساكنهم، ولكن انعدام التفاوت بين مستويات الثروة أو الوظائف من جهة الدرجة والوضع، قد جعل كلًّا منهم يتبع ميوله ونزعاته الخاصة دون حسد أو تنافس، فيحيا بعضهم حياة متواضعة، ويعيش البعض الآخر حياة تتسم بالرفاهية، ويحرص كل واحد على أن يكون سعيدًا بالطريقة التي يحبها. ونظرًا لغياب المنافسة وتحديد عدد السكان، فإنه يصعب أن تقع أسرة في محنة، فلا وجود للمخاطرات غير المحسوبة، ولا صراع بين المتنافسين بغية الحصول على ثروة أكبر أو وظيفة أعلى. ولا شك في أن كل واحد منهم كان لديه في الأصل نفس قطعة الأرض الموزعة عل الجميع بالتساوي، ولكن البعض منهم، الذين يتميزن عن غيرهم بالميل إلى المغامرة، قد مدوا حدود ملكيتهم إلى البراري المتاخمة، أو قاموا بتحسين مستوى إنتاج حقولهم الخصبة، أو دخلوا في عمليات تجارية أو حرفية. وهكذا تحتم أن يصبح بعضهم أكثر غنًى من غيره، ولكن لم يصل أحد إلى حد الفقر المدقع، ولم يشعر أحد بأنه في حاجة ماسة إلى شيء تتوق إليه نفسه. ولو حدث هذا لأي واحد منهم لأمكنه دائمًا أن يهاجر أو أن يلجأ في أسوأ الأحوال إلى الأغنياء دون خجل وبثقة تامة في مساعدتهم له، لأن أعضاء المجتمع يعتبرون أنفسهم إخوة في أسرة واحدة متحابة ومتماسكة.»
ويعلق الآنا٩ أهمية كبيرة على التقدم العلمي، ولديهم أيضًا «بيت سليمان»،١٠ ولكن ليتون يزوِّد هذا البيت بهيئة تدريس كاملة من النساء، ربما لكي ينتقم من احتقار الفيكتوريين للقوى العقلية للنساء:

«كانت المهمة الرئيسية للحاكم الأسمى هي الاتصال بعض الأقسام النشطة المنوطة بالإشراف الإداري على بعض الأمور التفصيلية الخاصة. وكانت أهم هذه الأمور تتعلق بتوفير الإضاءة. وكان هناك قسم آخر، يمكن أن يطلق عليه اسم القسم الخاص بالأجانب، ويتصل بالدول الشقيقة المجاورة لإبلاغها بكل الاختراعات الجديدة، وقسم ثالث تُحال إليه كل الاختراعات والتحسينات الآلية لتجربتها. ويرتبط بهذا القسم معهد للحكماء، وهو معهد يفضل الالتحاق به الأرامل من سكان آنا والذين ليس لديهم أطفال، وكذلك الشابات غير المتزوجات … ويقوم الأساتذة من النساء في هذا المعهد برعاية تلك الدراسات التي يندر استعمالها ندرة شديدة في الحياة العملية — مثل الفلسفة التأملية، وتاريخ العصور القديمة، وبعض العلوم مثل علم الحشرات، وعلم الرخويات … إلخ — ولكن أبحاث الحكماء ليست مقصورة على مثل هذه الدراسات الدقيقة أو الأنيقة. فهي تشمل أبحاثًا أخرى متنوعة وأكثر أهمية، لا سيما خصائص الفريل التي تهتم بها الأستاذات في المعهد المذكور غاية الاهتمام، يساعدهن على ذلك جهازهن العصبي الشديد الحساسية. ومن هذا المعهد يختار التور أو الحاكم الرئيسي ثلاثة من المستشارين، وذلك في الحالات النادرة التي تربكه فيها الأحداث المستجدة أو الظروف الطارئة.»

ويتم حل مشكلة العمل، التي طالما شغلت بال الكُتَّاب اليوتوبيين، بسهولة شديدة عن طريق الاستخدام المكثف للآلات، وعن طريق الإنسان الآلي (الروبوت) الذي يظهر هنا لأول مرة كخادم للإنسان قبل أن يصبح شيئًا مألوفًا في اليوتوبيات المتأخرة. ومن الغريب أن يُعْهَد إلى الأطفال بمهمة القيام بالأعمال المملة الشاقة أو الخطرة. ومن الواضح أن فكرة تكليف الأطفال ﺑ «الأعمال القذرة» فكرة مستعارة من فورييه الذي اعتقد أن الغرائز المدمرة وحب القذارة اللذين نلمسهما لدى عدد كبير من الأطفال يجب أن يستغلا في شيء نافع، وذلك بتكليفهم بالعمل الذي هيأتهم له الطبيعة. وقد كان الأطفال في تعاونيات فورييه «يوزعون في حشود صغيرة، ويستيقظون في حوالي الثالثة صباحًا، فينظفون حظائر الحيوانات، ويعملون في المذابح … وتقوم هذه الحشود الصغيرة بالإصلاحات الطارئة للطرق السريعة، أي بالصيانة اليومية للطرق العلوية، وتتأكد من عدم وجود زواحف مؤذية أو ثعابين وأفاعٍ سامة بالقرب من الطرق السريعة.»

أما مجموعات الأطفال في يوتوبيا ليتون فتقوم بكل هذه المهام بالإضافة إلى مهام أخرى عديدة، والواقع أنهم ينجزون معظم العمل على أساس أن الأطفال أكثر نشاطًا من البالغين، ولكن عملهم من النوع الخفيف على الدوام، لأنهم يستطيعون استخدام الآلات والفريل:

«وتستخدم الآلات على نطاق واسع لا يمكن تخيله في كل الأعمال داخل البيوت وخارجها، والشغل الشاغل للقسم المكلف بإدارتها هو تعميم استخدامها بكفاءة. ولا توجد طبقة من العمال أو الخدم، بل يقوم الأطفال بجميع الأعمال المطلوبة لتسيير الآلات أو التحكم فيها، وذلك بدءًا من السن التي يستغنون فيها عن رعاية أمهاتهم وحتى سن الزواج، وهي التي يحددونها بالسادسة عشرة للجي آي Gy Ei (الإناث) والعشرين للآنا Ana (الذكور). ويوزع هؤلاء الأطفال في مجموعات وأقسام تحت إشراف رؤسائهم، بحيث يمارس كل منهم الحرفة التي يجد أنها محببة إلى نفسه، أو التي يشعر بأنها تناسبه أكثر من غيرها، وهكذا يتجه بعضهم للحرف اليدوية، والبعض للزراعة، والبعض للأعمال المنزلية، والبعض للخدمات الوحيدة الخطرة التي يتعرض لها السكان، لأن الأخطار الوحيدة التي تهدد هذه القبيلة هي قبل كل شيء تلك التقلصات الطارئة التي تحدث داخل الأرض، والتنبؤ بها والوقاية منها يحتاجان منها إلى الحد الأقصى من البراعة، وكذلك الانفجارات النارية والمائية، والأعاصير التي تهب تحت الأرض، والغازات المتسربة. وهناك مراقبون يقظون واقفون على الحدود، وفي كل الأماكن التي يمكن أن تصل إليها مثل هذه الأخطار، مزودين بوسائل الاتصال البرقي بالقاعة التي يعقد فيها الحكماء المختارون جلساتهم الدائمة بالتناوب. ويتم اختيار هؤلاء المراقبين من الصبية الذين اقتربوا من سن البلوغ، على أساس أن الملاحظة في هذه السن تكون شديدة الحدة، كما أن القوى الجسدية تكون أكثر نشاطًا منها في أي سن أخرى. والخدمة الثانية التي تقل خطرًا عما سبق هي القضاء على كل المخلوقات المعادية لحياة «الأنا» أو زراعتهم، أو المقلقة لراحتهم. وأفظ هذه المخلوقات هي الزواحف الضخمة، التي يُحتفَظ ببقايا عدد منها في متاحفنا، وبض المخلوقات العملاقة المجنحة، ونصفها على شكل طيور، ونصفها الآخر على هيئة زواحف، ويترك للصبية صيد هذه المخلوقات وتدميرها، بالإضافة إلى حيوانات أقل منها توحشًا وتناظر عندنا النمور أو الأفاعي السامة، والسبب في هذا، في رأي «الأنا»، أن القسوة هنا مطلوبة، وأن الطفل كلما كان أصغر في السن كان أكثر قسوة في التدمير.»

قدَّم فورييه لحشوده الصغيرة مكافآت ضئيلة على أساس أن الأطفال يقومون بالأعمال البغيضة بسبب حماسهم الوطني وتفانيهم في سبيل المجتمع، واعتبرهم «كائنات محبة للبشر تزدري الثروة وتكرس نفسها للعمل الكريه الذي تؤديه باعتباره عملًا مشرفًا». أما ليتون فكان أكثر أريحية في تعامله مع الأطفال، فهم يتقاضون مرتبات عالية، وعندما يبلغون سن الرجولة يكونون قد جمعوا رأس مال يكفيهم لكي يقضوا بقية حياتهم متعطلين إذا رغبوا في ذلك:

«قلت إن كل العمل البشري الذي تحتاج إليه الدولة يقوم به الأطفال حتى بلوغهم سن الزواج. وتدفع الدولة مقابل هذا العمل أجرًا أعلى بكثير من الأجور التي يُكافَأ بها العمال حتى في الولايات المتحدة. ومن حق كل طفل، ذكرًا كان أو أنثى، أن يتوافر لديه عند بلوغ سن الزواج وانتهاء فترة العمل قدر كافٍ من المال يساعده على أن يحيا حياة مستقلة. ولما كان جميع الأطفال ملزمين بالعمل بصرف النظر عن ثروة آبائهم، كذلك ينبغي أن تُدفَع أجورهم بشكل متساوٍ حسب أعمارهم المختلفة أو طبيعة عملهم. وعندما يختار الآباء أو الأصدقاء الاحتفاظ بطفل لخدمتهم الخاصة، فعليهم أن يدفعوا للخزانة نفس الراتب الذي تدفعه الدولة للأطفال الذين تستخدمهم، ويسلم هذا المبلغ من المال للطفل عندما تنتهي مدة خدمته. ولا شك أن هذا الإجراء يجعل مفهوم المساواة الاجتماعية مفهومًا مألوفًا ومقبولًا.»

ويعد وضع النساء وضعًا غير عادي، لأن النساء في هذه الأمة التي تحيا تحت الأرض أقوى من الرجال من الناحية الجسمانية، كما أنهن أكثر منهن براعة في استخدام «الفريل». وهن يستطعن إذا أردن أن يدمرن كل الذكور، ولكن هذا لن يكون في مصلحتهن، ولهذا فهن يتمنعن حتى عن إظهار قوتهن الفائقة خشية أن يرتاب فيهن الرجال ويهجروهن. وتحرص النساء على حقهن في اختيار أزواج المستقبل والتودد لهم، وعندما يتزوجن الرجال الذين اخترنهم يفعلن كل ما في وسعهن لإسعادهم، بل ويمتثلن لطاعتهم، لا من منطلق الواجب الأخلاقي، ولكن لأنهن يعلمن أن هذه هي أفضل وسيلة للاحتفاظ بأزواجهن. ويصبح هذا أمرًا ضروريًّا إذا عرفنا أن قوانين الزواج لا تُلزم بارتباط الرجل والمرأة إلا لفترة محدودة. ولا بد أن هذه الطريقة الحرة التي تعامل بها اللورد ليتون مع العلاقات بين الجنسين، ومع الزواج والطلاق، قد بدت عند ظهور الرواية مسألة غير أخلاقية (هذا لو كان قد أُخِذ على محمل الجد).

ولكن لعل من الأمور المسلية أن نرى كيف أصبح وضع النساء اليوم في إنجلترا وأمريكا مشابهًا لوضعهن في مجتمعه الذي يعيش تحت الأرض …

وتشبه «النزعة اللاأخلاقية» التي يعرضها الكتاب موقفنا الحديث في هذه الأيام أكثر مما تشبه مثيلتها في القرن التاسع عشر، عندما كانت المبادئ الأخلاقية الصارمة، والحب الفياض للإنسانية هما الأسلوب السائد. ولا يتحدث ليتون عن «الحقوق الطبيعية» أو عن «قانون الطبيعة»، وإنما يعلن أن «من السخف الكلام عن حقوق، حيث لا توجد في مقابلها القوى التي تعززها وتدعمها». وهذه القاعدة التي تطبق على نطاق واسع، وبخاصة في الحياة السياسية، يندر الاعتراف بها صراحة في مجتمعنا. ومن ناحية أخرى، نجد أن الأخلاق التي يسير عليها «الجنس القادم» تقوم بشكل صريح على القوة؛ فهم يعاملون رفاقهم المساوين لهم معاملة أخوية، لأنهم جميعًا قادرون على استخدام «الفريل»، ولكنهم لا يشعرون بأي ندم لقتل البرابرة، أي أولئك الذين لم يكتشفوا سر استخدام «الفريل»، ولا يقوون على الدفاع عن أنفسهم. وهم في هذا يشبهون بشكل ملحوظ تلك الأمم المتحضرة وغير اليوتوبية، التي تلتزم بسلوك معين تجاه غيرها من الأمم القوية، وبسلوك مختلف تمام الاختلاف تجاه الأجناس المتخلفة.

والواقع أن اللورد ليتون يصبح أقل إقناعًا عندما يعرض النظرية التي تقول إن أفضل وسيلة لتجنب الصراع هي أن يكون كل فرد مدججًا بالسلاح من قدميه إلى أسنانه. وهذه النظرية المتفائلة هي التي أخذ بها صناع السلاح، لأسباب واضحة، كما أخذ بها أيضًا بعض المفكرين من خلال التمنيات الطيبة، حين عبروا، أيام اكتشاف القنبلة النووية، عن اعتقادهم أنه عندما تصبح كل الأمم قادرة على صنع هذا النوع من القنابل، فلن تقدم أمة واحدة على الانتحار باستخدامها، وأن العالم سوف يشهد نهاية الحروب. ولكن تجربة الماضي تدلنا لسوء الحظ على أنه حتى لو تحقق نوع من توازن القوى، فلن يخلو الأمر من وجود أناس على استعداد للمقامرة بحياتهم أو حياة الآخرين.

إن «الجنس القادم» تنتمي لذلك النوع من الروايات اليوتوبية التي لا يمكن أن يعاملها أي واحد من الاشتراكيين العلميين إلا بالاحتقار الشديد، وذلك إذا وافق أصلًا على أن يقرأ مثل هذا الأدب البرجوازي الصغير … والمؤكد أن محاولة التوفيق بين بعض المبادئ الاشتراكية وبين المبدأ الذي تقوم عليه الرأسمالية وهو «دعه يعمل»، لا بد أن تبدو محاولة شديدة الغرابة. ويُحتمَل أن يكون ليتون قد استعار من وليم جودوين،١١ الذي أثر فيه تأثيرًا كبير في شبابه، فكرة المجتمع بلا دولة، الذي يتكون من اتحاد فيدرالي يجمع بين مجتمعات صغيرة ومستقلة، كما استعار من فورييه بعض أفكاره المتعلقة بالعمل، كالاحتفاظ بالأرباح، وموقفه الليبرالي من المتعطلين. والنتيجة التي تمخضت عنها هذه المؤثرات المتصارعة هي المجتمع الذي يعتبر بالمساواة من ناحية المبدأ، ولكن الأرباح فيه تتكون من رأس المال، ومِن ثَم يبقى الاستغلال قائمًا، والثروة لا تمنح الأغنياء أي سلطة، ومِن ثَم فهي غير مفسدة، كما لا توجد حكومة تدافع عن مصالح الطبقة المميزة. ومع ذلك فنحن أمام رواية يوتوبية خيالية، ومن الطبيعي ألا تخلو من التناقضات الضرورية. ولكن على الرغم من هذه التناقضات، وربما بفضلها، فإن «الجنس القادم» أقل غباءً من معظم اليوتوبيات العلمية في القرن التاسع عشر.

(٣) إدوارد بيلامي١٢ (١٨٥٠–١٨٩٨م): «التطلع للوراء»

إذا كانت «التطلع للوراء» — على الرغم مما ينطوي عليه عنوانها من مفارقة — رواية خيالية تدور حول المستقبل، فهو مستقبل أصبح مألوفًا لنا بالفعل. فتأميم الصناعة، وتعبئة العمالة، والتركيز على أهمية الطبقة الإدارية، جميعها أوضاع تتصل بالحاضر أكثر مما تنتمي إلى المستقبل، وقد كان من الممكن أن يغرينا هذا بوصف إدوارد بيلامي بأنه متنبئ أكثر من كونه يوتوبيًّا، لو لم يكن قد أخطأ خطأً فاحشًا في الاعتقاد بأن هذه التغييرات ستجلب لنا السعادة.

استقبل الرأي العام — الذي لم يكن قد جرب بعد طعم التحكم المركزي للدولة — يوتوبيا بيلامي في التسعينيات من القرن الماضي بحماس شديد. وقد ذكر بيتروكروبوتكين خلال مراجعته ﻟ «التطلع للوراء» في مجلة الثورة La Revolte في أواخر عام ١٨٨٩م، أي بعد سنتين من ظهور الكتاب في أمريكا، أن الطبعة الأمريكية للرواية بيع منها مائة وتسعة وثلاثون ألف نسخة، كما بيع من الطبعة الإنجليزية أربعون ألف نسخة، وأنها قد أدت إلى تحولات عديدة في عقائد القراء. أما مساعد داروين وشريكه، أ. ر. والاس A. R. Wallace فقد أعلن أنه كان يؤيد تأميم الأرض، ولكن كتاب بيلامي أقنعه أن الولايات المتحدة يمكن أن تتقبل الاشتراكية.

كانت طريقة بيلامي الواضحة والعملية في النظر إلى المشاكل الاقتصادية هي أحد الأسباب الرئيسية لنجاحه، بالإضافة إلى قصة الحب العاطفية التي أدمجها في نسيج وصفه لمجتمع المستقبل، ونجحت كذلك في مخاطبة ذوق العصر. وكان ييلامي أيضًا شديد الحرص على إخفاء نزعته التسلطية بحيث لا تتصادم مع الحساسيات والمشاعر الفردية للبرجوازية (الطبقة الوسطى) الأمريكية. لقد كتب كابيه يوتوبياه وهو يفكر في الطبقات العاطلة والجائعة التي افترض أنها ستهتم بالطعام والمأوى أكثر من اهتمامها برفاهية الاختيار المستقل لما تأكله وتلبسه. أما بيلامي فمن الواضح أنه كتب وعينه على الطبقات الوسطى، كما أن حرصه على اجتذاب أولئك الذين لا يفتقرون إلى المتع الأساسية للحياة، قد اضطره إلى التأكيد على عوامل جذب أخرى غير الطعام والمأوى، مثل إمكانية الإحالة إلى التقاعد في سن الخامسة والأربعين والتخلص من مشاكل البحث عن الخدم. ومن الواضح أيضًا أن الفئات المثقفة لم تكن لتقبل أي إملاء أو وصاية عليها في الأمور التي تعتقد أنها تتعلق بحريتها العقلية، ولذلك استطاع بيلامي ببراعة شديدة أن يربط بين توجيه الدولة في الأمور المتعلقة بالإنتاج والتوزيع وبين المبادرة الشخصية في شئون الأدب والفن، وأن يسمح للمهن الحرة بدرجة من الاستقلال أكبر بكثير من عمال الصناعة.

عاش المستر وسْت، بطل الرواية، في مدينة بوسطن في أواخر القرن التاسع عشر، وذلك في فترة تسبب فيها الفقر والبطالة في استشراء الاضطرابات الشديدة في مجال الصناعة. وكانت المشكلة الأساسية التي تؤرق حياة هذا الشاب الثري هي تعطل بناء البيت الذي سيقيم فيه مع زوجة المستقبل بسبب الاضطرابات المستمرة. وقد أصيب بسبب هذه المشكلة بمرض النوم، وأعد لنفسه حجرة تحت الأرض بطريقة تساعده على النوم بعيدًا عن ضوضاء المدينة. ولكنه استعان كذلك بخدمات طبيب نومه تنويمًا مغناطيسيًّا. وفي ليلة الثلاثين من شهر مايو عام ١٨٨٧م، احترق منزله تمامًا، ولما لم يكن أحد يعلم شيئًا عن الحجرة التي تقع تحت الأرض، باستثناء طبيبه الذي كان قد غادر المدينة وخادمه الذي يُحتمَل أن يكون قد مات في الحريق، فقد تُرِك غارقًا في نومه المغناطيسي حتى عام ألفين عندما تم اكتشافه في أثناء القيام ببعض أعمال الحفر والتنقيب.

ويوقظه الدكتور ليت Leete، الذي استضافه في منزله، من نومه الطويل، ويحاول بمساعدة ابنته الشابة الجميلة، أن يأخذ بيده لكي يتجاوز تجربته الغريبة، كما يحاول أيضًا أن يستثير حماسه الشديد للنظام الجديد. ونضيف إلى ما سبق — لكي نختم الجانب الرومانسي في القصة — أن إديث ليت كانت بالمصادفة هي حفيدة إديث الأخرى التي حيل بين المستر وسْت وبين الزواج منها، وذلك بسبب اضطرابات عمال البناء، ثم بسبب موته المفترض، ووقع الاثنان في الحب، ولم تمنع مشكلة السكن في هذه المرة من إتمام زواجهما. ويحصل المستر وسْت على كرسي التاريخ في كلية شوموت Shawmut في بوسطن، ويروي رواية المؤرخ قصة تجارية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن الواحد والعشرين.

وأول شيء أثار دهشة جوليان وسْت، الذي ظل رأسه مزدحمًا بأخبار الإضراب والإغلاق والمقاطعة، هو أن مشكلة العمل اختفت من المجتمع الجديد، وأنه لم يعد هناك وجود لأصحاب عمل ولا عمال. ويشرح له الدكتور ليت كيف قامت في بداية القرن العشرين ثورة اجتماعية سلمية فيقول:

«إن الاتجاه إلى تحريك دولاب العمل عن طريق التراكم المتعاظم لرأس المال وإلى الاحتكارات التي قاومها الكثيرون بشكل يائس وبلا جدوى، قد تم الاعتراف أخيرًا بمعناه الحقيقي، بوصفه عملية لا تحتاج إلا استكمال تطورها المنطقي، كي تفتح للبشرية أبواب مستقبل ذهبي.

وقد اكتمل هذا التطور في وقت مبكر من القرن الماضي عن طريق الإدماج النهائي لرأس مال الأمة برمته. وتوقفت إدارة صناعة البلاد وتجارتها من خلال الاتحادات غير المسئولة والنقابات الخاصة التي يستغلها الأشخاص على هواهم بغرض الربح، وعهد بها إلى نقابة واحدة تمثل الشعب وتدار للمصلحة العامة والربح العام. ونظمت شئون الأمة بحيث أصبحت هي مؤسسة العمل الكبرى التي تستوعب جميع المؤسسات الأخرى، وصارت هي الرأسمالي الوحيد الذي حل محل بقية الرأسماليين، وصاحب العمل الوحيد والمحتكر النهائي — الذي ابتلع كل المحتكرين السابقين والأقل منه — ووضع في يده الأرباح والمدخرات التي يشارك فيها جميع المواطنين. وباختصار، قرر أخيرًا شعب الولايات المتحدة الموافقة على النهوض بإدارة أعماله، تمامًا كما قرر قبل ذلك بمائة عام النهوض بإدارة حكومته، بحيث أصبح الآن ينظم كل شيء للأغراض الصناعية على نفس الأسس التي كان ينظمه بها للأغراض السياسية …

وعندما أصبحت الأمة هي صاحب العمل الوحيد، صار جميع المواطنين عمالًا بحكم مواطنتهم، وتم توزيعهم وفق احتياجات الصناعة … وكان الشعب قد تعوَّد بالفعل على أن إلزام كل مواطن — غير عاجز من الناحية الجسمانية — بالخدمة العسكرية للدفاع عن الأمة هو إلزام مطلق ويسري على الجميع بالتساوي. كذلك اتضح للجميع أن على كل مواطن أن يشارك بنصيبه في الخدمات الصناعية أو الخدمات العقلية للحفاظ على حياة الأمة، على الرغم من أن المواطنين لم يستطيعوا أداء هذا النوع من الخدمات بأي قدر من الشمول أو العدالة، إلا بعد أن أصبحت الأمة هي صاحبة العمل الوحيد.»

ويتم تجنيد المواطن لأحد أعمال الخدمة العامة بدءًا من انتهاء تعليمه في الواحد والعشرين حتى بلوغه الخامسة والأربعين من عمره. وكل مواطن حر في اختيار الوظيفة التي تتفق مع ذوقه وقدراته، إلا إذا توافر عدد كبير جدًّا من المتطوعين لسد احتياجات فرع معين من فروع الصناعة، وفي هذه الحالة يتم قبول أنسبهم لهذه الوظيفة. ويُبذَل جهد كبير لجعل كل الوظائف جذابة بشكل متساوٍ:

«إن مهمة الإدارة هي السعي الدائم لجعل كل الحرف جذابة بصورة متساوية، وبقدر ما تسمح به الظروف المرتبطة بالعمل، حتى تكون لكل الحرف القدرة المتساوية على جذب الأشخاص الذين يجدون في أنفسهم الميل الطبيعي إليها. ويتحقق هذا بجعل ساعات العمل في الحرف المختلفة متفاوتة تبعًا لما تتطلبه من جهد، فالحرف الخفيفة التي يتم أداؤها في ظروف ملائمة وممتعة، تحتاج إلى ساعات أطول، بينما تتطلب الحرف الشاقة المرهقة، مثل التعدين، ساعات عمل قصيرة جدًّا. وليست هناك نظرية ولا قاعدة مسبقة تحدد مدى جاذبية الصناعات المختلفة. وعندما تلجأ الإدارة لتخفيف أعباء العمل عن كاهل فئة من العمال ووضعها على كاهل فئة أخرى، فهي تستجيب بذلك لآراء العمال أنفسهم كما تحددها نسبة التطوع، والمبدأ المتبع على كل حال هو ألا يكون عمل أي إنسان أكثر مشقة من عمل أي إنسان آخر، وأن يكون العمال ذاتهم هم القضاة الذين يحكمون في هذا الأمر.»

وتحل مشكلة «من الذي سيقوم بالعمل القذر» بالإشراف على المجندين الجدد لمدة ثلاث سنوات، وفي أي مكان تحدده حاجة العمل: «ولا يسمح للشباب باختيار المهنة التي سيتخصص فيها إلا بعد انقضاء هذه الفترة التي يُعيَّن خلالها في أي عمل ويكون تحت إشراف رؤسائه دون قيد أو شرط. ولا يعفى أحد من هذه السنوات الثلاث التي يحكمها النظام الصارم.»

وفي سن الخامسة والأربعين يعفى الرجال والنساء من الخدمة ويصبحون أحرارًا في أن يشغلوا أنفسهم بما يحبون، أو أن يعيشوا بقية حياتهم متفرغين إذا فضَّلوا ذلك.

والتجديد الآخر المهم هو إقرار النظام الجديد لحق كل فرد في أن يشارك في ثروة الأمة على قدم المساواة مع كل فرد آخر، وذلك بصرف النظر عن كمية العمل الذي ينتجه. ومعنى هذا بعبارة أخرى هو إلغاء نظام الأجور، ووَضْع بيلامي للخدمة الصناعية في موازاة الخدمة العسكرية. وكما يشارك جميع أفراد الأمة في المجمع الرأسمالي بشكل متساوٍ في الحماية والرخاء اللذين يكفلهما الجيش، كذلك يشارك بقدر متساوٍ «جميع أفراد الأمة في عام ألفين سواء أكانوا رجالًا أم نساء، أقوياء أم ضعفاء، قادرين جسمانيًّا أم معوقين، في الثروة التي ينتجها الجيش الصناعي. وهذه المشاركة، التي لا تتفاوت نسبتها إلا بتفاوت الازدهار العام للعمل القومي، هي الدخل الوحيد والوسيلة الوحيدة التي يعتمد عليها الجميع في حفظ حياتهم، سواء أثناء العمل الصناعي النشط أو بعد الإعفاء منه. وطبقًا لمنهج تنظيم الصناعة على أساس الالتزام المتبادل بين الفرد والدولة، وبين الدولة والفرد، فقد حل الواجب تمامًا محل العقد، وأصبح هو القاعدة الراسخة التي ترتكز عليها الصناعة ويقوم عليها تماسك المجتمع.»

ولما كانت الأمة هي المنتج الوحيد لجميع السلع ووسائل الراحة، فقد اختفت الحاجة إلى المعاملات المتبادلة بين الأفراد: «حل نظام التوزيع المباشر من المخازن الأهلية محل التجارة، وبطلت الحاجة في ذلك النظام إلى أي نقود.» ويتم التوزيع وفق خطة مبسطة للغاية: «يعطى كل مواطن سلفة تناسب حجم مشاركته في الإنتاج السنوي للأمة وتثبت في السجلات العامة مع بداية كل عام، وتسلم له بطاقة معتمدة بهذه السلفة يمكنه بواسطتها أن يحصل من المخازن العامة الموجودة في كل التجمعات على كل ما يشاء وفي أي وقت يشاء. وهذا الإجراء يلغي إلغاءً تامًّا أي نوع من أنواع التعامل التجاري بين الأفراد والمستهلكين.» وتصدر هذه البطاقة مقابل عدد من الدولارات، وقد احتُفِظ بالكلمة القديمة التي تدل عليها، غير أنها أصبحت تستخدم «كرمز جبري لمقارنة قيم المنتجات بعضها ببعض». والسلفة التي توفرها البطاقة تسمح بتلبية جميع الاحتياجات الضرورية، بل وتسمح بعدد كبير من أسباب الترف والرفاهية، فإذا احتاج مواطن في ظرف استثنائي لإنفاق مبلغ إضافي، أمكنه أن يحصل على مبلغ تحت الحساب من سلفة العام التالي «على الرغم من عدم تشجيع هذا الإجراء، ومن تحصيل خصم كبير للحدِّ منه.»

وكل مواطن حر في إنفاق المبلغ المقرر له كما يريد: «ومع أن الدخل واحد، فإن الذوق الشخصي هو الذي يحدد طريقة إنفاقه. فالبعض يحبون الخيول الجميلة، والبعض الآخر يميل إلى الملابس الأنيقة، وهناك من يفضل المآدب الشهية الفاخرة. وتتفاوت الإيجارات التي تحصِّلها الأمة عن هذه المنازل تبعًا لحجمها، وأناقتها، وموقعها، بحيث يستطيع كل فرد أن يجد ما يناسبه.» ولا يحاول أحد أن يتباهى على غيره بمسكنه أو ملبسه؛ «لأن دخل كل فرد معروف، كما أن ما ينفقه في شيء يجب أن يوفره في شيء آخر.» ومن جهة أخرى لا يحتاج الناس، بسبب ثراء الأمة، إلى حرمان أنفسهم من أي شيء طيب، ولم يعد الاقتصاد الشديد يعتبر فضيلة.

ويتم التسوق بأكمله من المخازن الأهلية التي تسير على نظام شديد الكفاءة (وإن كان يفتقر بعض الشيء إلى الطابع الشخصي) ولا يوجد بائعون أو بائعات، بل مجرد موظفين يتلقون الطلبات ويثقبون قيمة السلع المشتراة على البطاقة المعتمدة. ولا يتوقع منهم معرفة مزايا السلع ولا إطراؤها، لأن كل المعلومات التي يحتاج إليها العميل مطبوعة طباعة أنيقة على البطاقة الملصقة بالعينات المعروضة. وتدار المحلات وفق النظام المتبع في معارضنا للسلع المطروحة للبيع، وترسل الطلبات إلى المخزن المركزي للمدينة حيث يتم تجهيزها وشحنها، بواسطة أنابيب هوائية، إلى الأحياء المختلفة في المدينة ثم توزع على المنازل. وتعد العينات المعروضة في محل بأصغر قرية نسخة دقيقة من المحل الموجود بالمدينة، وهي تضع منتجات من شتى السلع المتنوعة تحت تصرف الشعب. «ومحلات عرض العينات في القرى مربوطة بالمستودع المركزي للمقاطعة الذي يمكن أن يكون على بعد عشرين ميلًا منه.» ولكن رسائل النقل تبلغ حدًّا كبيرًا من السرعة بحيث إن الوقت اللازم لذلك يعد ضئيلًا.

ويمكن تناول وجبات الطعام في المنازل أو المطاعم العامة، التي تعادل في فخامتها «أركان ليون» عندنا، كما تستطيع كل أسرة في الحي، نظير إيجار سنوي بسيط، أن يكون لها ركن منفرد يقتصر استخدامه بصفة مستمرة عليها.

وليس الناس مضطرين لإنفاق حصتهم في الولايات المتحدة وحدها، بل يمكنهم كذلك الاستفادة منها في أوروبا، وأستراليا، والمكسيك وأجزاء من أمريكا الشمالية التي تعد جمهوريات صناعية مثل الولايات المتحدة: «تعد البطاقة الأمريكية المعتمدة صالحة للاستخدام في أوروبا صلاحية الذهب الأمريكي فيما سبق، وبنفس الشروط تمامًا، وهي أنه يمكن استبدالها بالعملة السائدة في البلد الذي تسافر إليه. فالأمريكي الذي يسافر إلى برلين يسلم بطاقته المعتمدة للمكتب المحلي التابع للمجلس العالمي، ويتسلم في مقابلها أو مقابل جزء منها بطاقة ألمانية، ويُخصَم المبلغ من الولايات المتحدة لمصلحة ألمانيا على الحساب الدولي.»

ويمكن استخدام البطاقة المعتمدة أيضًا في استئجار العمالة من الدولة، وعلى الرغم من اختفاء الخدم منذ وقت طويل، فإن من الممكن الحصول على عمال النظافة أو عمال الديكور من مكتب «تبادل العمالة» إذا احتاج أحد المنازل إلى تنظيف. وربما كان الأهم من ذلك أن الشعب يمكنه أن يملك صحفه وجرائده عن طريق اشتراك كل فرد بدفع مبلغ معين من المال يغطي تكلفة الإنتاج، ويُعفَى المحرر الذي وقع عليه الاختيار من الخدمة الصناعية في أثناء توليه منصبه؛ لأن «المشتركين يدفعون للأمة تعويضًا مكافئًا لتكاليف إعالته وإعفائه من الخدمة العامة».

ويمكن أيضًا عن طريق البطاقة المعتمدة استئجار الكنائس ورجال الدين. وفي هذا يقول الدكتور ليت:

«لقد تغيرت بطبيعة الحال الممارسات الدينية للشعب بعد مرور قرن تغيرًا ملحوظًا. وحتى لو افترضنا أنها لم تتغير، فإن نظامنا الاجتماعي يمكنه أن يعدلها تعديلًا كاملًا. وتزود الأمة كل شخص أو مجموعة من الأشخاص بالمباني على سبيل الإيجار، ويبقون مستأجرين ما داموا مواظبين على دفع الإيجار. أما عن رجال الدين، فإن أي مجموعة من الأشخاص تحتاج لخدمات فرد معين منهم لأي غرض أو مناسبة خاصة، بعيدًا عن الخدمة العامة للأمة، يكون في إمكانها دائمًا الحصول عليها، وذلك بعد موافقة هذا الفرد بطبيعة الحال، وكما يحدث تمامًا مع توفير خدمة المحررين، وذلك بالمشاركة — من خلال بطاقاتهم المعتمدة — في دفع تعويض للأمة عن خدماته في الصناعة العامة. وهذا التعويض الذي يدفع للأمة يطابق المرتب الذي تدفعونه اليوم للفرد ذاته؛ كما أن التطبيقات المختلفة لهذا المبدأ تسمح للمبادرة الشخصية بأداء دورها أداءً كاملًا، وذلك في كل الحالات التي لا يطبق عليها التوجيه (المركزي) العام للأمة.»

ويمثل المؤلفون والفنانون فئة خاصة؛ لأن بإمكانهم استخدام بطاقاتهم المعتمدة في إصدار كتاب، أو إنتاج عمل فني، ومن حقهم الحصول على حقوق الملكية التي يوفرها بيع عملهم.

يتبين من هذا ومما سبق قوله أن اشتراكية الدولة عند بيلامي تسمح بدرجة من الحرية الشخصية أكبر مما نجد في معظم اليوتوبيات الأخرى القائمة على نفس المبادئ. غير أنها هي الحرية التي يمكن أن تمنح للمجندين بمجرد تجنيدهم، كما أن «المعارضين من أصحاب الضمير» يحرمون من كل ما توفره الدولة. وإذا رفض إنسان سلطة الدولة واعترض على حتمية الخدمة الصناعية، فإنه يفقد كل حقوقه ككائن بشري: «إن وصف الخدمة بأنها إجبارية ربما يكون تعبيرًا ناقصًا عن حتميتها المطلقة. ويعتمد نظامنا الاجتماعي بأسره على هذه الحتمية ويترتب عليها، بحيث إذا تصورنا إمكان هروب أي إنسان منها، فإن معنى هذا أن يُترَك دون أي وسيلة توفر له الحياة. وسيكون عندئذٍ قد ابتعد بنفسه عن العالم واعتزل بني جنسه، أي يكون باختصار قد أقدم على الانتحار.»

نتبين من هذا أن كل مواطن في المجتمع الجديد ملزم باحترام العقد الذي أبرمته الأجيال السابقة مع الدولة. وليس ثمة وسيلة لمراجعة مثل هذا العقد، لأن الطبقة العاملة محرومة من كل الحقوق السياسية. ورئيس الولايات المتحدة، وهو كذلك القائد العام للجيش الصناعي، والمسئول عن تطبيق القوانين على كل الطبقات، لم يتم انتخابه من قبل الجيش الصناعي، لأن هذا يعدُّ إساءة للنظام، بل من قبل الأعضاء المحالين إلى التقاعد. ومعنى هذا أن الرجال والنساء حتى سن الخامسة والأربعين لا يملكون حق التصويت، وأن الجيل الأكبر سنًّا هو الذي يحكمهم.

وبينما يشارك كل مواطن بالتساوي في ثروة الأمة، تتألف الطبقة الحاكمة من رجال متميزين بقدرتهم في مجال العمل الصناعي. وتشكل هذه الأرستقراطية الصناعية ما أطلق عليه جيمس برنهام J. Burnham اسم «طبقة المديرين». ويرى بيلامي أنه يجب أن تُمنَح ألقاب الشرف، والامتيازات، والمناصب الرفيعة والسلطة في الجيش الصناعي وفي الأمة، للرجال والنساء تبعًا لاجتهادهم وتفوق إنجازهم، وذلك حتى تنتهي القيادة والحكم للأنسب منهم. ومكافأة الإنجازات في الميدان الصناعي لا توفر طبقة إدارية فحسب، وإنما تبعث كذلك على بذل أقصى جهد ممكن. وبينما كان الدافع الأساسي على هذا في الماضي هو الرغبة في الحصول على الثروة، فإن الناس في المجتمع الجديد يسعون للوصول إلى مواقع السلطة. والمنافسة هنا، كما في الجيوش العسكرية، هي التي تدفع الناس على الترقي إلى مناصب القيادة:

«يمتد خط الترقية عبر ثلاث مراتب حتى مرتبة ضابط، ثم من ملازم أول إلى القيادة، أو الرئاسة، أو الإشراف أو درجة عميد. ثم يأتي مع مرتبة أخرى إضافية في بعض المهن الأوسع نطاقًا قائد الطائفة المهنية، الذي يشرف مباشرة على كل العمليات الخاصة بالمهنة. ويكون هذا القائد على رأس المكتب الأهلي الذي يمثل مهنته، وهو المسئول أمام الإدارة عن عمله. ويحتل قائد الطائفة مركزًا مرموقًا، وهو مركز يحقق طموح معظم الناس، ولكن الرتبة الأعلى هي رتبته، التي يمكن مقارنتها — إذا أخذنا بالتشبيهات العسكرية المألوفة لكم — برتبة قائد الكتيبة أو برتبة اللواء، وهي رتبة الرؤساء العشرة للأقسام أو المجموعات الكبرى للمهن المتحدة. ورؤساء هذه الأقسام العشرة الكبرى للجيش الصناعي يمكن مقارنتهم بقواد جيوشكم، أو لواءاته، وكل واحد منهم يتبعه من اثني عشر إلى عشرين قائدًا من المهن المختلفة يقدمون له تقاريرهم. وعلى رأس هؤلاء الضباط العشرة الكبار، الذين يشكلون المجلس الذي يشرف عليه، يتربع القائد الأعلى، وهو رئيس الولايات المتحدة.»

أما الذين لا يتطلعون لمراكز السلطة لمجرد الطمع في النفوذ الذي تتيحه لهم، فتوفر لهم امتيازات أكبر:

«وبجانب الحافز الأكبر على بذل الجهد، وهو الذي تؤكده حقيقة أن المراكز الرفيعة في الأمة متاحة لأفراد الطبقة العالية فحسب، هناك أيضًا حوافز مختلفة من نوع أقل — وإن لم تقل عن ذلك الحافز الأكبر تأثيرًا — وتتخذ شكل امتيازات وحصانات خاصة تعزز النظام الذي يرعاه أبناء الطبقة العليا. ومع أن هذه الحوافز الأخيرة في جملتها ليست بذات أهمية كبيرة، إلا أنها تنبه كل إنسان إلى ضرورة السعي للارتقاء إلى مرتبة أعلى.»

ومن جهة أخرى يُعاقَب من يخرجون على نظام الجيش الصناعي عقابًا شديدًا: «لأن التراخي في العمل، والعمل السيئ، أو الإهمال الصريح من قبل أناس عاجزين عن البذل بسخاء، لا يمكن أن يسمح به النظام الصارم للجيش الصناعي. أما الإنسان القادر على أداء الواجب، ومع ذلك يصرُّ على الامتناع عنه، فإنه يُستبعَد تمامًا من المجتمع البشري.» ويستلزم التسلسل في المراتب وجود آلية بيروقراطية ضخمة، كما يستلزم الإبقاء على نظام العمل بالقطعة الذي كان يتوقع اختفاؤه مع إلغاء الأجور:

«ولتيسير اختبار الكفاءة يتبع العمل الصناعي كله — حيثما كان ذلك ممكنًا ومهما ترتب عليه من أضرار — نظام العمل بالقطعة، فإذا استحال ذلك تمامًا، يُستبدَل به أفضل نظام ممكن لتحديد القدرات. ويخضع العاملون سنويًّا للفحص، بحيث لا تحتاج الجدارة للانتظار طويلًا حتى تظهر للوجود، ولا يمكن الركون للإنجازات السابقة، وإلا هبطوا إلى المرتبة الأدنى. وتنشر في الجريدة الرسمية نتائج الفحص السنوي الذي يحدد وضع جميع العاملين في الجيش (الصناعي).»

وخارج الجيش الصناعي يتمثل الحافز التشجيعي في الأوسمة: «فالشرف الأسمى في الأمة، حتى من الرئاسة، وهو الذي يعبر عن الذوق السليم والتفاني في أداء الواجب، هو الوشاح الأحمر الذي يُمنح، بعد استفتاء شعبي، لكبار المؤلفين والفنانين والمهندسين وعلماء الطبيعة والمخترعين من أبناء الجيل. ولا يجوز أن يحمل هذا الوشاح أكثر من مائة شخص في وقت واحد، على الرغم من أن كل شاب نابه في البلاد يقضي الليالي الطويلة ساهرًا يحلم به.»

وتتولى مهمة الإنتاج والتوزيع في البلاد إدارة مركزية، ويستحيل في رأي بيلامي أن تحدث أي أخطاء، وذلك بفضل بساطة القوانين وحكمتها، ولأن العمل الإداري كله في أيدي «خبراء». وقد أُلِغيت الحكومات المحلية خشية تدخلها في نظام الجيش الصناعي الذي يتطلب بطبيعة الحال أن يكون مركزيًّا وموحدًا.

وقد تم تبسيط المهام الحكومية إلى حدٍّ كبيرٍ مع اختفاء الجيش والبحرية، ووزارتي الدولة والمالية، والضرائب ومحصليها. ومع ذلك فلم يصل مجتمع بيلامي المثالي إلى حد الاستغناء عن الشرطة والقضاء، على الرغم من تخفيض أعدادهما وواجباتهما — كما يؤكد ذلك — إلى الحد الأدنى. كذلك اختفت السجون لأن كل حالات «النكوص» يتم التعامل معها في المستشفيات … ولا بد أيضًا أن نشير إشارة عابرة إلى إلغاء نظام المحلفين وتعيين القضاة من قبل الرئيس، ومن بين المواطنين الذين تتجاوز أعمارهم الخامسة والأربعين.

إن إيمان «بيلامي» غير المحدود بحكمة «الخبراء» و«الإدارة» لا يعادله إلا ثقته في التقدم التقني. ويبدو أنه تصور أن سعادة الإنسان تكمن في ازدياد كمية السلع الاستهلاكية، وفي مطاعم أكبر وأفضل، وفي سرعة تسلم السلع من المخازن، وفي ناطحات السحاب والشوارع المغطاة بمادة عازلة للماء خلال الطقس السيئ. و«اختراعات» بيلامي، مثل اختراع الموسيقى عن طريق الهاتف، تعد اليوم مسلية لنا باعتبارها توقعات مشوقة. وإذا كانت الفقرة التالية تشعرنا بحسن حظنا حين نعرف مدى حماس إنسان من القرن التاسع عشر لاختراع نعتبره اليوم أمرًا مفروغًا منه، فإننا نشعر أيضًا أن السعادة لا يمكن بعد كل شيء أن تتولد عن التقدم التقني وحده:

«قالت: «تعالَ، إذن، إلى حجرة الموسيقى.» وتبعتها إلى ركن مجهز بالخشب، خالٍ من الستائر، وأرضيته من الخشب المصقول. كنت قد تهيأت لرؤية آلات موسيقية جديدة، ولكنني لم أرَ شيئًا في الحجرة يمكن أن يوحي بهذا. وكان من الواضح أن مظاهر الاندهاش والحيرة التي بدت على وجهي قد أمتعت إديث متعة شديدة.

«انظر إلى موسيقى هذه الأيام.» قالت هذا وهي تسلمني بطاقة. ثم أضافت قائلة: «وأخبرني ماذا تفضل سماعه. تذكر أن الساعة الآن تبلغ الخامسة.»

كانت البطاقة تحمل تاريخ «١٢ سبتمبر سنة ٢٠٠٠»، وتتضمن أطول برنامج موسيقي عرفته في حياتي. وكان البرنامج متنوعًا بقدر ما كان طويلًا، فقد احتوى على صف غريب من الأعمال الصوتية والآلية من عزف منفرد وثنائي ورباعي ومؤلفات أوركسترالية متنوعة. ووقفت حائرًا أمام القائمة المذهلة حتى أشارت إديث بطرف أصبعها المصبوغ بالأحمر لقسم خاص، حيث وُضِعت أقسام عديدة بين أقواس ومعها هذه الكلمات: «الخامسة بعد الظهر»، ولاحظت بعد قليل أن هذا البرنامج المدهش مخصص ليوم كامل وموزع على الساعات الأربع والعشرين. ولم أجد أمام القسم الخاص بالساعة الخامسة سوى بعض القطع الموسيقية القليلة، فأشرت إلى قطعة للأرغن فضلتها على غيرها.

طلبت مني أن أجلس على كرسي مريح، ثم عبرت الغرفة، ولمست مفكًّا أو اثنين، وفي الحال امتلأت الغرفة بموسيقى لحن عظيم منبعث عن الأرغن، أقول امتلأت ولا أقول تدفقت، لأن النغم كان متجانسًا تجانسًا كاملًا مع مساحة الحجرة. أنصت حتى الختام وأنا أتنفس بصعوبة، فلم أتوقع أبدًا سماع مثل هذه الموسيقى الكاملة الأداء.

ولما تكسرت موجة الصوت الأخيرة وانحسرت لتتلاشى في الصمت صحت قائلًا: عظيم. لا بد أن «باخ» نفسه هو الذي لمس مفاتيح الأرغن … ولكن أين الأرغن نفسه؟

قالت إديث: «انتظر لحظة من فضلك، فأنا أريد منك أن تستمع إلى هذا الفالس قبل أن تسأل أي أسئلة. أعتقد أنه ساحر إلى أكمل حد.» وبينما هي تتحدث غمر أنحاء الحجرة صوت الكمان ممتزجًا بسحر ليلة صيف. وعندما توقف الصوت قالت: «ليس في هذه الموسيقى شيء غامض كما تتصور. فلم يصنعها عفريت أو جان، بل أيدٍ بشرية طيبة وأمينة وشديدة البراعة. لقد طبقنا ببساطة فكرة الاقتصاد في الجهد، عن طريق التعاون بيننا، على الموسيقى كما طبقناها على كل شيء آخر. هناك في المدينة عدد من القاعات المجهزة للموسيقى، وهي مكيفة تكييفًا كاملًا لجميع أنواع الموسيقى. وهذه القاعات المتصلة هاتفيًّا بجميع البيوت في المدينة مقابل رسوم بسيطة، وتأكد أنه لم يتخلف أحد من السكان عن الاشتراك. والفرق الموسيقية الملحقة بكل قاعة تتألف من عدد كبير من العازفين، بحيث يستمر البرنامج اليومي على مدار الأربع والعشرين ساعة، على الرغم من أن كل عازف منفرد أو مجموعة من العازفين لا يؤدون سوى دور بسيط في البرنامج. وتجد على بطاقة هذا اليوم، إذا دققت النظر بإمعان، برامج مميزة لأربع حفلات من هذا النوع، ولكل منها نظام موسيقي مختلف عن الأخرى، وهي تُعزَف الآن في وقت واحد، ويمكنك أن تستمع إلى أي قطعة تفضلها من القطع الأربع بالضغط على الزر الذي يصل سلك منزلك بالقاعة التي يتم فيها العزف. وقد تم تنسيق البرامج بحيث تتيح القطع الموسيقية التي تُؤدَّى في نفس الوقت في القاعات المختلفة فرصة الاختيار، لا بين الأصوات والآلات فحسب، بل كذلك بين شتى البواعث الوجدانية من حزن إلى فرح، حتى تناسب كل الأذواق والأمزجة.»

قلت لها: «يبدو لي يا آنسة أننا لو كنا استطعنا توفير الموسيقى لكل إنسان في بيته، وراعينا أن تكون كاملة من حيث الكيف، وغير محدودة من حيث الكم، وملائمة لكل الأمزجة، وقابلة لتشغيلها وإيقافها حسب الرغبة، لاعتبرنا أننا قد بلغنا غاية السعادة البشرية، وتوقفنا عن السعي لأي إصلاحات أخرى …»»

إذا كنا نشعر بالارتياب في السعادة التي يمكن أن تجلبها لنا الاختراعات التقنية، فمن الصعب أن نتحمس للحل الذي قدمه «بيلامي» لمشكلة العمل. وبصرف النظر عن الحقيقة التي أثبتت التجربة الحديثة صحتها، وهي أن التعبئة أو السخرة الصناعية لا تسير أمورها دائمًا بسلاسة كما كان يأمل، فإن تنظيمه الصارم لحياة الناس لم يحسب حساب الفروق الفردية في التكوين النفسي والمزاجي. ومن الصعب أن نفهم لماذا يلزم كل فرد بأن يدرس حتى سن الحادية والعشرين، بينما يفضل الكثيرون الارتباط بمهنة أو حرفة معينة، ولماذا يتحتم أن يتقاعد الناس في سن الخامسة والأربعين، في حين أن العديد منهم يبدءون في جَنْي ثمار التجربة التي اكتسبوها في شبابهم؟ أضف إلى هذا أننا نشعر بأننا غير مستريحين للفكرة التي تقول إننا سنصبح قادرين — بعد ثلاث سنوات من «العمل القذر» — على اختيار الوظيفة الملائمة لأذواقنا، إذ أصبحت معظم الوظائف المتيسرة، بعد التطور الهائل في الإنتاج بالجملة، تتطلب في الغالب العمل في المصانع على «نظام السير».

والفرح الذي يستقبل به المواطنون في مجتمع بيلامي التقاعدَ دليل كافٍ على أن السخرة الصناعية شيء كريه وحمل ثقيل. يقول الدكتور ليت: إننا جميعًا متفقون على التطلع لموعد الإعفاء من الخدمة باعتباره الوقت الذي نبدأ فيه الاستمتاع الكامل بالحق الذي اكتسبناه بالميلاد، والعهد الذي نصل فيه إلى النضج ونتحرر من التنظيم والتوجيه، حاملين رصيد حياتنا داخل نفوسنا. وقد اقتنع «بيلامي» بأن واحدًا وعشرين عامًا من التعليم الإلزامي، وخمسة وأربعين عامًا من العمل الإجباري، مطلب معتدل من جانب الدولة، وأنه لا يمكن أن يعترض أحد عليه. ومع ذلك فإن الرأي القائل بأن الحياة تبدأ في الخامسة والأربعين هو رأي يسمح للإنسان بعدم الموافقة عليه.

ولا يشعر المرء بالتعاطف مع «بيلامي» في لجوئه بصفة مستمرة إلى الإلزام. ولو كان المواطنون في المجتمع الجديد راضين حقًّا عن أوضاعهم، فما الداعي لإجبارهم على العمل الخفيف، بل المبهج والسار كما يؤكد لنا باستمرار؟ ألا نواجه هنا أيضًا خطر تحول العمل الذي يمكن أن يمتعنا لأننا اخترناه بحريتنا، إلى عمل باعث على الضجر والإرهاق عندما نقوم به بالإكراه والإجبار؟ لقد كان «بيلامي» مقتنعًا بأنه قد اكتشف الحل النهائي لكل مشاكل العالم، إلى حد أنه كرَّس بقية حياته لإكمال نظامه، ونشر كتبًا عديدة لشرحه بالتفصيل. ونحن لا ننكر أنه قد وجد حلًّا ما، ولكن اليوتوبيا القادمة ستبين لنا أن من الممكن أن يكون هناك حل آخر أكثر تشويقًا وجاذبية.

(٤) وليم موريس (١٨٣٤–١٨٩٦م): «أخبار من لا مكان»

بعد الأجواء الخانقة التي سادت يوتوبيا كل من كابيه وبيلامي، بأجهزتها البيروقراطية المعقدة التي تديرها دولة كاملة الحكمة شاملة السيطرة، تبدو إنجلترا اليوتوبية في رواية وليم موريس أشبه بواحة نتمنى الإقامة فيها، إن لم يكن للأبد، فعلى الأقل لفترة طويلة من الزمن. هنا يمكن أن نعمل دون رقابة ثقيلة الوطأة من رئيس العمال، وأن ننام دون أن يوقظنا جرس المنبه، وأن نأكل ما نشتهي وليس ما قرر الخبراء أنه أفضل الأطعمة المناسبة لصحتنا، ويمكننا أيضًا أن نحب دون أي اعتبار لقوانين استبدادية أو رأي عام لا يقل عنها استبدادًا، كما يمكننا أن نرتدي الملابس التي نحبها، ونقرأ ما يعجبنا، وقبل كل شيء أن نفكر كما نشاء. هنا نستطيع أن نعيش حياتنا، لأننا لم نُصَنفْ ولم نُوَجَّه، بل تُرِك لنا تدبير حياتنا بالطريقة التي نعتقد أنها ملائمة لنا.

نشرت «أخبار من لا مكان»١٣ بشكل مسلسل في جريدة «المصلحة العامة» (وهي جريدة الجماعة الاشتراكية التي أسسها وحررها وليم موريس) في غضون عام ١٨٩٠م. ويحتمل أن يكون موريس قد كتب يوتوبياه بعد قراءة رواية بيلامي «التطلع للوراء»، التي كانت قد صدرت في إنجلترا قبل ذلك بسنوات قليلة، ويرجح أنه لم يشعر بتعاطف شديد معها. وقد وضع موريس كتابه أيضًا في شكل رواية عن المستقبل، ولكنه عارض الحكومة المركزية التي تهيمن على مجتمع بيلامي المثالي بمجتمع أصبحت فيه الحكومة غير ضرورية، لأن الحكومة ليست سوى «آلة للطغيان»، وعندما ينتهي الطغيان لا تبقى هناك حاجة إلى مثل هذه الآلة. أما التنظيم الصناعي الرهيب لليوتوبيا الأمريكية فقد عارضه موريس باتحاد فيدرالي مؤلف من تجمعات صناعية وزراعية تعمل بشكلٍ مستقلٍّ، كما عارض نظام العمل العسكري بحق الفرد في أن يعمل متى وكيف شاء، وأن يشارك في الإنتاج الآلية بالجملة، أو في الإنتاج اليدوي، لسلع محدودة، ولكن جميلة الصنع. والحقيقة أنه لا يكاد يوجد شيء واحد لا تُناقِض فيه «أخبار من لا مكان» رواية بيلامي «التطلع للوراء».

ويختلف وليم موريس أيضًا عن معظم الكُتاب اليوتوبيين في القرن التاسع عشر برغبته في الابتعاد الكامل، لا عن البؤس الذي تسببت فيه الثورة الصناعية فحسب، بل كذلك عن الإيمان بالتقدم الصناعي. لقد اعتقد بيلامي، مع أغلبية الكُتَّاب اليوتوبيين، أن التقدم التقني سيجلب السعادة للبشر بمجرد القضاء على النظام الرأسمالي للملكية الخاصة، لأن ذلك التقدم سوف يلبي جميع حاجاتهم المتزايدة. أما موريس فقد اعتقد، على العكس من ذلك، بأن السعادة لا علاقة لها بزيادة الإنتاج، وأن الجانب الأكبر من التقدم الذي سيتم في هذا الميدان لن تكون له قيمة عندما يظهر المجتمع الجديد إلى الوجود: «لقد تصور القرن التاسع عشر نفسه كرجل أضاع ملابسه أثناء الاستحمام، فاضطرَّ أن يمشي عاريًا في شوارع المدينة …»

لم يؤمن وليم موريس بأن المجتمع الجديد يمكن أن يكون من عمل «نابليون اشتراكي»، ولا بأنه يمكن أن يتولد عن المجتمع القديم بشكل آلي. ففي رأيه أنه العالم الحر، العادل، والسعيد لا يمكن أن يظهر للوجود إلا عندما تقوى رغبة البشر في الحرية إلى الحد الذي يجعلهم يدركون مدى قوتهم ويطيحون بالنظام القديم. وها هو ذا يصف في «أخبار من لا مكان» القوة التي حققت الثورة:

«لو نظرنا الآن إلى الوراء، لوجدنا أن القوة الكبرى الدافعة على التغيير كانت هي التوق إلى الحرية والمساواة، وهي إذا شئت قوة تشبه العاطفة العارمة التي تستحوذ على العاشق … صحيح أن طبقة العبيد لم تستطع أن تدرك مدى السعادة الكامنة في الحياة الحرة. ولكنهم لم يلبثوا أن فهموا (وبصورة شديدة أيضًا) أن سادتهم يقهرونهم، كما أيقنوا، وكانوا محقين في ذلك كما ترى، أنهم يستطيعون أن يستغنوا عنهم، وإن عجزوا عن معرفة الوسيلة التي يمكن أن تؤدي إلى ذلك.» ولا يتردد وليم موريس، الذي طالما اتُّهِم بأنه غير واقعي وشديد التفاؤل، عن إعلان رأيه في أن الثورة ضرورية لتحقيق المجتمع الجديد: «كان العالم يساق إلى ميلاده الثاني، فهل كان من الممكن أن يتم هذا دون مأساة.»

إذا كان عالم الغد الذي وصفه وليم موريس، يعتبر القرن التاسع عشر نموذجًا للحياة المرفوضة، فإنه لا يكره أن يتعلم من الماضي، وبصفة خاصة من العصر الوسيط، عندما كانت المجتمعات لا تزال صغيرة بالقدر الذي يسمح بعقد أواصر الصداقة بين أعضائها، وكان العمال ينتجون لسوق محدودة تقتصر على المدينة، وكان الحرفيون لا ينفذون مشروعات الشعوب الأخرى، وإنما ينجزون إبداعاتهم الخاصة، وكانت الطوائف الحرفية ومجالس المدينة، وليست السلطة المجهولة لدولة مركزية، هي صاحبة الكلمة في كل شئون الجماعة. ربما لم يكن تصور موريس للحياة في القرن الرابع عشر تصورًا دقيقًا كل الدقة من وجهة النظر التاريخية. وربما كانت إنجلترا — التي صورها في قصيدته «حلم جون بول» في صورة شديدة الإشراق والصحة والسعادة — بعيدة عن الواقع، ولكن العصور الوسطى برغم أنها كانت فترة ازدهار وحرية بالقياس إلى القرن التاسع عشر، إلا أن المدن الوسيطة اضطرت إلى الدخول في صراعات مستمرة للمحافظة على استقلالها. وليس المهم على كل حال أن الحياة في العصور الوسطى لم تكن بالجمال والبراءة التي أراد موريس أن يصورها بها، ولكن المهم أنه استوعب روح تلك العصور «التي كانت فيها السماء والحياة الأخرى شديدة الواقعية في نظر الناس، لدرجة أنها أصبحت جزءًا من الحياة على الأرض التي أحبوها غاية الحب على الرغم من مذاهب الزهد التي كانت تدعوهم إلى إدانتها والتخلي عنها.»

لقد تصور معظم اليوتوبيين، قبل وليم موريس، مجتمعات ألغيت منها الملكية الخاصة، واعترف فيها بحق كل إنسان في الحصول على نصيب متساوٍ من ثروة الجماعة. ولكنها كانت مجتمعات حل فيها ملكية الدولة محل الملكية الخاصة، وحوافز التكريم والأوسمة محل حافز المال، وطاعة القوانين الجديدة محل الخضوع للقوانين القديمة. وإذا كانت الجرائم التي تُرتكَب ضد الملكية قد اختفت، فإن الجرائم التي تُرتكَب ضد التنظيمات والمؤسسات الجديدة يعاقب عليها عقابًا لا يقل قسوة عما كان عليه فيما سبق. إن كل إنسان في «أخبار من لا مكان» هو سيد نفسه، وهو يرفض أن يتنازل عن سلطته لأناس يشرعون القوانين ويفرضون العقوبات على من لا يحترم هذه القوانين. إنه مساوٍ لرفاقه من البشر مساواة حقيقية، لا لأنه يتسلم نفس القدر من المأكل والملبس فقط، بل كذلك لأنه لا يمارس أي سلطة على جاره ولا يمارس جاره سلطة عليه.

وذهب أيضًا معظم الكُتَّاب اليوتوبيين إلى أن سعادة الإنسان تكمن في الحياة في مجتمع محكم التنظيم يزود كل أفراده باحتياجاتهم. ويبدو أنهم لم يدركوا خطورة تعرض الإنسان لأفظع حالات الضيق والضجر لحرمانه من أي تعبير مبدع. وقد حاول وليم موريس أن يبين أن الضمان الأكيد لسعادة البشر يكمن في العمل الذي يمكن أن يصبح وسيلة لتحقيق الدوافع الإبداعية عند الإنسان، وصار الجانب الأكبر من العمل في مجتمعه المثالي نوعًا من النشاط الفني، وإن كان هذا لم يتم بشكل سريع: «انبثق فن العمل أو لذته — فهكذا ينبغي أن نسميها — بشكل يكاد أن يكون عفويًّا، عن نوع من الغريزة لدى الشعب الذي لم يعد يُساق يائسًا إلى العمل الشاق المخيف، مما جعله يبذل غاية ما في وسعه لإتقان العمل الذي بين يديه والتفوق فيه، ولما استمر الحال على هذا المنوال فترة من الزمن، بدا أن الشوق الجارف إلى الجمال قد استيقظ في عقول الناس، وبدءوا بشكلٍ فجٍّ ومرتبك في زخرفة مصنوعاتهم — ثم ما لبث العمل أن انطلق في سبيله وأخذ ينمو … إلى أن تمكنا في النهاية وبعد خطوات بطيئة من أن نشعر بلذة عملنا، ثم ازداد وعينا بهذه اللذة: فتعهدناها بالصقل والرعاية والحرص على الامتلاء بها … هنالك وجدنا أننا قد كسبنا كل شيءٍ وأصبحنا سعداء.»

وترتب على هذا بالضرورة أن التغير في المجتمع الجديد لم يقتصر على المؤسسات، وإنما شمل تفكير الإنسان ونظرته بأكملها. «فالطبيعة البشرية» تعتمد اعتمادًا كبيرًا على طبيعة المجتمع، وهنالك «طبيعة بشرية للفقراء، وأخرى للعبيد، وثالثة لملاك العبيد وللأحرار من أصحاب الثروة»، لهذا نجد وليم موريس يملأ مجتمعه الحر بأناس تخلصوا من عقلية العبيد، ويحاول أن يبين لنا طريقة سلوك هؤلاء الناس بدلًا من إعطائنا صورة كاملة عن جميع آليات المجتمع الجديد. وربما يكون الدافع الذي أملى هذا على موريس هو أنه لم يشأ أن يدلي برأيه في الأمور التي لا يعرف عنها إلا القليل، وذلك على خلاف كثير من الكُتَّاب اليوتوبيين الذين تخيلوا أنفسهم حكماء في كل شيء، من تربية الأطفال إلى تخطيط المدن، ومن التدبير المنزلي إلى الإنتاج الصناعي. وإذا كان موريس لا يضيع فرصة للتعبير عن آرائه حول العمارة والرسم، والحفر أو أعمال الخزف، فإنه يلزم الصمت التام في الأمور التي لا يعرفها عن قرب مثل التعقيدات المتصلة بتنظيم الإنتاج والتوزيع، أو الترتيبات التي يفترض اتخاذها لتمكن العلماء من القيام ببحوثهم. ولعل السبب في هذا كله — على الرغم من زعمه بأن عصره المثالي ليس عصر اختراعات — يرجع إلى اكتشاف قوة دافعة جديدة. ولأن موريس لا يكتب إلا عن الأمور التي يعرفها معرفة حميمة ويهتم به اهتمامًا صادقًا فقد خلا كتابه من الغباء والتكلف اللذين يطبعان بطابعهما معظم يوتوبيات ذلك العصر.

ومما يحمد أيضًا لموريس أنه لم يزعم أن مجتمعه هو المجتمع الوحيد الكامل، أو أنه هو الوحيد المرغوب فيه. ولم تكن «أخبار من لا مكان» — كما أشار ج. د. ﻫ. كول G. D. H. Cole — نبوءة ولا وعدًا، وإنما كانت تعبيرًا عن اختيار أو تفضيل شخصي. لقد قال موريس: «هذا هو نوع المجتمع الذي أود أن أعيش فيه، فهيا حدثني عن مجتمعك.» ومع أن كل اليوتوبيات تعبير بطبيعة الحال عن تفضيلات شخصية، إلا أن مؤلفيها يتوهمون عادة أن أذواقهم الشخصية ينبغي أن تُسَن في شكل قوانين، فإذا كانوا ممن يستيقظون في الرابعة صباحًا، فلا بد أن تصحو (مجتمعاتهم) المتخيلة أيضًا في الرابعة صباحًا، وإذا كانوا لا يستسيغون أن تتزين النساء ويضعن المساحيق، اعتبر اتخاذ الزينة جريمة. وإذا كانوا أزواجًا غيورين، عُدت الخيانة الزوجية جريمة يُعاقب عليها بالموت. ويعترف موريس صراحة بما يحبه وما يكرهه، ولكنه لا يفرض ذوقه على أحد ولا يفرض عقوبة على أصحاب الأذواق المخالفة له. وقد اقتنع بأن أسلوب حياة المجتمع لا يمكن أن يرتب بشكل مصطنع في ذهن فرد، وإنما يجب أن يشترك كل أفراد المجتمع في إبداعه بشكل تلقائي. لقد استطاع أن يحلم ويعمل في سبيل «مثله الأعلى»، ولكنه لم يشأ أن يحققه بدلًا من الآخرين، لأن الشعب نفسه هو الذي يملك تحقيقه. ولهذا يقول في قصيدة «الفردوس الأرضي»:
حالم أنا بأحلام تمخضت عنها أيامي،
ما الداعي أن أجهد نفسي في تقويم المعوج؟
حسبي أن يخفق شعري الهامس
ويرتطم جناحه الخفيف بالبوابة العاجية،
وهو يحكي حكاية لا يثقل بها على أحد
من أولئك الهاجعين في أرض النعاس
يهدهدهم صوت المغني الذي يجثم على الأنفاس
في يوم أجوف مسلوب الإحساس.

إن سحر «أخبار من لا مكان» لا يكمن في الحجج المقنعة التي يقدمها سكان اليوتوبيين ليوضحوا سبب اختيارهم لأسلوبهم في الحياة، بقدر ما يكمن في جو الجمال والحرية، والهدوء والسعادة التي تسود القصة بأكملها. ولم يغفل موريس أي شيء يمكن أن يشدنا ويجذب حواسنا؛ فالنساء تتمتع بالصحة والنشاط والجمال، ويرتدين ملابس فاتنة من الحرير أو الكتان المطرز، والرجال وسيمون، لطيفو المعشر، بارعون في الغزل، وكل إنسان يبدو أصغر من عمره الحقيقي، ولا توجد تجعيدة واحدة على وجوه النساء اللائي بلغن الأربعين، وفي قاعات الطعام المشتركة التي لا نحتاج إلى القول بأنها مزينة بأعمال الحفر والصور وقطع الأثاث الجميلة ذات الزخارف البديعة، تقدم وجبات جاهزة وبسيطة ولكنها شهية الطعم مع زجاجة من النبيذ الفرنسي، كما أننا ننعم في أثناء فترة وجودنا في إنجلترا اليوتوبية (وهنا نشعر بحق أن موريس يخدعنا) بجو صحو ودافئ بشكل بديع.

وهذه مقتطفات قليلة نقدمها من «أخبار من لا مكان»، وهي لا تستطيع أن تعطينا إلا فكرة غير وافية عن الكتاب، إذ لا غنى عن تذوقه كما نتذوق اللوحة الفنية في مجموعها الكلي:

بعد أن قضى «وليم جست» في مقر الجماعة الاشتراكية ليلة تناقش فيها مع بعض رفاقه حول ما عسى أن يحدث بعد الثورة، رجع إلى منزله في «هامرسميث» وهو يحلم بأيام السلام والاستقرار، والنظافة والمودة المبهجة. ويستيقظ من نومه أو يحلم أنه يستيقظ بعد مرور مائتي عام ليرى على ضفتي «التيمز» صفوفًا من البيوت الجميلة والحدائق المزدهرة بالورد. وسوف نتابعه في رحلته الأولى التي يطوف فيها أرجاء لندن في صحبة ديك هاموند Dick Hammaond وهو مراكبي وسيم دمث الخلق يتولى مهمة إرشاده، ويحمله معه في عربة جميلة ولطيفة يجرها حصان رمادي قوي عبر شوارع لندن الجديدة التي لم تعد تشبه لندن القديمة إلا شبهًا قليلًا. فقد أصبحت تجمعًا ضخمًا من القرى المتفرقة التي تفصل بينها الغابات والبراري والحدائق، وحلت الأكواخ والمباني الجميلة محل المنازل القبيحة المتسخة بالسِّنَاج.

«تحولنا عن النهر في الحال، وسرعان ما وجدنا أنفسنا في الطريق الرئيسي الذي يخترق هامرسميث. ولو لم تبدأ رحلتنا من الطريق المحاذي للنهر، لما استطعت أن أكوِّن فكرة عن الوضع الذي كنا فيه، ذلك لأن «شارع الملك» كان قد اختفى، وأخذ الطريق السريع يمر بنا خلال مروج مشمسة واسعة وحقول تبدو كالحدائق. أما النهر الصغير الذي عبرناه على الفور فقد تم تطهير مجراه القذر، واستطعنا ونحن نعبر جسره الأنيق أن نرى مياهه الصافية، التي فاضت قليلًا بتأثير المد والجزر، وتغطيها القوارب المرحة من مختلف الأحجام. وكانت هناك منازل كثيرة حوله، بعضها على الطريق، وبعضها الآخر وسط الحقول وتؤدي إليها ممرات لطيفة، كما تحوط كلًّا منها حديقة غناء. وكانت جميع المنازل بديعة التصميم، راسخة البنيان كما هو متوقع، وإن كان منظرها يوحي بأنها ريفية وأشبه بمساكن المزارعين، وكان بعضها مبنيًّا بالقرميد الأحمر مثل المنازل التي مررنا بها على ضفة النهر، مع كميات من الخشب والجص، ولذلك بدت بحكم بنائه والمواد الخام المستخدمة فيها مثل منازل العصور الوسطى، حتى لقد أحسست بأنني أعيش في القرن الرابع عشر، وزاد من قوة هذا الإحساس ملابس الناس الذين قابلناهم أو مررنا بهم، إذ لم ألاحظ فيها أي شيء «حديث». كان معظم الناس يرتدون ثيابًا مرحة زاهية، لا سيما النساء اللاتي كن من الحلاوة والنضارة بحيث لم أستطع أن أمسك لساني عن جذب انتباه رفيقي إلى هذه الحقيقة. وقد لاحظت أن بعض الوجوه يبدو عليها الهم، ولكنني لاحظت كذلك أن ملامحها تكتسي بتعبير غاية في النبل، وأنه ليس فيها وجه يبدو على قسماته ظل واحد من ظلال التعاسة، بل إن معظم الناس (وقد قابلنا أعدادًا كبيرة منهم) كانوا مرحين مرحًا واضحًا وصريحًا.

تصورت أنني أعرف الطريق الرئيسي عن طريق التقاطع الذي كان لا يزال في مكانه. وأبصرت على الجانب الشمالي منه صفًّا من المباني والمحاكم المنخفضة، ولكنها كانت مبنية بناءً أنيقًا عامرًا بالزخارف، بحيث تمثل لي التباين الشديد بينها وبين المنازل البسيطة المحيطة بها، بينما ارتفع فوق هذا المبنى المنخفض سطح عالٍ مغطًى بصفائح الرصاص، وظهرت النتوءات والجزء الأعلى من جدار قاعة كبيرة، ذات طراز معماري شديد الضخامة والفخامة، بحيث يمكنني القول بأنها بدت وكأنها تجمعت أبدع مزايا الفن القوطي في شمال أوروبا مع الطراز المعماري العربي والبيزنطي، على الرغم من أنني لم ألاحظ أي نسخ أو تقليد لأي طراز من هذه الطرز. وعلى الجانب الآخر، وهو الجانب الجنوبي للطريق، رأيت مبنًى مثمن الأضلاع له سقف عالٍ، ولا يختلف كثيرًا عن مبنى المعمودية في فلورنسا، باستثناء أنه كان محاطًا برواق أو أديرة ملتصقة به، وقد كان أيضًا من أجمل المباني المزينة بالزخارف الرقيقة.

لم تكن كل هذه الكتل المعمارية التي صادفتنا فجأة ونحن نعبر الحقول المبهجة، لم تكن جميلة ورائعة في حد ذاتها فحسب، وإنما كانت تعبر عن كرم فياض ووفرة في الحياة غمراني بحالة من النشوة التي لم أجربها أبدًا من قبل. ضحكت من فرط السرور. وبدا أن صديقي قد فهم حالتي، وأخذ ينظر إليَّ بشغف حقيقي يفيض بالابتهاج. وراحت عربتنا تتخلل حشدًا من العربات، حيث جلس أناس بدت عليهم ملامح الصحة والنضارة، رجال، ونساء، وأطفال في ملابس زاهية مرحة، وبدا واضحًا أنها عربات متجهة نحو السوق، إذ كانت محملة بأكوام من منتجات الريف التي تجذب الأنظار.

قلت: «لست في حاجة للسؤال عما إذا كان هذا سوقًا، لأنني أرى بوضوح أنه كذلك، ولكن أي سوق هذا الذي تبدو عليه الأناقة والفخامة؟ وما هي هذه القاعة الرائعة هناك، وأي مبنًى هذا على الجانب الجنوبي؟»

قال: «آه. إنه هو سوق هامرسميث، ويسرني أنه حاز إعجابك إلى هذا الحد، لأننا فخورون به بالفعل. أما القاعة الداخلية فهي بطبيعة الحال مقرنا الشتوي، لأننا نلتقي غالبًا في الصيف في الحقول المحاذية للنهر أمام البارن إلمز Barn Elms وأما هذا المبنى الذي يقع على يمينك فهو مسرحنا».»
وبعد عبور كينسنجتون Kensington — التي تكسوها الآن غابات من أشجار البلوط والكستناء، والدلب والجميز، وتعسكر فيها مجموعات من الأطفال — يصلان إلى وستمينستر: «وما إن بلغنا قمة أرض مرتفعة، حتى لمحت على يمين فوق مساحة منبسطة في الغابة مبنًى راسخًا كان شكله مألوفًا لي، وصحت من فوري: «كنيسة وستمينستر!»

قال ديك: «أجل! هي كنيسة وستمينستر — أو ما تبقى منها.»

قلت في فزع: «لماذا؟ ماذا فعلتم بها؟»

قال: «ماذا فعلنا بها؟ كل ما فعلناه أننا نظفناها. ولعلك تعلم أن كل الأجزاء الخارجية تلفت منذ قرون، أما الجزء الداخلي فهو محتفظ بجماله منذ تمت التصفية الكبرى، قبل أكثر من مائة عام، للآثار البهيمية للحمقى والمحتالين التي سدت منافذه ذات يوم، كما يقول أسلافنا.»

وسرنا قليلًا ثم التف إلى اليمين مرة أخرى وقلت بصوت يخالطه الشك: «ما هذا؟ مباني البرلمان. أما زلتم تستخدمونها؟»

انفجر في ضحك متواصل، وظل على هذه الحال بعض الوقت قبل أن يتمالك نفسه، ثم ربت على ظهري قائلًا: «سأشرح لك الأمر يا جاري، ربما تعجبت من احتفاظنا بها، وأنا أعرف القليل عنها؛ إذ أعطاني قريبي العجوز بعض الكتب التي قرأتها عن اللعبة الغريبة التي كانوا يلعبونها فيها. نستخدمها. أجل. كسوق إضافي، ومخزن للسماد، فهي تصلح لهذا الغرض، لوقوعها بالقرب من النهر. أعتقد أنه كان هناك اتجاه لهدمها تمامًا في بداية عهدنا، ولكن كانت هناك، كما سمعت، مجموعة غريبة من كبار السن الذين قدموا بعض الخدمات في الأيام الغابرة، وقد اعترضوا بقوة على فكرة الهدم، كما فعلوا تمامًا مع العديد من المباني الأخرى التي اعتبرها معظم الناس عديمة القيمة ومصدر ضيق وإزعاج للرأي العام. وكانت هذه المجموعة شديدة النشاط وقوية الحجة فانتصر رأيها في النهاية! ومهما تشعبت الآراء حول هذا الموضوع فلا بد أن أقول إنني راضٍ عما حدث، لأن هذه المباني القديمة السمجة تتيح كما تعلم لمن يراها أن يدرك مدى جمال المباني الحديثة التي نقيمها الآن».»

ويزداد عجب الرجل القادم من «العالم الآخر» عندما يصلان إلى بيكاديلي Piccadilly التي ما زالت مركزًا فخمًا للتسوق، يقبل عليه الناس إقبالًا شديدًا، ويقوم فيه الأطفال بإدارة المحلات ولا تُدفَع نقود مقابل السلع التي يحصلون عليها.

«وكنا قد دخلنا محلًّا أو معرضًا يوجد به حاجز خشبي ورفوف على الحائط، وكل شيء فيه شديد النظافة وبعيد عن أي رغبة في التظاهر والاستعراض، وإن لم يختلف فيها عدا ذلك كثيرًا عما اعتدت عليه. كان بالداخل طفلان؛ صبي أسمر البشرة في حوالي الثانية عشرة من عمره، وكان يقرأ في كتاب وهو جالس، وفتاة صغيرة جميلة تكبره بحوالي العام، وهي الأخرى تقرأ جالسة خلف الحاجز، وكان من الواضح أنهما شقيقان.

قال ديك: «صباح الخير، يا جاريَّ الصغيرَين … صديقي بحاجة إلى تبغ وغليون، فهل يمكنكما مساعدته؟»

«جارنا العزيز!» قالتها الفتاة، وعلى قسمات وجهها هدوء طفلة تمثل دور بائعة في المحل.

«وما نوع التبغ الذي تريده؟»

قلت: «اللاذقي.»١٤ وأحسست كأنني أشارك في لعبة أطفال، كما خُيِّل إليَّ أنني سأتفرج على نوع من التمثيل.

ولكن الفتاة تناولت سلة صغيرة جميلة من الرف المجاور لها، ومضت إلى جرَّة وأخرجت منها كمية من التبغ، ووضعت السلة الممتلئة أمامي على الحاجز الخشبي. فشممت رائحة اللاذقي الممتاز ورأيته بعيني.

قلت: «ولكنك لم تقومي بوزنه، و… وكم أستطيع أن آخذ منه؟»

قالت: «ماذا؟ أنصحك أن تملأ حقيبتك، فربما تذهب إلى مكان لا تجده فيه، أين حقيبتك؟»

وأخذت تحشو الحقيبة بالتبغ، ثم وضعتها أمامي قائلة: «والآن جاء دور الغليون. لدينا ثلاثة أنواع جميلة وصلتنا اليوم.»

واختفت مرة أخرى، ثم عادت تحمل في يدها غليونًا كبير الحجم منتفخ البطن، حفرت على خشبه الصلب بعض النقوش المتقنة، وكُسِي بطلاء ذهبي تلمع فيه بعض الفصوص الدقيقة من الأحجار النفيسة، كان باختصار أشبه بلعبة مبهجة لم أرَ أجمل منها، أو بأفضل أنواع الغليون المصنوعة في اليابان، وربما أجمل منها.

قلت بعد أن وقع بصري عليه: «ويلي! هذا شيء فخم جدًّا بالنسبة إليَّ، بل بالنسبة لأي إنسانٍ آخر باستثناء إمبراطور العالم. ثم إنني سأضيعه. أنا دائمًا أضيع غلاييني.»

ارتجَّ على الطفلة قليلًا ثم قالت: «ألا تريده يا جار؟»

قلت: «أواه! بلى، أريده بالطبع.»

قالت الفتاة: «حسنًا، خذه إذن، ولا تهتم بمسألة فقده. ما المشكلة في هذا؟ سيجده شخص ما بالتأكيد، وسيستعمله، وبإمكانك الحصول على غليون آخر.»

تناولته من يدها لألقي نظرة عليه، وبينما كنت أتأمله غلبني التهور فقلت: «ولكن كم سأدفع في شيء كهذا؟»

وضع ديك يده على كتفي فتوقفت عن الكلام، واستدرت إليه ولمحت في عينيه تعبيرًا مضحكًا يحذرني من التمسك بالأخلاقيات التجارية البائدة، واحمر وجهي خجلًا وأمسكت لساني، بينما نظرت إليَّ الفتاة باهتمام شديد وكأنني أجنبي يتخبط في كلامه، وبدا واضحًا على وجهها أنها لم تكد تفهم ما أقصده.

وسألت مرافقي إن كان الأطفال بصفة عامة هم الذين يخدمون في المتاجر فقال: «في الغالب، وخصوصًا حين لا يتم التعامل مع الأوزان الثقيلة، وإن لم يكن الأمر كذلك بصفة دائمة. فالأطفال يحبون التسلية، كما أنه شيء نافع لهم، لأنهم يتعاملون مع سلع متنوعة ويتعلمون الكثير عنها، كيف صُنِعت، ومن أين جاءت، وهكذا. أضف إلى هذا أنه عمل يسير للغاية ويمكن أن يقوم به أي إنسان. ويقال إنه كان هناك في الأيام الأولى لعصرنا عدد كبير من المصابين بحكم الوراثة بمرض يسمى الكسل، لأنهم جاءوا مباشرة من نسل أولئك الذين تعودوا في العهود الغابرة على إجبار الآخرين على خدمتهم، وأنت تعلم أن هؤلاء الناس يطلق عليهم في كتب التاريخ اسم ملاك العبيد أو أصحاب الأعمال. وهكذا تعود هؤلاء المبتلون بالكسل طوال عمرهم على العمل في المحلات التجارية، لأنهم لا يصلحون لعمل آخر. وأعتقد أنهم كانوا مضطرين في ذلك الوقت للقيام بمثل هذه الأعمال، لأن عدم وجود علاج حاسم للمرضى، والنساء منهم بصفة خاصة، قد جعل أحوالهم تسوء إلى درجة القبح، كما جعلهم ينجبون أطفالًا على شاكلتهم، حتى ضاق بهم جيرانهم إلى أقصى حد. ومع ذلك فيسعدني أن أقول إن كل هذا قد انتهى الآن، وأن المرض قد تلاشى تمامًا، أو يكفي للقضاء على آثاره البسيطة بضع جرعات من دواء مسهل. وأحيانًا يطلق عليه الآن اسم الشياطين الزرقاء أو الطعم القذر. أليست هذه أسماء غريبة؟»»

ويعبران بعد ذلك ميدان الطرف الأغر Trafa Lgar الذي تحول إلى ساحة واسعة انتشرت فيها البساتين وأشجار المشمش بصفة خاصة، وفي وسطه مبنًى خشبي صغير وجميل، محلًّى بالرسوم ومطلي بطلاء براق، ويبدو شبيهًا بالأكشاك المعدة لتناول المشروبات المنعشة. وتهاجم الزائر ذكريات الأحد الدامي عندما فرقت الشرطة في سنة ١٨٨٧م تظاهرة سلمية، وضُرِب المواطنون وأُخِذوا إلى السجون. وأثارت ذكريات هذه الأحداث مناقشة بين الرفيقين عن سلوك الناس في القرن التاسع عشر:

«قال ديك: «ما أغرب أن نتصور وجود أناس كانوا يعيشون مثلنا في هذا البلد الجميل السعيد، ويفترض فيهم أنهم يحملون نفس المشاعر والأحاسيس، ومع ذلك استطاعوا أن يرتكبوا هذه الأعمال المخيفة!»

قلت بنغمة تعليمية: «أجل. ولكن هذه الأيام نفسها كانت في نهاية الأمر تمثل تحسنًا كبيرًا بالقياس إلى الأيام التي سبقتها. ألم نقرأ عن العصور الوسطى وقسوة قوانينها الجنائية، وكيف كان الناس في تلك الأيام يستمتعون بتعذيب مواطنيهم؟ لقد أوشكوا بسبب ذلك أن يصوروا إلههم في صورة معذِّب وسجَّان أكثر من أي شيء آخر.»

قال ديك: «نعم، هناك كتب جيدة عن هذه الفترة، وقد اطلعت على عدد منها. ولكنني لا أوافقك على ما تقوله عن التحسن الكبير في القرن التاسع عشر. لقد كان الناس في العصور الوسطى يتصرفون بوحي من ضميرهم، كما تبين ملاحظتك عن إلههم (وهي ملاحظة صائبة)، وكانوا على استعداد لتحمل الآلام التي سببوها للآخرين، على حين كان الناس في القرن التاسع عشر أفَّاقين ومدعين للإنسانية، ولكنهم استمروا بالرغم من ذلك في تعذيب إخوانهم عن عمد وزجهم في السجون، لا لسبب على الإطلاق سوى أنهم كانوا ما أراد لهم سجَّانوهم أن يكونوا عليه. آه! إن مجرد التفكير في ذلك شيء مرعب.»

قلت: «ولكن ربما لم تكن لديك فكرة عن طبيعة تلك السجون.»

ثارت ثائرة ديك حتى ظهر عليه الغضب وقال: «إن معرفتنا بهذا بعد كل تلك السنين أدعى لوصمهم بالعار. انظر يا جار، لا يمكن أن يكون قد غاب عنهم أن السجن عار على المجتمع، وأن وجود السجون قد عجَّل بتردي أحوالهم ترديًا فظيعًا.»

قلت: «ولكن أليس لديكم الآن سجون على الإطلاق؟»

شعرت بمجرد خروج الكلمات من فمي أنني ارتكبت خطأً، فقد احمر وجه ديك العجوز وتجهم، وبدت الدهشة والألم في نظراته. ولكنه قال على الفور، وكأنه يحاول أن يتحكم في غضبه: «ويحك! كيف يمكنك أن تسأل مثل هذا السؤال؟ ألم أقل لك إننا نعرف ما هي السجون من اطلاعنا على كتب موثوق منها، مع ما تضيفه مخيلتنا إلى أهوالها؟ ألم تدعني أنت نفسك لملاحظة السعادة التي تبدو هنا على وجوه الناس في الطرقات والشوارع؟ وهل كان يمكن أن تبدو عليهم السعادة لو عرفوا أن جيرانهم قد أُغلِقت عليهم أبواب السجون، في الوقت الذي يصبرون هم فيه على ذلك؟ إنك لا تستطيع أن تخفي عن الناس وجود مساجين وراء الجدران، وكأنك تخفي عنهم جريمة ذبح إنسان، لأن هذه الجريمة لم تتم عن عمد وفي وجود مجموعة من الناس الذين يؤيدون الذابح ببرود كما يحدث في السجن. سجون؟ لا. لا. لا!»»

ويمر ديك وزميله أمام باب أحد المصانع، ونشعر من الوصف القصير أنه قد تم التخلص من مركزية الصناعة بفضل اكتشاف الطاقة الجديدة.١٥

«مررنا ببوابات مبنًى ضخم؟ بدا من منظره أن عملًا من نوع ما يدور داخله. قلت في لهفة: «ما هذا المبنى؟ إذ سرني أن أرى بين كل هذه الأشياء الغريبة شيئًا يشبه ما كنت قد تعوَّدت عليه: يبدو عليه أنه مصنع.»

قال: «نعم. أظن أنني أعرف ما تقصده، وهو كما قلت، ولكننا لا نطلق على أمثاله الآن اسم المصانع، وإنما نسميها مجمعات ورش العمل، أي الأماكن التي يتجمع فيها الناس الذين يريدون أن يعملوا معًا.»

قلت: «أظن أن هناك طاقة من نوع ما تستخدم هناك؟»

قال: «لا، لا، وما الذي يدعو الناس إلى التجمع لاستخدام الطاقة، حين يكون في إمكانهم أن يجدوها في الأماكن التي يعيشون فيها، أو بجوارهم مباشرة، سواء أكانوا اثنين أو ثلاثة، أو حتى أي فرد واحد لأجل شيء كهذا؟ لا؛ إن الناس يتجمعون في مجمعات الورش ليزاولوا العمل اليدوي الذي يتطلب بالضرورة العمل المشترك؛ وغالبًا ما يكون هذا العمل باعثًا على السرور. وفي داخل هذا المبنى مثلًا تجدهم يقومون بصنع الخزف والزجاج، ويمكنك أن ترى سقوف الأفران العالية هناك، ومما يسهل العمل بطبيعة الحال أن يكون في متناول يدك أفران في أحجام مناسبة، ومواقف، وأوعية زجاجية وأشياء أخرى كثيرة للاستعمال: ومع ذلك فهناك وفرة من هذه الأماكن، بحيث يكون من السخف أن يحب إنسان صناعة الخزف أو النفخ في الزجاج، ويضطر بالرغم من ذلك إلى الحياة في مكان واحد أو إلى الامتناع عن مزاولة العمل الذي يمتعه.»

قلت: «لست أرى دخانًا يتصاعد من الأفران؟»

قال ديك: «دخان؟ ولماذا ترى دخانًا؟»

أمسكت لساني، واستطرد قائلًا: «إنه مكان جميل من الداخل، وإن كان بسيطًا كما تراه من الخارج. أما بالنسبة للحرف اليدوية، فإن تشكيل الصلصال لا بد أن يكون عملًا مبهجًا، والنفخ في الزجاج عمل مرهق بسبب الحرارة الشديدة، ولكن بعض الناس يمتعهم هذا كثيرًا، وليس هذا ما يدهشني، لأنك ستدرك معنى الطاقة إذا تمرست في التعامل مع المعدن الساخن.» ثم قال مبتسمًا: «وهذا من شأنه أن يجعل العمل مصدرًا للبهجة والمتعة؛ لأنك مهما بذلت من جهد في مثل هذه السلع، ومهما توقف العمل فيها لفترة من الوقت، فسوف تجد دائمًا ما يشغلك».»

ويصل الصديقان إلى المتحف البريطاني حيث يعيش قريب عجوز ﻟ «ديك»، عمل أمينًا للمكتبة لسنوات عديدة وتضلع في دراسة التاريخ. ويترك الشاب ضيفه برفقة هاموند العجوز، بينما ينطلق هو مع امرأة جميلة أثارت في نفس الزائر الإعجاب وحب الاستطلاع.

«بقيت صامتًا للحظات ثم قلت بشيء من العصبية: «معذرة إذا كنت فظًّا، ولكني شديد الاهتمام بريتشارد، فقد أسبغ عليَّ عطفه، وأنا الغريب تمامًا، ولهذا أود أن أوجه سؤالًا عنه.»

قال هاموند العجوز: «حسنًا، لو لم يكن، كما تقول، عطوفًا مع الغريب، لتصور الناس أنه شخص شاذ، ولكان عليهم أن يتجنبوه. لكن تفضل واسأل. ولا تتحرج من السؤال.»

قلت: «تلك الفتاة الجميلة، هل سيتزوجها؟»

قال: «حسنًا، سوف يتزوج منها. فقد كان متزوجًا منها بالفعل، وأستطيع الآن أن أقول إنه من الواضح أنه سيتزوجها مرة أخرى.»

قلت متعجبًا: «حقًّا؟»

قال هاموند العجوز: «إليك الحكاية بأكملها، وهي حكاية قصيرة جدًّا، وأتمنى الآن أن تكون نهايتها سعيدة. لقد عاشا معًا في المرة الأولى لمدة سنتين، كان كلاهما لا يزال شابًّا يافع السن. ثم تصورت أنها وقعت في غرام شخص ما وتركت ديك المسكين، أقول المسكين لأنه لم يجد فتاة أخرى. ولكن هذه الحال لم تدم طويلًا، حوالي العام فقط، ثم جاءتني بعد ذلك، كما تعودت أن تحمل مشاكلها للرجل العجوز، وسألتني عن أحوال ديك، وهل كان سعيدًا، وعن أمور أخرى من هذا القبيل. رأيت أن الأرض أصبحت ممهدة، وقلت إنه تعس جدًّا وليس أبدًا على ما يرام، وغير ذلك من الأكاذيب. ولك أن تخمن بقية القصة. جاءت كلارا اليوم لتتحدث معي حديثًا طويلًا، ولكن ديك سيكون أدرى مني بالكلام معها. والواقع أنه لو لم يحضر إليَّ اليوم مصادفة، لكان عليَّ أن أرسل غدًا في طلبه.»

قلت: «يا إلهي، وهل لديهما أطفال؟»

قال: «أجل، اثنان، وهما مقيمان في الوقت الحاضر مع واحدة من بناتي، حيث كانت كلارا تقيم معها كذلك معظم الوقت. كنت حريصًا على ألا تغيب عن عيني، لأنني متأكدًا أنهما سيرجعان كل منهما للآخر مرة أخرى. والواقع أن ديك، وهو أفضل الرفاق، كان ملهوفًا على ذلك. فلم يكن هناك حب آخر يشغله، كما فعلت هي. وهكذا دبرت الأمر كله، كما فعلت من قبل في مثل هذه الأمور.»

قلت: «لا شك في أنك أردت أن تجنبهما الطلاق وتبعدهما عن المحاكم، وأظن أنها هي الجهة المختصة بتسوية هذه الأمور.»

قال: «وظنك في الواقع مغلوط من أساسه. إنني أعلم أنه كانت توجد أشياء طائشة مثل محاكم الطلاق، ولكن الحالات التي كانت تعرض عليهم لم تكن تخرج عن المنازعات حول الملكية.» وهنا أضاف وهو يبتسم: «وأعتقد يا ضيفي العزيز أن بإمكانك، على الرغم من أنك قادم من كوكب آخر، أن ترى من مجرد النظرة الخارجية على عالمنا أن الخلافات حول الملكية الخاصة لم يكن لها أن تستمر بيننا في هذه الأيام.»

والواقع أن جولاتي من هامرسميث حتى بلومز بيري، وكل ملامح الحياة السعيدة الهادئة التي رأيتها، فضلًا عن عملية التسوق، كانت كافية لتخبرني بأن «الحقوق المقدسة للملكية»، كما اعتدنا أن نصفها، لم يعد لها وجود الآن. ولهذا جلست صامتًا حتى التقط الرجل العجوز خيط الحديث مرة أخرى وأخذ يقول: «وما دامت الخلافات على الملكية قد اختفت، فماذا تبقى للمحاكم من تلك الأمور؟ هل يمكنك أن تتخيل محكمة مهمتها تنفيذ عقد عاطفي؟ ولو احتاج الأمر إلى شيءٍ مثل إبطال تنفيذ العقد، لكنا في غنًى عن مثل هذا الجنون.»

وسكت مرة أخرى قليلًا ثم قال: «عليك أن تفهم بصورة نهائية أننا قد غيرنا كل هذه الأمور، أو بالأحرى، أن طريقتنا في النظر إليها قد تغيرت، كما تغيرنا نحن أيضًا في غضون المائتي سنة الأخيرة. إننا لا نخدع أنفسنا، ولا نعتقد أن الحقيقة أن بإمكاننا التخلص من كل المشكلات التي تفسد العلاقات بين الجنسين، نحن نعلم أننا يجب أن نواجه التعاسة التي تحل بالرجال والنساء نتيجة اضطرابات العلاقات بين العاطفة الطبيعية، والشعور، والصداقة التي يمكنها إذا سارت الأمور على ما يرام، أن تساعد على تبديد غشاوة الأوهام العابرة، ولكننا لسنا مجانين إلى الحد الذي يجعلنا نضيف المزيد من المهانة إلى تلك التعاسة بالدخول في المنازعات الخسيسة، حول ظروف المعيشة وسلطة الولاية على الأطفال الذين كانوا ثمرة الحب أو الشهوة …

لم تبدُ عليك الصدمة عندما أخبرتك أنه لا توجد لدينا محاكم مختصة بتنفيذ العقود العاطفية، ولكن الأمر الغريب الذي ربما يصدمك عن أحوال الناس هنا هو أن تعلم أنه لا توجد لدينا قوانين وضعها الرأي العام لكي تحل محل تلك المحاكم، وقد تكون (أي تلك القوانين) أشد منها استبدادًا وحمقًا. لست أقول إن الناس لا يحكمون أحيانًا على سلوك جيرانهم حكمًا ظالمًا. ولكنني أؤكد أنه لا توجد لدينا مجموعة قواعد ثابتة ومتفق عليها يمكن الحكم بمقتضاها على سلوك الناس؛ ولا يوجد لدينا سرير بروكر ستيس١٦ نمد عليه عقولهم وحياتهم أو نقيدها، ولا حرمان — يتسم بالنفاق — من الكنيسة ويكره الناس على إعلانه، سواء بحكم العادة المتأصلة فيهم، أو بسبب التهديد الضمني بنوع آخر من الحرمان أقل منه إذا كانت درجة نفاقهم أضعف. هل شعرت الآن بالصدمة؟»

قلت مترددًا بعض الشيء: «لا، لا، إن الأمر مختلف عن ذلك تمامًا».»

ثم يسأل وليم جست الرجل العجوز عن وضع المرأة في المجتمع الجديد:

«ضحك من أعماق قلبه ضحكًا لا يتوقع من رجل في سنِّه وقال: «إنني لم أكتسب شهرتي كدارس للتاريخ دون مبرر. وأظن أنني أفهم بالفعل حركة تحرير المرأة في القرن التاسع عشر، كما أشك في وجود رجل آخر يفهمها اليوم مثلي.»

قلت وقد ضايقني مرحه قليلًا: «حسنًا؟»

قال: «حسنًا، يمكنك أن تدرك بالطبع أن كل هذا قد أصبح اليوم جدلًا عقيمًا. فلم تعد هناك أي فرصة لاستبداد الرجال بالنساء، أو لاستبداد النساء بالرجال، لأن كلا الأمرين قد حدث في تلك العصور القديمة. إن النساء يبذلن الآن ما في وسعهن ويعملن أفضل ما يمكنهن عمله وأحبه إلى نفوسهن، وهذا الوضع لا يجعل الرجال غيورين ولا يؤذي مشاعرهم، كما أنه قد أصبح من الأمور المألوفة بحيث يكاد يخجلني أن أصرح به.»

قلت: «آه! وماذا عن التشريع؟ ألا تشارك النساء بدور فيه؟»

ابتسم هاموند قائلًا: «أظن أن عليك أن تنتظر الإجابة عن هذا السؤال حتى نصل للكلام عن موضوع التشريع، وربما تلاحظ وجود أشياء جديدة عليك في ذلك الموضوع أيضًا.»

قلت: «حسنًا جدًّا، ولكن لنرجع إلى موضوع المرأة. فقد رأيت في بيت الضيافة أن النساء يخدمن الرجال، ألا يبدو هذا نوعًا من الرجعية؟ أليس كذلك؟»

قال الرجل العجوز: «أهو كذلك؟ ربما تصورت أن إدارة المنزل وظيفة تافهة ولا تستحق الاحترام. وأظن أن هذا التصور يعبر عن رأي المرأة (التقدمية) في القرن التاسع عشر، وعن رأي المناصرين لها من الرجال. وإذا كان هذا هو رأيك فإنني أشرح لك حكاية قديمة من الأدب الشعبي النرويجي عنوانها كيف يهتم الرجل ببيته، أو شيء من هذا القبيل، وكانت نتيجة هذا الاهتمام — بعد متاعب وأحزان كثيرة — أن حاول كل من الرجل وبقرة البيت أن يحافظ على توازنه عند طرف الحبل الذي يربطه، فبقي الرجل معلقًا فوق المدخنة وظلت البقرة مدلاة تتأرجح فوق السقف الذي يغطيه — حسب عادات هذه البلاد — التراب الذي تنمو فيه الأعشاب وينحدر بميل نحو الأرض. لم يكن ذلك من مصلحة البقرة، فيما أظن. ثم أضاف وهو يضحك ضحكًا مكتومًا؛ وبالطبع لا يمكن أن يقع مثل هذا الحادث المؤسف لشخص ألمعي مثلك».»

ويسأل الزائر بعد ذلك عن الآراء الجديدة حول التعليم. وكان قبل ذلك قد سأل ديك الذي أعطاه إجابات غريبة، وبدا عليه أنه لا يعرف معنى كلمة مدرسة. «قال ديك: «مدرسة؟ ماذا تعني بهذه الكلمة؟ إنني لا أفهم كيف يمكن أن تكون لها أي علاقة بالأطفال. إننا نتكلم حقًّا عن مدرسة لأسماك الرنجة، ومدرسة للرسم، وربما تكلمنا بالمعنى السابق عن مدرسة للأطفال، ولكن فيما عدا هذا يجب أن أعترف بأنني جاهل».» وعندما حاول أن يشرح له أنه يستخدم الكلمة بمعنى نظام التعليم، لم يفهمه الشاب أيضًا وقال: «التعليم؟ إنني أعرف من اللغة اللاتينية ما يكفي للقول بأن الكلمة مشتقة من الفعل Educere (يقود أو يوجه) وقد سمعت من يستخدمها، ولكني لم أقابل أبدًا أي شخص استطاع أن يشرح ما تعنيه بوضوح.» واستطرد يقول: «إن الأطفال يتعلمون سواء دخلوا نظام التعليم أو لم يدخلوه. أما عن التعليم من الكتب، فإن معظم الأطفال يرون الكتب ملقاة حولهم، ويقبلون على قراءتها منذ بلوغهم سن الرابعة، ولكننا لا نشجعهم على الكتابة في سن مبكرة، لأن هذا يعودهم على الكتابة بخط رديء.» واستنتج الزائر من هذه المحادثة أن الأطفال يُترَكون على سجيتهم ولا يتعلمون شيئًا. وهكذا يقول للعجوز: ««لقد قمتم بتصفية التعليم، حتى لم يبقَ لديكم شيء منه.»

قال: «إذن فقد أسأت فهمي. ولكني أفهم بالطبع وجهة نظرك عن التعليم التي ترجع للعصور الماضية، عندما حول الصراع من أجل البقاء، كما اعتاد الناس أن يعبروا عنه (بمعنى الصراع من أجل قوت العبيد من ناحية، ومن أجل حصول ملاك العبيد على أكبر المزايا من ناحية أخرى) حَوَّل التعليم بالنسبة لمعظم الناس إلى جرعات ضئيلة من المعلومات التي تفتقر إلى الدقة، وجعله بالنسبة للمبتدئ في فن الحياة شيئًا لا بد من بلعه سواء أراد ذلك أو لم يرد، وسواء أحس نحوه بالجوع أو لم يحس؛ وكانت النتيجة أن مضغه وهضمه المرة بعد المرة أناس لا يكترثون به لكي يقدموه بعد ذلك لأناس لا يكترثون به أيضًا.»

أوقفت عضب الرجل العجوز، وقلت: «حسنًا، إنك لم تتعلم بهذه الطريقة على أي حال، فخفف قليلًا من غضبك.»

قال مبتسمًا: «حقًّا، حقًّا، وأشكرك على تهدئة انفعالي؛ فأنا دائمًا أتخيل نفسي وكأني أعيش في العصر الذي نتحدث عنه. ومع ذلك فلنتكلم بطريقة بعيدة عن الانفعال. لقد كنتم تحشرون الأطفال في المدارس عندما يبلغون السن التي اصطلحتم على اعتبار أنها هي السن المناسبة، وبصرف النظر عن قدراتهم واستعداداتهم المختلفة، ودرجتم أيضًا — متجاهلين للحقائق — على إلزامهم بمقررات معينة بحجة تعليمهم. ألا ترى يا صديقي أن مثل هذا الإجراء يتجاهل حقيقة النمو الجسدي والعقلي؟ لم يخرج أحد من هذه الطاحونة بغير أذًى، ولم يكن لأحد أن ينجو من تدميرها إلا الذين تسكنهم روح التمرد القوية. ومن حسن الحظ أن الأطفال في كل العصور يتمتعون بهذه الروح، ولولا هذا لما وصلنا إلى وضعنا الحاضر. وها أنت بنفسك ترى ما آلت إليه كل هذه الأمور. لقد جاء كل هذا في العصور القديمة من الفقر. كان المجتمع في القرن التاسع عشر، بسبب اللصوصية المنظمة التي قام عليها، قد وصل إلى حالة من البؤس والضنك الذي استحال معه أي تعليم حقيقي لأي إنسان، وكانت النظرية الكاملة لتعليمهم المزعوم هي العمل بكل وسيلة على إقحام معلومات هزيلة في عقل الطفل، حتى ولو كان ذلك عن طرق التعذيب، ومن خلال الثرثرة الحمقاء التي عرف الجميع تمام المعرفة أنها لا تجدي شيئًا، وإلا فسوف يقضي حياته مفتقرًا لأي معلومات، في وقتٍ زحف فيه الفقر المدقع ولم يسمح بشيء آخر. لكن هذا كله أصبح جزءًا من الماضي. لم نعد نتعجل شيئًا، والمعلومات جاهزة وفي متناول كل فرد إذا دفعته ميوله الخاصة للبحث عنها. لقد أصبحنا أثرياء من هذه الناحية ومن نواحٍ أخرى، ويمكننا أن نوفر لأنفسنا الوقت الكافي للنمو.»

قلت: «نعم. ولكن افترض أن الطفل، أو الشاب، أو الرجل لم يقبل المعلومات المقدمة له، ولم ينمُ في الاتجاه الذي أردتموه، افترض، مثلًا، أنه رفض تعلم الحساب والرياضيات، ألن يكون بإمكانك إجباره بعد أن يكبر، كما لم يكن بإمكانك إجباره في أثناء نموه، أم أنك أجزتم هذا لأنفسكم؟!»

قال: «حسنًا، وهل أُجبِرت أنت على تعلم الحساب والرياضيات؟»

قلت: «إلى حد ما.»

قال: «وكم عمرك الآن؟»

قلت: «حوالي ستة وخمسين عامًا.»

قال وهو يبتسم في سخرية: «وما مقدار ما تعرفه الآن من الحساب والرياضيات؟»

قلت: «يؤسفني أن أقول لا شيء على الإطلاق.»

ضحك هاموند بهدوء، ولكنه لم يعلق بشيء على اعترافي، فرأيت أن أسقط موضوع التعليم، بعد أن أدركت أنني لن أفوز منه بأي طائل.»١٧

ويعبِّر الضيف بعد ذلك عن دهشته لسماع ما قاله هاموند حول الشئون المنزلية: ««ذكَّرني هذا بالعادات التي درج عليها الناس في العهود الماضية، وكنت قد تصورت أنكم فضلتم أن تعيشوا حياة عامة ومشتركة.»

قال: «حياة الفالنسترات (الجماعة التعاونية)؟ حسنًا، نحن نعيش بالطريقة التي نحبها، ونحب كقاعدة أن نحيا مع أعضاء أسرة معينة اعتدنا عليها. تذكر مرة أخرى، أن الفقر قد اختفى، وأن «فالنسترات» فورييه وما يجري مجراها كانت أمرًا طبيعيًّا في ذاك الوقت، ولم تكن أكثر من ملاذ من الفاقة والعوز. إن مثل هذه الطريقة في الحياة لم تكن لتخطر إلا على بال أناس محاطين بأسوأ أشكال الفقر. ولكن يجب أن تفهم أنه على الرغم من أن الحياة في أسر مستقلة هي القاعدة بيننا، وعلى الرغم من اختلافها بصورة أو أخرى في العادات، فإن الباب لا يغلق في وجه أي شخص يتمتع بمزاج طيب ويقنع بأن يعيش كما يعيش بقية أفراد الأسرة، وليس من المعقول بطبيعة الحال أن يهبط شخص على إحدى العائلات، ويطلب من أفرادها أن يغيروا عاداتهم لكي يرضوه، ما دام بإمكانه أن يذهب لأي مكان ويعيش كما يحلو له».»

وبعد أن استمع إلى الرجل العجوز وهو يصف لندن الجديدة التي أزيلت منها الأحياء الفقيرة القذرة، حلت محلها المروج الخضراء أو البيوت الجميلة التي تحيط بها الحدائق، أراد الزائر أن يعرف شيئًا عن المدن الأخرى … ورد هاموند على سؤاله قائلًا:

««بالنسبة للأماكن الكبيرة المظلمة التي كانت ذات يوم، كما نعلم، مراكز للصناعة، فقد اختفت من لندن شأنها شأن الأماكن المهجورة التي كانت مكدسة بالآجر والملاط. ولأنها لم تكن سوى مراكز للصناعة فحسب، ولم تقم إلا لخدمة أسواق القمار، فلم تترك وراءها أي أثر يدل عليها كما هو الحال مع لندن. وطبيعي أن التغير الكبير الذي حدث بسبب استخدام القوة الآلية (الميكانيكية) جعل هذا الأمر هيِّنًا، كما أن التفكير في إزالة هذه المراكز كان أمرًا واردًا حتى ولو لم نغير عاداتنا لنصل إلى الحد الذي وصلت إليه، ولكن وجودها بالصورة التي كانت عليها، هو الذي أقنعنا بألا نستكثر أي تضحية في سبيل التخلص مما اصطلح على تسميته ﺑ «المناطق الصناعية». أما ما تبقى بعد ذلك لسد احتياجاتنا من الفحم والمعادن والعلف فهو يُعبَّأ ويُرسَل إلى الجهات التي تطلبه بأقل قدر ممكن من القذارة، والفوضى والمآسي التي جلبتها على البسطاء من الناس …

وأما المدن الصغرى فكانت أعمال الإزالة فيها قليلة بالنسبة لزيادة الإعْمار. وقد ذابت ضواحيها — في الحالات التي وجدت فيها ضواحي — في المناطق الريفية، وتم توسيع مراكزها بصورة ملحوظة، ومع ذلك فلم تزل هذه المدن قائمة بشوارعها وميادينها وأسواقها، بحيث يمكننا نحن أبناء هذه الأيام أن نكوِّن فكرة عن حالة المدن الصغيرة في العهود الخالية، أعني في أفضل أحوالها.

بهذا نقف على حقيقة الموقف في إنجلترا التي كانت ذات يوم بلدًا قائمًا وسط مساحات شاسعة من الغابات والأراضي البور، مع عدد قليل من المدن المتناثرة التي كانت قلاعًا لجيوش الإقطاعيين، وأسواقًا شعبية، وأماكن تجمع للحرفيين، ثم صارت بعد ذلك بلدًا يضم ورشًا ضخمة وقذرة، وأوكار قمار أقذر، تحيط بها مزارع مهملة موبوءة بالفقر ومنهوبة من قبل أصحاب الورش. لقد أصبحت الآن حديقة كبيرة، لا يُهْدَر فيها شيء ولا يتلف شيء، وتتوافر فيها المساكن الضرورية، والورش الصناعية المتناثرة من شمالها إلى جنوبها، وكلها أنيقة ونظيفة وجميلة.»

قلت: «لا شك في أن هذا تغيير نحو الأفضل. ومع أنني سأشاهد بعض هذه القرى بعد قليل، فأرجوك أن تصف لي حالتها في كلمة أو كلمتين، وذلك لكي أهيئ نفسي لذلك.»

قال: «لعلك قد رأيت صورة مناسبة لتلك القرى كما كانت تبدو في نهاية القرن التاسع عشر. هناك صور كثيرة من هذا النوع.»

قلت: «لقد رأيت عددًا كبيرًا منها.»

قال هاموند: «حسنًا، إن قرانا تشبه أفضل الأماكن (التي تراها في تلك الصور)، والكنيسة أو مجمع الجيران هما المبنى الرئيسي فيها. عليك فقط أن تلاحظ أنه لا توجد بها أي علامة تدل على الفقر؛ وصدقني أنك لن تجد فيها تلك المناظر الباهتة التي يلجأ إليها الفنان عادة لإخفاء عجزه في الرسم المعماري. إن هذه الأساليب لا تعجبنا، حتى إن لم تعبر عن البؤس. فنحن مثل أهل العصور الوسطى نحب أن يكون كل شيء مرتبًا ونظيفًا ومتألقًا، مثلًا في هذا مثل كل من لديهم إحساس بالقوة المعمارية، لأنهم سيعرفون في هذه الحالة كيف يحصلون على ما يريدون، ولن يتحملوا أي عبث أو شذوذ خلال تعاملهم مع الطبيعة.»

قلت: «هل هناك بجانب القرى، أي بيوت ريفية متناثرة؟»

قال هاموند: «أجل، وبوفرة. والحقيقة أنه ليس من السهل أن تغيب البيوت عن بصرك، وذلك باستثناء المساحات التي تغطيها الأراضي البور والغابات والتلال الرملية (مثل الهندهيد Hindhead في منطقة سرِّي Surrey). وحيث تقترب البيوت بعضها من بعض تصبح أكبر حجمًا وأشبه بالكليات القديمة منها بالبيوت العادية. وقد روعيت في هذا مصلحة المجتمع، لأن عددًا كبيرًا من الناس يمكنهم أن يقيموا في هذه البيوت، لا سيما أن سكان الريف ليسوا بالضرورة مزارعين، وإن كان أغلبهم يساعد في الأعمال الزراعية في بعض الأحيان. والحياة في هذه المساكن الريفية الكبيرة مبهجة للغاية، خاصة أن معظم العلماء والأفذاذ في عصرنا يعيشون فيها، كما أن التنوع الكبير بينهم في الأفكار والمشارب يحفز المجتمع من حولهم على الحيوية والنشاط.»

قلت: «إن هذا كله يدهشني، إذ يبدو لي أن المناطق الريفية ينبغي أن تكون فيها كثافة سكانية معقولة.»

قال: «بالتأكيد. وعدد السكان في الوقت الحاضر مساوٍ تقريبًا لعددهم في نهاية القرن التاسع عشر، كل ما فعلناه هو أننا قمنا بنشرهم على مساحات واسعة. وقد ساعدنا كذلك بطبيعة الحال على نشر السكان في مناطق وبلاد أخرى، وذلك كلما احتاج أحد إلى مساعدتنا أو دعانا إلى ذلك.

وقد تمت تغييرات أعظم في إدارة الريف، لأن الحكومة اختفت تمام الاختفاء.»

قلت: «لقد وصلت الآن إلى المرحلة التي يمكنني فيها أن أطرح بعض الأسئلة التي ربما تتحفظ في الإجابة عنها، ويصعب عليك شرحها، ولكنني شعرت أثناء الحوار السابق أنه يتحتم عليَّ أن أوجهها لك، وسأشرع في ذلك الآن: ما هو نوع الحكومة لديكم؟ هل انتصرت الجمهورية أخيرًا؟ أم وصلتم إلى الديكتاتورية التي اعتاد بعض الناس في القرن التاسع عشر على التنبؤ بأنها ستكون هي النتيجة النهائية للديمقراطية؟ الواقع أن السؤال الأخير لا يبدو منافيًا للعقل تمامًا، ما دمتم قد حوَّلتم برلمانكم إلى سوق للروث. أين أقمتم إذن برلمانكم الحالي؟»

استجاب الرجل العجوز لابتسامتي بضحكة من أعماق قلبه وقال: «حسنًا، حسنًا، ليس الروث بأسوأ أنواع الفساد؛ فربما يأتي منه السماد الذي يخصب الأرض، حيث لم يأتِ من النوع الآخر — الذي تشهد عليه هذه الجدران التي ضمت أنصاره في يوم من الأيام — إلا الجوع وشح الأقوات. والآن يا ضيفنا العزيز، دعني أخبرك أن برلماننا الحالي تصعب إقامته في مكان واحد، لأن الشعب كله هو برلماننا.»

قلت: «لست أفهم ما تقصده.»

قال: «لا. أظن أنك تفهم. لا بد أن أصدمك بإبلاغك أنه لم يعد لدينا شيء مما يمكن أن تسميه أنت — بوصفك مواطنًا من كوكب آخر — باسم الحكومة.»

قلت: «لم أُصْدَم كثيرًا كما تتصور؛ لأن لديَّ بعض المعلومات عن الحكومات. ولكن خبَّرني، كيف تدبرون أموركم، وكيف وصلتم إلى هذا الوضع؟»

قال: «صحيح أننا مضطرون لإجراء بعض الترتيبات التي يمكنك الآن أن تسأل عنها، وصحيح أيضًا أن تفاصيل هذه الترتيبات لا يوافق عليها الجميع. ولكن الأصح من ذلك أن الإنسان لا يحتاج إلى نظام حكومي كامل بكل ما يشتمل عليه من جيش وبحرية وشرطة، لكي يجبره على الخضوع لإرادة الأغلبية من أنداده، إلا بقدر ما يحتاج إلى جهاز مشابه لكي يفهمه أن رأسه والحائط الحجري لا يمكن أن يشغلا نفس المكان في نفس اللحظة.»

وقد اتخذ الناس، بعد إلغاء الملكية والحكومة، موقفًا جديدًا بعضهم من بعض. فقد اختفى من حياتهم النزاع واللصوصية، وأصبحت الزمالة الطيبة عادة فيهم. ومع ذلك فليس معنى هذا أن الأمر قد خلا من بعض حوادث الاعتداء.

قال هاموند: «ولكن إذا حدثت اعتداءات، فإن الجميع بما في ذلك المعتدون، يعلمون أنها مجرد أخطاء وقع فيها أصدقاء، وليست من الأعمال المعتادة التي يقترفها أشخاص تحركهم العداوة للمجتمع.»

قلت: «فهمت، ولعلك تقصد أنه لا توجد لديكم جرائم جنائية.»

قال: «وكيف توجد هذه الجرائم مع غياب الطبقة الغنية التي تحرض الأعداء ضد الدولة عن طريق الظلم الذي ترتكبه الدولة نفسها؟»

قلت: «أعتقد أنني فهمت من بعض ما صدر منك قبل قليل أنكم قد ألغيتم القانون المدني فهل هذا صحيح؟»

قال: «لقد ألغى نفسه يا صديقي. وكما قلت لك من قبل كانت المحاكم المدنية تنعقد للدفاع عن الملكية الخاصة، إذ لم يدَّعِ أحد أبدًا أنه يمكن عن طريق القوة أن يجبر الناس على معاملة بعضهم بعضًا معاملة طيبة. وبعد إلغاء الملكية الخاصة بطلت بطبيعة الحال جميع القوانين وتوقفت كل الجرائم التي خلقتها الملكية. وأصبح من الضروري أن تترجم عبارة: «ينبغي عليك ألا تسرق.» إلى عبارة: «ينبغي عليك أن تعمل لكي تحيا حياة سعيدة.» فهل هناك أي داعٍ لفرض تلك الوصية عن طريق العنف؟»

قلت: «حسنًا، هذا مفهوم وأوافق عليه، ولكن ماذا عن جرائم العنف؟ ألا يستوجب حدوثها (وأنت تعترف بأنها تحدث أحيانًا) ضرورة وجود القانون الجنائي؟»

قال: «حسب مفهومك للكلمة، لا يوجد لدينا قانون جنائي. ودعنا ننظر للأمر عن قرب لنرى من أين تنطلق جرائم العنف. لقد كان الجزء الأكبر من هذه الجرائم في الأيام الغابرة مترتبًا على قوانين الملكية الخاصة، التي حرمت الغالبية العظمى من إشباع رغباتهم الطبيعية، وقصرت هذا الإشباع على فئة قليلة متميزة، كما كان نتيجة للقهر الشديد الذي سببته تلك القوانين. وقد اختفت الملكية الخاصة التي كانت السبب في معظم جرائم العنف. ثم إن الكثير من جرائم العنف جاء أيضًا من انحراف العلاقات الجنسية، الأمر الذي سبَّب الغيرة التافهة وما يشببها من المشاكل. ولو أمعنت النظر في هذه المشاكل لوجدت أنها تقوم في أساسها على فكرة أن المرأة مِلْك الرجل (وهي الفكرة التي حُوِّلت إلى قوانين) سواء كان هذا الرجل هو الزوج، أو الأب، أو الأخ، أو أيًّا كان. وقد اختفت تلك الفكرة بطبيعة الحال باختفاء الملكية الخاصة، كما اختفت معها حماقات معينة عن «تدمير» النساء بسبب الانسياق وراء رغباتهن الطبيعية بطريقة غير مشروعة، وهو بالطبع تقليد عام ترتب على قوانين الملكية الخاصة.

وهناك سبب آخر مشابه لجرائم العنف وهو استبداد الأسرة، الذي كان موضوع روايات وقصص عديدة في الماضي، كما كان كذلك نتيجة مترتبة على الملكية الخاصة. وطبيعي أن كل هذا قد انتهى، ما دام التماسك العائلي لا يقوم على القسر القانوني أو الاجتماعي، وإنما يقوم على الميل والحب المتبادل، وكل فرد حر في أن يأتي ويذهب كما يحلو له أو لها. أضف إلى هذا أن معايير الشرف والتقدير العام عندنا تختلف تمامًا عن المعايير السابقة، فالتفوق على جيراننا كطريق إلى الشهرة مغلق الآن، ودعنا نأمل في أن يظل مغلقًا للأبد. وكل إنسان حر في تنمية ملكاته الخاصة إلى أقصى حد ممكن، كما أن كل إنسان يشجعه على ذلك. بهذا تخلصنا من الحسد الكئيب الذي قرنه الشعراء بالحقد، ويقينًا عن حق، وإليه ترجع أكوام التعاسة والمزاج السيئ التي كثيرًا ما جعلت سريعي الغضب وذوي الطبع الحساس — أي ذوي النشاط والطاقة الزائدة — يلجئُون إلى العنف.»

ضحكت وقلت: «وإذن فأنت الآن تسحب اعترافك وتنفي وجود العنف بينكم؟»

قال: «لا، لم أسحب شيئًا، فمثل هذه الأمور، كما قلت لك، يمكن أن تحدث. والدماء الحارة سترتكب الأخطاء في بعض الأحيان. وربما يضرب رجل رجلًا آخر، ويقوم الشخص المضروب برد الضربة مرة ثانية، وتكون النتيجة جريمة قتل، هذا إذا افترضنا أسوأ الأحوال. ولكن ماذا بعد؟ هل يحق لنا — ونحن جيران القاتل والقتيل — أن نزيد الأمور سوءًا؟ وهل بلغ سوء الظن ببعضنا البعض إلى حد أن نتصور أن المقتول يدعونا للانتقام له، خصوصًا أننا نعلم — لو كان قد جرح وأتيح له أن يفكر تفكيرًا هادئًا واستطاع أن يزن كل الظروف — أنه كان سيبادر إلى العفو عن جارحه؟ أم هل يستطيع موت القاتل أن يعيد الحياة مرة أخرى للقتيل، ويشفي التعاسة التي سببها فقده؟»

قلت: «أجل، ولكن ألا تضع في اعتبارك أن حماية أمن المجتمع تستوجب نوعًا من العقاب؟»

قال الرجل العجوز مبتهجًا: «مرحى يا جار! لقد أصبت كبد الحقيقة في الصميم. ذلك العقاب الذي اعتاد الناس أن يتحدثوا عنه بحكمة بالغة وأن يتصرفوا مع ذلك بحماقة بالغة، هل كان إلا تعبيرًا عن خوفهم؟ لقد كانوا في حاجة إلى الخوف، لأنهم — أي حكَّام المجتمع — كانوا يعيشون كعصابة مسلحة في بلد معادٍ. لكننا نحن الذين نعيش وسط أصدقائنا، لا نحتاج إلى أن نخاف ولا إلى أن نعاقب. ولا شك في أننا لو فكرنا — تحت تأثير الرعب من جريمة قتل محتملة أو من ضربة عرضية قاسية — في ارتكاب القتل بشكل قانوني وقور، لكان معنى هذا أننا قد أصبحنا مجتمعًا من الجبناء المتوحشين. ألا توافقني على هذا يا جار؟»

قلت: «نعم أوافقك، لا سيما إذا فكرت في الأمر من تلك الناحية …»

قال الرجل العجوز: «ومع هذا يجب عليك أن تفهم أنه عندما يُرتكَب أي حادث عنف، فإننا نتوقع من المعتدي أن يقدم أي تعويض ممكن، كما أنه هو نفسه يتوقع ذلك. ولكن فكِّر مرة أخرى فيما إذا كان التدمير أو إيقاع الأذى الشديد بإنسان غلبه الغضب أو الجنون في لحظة معينة يمكن أن يكون فيه أي تعويض للمجتمع. ألا ترى أن هذا سيكون بالتأكيد إساءة أخرى له؟»

قلت: «ولكن افترض أن هذا الإنسان قد تعوَّد على العنف، وأنه مثلًا يقتل إنسانًا كل عام.»

قال: «إن مثل هذه الحالة غير معروفة. وفي مجتمع لا يوجد به عقاب حتى نتجنبه، ولا قانون يمارس قهره علينا، لا بد أن يؤدي العدوان إلى الندم.»

قلت: «وحالات العنف التي تقل عن ذلك، كيف تتعاملون معها؟ لأننا فيما أعتقد قد تكلمنا من قبل عن مآسٍ فظيعة.»

قال هاموند: «إذا لم يكن المذنب مريضًا ولا مجنونًا (وفي هذه الحالة يجب أن يتم التحفظ عليه حتى يشفى من مرضه أو جنونه) فمن الواضح أن الشعور بالحزن والإذلال سيلاحقانه بسبب فعلته، والمجتمع بصفة عامة سيوضح له هذا إذا تصادف أن كان غبيًّا لا يفهم، أضف إلى هذا أنه لا بد أن يتبع هذا نوع من التعويض — أو اعتراف صريح على أقل تقدير — بأنه يشعر بالحزن والخزي. فهل يصعب عليه أن يعترف يا جار؟ ربما يكون هذا أمرًا صعبًا. فليكن كذلك.»

قلت: «أتعتقد أن هذا كافٍ؟»

قال: «أعتقد هذا. ثم إن هذا هو كل شيء يمكننا عمله. ولو أضفنا إليه تعذيب الرجل، لحوَّلنا حزنه إلى غضب، وجعلناه يستعيض عن الإذلال والخزي اللذين كان من الممكن أن يشعر بهما بسبب فعلته، بالأمل في الانتقام من إيذائنا له. سوف يحس عندئذٍ أنه قد نفذ العقوبة القانونية، وأن بإمكانه أن يذهب ويرتكب الخطأ مرة أخرى وهو مستريح. فهل نرتكب مثل هذه الحماقة؟ تذكر أن المسيح قد ألغى العقوبة القانونية قبل أن يقول: «اذهب ولا ترتكب الخطيئة مرة أخرى». ولا تنسَ أنك لن تجد في المجتمع الذي حقق المساواة بين الجميع أي فرد يقبل أن يؤدي دور المعذِّب أو السجَّان، وإن وجدت الكثيرين على استعداد للقيام بدور الممرضة أو الطبيب.»

قلت: «أتعتبر الجريمة إذن مجرد مرض عصبي لا يتطلب إجراءات وقوانين جنائية للتعامل معه؟»

قال: «هذا قول جميل، وما دمنا، كما قلت لك، شعبًا يتمتع بالصحة بصفة عامة، فلا داعي لأن نشغل أنفسنا بهذا المرض.»

لقد أصبحت كل بلاد العالم تتمتع بنفس القدر من الحرية والمساواة الذي تتمتع به إنجلترا، واختفت المنافسات والحروب بين الأمم. ولا توجد داخل المجتمع أحزاب سياسية، وإذا وُجِدت خلافات في الرأي فهي خلافات حول أشياء حقيقية وصلبة لا تحتاج إلى أن تقوم عندنا — كما يقول هاموند — على تقسيم الناس إلى أحزاب متعادية على الدوام، ولكل منها نظريات مختلفة عن طبيعة الكون وتقدم الزمن … إن خلافاتنا تنصب على الشئون العملية وما تتعرض له من أحداث عابرة، ولا يمكن لمثل هذه الخلافات أن تفرق بين الناس بصفة مستمرة.

قلت: «أظن أنكم تسوون هذه الخلافات، سواء كانت كبيرة أو صغيرة، بالرجوع إلى إرادة الأغلبية؟»

قال: «بالتأكيد، وكيف يتسنى لنا تسويتها بغير هذه الوسيلة؟ لعلك توافقني على أن الأمور الشخصية التي لا تؤثر في مصالح المجتمع — مثل الملبس الذي يحب كل إنسان أن يرتديه، والطعام الذي يأكله والشراب الذي يشربه، وما يميل لقراءته أو كتابته وما شاكل ذلك — هذه الأمور الشخصية لا يمكن أن تختلف الآراء حولها، لأن كل إنسان حر في أن يتصرف فيها كما يحب. ولكن عندما يتعلق الأمر بالمصلحة العامة للجماعة بأسرها، ويؤثر فعله أو عدم فعله أحيانًا في كل فرد فيها، فيجب على الأغلبية أن تدلي برأيها، إلا إذا لجأت الأقلية لحمل السلاح وحاولت أن تثبت بالقوة أنها هي الأغلبية المؤثرة أو الأغلبية الحقيقية، وإن كان هذا أمرًا غير وارد في مجتمع مكوَّن من أناس أحرار، ومتساوين، والسبب في ذلك يرجع إلى أن الأغلبية الظاهرة في مثل هذا المجتمع هي الأغلبية الحقيقية، كما أن الآخرين، كما أشرت من قبل، يعلمون هذا تمام العلم ولا يحاولون أن يقفوا في طريقه أو يقفوا منه موقف العناد، وخاصة أنه كانت لديهم فرص عديدة للتعبير عن رأيهم في هذه الأمور.»

قلت: «وكيف تتصرفون من الناحية الإدارية؟»

قال: «حسنًا، دعنا نأخذ إحدى وحداتنا الإدارية، كأن تكون إحدى التعاونيات (الكوميون) أو أحد المجالس المحلية، أو إحدى الدوائر؛ لأن لدينا كل هذه الأسماء التي لا تدل في الوقت الحاضر على أي فروق حقيقية، وإن كان الأمر في الماضي قد اختلف عن ذلك. في مثل هذه المنطقة، إذا شئت أن تسميها كذلك، يعتقد بعض الجيران (الرفاق) أنه يجب تنفيذ شيء ما أو يجب صرف النظر عنه، كبناء قاعة جديدة للمدينة، أو إزالة البيوت التي لا تصلح للسكنى، أو استبدال جسر حجري بجسر حديدي قبيح وعتيق، وفي كل هذه الحالات كما ترى يحتمل الأمر التنفيذ أو عدم التنفيذ. حسنًا، في الاجتماع العادي التالي للجيران — أو الموت Mote كما نسميه حسب اللغة القديمة التي كانت مستعملة في العهود السابقة للبيروقراطية — يقترح أحد الجيران فكرة التغيير، وإذا وافق الجميع، ينتهي النقاش بطبيعة الحال، باستثناء ما يتعلق بالتفاصيل. وبالمثل، إذا لم يؤيد أحد مقدم الاقتراح — أو لم يسانده كما اعتدنا أن نقول — فإن الاقتراح يصرف النظر عنه لفترة معينة، وهو أمر لا يحدث بين أناس عقلاء، لأن مقدم الاقتراح يحرص على مناقشته مناقشة تفصيلية قبل الاجتماع العام. ولكن لنفترض أن الاقتراح قُدِّم ووجد مؤيدين، ومع ذلك اعترض عليه عدد قليل من الجيران، كأن يقولوا مثلًا إن الجسر الحديدي العتيق يمكنه أن يستمر في الخدمة مدة أطول، وإنهم لا يريدون أن يزعجهم أحد بفكرة بناء جسر جديد لا داعي له، إذا حدث هذا فلا تُؤخَذ الأصوات في هذه المرة، وتؤجل مناقشة الموضوع للاجتماع التالي. وفي هذه الأثناء يتبادل الناس الآراء، وتقدم الحجج المؤيدة أو المعارضة للاقتراح، بل إن بعضها يطبع وينشر، بحيث يلم الجميع بأطراف الموضوع، وعندما يعقد الاجتماع مرة أخرى تتم مناقشة المسألة بشكل منظم، وفي النهاية تؤخذ الأصوات بطريقة رفع الأيدي. فإذا حدث أن كان الاختلاف في الرأي محدودًا، يؤجل الموضوع مرة أخرى لمناقشته مناقشة موسعة، أما إذا كان الخلاف واسعًا، فيطلب من الأقلية أن تخضع لرأي الأغلبية، وعادة ما تستجيب لهذا الطلب. أما إذا رفضوا، فإن الموضوع يُطرَح للمناقشة للمرة الثالثة، وحينئذٍ يمتثلون دائمًا لرأي الأغلبية، لا سيما إذا لم يكن عدد الأقلية قد زاد زيادة ملحوظة. وإن كنت أعتقد أن هناك قاعدة شبه منسية تعطيهم الحق في التمسك برأيهم، ولكن أقول إنهم يقتنعون في النهاية دائمًا، ليس لأن وجهة نظرهم خاطئة، ولكن لأنهم لا يستطيعون إقناع الجماعة بها أو إجبارهم على تبنيها.»

قلت: «حسن جدًّا، ولكن ماذا يحدث إذا ظلت شُقة الخلاف واسعة؟»

قال: «من حيث المبدأ وطبقًا للقاعدة المتَّبعة في مثل هذه الأحوال، يسقط الموضوع برمته، وتضطر الأغلبية، إذا فشلت في التصويت، أن تذعن للأمر الواقع. ولكن من واجبي أن أخبرك بأن الأقلية في الواقع نادرًا ما تفرض هذه القاعدة بالقوة، إذ تخضع بوجه عام لرأي الأغلبية بطريقة ودية.»

لقد توقف العمل في هذا المجتمع الجديد عن أن يكون عقوبة، وأصبح، على العكس من ذلك، نشاطًا ممتعًا. وحتى العمل المتميز لا يكافأ عليه صاحبه بأي شكل من الأشكال، لا بكسب مادي ولا بزيادة في السلطة. والمكافأة الوحيدة هي الإبداع، ولو أنك طلبت أجرًا عن لذة الإبداع — كما يقول الرجل العجوز — مع أن أجره الوحيد هو إتقان العمل والتفوق فيه، فسوف نسمع بعد ذلك أن الآباء يرسلون إلينا فاتورة الحساب بمجرد أن يُرزَقوا بطفل … إن اللجوء للحوافز لتشجيع الناس عن العمل، يتضمن أن العمل معاناة. ونحن أبعد ما نكون عن التفكير بهذه الصورة، حتى لقد نشأ بيننا نوع من الخوف من أن يحدث عندنا في يوم من الأيام نقص في العمل. إنها متعة نخشى أن نفقدها، وليس ألمًا.

والعمل الذي ليس ممتعًا في حد ذاته، قد أصبح — في المجتمع الجديد — مصدرًا للمتعة بسبب معرفة الناس بأنه نافع ومفيد. أما في المجتمع القديم الذي انصرف فيه الناس أساسًا لإنتاج سلع غير ضرورية، فقد أصبح العمل «هو السعي المتواصل لبذل أقل جهد ممكن في صنع أي سلعة، وفي الوقت نفسه في صنع أكبر عدد ممكن من السلع». وللتخلص من هذه السلع، كان من الضروري خلق حاجات جديدة بشكل مصطنع، وفتح أسواق جديدة في البلاد «غير المتحضرة». غير أن الإنسان في المجتمع الجديد لا ينتج سلعًا سخيفة لمجرد أن يستفيد من ذلك أحد الرأسماليين، وإنما ينتج ما تحتاج إليه الجماعة حاجة ضرورية. وهناك علاقة حيوية بين المنتج والمستهلك كما كان الحال في مدن العصر الوسيط:

«إن السلع التي نصنعها هي السلع التي نحتاج إليها، فالناس يصنعون ما يحتاج إليه جيرانهم (رفاقهم) كما لو كانوا يصنعونه لأنفسهم، وليس لأسواق مجهولة لا يعرفون عن أمرها شيئًا، ولا يملكون التحكم فيها، وكما أنه لا يوجد بيع ولا شراء، فمن الجنون أن نصنع سلعًا لا ندري إن كنا سنحتاج إليها، لأنه لم يعد لدينا إنسان يمكن إجباره على شرائها. ولهذا فإن كل ما نصنعه جيد وملائم تمام الملاءمة للغرض منه. ولا يمكن أن نصنع شيئًا إلا إذا كانت هناك حاجة أصيلة إلى استخدامه، ولهذا لا نصنع سلعًا رديئة. أضف إلى هذا، كما سبق أن ذكرت، أننا قد عرفنا ما نريد، ولهذا لا نصنع أكثر مما نحتاج إليه، وكما أننا غير مضطرين لأن نصنع كميات كبيرة من أشياء عديمة الفائدة، فإن لدينا الوقت والموارد الكافية التي تجعلنا نحكم على مدى استمتاعنا بصنع هذه الأشياء. والعمل الذي يمكن أن يبعث على الضيق إذا صنعناه بأيدينا، نصنعه بالآلات المتطورة تطورًا هائلًا، والعمل الذي يمتعنا إذا صنعناه بأيدينا، نستغني فيه عن الآلات. وليست هناك أي صعوبة في إيجاد العمل الذي يناسب الميول العقلية لكل فرد؛ الأمر الذي يترتب عليه ألا يضحي بإنسان لتلبية حاجات إنسان آخر. وقد عمدنا من وقت لآخر، كلما اكتشفنا أن بعض أنواع العمل كريهة جدًّا أو متعبة، إلى التخلي عن ذلك العمل والاستغناء عن إنتاجه. والآن يمكنك بالتأكيد أن ترى أن العمل الذي نقوم به تحت هذه الظروف هو تمرين ممتع بصورة أو أخرى للعقل والجسد معًا، لدرجة أن كل إنسان يسعى إلى العمل بدلًا من أن يسعى إلى تجنبه. وما دام الناس قد اكتسبوا المهارة في العمل جيلًا بعد جيل، فقد أصبح إنجازه من السهولة بحيث يبدو الأمر وكأننا ننجز القليل، في حين أن إنتاجنا قد يكون في تزايد مستمر.»

ولا يحتاج السعداء سعادة حقيقية إلى الإيمان بحياة أسعد بعد الموت أو إلى التماس العزاء في حب الله.١٨ فقد استُبدل الدين الإنساني بالدين المسيحي، كما أصبح الناس يحبون رفاقهم في الإنسانية، ليس عن شعور بأداء الواجب، بل لأنهم يستحقون منهم الحب.

«إن الإيمان بالنعيم والجحيم، وكأنهما بلدان يمكن أن يعيش الإنسان فيهما، قد اختفى، ونحن الآن نؤمن، بالكلمة والفعل معًا، بالحياة المتصلة لعالم البشر، ونضيف، إذا جاز هذا القول، كل يوم من أيام هذه الحياة المشتركة إلى الرصيد القليل من الأيام الذي توفره لنا تجاربنا الفردية، ونتيجة هذا هي أننا سعداء. هل تعجب لذلك؟ لقد كان يُطلَب من الناس في العصور الماضية أن يحبوا البشر الذين هم من جنسهم، وأن يؤمنوا بديانة الإنسانية وهلم جرًّا. لكن انظر، بقدر ما تمتع الإنسان بسمو العقل ورهافة الذوق إلى الحد الذي يمكنه من تقييم هذه الفكرة، بقدر ما أصابه الاشمئزاز من منظر الأفراد الذين تتكون منهم الجماهير التي أريد له أن يتفانى في عبادتها، ولم يكن في استطاعته أن يتحاشى هذا الاشمئزاز إلا عن طريق القيام بنوع من التجريد المألوف لفكرة البشرية التي تربطها صلة واقعية ولا تاريخية بالجنس البشري، الذي كان ينقسم في رأيه إلى طغاة عمي من جهة وعبيد متبلدين مهانين من جهة أخرى. أما الآن، فأين هي الصعوبة في قبول ديانة الإنسانية، ما دام الرجال والنساء الذين يكونون (معنى) الإنسانية أحرارًا، وسعداء، ومفعمين بالحيوية والنشاط على أقل تقدير، كما أنهم بوجه عام يتمتعون بأجساد جميلة وتحيط بهم أشياء جميلة من صنعهم، وطبيعة يرتقي بها الاحتكاك بالبشر ولا يسيء إليها؟»»

(٥) أويجين رشتر: «صور من المستقبل الاشتراكي»

عندما ظهر كتاب «صور من المستقبل الاشتراكي» لأويجين رشتر في ألمانيا، وذلك في أوائل التسعينيات من القرن التاسع عشر، كانت المشروعات الاشتراكية لمجتمع المستقبل قد حظيت باهتمام يفوق الاهتمام الأكاديمي الخالص. فقد أدت قوة الحركة الاشتراكية بالكثير من الناس إلى الاعتقاد بأن اليوتوبيا الاشتراكية سوف تصبح في وقت غير بعيد حقيقة واقعية. وهذا يفسر المرارة الشديدة التي تشعر بها أثناء قراءة الرواية النقدية الساخرة لأويجين رشتر زعيم حزب الأحرار في البرلمان الألماني (الرايشستاج). وربما يفسر أيضًا نجاح هذا الكتاب الصغير، الذي بيعت منه مئات الآلاف من النسخ في بضعة شهور قليلة، كما تُرجِم مباشرة إلى اللغة الإنجليزية.

وعلى الرغم من أن ضعف الحركة الاشتراكية في إنجلترا قد منع الأحرار والمحافظين من أن يعتبروها تهديدًا جادًّا لهم، فلا بد أنهم نظروا إلى شعبية اليوتوبيات الاشتراكية باعتبارها نوعًا من التحذير الخطير، فضلًا عن أن الصحافة الناطقة باللغة الإنجليزية استقبلت كتاب رشتر استقبالًا حارًّا، فقد أعلنت جريدة «المراقب القومي» National Observer «أنه يستحق أن يقرأه كل العمال بالإضافة إلى جميع رجال الأعمال ذوي المكانة المرموقة». وقالت صحيفة مورننج هيرالد التي تصدر في سيدني Sydney Morning Herald: «سيكون هذا الكتاب دواءً مضادًّا يشفي من وصفات العلاج التي اقترحها بيلامي لإصلاح المجتمع، لأنه يصور مآسي النظام الاشتراكي وانهياره النهائي.» أما جريدة الإسبكتيتور Spectator فقالت بلهجة أكثر جدية: «لن تكون للاشتراكية نهاية أخرى غير النهاية التي يصورها الكتاب.»

ولست في حاجة إلى أن أقول — على ضوء الملاحظات السابقة للصحافة الإنجليزية — إن الهجوم الساخر الذي يشنه رشتر على الاشتراكية في حدِّ ذاتها هجوم غير منصف، بيد أن روايته تقف على أرض أكثر صلابة إذا نظرنا إليها بوصفها نقدًا ساخرًا للمشروعات اليوتوبية القائمة على اشتراكية الدولة، والتي وصل إنتاج الكُتَّاب لها خلال القرن التاسع عشر إلى حد التضخم. ويدين رشتر، باعتباره أحد الأحرار أو الليبراليين، ذلك الإيمان الأعمى بالحكمة الشاملة للدولة الاشتراكية وآلتها البيروقراطية الضخمة، كما يؤكد حق الفرد في أن يختار العمل الذي يحبه، وأن يأكل ويلبس كما يريد، وأن يغادر البلاد إذا شاء، وهو يسخِّف من الفكرة التي تقول بأن الناس يمكنهم أن يكونوا أحرارًا إذا أصبح الإنتاج والتوزيع كله في يد الدولة، فمن ذا الذي يستطيع أن يمنع الدولة من توجيه العمال الساخطين إلى وظائف غير ممتعة أو حتى من تجويعهم، ومن الذي يمنعها من إقامة جيش قوي وقوات شرطة هائلة للحفاظ على «القانون والنظام»؟ وكيف يمكن أن تكون هناك حرية للصحافة عندما يكون مخزون الورق وجميع أدوات الطباعة في يد الحكومة؟ بل كيف يمكن للانتخابات أن تكون حرة وليس هناك ما يضمن أن تحترم السلطات سرية الاقتراع؟ لقد أثبتت تجربة اشتراكية الدولة أن سوء استخدام السلطة من جانب الحكومة الاشتراكية (أو الشيوعية) أمر ممكن — وربما قال البعض إنه أمر حتمي — ومع ذلك يمكن بطبيعة الحال الاعتراض على هذه الأقوال بأن الناس في ظل نظام اشتراكي حقيقي، لا يمكن أن يتصرفوا بطريقة أنانية ومجردة من الشرف، كما يفعل غيرهم ممن يعيشون في ظل النظام الرأسمالي. على أن رشتر لم ينتقد مجتمعًا مثاليًّا كالمجتمع الذي وصفه وليم موريس (وإن أمكن القول بأنه لم يكن ليوافق عليه) حيث يتخذ الناس موقفًا مخالفًا من العمل لأنهم أحرار، ويعلمون أنهم يعملون لأنفسهم، لا ليحتفظوا بجيش من البيروقراطيين ورجال الشرطة والجنود والضباط، وإنما وجه انتقاداته إلى مجتمع حلَّت فيه سلطة الدولة الاشتراكية محل سلطة الدولة الرأسمالية، وأُجبِر فيه على الناس عل الخضوع لقوانين وضعها الحزب السياسي، وهي قوانين أشد استبدادًا من القوانين القديمة. ولا يوجد شيء في ظل هذا النظام يمكن أن يقنع المرء بأن وجهة النظر العقلية والأخلاقية للناس سوف تتغير للأفضل بدلًا من الأسوأ. وكتاب رشتر الخلافي والنقدي يسلم بطبيعة الحال بأنها ستتغير للأسوأ، كما يصف ما سوف يحدث لألمانيا، إذا قامت الثورة الاشتراكية، في شكل يوميات كتبها عامل اشتراكي متحمس، ظل محافظًا على ولائه للحزب حتى خيبت أمله مأساة شخصية وخذله السخط العام من حوله، إلى أن يسقط أخيرًا ضحية للثورة المضادة.

يوم الاحتفال

يرفرف العلم الأحمر للاشتراكية الدولية فوق القصر وفوق المباني العامة في برلين.

ليت أديبنا الخالد «بيبيل»١٩ قد عاش ليرى هذا لقد اعتاد أن يقول للطبقة الوسطى: «إن الكارثة الوشيكة على الأبواب.» وقد حدد فردريك إنجلز عام ١٨٩٨م ليكون هو عام الانتصار النهائي للأفكار الاشتراكية. حسنًا، إن الانتصار لم يأتِ بهذه السرعة، ولكنه لم يستغرق كذلك وقتًا طويلًا.

القوانين الجديدة

لقد حلت «إلى الأمام»، التي كانت هي الجريدة الأولى الناطقة بلسان حزبنا، محل الجريدة القديمة «المعلن الإمبراطوري»، وهي توزع بالمجان على كل المنازل. وبعد أن أصبحت جميع مؤسسات النشر ملكًا للدولة، توقفت بطبيعة الحال جميع الصحف الأخرى عن الصدور. وتصدر طبعة محلية من جريدة «إلى الأمام» في جميع المدن الأخرى مع نشرة بالأخبار الخاصة بكل موقع على حدة. وما زالت إدارة شئون البلاد، إلى أن يحين وقت انتخاب برلمان جديد، في أيدي الأعضاء الاشتراكيين في البرلمان القديم، الذين سيتولون — عندما يجتمعون في شكل لجنة حكومية — إصدار القوانين، العديد التي يحتمها استقرار النظام الجديد.

وقد أُعلن برنامج الحزب القديم الذي أُقر في مؤتمرات إيرفورت Erfurt عام ١٨٩١م، باعتباره إطارًا عامًّا للحقوق الأساسية للشعب.

ويتضمن الإعلان أن كل رأس المال، والملكية، والمناجم، والمحاجر، والآلات، ووسائل الاتصال، وجميع أنواع الملكية، قد أصبحت من الآن فصاعدًا ملك الدولة وحدها، أو ما يسمى الآن تسمية أفضل بالجماعة، وهناك قرار آخر يقضي بإلزام جميع المواطنين بالعمل، ويتمتع الأفراد كافة، سواء كانوا ذكورًا أو إناثًا، ومن سن الحادية والعشرين إلى الخامسة والستين، بنفس الحقوق. ويتعلَّم المواطنون الذين هم تحت سن الحادية والعشرين على حساب الدولة، أما الذين تجاوزوا الخامسة والستين فتتكفل الدولة أيضًا برعايتهم على نفقتها. وقد توقفت بالطبع كل المشروعات الإنتاجية الخاصة، وإلى أن تتم التنظيمات الجديدة سيبقى جميع الأشخاص في مواقعهم القديمة، ويستمرون في العمل للدولة كما كانوا يعملون في السابق لأسيادهم.

وتباشر الحكومة الجديدة عملها — بفضل المستشار الفذ الذي يرأسها — بطاقة لا تقل في قوتها عن قوة التصميم على الهدف. وتتخذ كل الاحتياطات اللازمة لتجنب أي احتمال لاستعادة رأس المال لنفوذه القديم. وقد سُرِّح الجيش، وتقرر إلغاء الضرائب، واقترحت الحكومة تحصيل الأموال اللازمة للأغراض العامة من دخل الدولة من المعاملات التجارية. ومن الواضح تمامًا أننا نستقبل عهدًا جديدًا ومجيدًا.

اختيار المهن

واللافتات الحمراء الكبيرة المعلقة على لوحات الإعلانات تذكِّر الناس، طبقًا لتنظيمات قانون العمل الجديد، بأن الأشخاص من الجنسين الذين تتراوح أعمارهم بين الحادية والعشرين والخامسة والستين، مطلوب منهم في غضون ثلاثة أيام تسجيل أنفسهم تمهيدًا لتحديد مهنة كل منهم. في غضون ثلاثة أيام تسجيل أنفسهم تمهيدًا لتحديد مهنة كل منهم. وقد خُصِّصت لهذا الغرض مراكز الشرطة القديمة وغيرها من المكاتب العامة، وتم التنبيه بوجه خاص على النساء والفتيات أن انخراطهن في العمل بإحدى الورش العديدة للدولة يعفيهن من جميع الأعمال المنزلية مثل رعاية الأطفال، وإعداد وجبات الطعام، وتمريض المرضى، وغسل الملابس … إلخ. وتتولى الدولة مهمة تربية الأطفال وتنشئة الشباب في دور الحضانة والمدارس العامة التابعة لها. ويتم تناول الوجبة الأساسية كل يوم في مطعم الدولة الخاص بكل منطقة، ويُرسَل المرضى إلى المستشفيات، ولا يتم غسل الملابس إلا في المغاسل المركزية. وقد حُدِّدت ساعات العمل للجنسين، سواء بالنسبة للمهن المختلفة أو للدولة والإدارات العامة في الوقت الحاضر بثماني ساعات.

التعيينات

ويُؤجَّل زواج «فرانز» و«آجنيس» فجأة لأجل غير محدد. وقد قامت الشرطة اليوم بتوزيع الأوامر المتعلقة بالوظائف، والأوامر القائمة من جانب على التسجيل الذي تم مؤخرًا، ومن جانب آخر على الخطة التي وضعتها الحكومة لتنظيم الإنتاج والاستهلاك.

والواقع أن فرانز سيظل محتفظًا بمهنته وهي صف الحروف في المطبعة، ولكنه لسوء الحظ لن يستطيع البقاء في برلين، بل سيرسل إلى ليبتزيج. ويرجع هذا إلى أن برلين لم تعد تحتاج إلى واحد على عشرين من جامعي الحروف الذين كانوا يعملون بها من قبل، كما أن الاشتراكيين الموثوق بهم هم وحدهم الذين سيسمح لهم بالعمل في جريدة «إلى الأمام». وقد بدأت السلطات تنظر بعين الشك إلى فرانز بسبب تهوره في التفوه ببعض العبارات في ميدان القصر عن المصير المحزن الذي آل إليه بنك الادخار. وهو لا يكتفي بهذا، بل يصرِّح أيضًا بأن السياسة قد تدخلت في التعيينات، وأن ملاك الأراضي الكبار في برلين قد شُتِّتوا ولم يعد لهم وجود كحزب، وأن بعض النقاشين يُجبَرون على العمل في إنوفرازلاف Inowra Zlaw٢٠ لندرة النقاشين بها بينما تعج بهم برلين. وقد نفد صبر فرانز تمامًا، وبدا له أن القانون القديم الذي كان يقضي بنفي الاشتراكيين خارج الوطن قد عاد إلى الحياة مرة أخرى. ومهما يكن الأمر، فعلينا أن نلتمس العذر لفرانز الشاب على اندفاعه، إذ وجد نفسه قد أُبعِد فجأة ولفترة غير محددة عن الفتاة التي أحبها قلبه.
حاولت أن أواسي فرانز قليلًا فقلت له إن زوجين في المنزل المجاور لنا قد فُرِّق بينهما بسبب هذا القانون، فالزوجة تعمل ممرضة في أوبلين والزوج كاتب حسابات في ماجديبرج،٢١ وأثار هذا زوجتي فأخذت تسأل متعجبة: كيف يجرؤ أي شخص على إبعاد زوج عن زوجته؟ هذا عار عليهم وهلمَّ جرًّا … ونسيت زوجتي الطيبة تمامًا أن الزواج في مجتمعنا الجديد علاقة شخصية بحتة، كما شرح ذلك «بيبيل» بشكل واضح في كتابه عن المرأة. ويمكن أن يعقد الرباط الزوجي أن يحل في أي وقت ودون أي تدخل من أي جهة رسمية، وبالتالي فإن الحكومة ليست على الإطلاق في وضع يسمح لها بأن تعرف المتزوج من غير المتزوج. ولهذا نجد أن جميع الأشخاص — وهذا أمر منطقي — قد أدرجوا في سجلات الأسماء تحت أسمائهم المسيحية كما أدرجت النساء تحت أسماء عائلاتهن. ومن الواضح أن الحياة الزوجية في مجتمع قائم على تنظيم الإنتاج والتوزيع لا يمكن تصورها إلا إذا سمح بها السلم الوظيفي لا العكس. ومن المستحيل أن يتوقف تنظيم العمل على علاقة خاصة يمكن أن تفصم في أي لحظة.

ولكي أهدئ من روعهم، قرأت عليهم فقرة من جريدة «إلى الأمام» تحدد بالجداول أنواع المهن التي اختارها الناس والوظائف التي عُيِّنوا بها. فقد سجل عدد كبير أسماءهم للعمل حرَّاسًا لمنع صيد الأرانب البرية، على الرغم من زيادة عددهم على عدد الأرانب داخل دائرة تمتد أربعين ميلًا حول برلين. ويتبين كذلك من عدد الأسماء المسجلة أن الحكومة لن تجد صعوبة في تعيين بواب أمام كل باب في برلين، وحارس غابات لكل شجرة، وسائس لكل حصان. وقد سجلت كذلك أسماء عدد كبير من الممرضات أكثر من خادمات المطبخ، ومن سائقي المركبات أكثر من عمال الإصطبلات. وهناك أيضًا أعداد كبيرة من الراغبات في العمل بالتمريض. ولا يوجد نقص في البائعين والبائعات، وتنطبق نفس الملاحظة على المفتشين، والمديرين، ورؤساء العمال، وما شابه ذلك من الوظائف، بل ليس هناك نقص في المهرجين ولاعبي الأكروبات. أما المقيدون للأعمال الشاقة من النوع الذي يقوم به المبلط والوقاد وصاهر المعادن، فعددهم ضئيل، مثلهم مثل الذين أظهروا رغبة في العمل في المجاري.

كيف ينبغي على الحكومة، في ظل هذه الظروف، أن تتصرف لكي توفق بين خطتها لتنظيم الإنتاج والاستهلاك وبين أسماء المقيدين في سجلات الوظائف؟ لقد ظهر في الوقت الحاضر أنه لا توجد خطة أصلح من اتباع نظام القرعة. وعلى هذا الأساس فرزت الأسماء الخاصة بكل مهنة، ومنها تم اختيار الوظائف المطلوبة في الخطة لكل فرع مهني بالقرعة عن طريق سحب الورق مرة بعد مرة حتى يحصلوا على مهنة، وبهذه الوسيلة مُلئِت الفراغات في كل فروع العمل التي كان الطلب عليها شحيحًا، ومن الطبيعي أن يحصل عدد كبير من الناس من خلال القرعة على وظائف لم يرغبوا فيها على الإطلاق.

ويقول فرانز إنه قد وجد على الدوام يانصيب للخيول، ويانصيب للكلاب، وكل أنواع اليانصيب، ولكن هذه هي أول مرة يتم فيها السحب على البشر.

أخبار من الأقاليم

طُلب من الشباب ابتداء من سن العشرين تسجيل أنفسهم خلال ثلاثة أيام. فقد نُظِّم «الحرس الوطني» كما يسمونه، وتم تسليحه على وجه السرعة.

وقد حتمت الظروف الداخلية للأقاليم أن يُستدعى الحرس الوطني بأسرع مما كان مقررًا له، وأن يتم تنظيمه على نطاق أوسع بكثير مما كان مقدَّرًا له في البداية. والمحافظون الجدد يرسلون باستمرار طلبات عاجلة للمساعدات العسكرية ليستعينوا بها على تنفيذ القوانين الجديدة في المناطق الريفية والمدن الصغيرة. ولهذا السبب تقرر تكوين كتيبة مشاة، وسرية من سلاح الفرسان، وبطارية مدفعية في كل المراكز المهمة في أنحاء الريف. ولتوفير المزيد من الأمن تم أيضًا تشكيل هذه القوات من رجال مختارين من مقاطعات نائية.

إن الأمور تقتضي إعادة هؤلاء الأجلاف الأفظاظ إلى العقل. فهم يعارضون التأميم — أو استيعاب النظام التعاوني كما يسمى رسميًّا — لأدواتهم الخاصة في الإنتاج، ولممتلكاتهم من الأراضي الزراعية، والبيوت، وقطعان الماشية، وخزين المزارع وما شابه ذلك. والمالك الصغير في الريف يصر على البقاء في مكانه، والتشبث بما حصل عليه، على الرغم من كل ما يمكن أن تقوله له عن الشقاء الذي يعانيه من مطلع الشمس إلى مغربها. ومن الممكن ترك هذا النوع من الناس حيث هم، ولكن المشكلة هي أن هذا يسبب الإرباك الشديد للخطة الكبيرة الموضوعة لتنظيم الإنتاج. ومِن ثَم لا يبقى مفرٌّ من استخدام القوة لإجبار هؤلاء الناس ذوي الأدمغة المتصلبة على معرفة مصلحتهم.

لا شك في أنه كان من الأفضل لو أن هذه التنظيمات — التي صدرت مؤخرًا — قد أُعلِنت منذ البداية. فهي تقضي الآن بألا يغادر أحد مكان إقامته بصفة مؤقتة دون الحصول على إذن بالغياب، وألا ينتقل أحد من محل إقامته بصفة دائمة بغير موافقة الجهات العليا. والمقصود من كل ذلك بطبيعة الحال أن تظل برلين هي العاصمة التي تجتذب إليها الزوار، ولا يجوز أن يأتي إليها الناس وينصرفوا عنها كما يحلو لهم، بل يجب أن تنظم هذه الزيارات، كما بينت جريدة «إلى الأمام» ببساطة ووضوح، بطريقة تتفق مع خطط الحكومة وحساباتها الدقيقة. إن الدولة الاشتراكية، أو الجماعة كما نقول الآن، جادة كل الجد في إلزام جميع الناس بالعمل، وهي لهذا مصممة تمام التصميم على عدم السماح بأي تشرد من أي نوع، ولا حتى بالتشرد في عربات السكك الحديدية.

المساكن الجديدة

أُجريت القرعة العامة على المساكن الجديدة، وأصبحنا الآن نمتلك بيتنا الجديد، ولكن لا يمكنني القول بأن وضعنا قد تسحن. فقد اعتدنا على العيش في الناحية الغربية الجنوبية من الطابق الثالث الذي يقع في الجانب الأمامي للمنزل، والغريب حقًّا أن المسكن الذي صار من نصيبنا يقع في نفس المبنى، ولكن في الجانب الخلفي من المنزل، وبالتحديد في الساحة الخلفية، كما يقع أيضًا في الطابع الثالث. كانت صدمة شديدة لزوجتي، فبعد أن تخلت عن فكرة السكن في فيلا صغيرة، ظلت متعلقة بالأمل في الحصول على عدة غرف نظيفة في شقة أنيقة.

وفي بداية النظام الجديد، كما ذكرنا من قبل، وُجِد أن هناك حجرة تحت تصرف السلطات. وقد تبقَّى منها، بعد خصم العدد المطلوب للمؤسسات العامة المختلفة، ستمائة ألف حجرة صغيرة، يضاف إليها عدة مئات الألوف من المطابخ (التي تم الاستغناء عنها الآن) والغرف الواقعة على أسطح البيوت. ولما كان العدد الإجمالي للمحتاجين إلى المساكن يبلغ مليون شخص، فإن المساحة التي أمكن تخصيصها لكل واحد منهم هي حوالي غرفة واحدة لكل رأس. ولضمان النزاهة الكاملة في توزيع هذه الغرف، تم توزيعها عن طريق القرعة، بحيث تُسلَّم كل شخص من سن الحادية والعشرين حتى الخامسة والستين، وبصرف النظر عن الجنس، تذكرة اقتراع. والواقع أن نظام سحب التذاكر هو الطريقة المثلى لتحقيق مبدأ المساواة حيثما وجد عدم تكافؤ في الفرص المتاحة. وقد أدخل الديمقواطيون الاشتراكيون في برلين نظام السحب هذا لتوزيع المقاعد في المسارح.

مطاعم الدولة الجديدة

كان إنجازًا رائعًا حقًّا أن يفتتح اليوم في وقت واحد في برلين ألف مطعم من مطاعم الدولة التي يتسع كل واحد منها لألف شخص. صحيح أن أولئك الذين تخيلوا أنها ستقدم وجبات كاملة٢٢ شبيهة بتلك التي كانت تقدم في الفنادق الكبرى في الأيام الخوالي، وكانت تستمتع بها الطبقة العليا الذواقة لكل ما هو ممتع في فن الطبخ، أولئك الذين تخيلوا ذلك قد شعروا دون شك بغير قليل من خيبة الأمل. والواقع أنه ليس لدينا هنا بطبيعة الحال أي نادل متأنق من ذوي السترات المفتوحة من الخلف، ولا قوائم للطعام يبلغ طولها ياردة كاملة، ولا أي مظاهر من هذا القبيل.

لقد حُسِبَ حساب كل شيء في مطاعم الدولة حتى أدق التفاصيل. ولا يجوز فيها تفضيل أي شخص على أي شخص آخر، كما لا يسمح للإنسان بالتنقل بينها حسبما يشاء. فكل شخص له الحق في تناول غدائه في مطعم الحي الذي يقع فيه مسكنه. وتُقدَّم الوجبة الرئيسية كل يوم بين الساعة الثانية عشرة ظهرًا والسادسة مساء، وعلى كل شخص أن يثبت وجوده في مطعم الحي، إما وقت الراحة في منتصف النهار وإما في نهاية اليوم.

ويؤسفني القول بأنه لم يعد بإمكاني الآن تناول وجباتي مع زوجتي إلا في أيام الآحاد، على الرغم من أنني تعودت على تناول الطعام معها على مدى خمس وعشرين سنة، وذلك نظرًا لاختلاف مواعيد عملنا الآن اختلافًا كليًّا عما كانت عليه.

وعند دخول قاعة الطعام ينزع الموظف كوبون الغداء من دفتر الإيصالات الخاصة بك، ويناولك رقمًا يحدد دورك. وخلال فترة انتظارك ينهض بعض الأشخاص من أماكنهم وينصرفون، ويأتي عليك الدور لتتسلم طبقك من موائد التقديم. وهناك قوة كبيرة من رجال الشرطة الذين يحافظون على النظام الصارم. وقد أعطى أفراد الشرطة — الذين زيد عددهم إلى اثني عشر ألفًا — أنفسهم مظاهر الأهمية الشديدة في مطاعم الدولة، ولكن الواقع يشهد بأن الزحام كان كبيرًا جدًّا. ويبدو لي أن برلين نموذج مصغر للمشاريع الاشتراكية الضخمة.

ولما كان كل فرد يتخذ مكانه في المطعم عقب انصرافه من عمله، فإن المجموعة التي تجلس معًا (إلى المائدة) تكون متنافرة إلى حد ما. وقد جلس اليوم في مواجهتي طحَّان، وكان جاره كنَّاسًا، وضحك الكنَّاس من هذا من أعماق قلبه أكثر من الطحَّان. والمسافة بين الموائد — نظرًا لتكدس الزحام — ضيقة جدًّا ولا تكاد تسمح بالحركة. ومع ذلك فإن هذا لا يستمر لفترة طويلة، لأن الدقائق المحددة لتناول الطعام محسوبة بدقة شديدة. وعند انتهاء هذه الدقائق — وهناك شرطي يقف بجانب كل مائدة وفي يده ساعة يضبط عليها الوقت المحدد — يطلب منك ببرود أن تفسح مكانًا لمن يجيء عليه الدور بعدك.

إنها لفكرة ملهمة أن تقدم مطاعم الدولة في برلين نفس الأطباق في نفس اليوم من كل أسبوع. ولما كان كل مطعم يعرف عدد الزوار الذين يترددون عليه، وكان هؤلاء الزوار في غنًى عن الاختيار من قائمة طويلة، فمن الواضح أن الوقت لا يضيع، فضلًا عن عدم وجود أي أثر لهدر الطعام بسبب الفضلات الكثيرة المتبقية، الأمر الذي كان يسبب ارتفاع أسعار الغداء في مطاعم الطبقات العليا.

ولا نزاع في أن هذا التوفير يعد من أعظم الانتصارات التي حققها النظام الاشتراكي.

وجميع حصص الطعام التي تقدم ذات كميات موحدة وقد طلب اليوم زميل نهم مزيدًا من الطعام فقوبل بقهقهات ضاحكة من أعماق القلب، إذ لا يمكن أن توجه إلى أحد المبادئ الأساسية للمساواة لطمة أشد من هذه اللطمة. ولنفس السبب رُفِض بشدة الاقتراح الخاص بتقديم حصص أصغر حجمًا للنساء، فالرجال ذوو الأجسام الضخمة مجبرون على الاكتفاء بنفس الأنصبة المتساوية، وعليهم أن يحسنوا التصرف بقدر ما يستطيعون. والذين كانت ظروفهم الميسرة تسمح لهم بحشو بطونهم، لن يضرهم أن يشدوا عليها الأحزمة، لأن هذا سيعود عليهم بالخير والعافية.

الهجرة

إن الأزمة الوزارية التي فجرتها قضية تلميع الأحذية لم تناقش بعد. وفي هذه الأثناء صدر قرار بمنع الهجرة دون تصريح من السلطات. والاشتراكية قائمة على المبدأ الذي يفرض على المواطنين جميعًا أن يعملوا، وذلك بنفس الطريقة التي كان بها التجنيد في ظل النظام القديم واجبًا معترفًا به من الجميع. وكما مُنِع الشباب المؤهل للخدمة العسكرية في العهد الماضي منعًا باتًّا من الهجرة، فلا يمكن أن تسمح حكومتنا لمن استوفوا السن التي يتوجب فيها العمل بالهجرة من شواطئنا.

وفي ظل هذه الظروف تستحق الحكومة الثناء لاتخاذها إجراءات صارمة لمنع لهجرة. ولتنفيذ هذه الإجراءات بصورة شديدة الفعالية، رُئِي من المناسب إرسال تعزيزات قوية إلى الحدود والموانئ. وقد اهتمت السلطات بوجه خاص بالحدود المتاخمة لسويسرا، وأُعلِن أن القوات المرابطة هناك ستعزز بعدة كتائب مشاة وسرية من سلاح الفرسان. وقد صدرت التعليمات المشددة لحرس الحدود بإطلاق النار على جميع الفارين دون الرجوع إلى السلطات الرسمية.

الانتخابات

أخيرًا حل موعد الانتخابات العامة، وحُدِّد يوم الأحد القادم لإجراء الاقتراع. وهذا الاختيار ليوم يستريح فيه العاملون أمر يستحق الثناء، ولا سيما إذا عرفنا أن هناك موضوعات عديدة — تزيد مئات المرات على ما كان عليه الحال في الماضي — تعتمد على نتيجة الانتخاب. إن القوانين هي كل شيء في الدولة الاشتراكية، فالقانون هو الذي يحدد لكل شخص مدة العمل الواجب عليه، وكمية الطعام والشراب التي ينبغي عليه تناولها، وطريقة ملبسه ومسكنه وغير ذلك.

وتشكو الأحزاب المعارضة شكوى مرة من ندرة الأشخاص الذين يملكون الجرأة الكافية — حين تحين لحظة الاختبار الجدي — لمواجهة الحكومة بشجاعة مواجهة الخصم لخصمه، سواء باعتبارهم مرشحين للبرلمان أو متحدثين في الاجتماعات الانتخابية. وربما يرجع هذا التخاذل من جانب المعارضة إلى الإجراءات التي تلجأ إليها الحكومة لتغيير وظائف العاملين غير المرغوب فيهم، أو نقلهم للأماكن النائية. وأمثال هذه التغييرات المفاجئة تجر معها في معظم الأحيان الكثير من الضيق والألم، وبخاصة للمتقدمين في العمر. وطبيعي أن من حق أي إنسان أن يحتج على النقل الذي يشبه أن يكون نزوة من جانب الحكومة، ولكن كيف للفرد أن يستوثق من أن هذا النقل لم يكون خطوة محمودة، أو لم تسوِّغه تغييرات أخرى أعم في خطة العمل جعلت النقل أمرًا ضروريًّا؟

ويتم الاقتراع بطريقة الإدلاء بالأصوات بواسطة أوراق عليها ختم رسمي وتُسلَّم لكل شخص في ظرف مغلق. ولكن نظرًا لجهاز التجسس الحكومي الذي يتغلغل في أشد الأمور خصوصية، ولأن حياة كل فرد قد أصبحت من الشئون العامة، وخضوع الجميع لنظام الرقابة، نظرًا لكل هذه الأسباب أخذ الكثيرون يتشككون في سرية أوراق التصويت ونزاهتها، كبديل عن التصويت الذي يعبر عن اقتناعاتهم العميقة. لقد كانت مثل هذه الأشياء في العهود السابقة مقصورة على المناطق الانتخابية الصغيرة. أما الآن فقد أصبح كل إنسان جاسوسًا على جاره.٢٣

نتيجة الانتخابات

أثبت فرانز أنه كان على حق في تنبُّئِه بنتائج الانتخابات. فهو في خطاب الأخير يعبِّر عن إيمانه بأن غياب الحرية الشخصية والتجارية عن المجتمع لا بد أن يحكم — حتى على أكثر أشكال الحكومات تحرُّرًا — بالعجز عن تحقيق أي استقلال سياسي. وقد ذكر أن الأشخاص الذين يعتمدون اعتمادًا كبيرًا على الحكومة، حتى في شئون الحياة العادية إلى أقصى حد، كما هو الحال معنا الآن، لم تكن لديهم — إلا في أندر الحالات — الشجاعة الكافية للتصويت ضد الرغبات المعلنة للسلطة، وذلك مهما قيل عن سرية التصويت. وقد كتب فرانز يقول إن حق التصويت في ظل الدولة الاشتراكية لن يكون له أي معنى جاد أكثر من معناه بالنسبة للجنود في الثكنات، أو السجناء في السجون.

وتبين نتيجة الانتخابات أن حزب الحكومة — بالرغم من الاستياء العام المنتشر بين الناس — قد فاز بثلثي الأصوات المسجلة في الاقتراع.

إن التعاسة التي حلَّت بأسرتي من جراء المحنة الثقيلة، جعلتني أتخلَّى عن نيتي الأصلية في إعطاء صوت مضاد، ومِن ثَم صَوَّتُّ مع الحكومة. ماذا كان يمكن أن يئُول إليه مصير زوجتي ومصيري، في حالتنا النفسية الراهنة، لو أنني أُرسِلْت إلى مكان صغير ناءٍ في الأقاليم؟

الإضراب الكبير واشتعال الحرب

قام بعض عمال الحديد في برلين وضواحيها بالإضراب صباح اليوم، وذلك بسبب رفض مطالبهم في تسلم المكافأة الكاملة عن عملهم. وقابلت الحكومة الإضراب بقرار فوري بوقف وجبات الغداء والعشاء لكل المشاركين في المظاهرة. والتزم الموظفون في جميع مطاعم الدولة بالتعليمات الصارمة بعدم قبول كوبونات عمال الحديد. وقد طُبِّق هذا الحرمان — تنفيذًا للتعليمات الحكومية — على كل المطاعم والمحلات التي يتزوَّد منها هؤلاء الأشخاص في الأوقات العادية بحاجاتهم الضرورية. وتراقب وحدات قوية من قوات الشرطة هذه المحلات والأماكن المختلفة عن قرب. وبهذه الإجراءات تتوقع الحكومة أن يخضع المتظاهرون خلال وقت قصير نتيجة تجويعهم، وأن اللقيمات القليلة التي ستعطيها لهم زوجاتهم وأصدقاؤهم لن تجديهم شيئًا.

وقد تتابعت الأنباء السيئة بعد ذلك. فقد صدر قبل قليل قرار بتخفيض حصة الخبز لجميع السكان إلى النصف، وإلغاء حصص اللحوم إلغاءً تامًّا. ويُنتَظر من هذه الإجراءات أن تُمكَّن الحكومة، ولو إلى حد ما، من توفير الإمدادات اللازمة للقلاع القائمة على الحدود. ذلك لأن الحجوز التي كانت تهدد بها ألمانيا قد بدأ في هذه الأثناء تنفيذها بالفعل، إذ زحفت قوات الخيالة الفرنسية — عن طريق دوقية لوكسيمبورج — عبر الحدود الألمانية …

وكانت قوات الشرطة قد حُدِّدت في الفترة الأخيرة بثلاثين ألف رجل، واشتُرِط ألا يخدم فيها سوى الاشتراكيين المتعصبين الذين تم اختيارهم من جميع أنحاء البلاط. وهذه القوات تعزِّزها كذلك وحدات قوية من سلاح المدفعية وسلاح الفرسان …

وتهرع قوات الشرطة، سواء المشاة أو الخيالة، بصفة مستمرة، وبأقصى سرعة ممكنة، في اتجاه وسط المدينة. وتدل جميع الظواهر على أن القوات المسلحة بأكملها قد تم تجميعها بالقرب من القصر وفي شارع «انتردين لندين».٢٤ ماذا ستكون نهاية هذا كله؟

هوامش

(١) أرجو أن يلاحظ القارئ أن المؤلفة كتبت هذه الصفحات في أواخر الأربعينيات، أي قبل وفاتها المفاجئة في شهر أبريل سنة ١٩٤٩م. (المترجمة)
(٢) وهي الموضوع الذي تدور حوله رواية الأديب الأمريكي ناشانيل هوثورن (١٨٠٤–١٨٦٤م) وهي «حكاية بليثيدال» التي كتبها في عام ١٨٥٢م، وسجل في انطباعاته حول مزرعة بروك التي لم يرقه أسلوب العمل اليدوي والحياة الشيوعية فيها. (المؤلفة)
(٣) مقتبسة من تاريخ المذاهب الاقتصادية لشارل جيد وس. ريست. (المؤلفة)
(٤) لوي بلانك (١٨١١–١٨٨٢م) مؤرخ وسياسي فرنسي، وُلِد في مدريد، وتشبع بالأفكار الاشتراكية، وشاركت كتاباته في سقوط ما يسمى بملكية يوليو. شارك في ثورة سنة ١٨٤٨م وأصبح في شهر فبراير من نفس العام وزيرًا بحكومتها المؤقتة، ولما فشل مشروعه عن «الورش الاجتماعية» نفى نفسه بعيدًا عن وطنه، ثم رجع إليه في عام ١٨٧٠م وانتُخِب في الجمعية الوطنية ممثلًا لليسار المتطرف. (المراجع)
(٥) عن مقدمة الطبعة الثانية لرحلة إلى إيكاريا (عام ١٨٤٢م). (المؤلفة)
(٦) طائفة دينية أنشأها جوزيف سميث في أمريكا عام ١٨٣٠م، أباحت تعدد الزوجات فترة ثم حظرته. (المترجمة)
(٧) مترجمة عن الطبعة الأولى لعام ١٨٣٩م. (المؤلفة)
(٨) هو إدوارد جورج بولور ليتون روائي وسياسي إنجليزي، له إلى جانب «الجنس القادم» رواية أخرى صوَّرتها السينما في فيلم مشهور، وهي «الأيام الأخيرة لبومبي»، وقد كتبها سنة ١٨٣٤م. (المراجع)
(٩) آنا هي كما أشرنا من قبل اسم الجنس الذي ينتمي إليه سكان هذا البلد الذين يعيشون تحت الأرض. (المترجمة)
(١٠) إشارة إلى بيت العلم والعلماء في يوتوبيا بيكون (أطلنطا الجديدة) التي سبق الحديث عنها. (المترجمة)
(١١) وليم جودوين (١٧٥٦–١٨٣٦م) أديب ومفكر سياسي يوتوبي، نادى بالمساواة المطلقة وأثر تأثيرًا كبيرًا في المذاهب الفوضوية. لمع اسمُه، بعد خمول طويل، في أواخر القرن الثامن عشر عندما ظهر كتابه الأساسي «بحث عن العدل الاجتماعي» (١٧٩٣م) الذي عبَّر فيه عن الفساد الملازم لجميع أنواع الحكومات والمجتمعات التي تخفي مصالحها تحت رداء القومية والطبقية. أقام آراءه الفوضوية على مبادئ حتمية ونفعية صارمة، وطالب بإلغاء حق الملكية والسلطات السياسية، وبتحويل المجتمع إلى جماعات صغيرة مكونة من منتجين مستقلين، يأخذ فيها كلٌّ حسب حاجته. جذبت آراؤه بعض الرومانسيين مثل وردزورث وشيللي (الذي كان متزوجًا من ابنته). (المراجع)
(١٢) إدوارد بيلامي (١٨٥٠–١٨٩٨م). روائي أمريكي وكاتب قصص قصيرة، درس القانون واشتغل بالصحافة. من رواياته «أخت الآنسة لودنجتون» (١٨٨٤م)، و«دوق ستوكبريدج» (١٩٠٠م)، و«التطلع للوراء»، وهي كما ورد في النص رواية يوتوبية يصف فيها مجتمعًا اشتراكيًّا مثاليًّا، وقد حققت له شهرة واسعة، وكان لأفكاره الاشتراكية تأثير واسع النطاق. (المترجمة)
(١٣) قدَّم أستاذنا الدكتور زكي نجيب محمود عرضًا لرواية «أخبار من لا مكان» في كتابه «أرض الأحلام» القاهرة، دار الهلال، ١٩٧٧م. (المترجمة)
(١٤) هو الاسم الذي يُطلق على نوعٍ خاصٍّ من التبغ، ويعد من أجود أنواع التبغ. (المترجمة)
(١٥) نُشِر الوصف المطول للمصنع النموذجي في مقالة موريس «المصنع كما ينبغي أن يكون» التي ظهرت مع أعماله الكاملة عن دار النشر نانستن Nonesuch. (المؤلفة)
(١٦) بروكرستيس هو في الأساطير الإغريقية لص أو وحش خرافي يمد أرجل ضحاياه أو يقطعها لكي يجعل طولها منسجمًا مع طول السرير الذي أرقدهم عليه، ويقال إن البطل ثيسيوس قد قتله بنفس الطريقة. (المترجمة)
(١٧) عن آراء وليم موريس حول التعليم تلاحظ إيثل مانين Ethel Mannin في كتابها «خبز وزهور» أن كل ما يكتبه موريس حول عبثية فرض المقررات المدرسية بالإكراه، كان من الممكن أن يكتبه أ. س. نيل A. S. Neill في أيامنا هذه. (المؤلفة)
(١٨) أثبتنا هذه العبارة المخيفة وما بعدها عملًا بالأمانة الواجبة في نقل النصوص. وطبيعي أن من السهل الرد عليها بأن أي مجتمع إنساني جديد بحق لا يستلزم ولا يعني على الإطلاق أن يكفر بالسماء أو ينكر البعث، ولعل المؤلفة لا تعبر هنا عن رأيها بقدر ما تلخص أفكار وليم موريس في روايته «أخبار من لا مكان» كما فعلت على الصفحات السابقة معه ومع غيره. (المراجع)
(١٩) هينريش بيبيل (١٤٧٢–١٥١٨م) أديب ألماني ساخر وأحد العلماء الإنسانيين — أو أنصار المذهب الإنساني — الذين تأثروا بالنهضة الإيطالية. ولد في بلدة إنجشتيتين بالقرب من يوستنجين في إقليم سوابيا أو شفاين من مقاطعة فيرتمبورج بجنوب ألمانيا، ومات في عاصمتها توبنجن. ولد في عائلة من الفلاحين، وتعلم في كاراكاو (ببولندا حاليًّا) وبازل (بسويسرا) وعين في عام ١٤٩٧م أستاذًا للشعر والبلاغة في توبنجن، كما قلده الإمبراطور مكسميليان الأول تاج الشعر في عام ١٥٠١م. يعد من أهم الكُتَّاب الساخرين باللغة اللاتينية، وقد نهلت لوحاته المفعمة بالدعابة وخفة الدم والنقد «الفلاحي» الصريح الحاد أيضًا من التراث الشعبي الألماني ومن تجاربه الشخصية. كتب لوحات شعبية عديدة في شكل صور مسرحية شعبية (شفانك) وأشعار كثيرة مكثفة (إبيجرامات) وأغاني وبكائيات (اليجيات)، وذلك بجانب كتابات أخرى حول فن الشعر والبلاغة. ومن أهم أعماله التي ترجمت إلى الألمانية: الوجود، وانتصار الشرف، والحكم الجرمانية. (المراجع)
(٢٠) تقع في بولندا، إلى الجنوب الشرقي من مدينة بيدجوش، وتشتهر بصناعة الملح والصودا والآلات الزراعية. (المترجمة)
(٢١) من أهم المدن البروسية في سكسونيا في شرق ألمانيا، تقع على نهر الألب، وتشتهر بالصناعات المعدنية والكيماوية. (المترجمة)
(٢٢) وردت الكلمة بالأصل الفرنسي Table D’hote وتعني الوجبة الكاملة التي تُقدَّم للنزلاء في وقت محدد وبسعر محدد. (المترجمة)
(٢٣) لعل القارئ قد لاحظ أن رشتر — على الرغم من فقره الشديد في التعبير والتصوير — قد تنبأ في أواخر القرن الماضي بالمصير الذي آل إليه كابوس التطبيق الاشتراكي قبل سنوات قليلة، وذلك إلى حد النفاذ ببصيرته إلى المآسي المشهورة مثل سور برلين. ولعله قد دق كذلك أجراس التحذير من كل النظم «القومية» وأجهزتها المرعبة في التحكم والتجسس والتسلُّط والهيمنة البوليسية والبيروقراطية والثقافية والأيديولوجية. فعوض بذلك بعض الشيء عن رداءة نصوصه. والمحزن بعد كل شيء أنه ظل، ولم يزل، مجهولًا من القراء، حتى من أبناء بلده نفسه. (المراجع)
(٢٤) في الأصل بالألمانية Unter Den Linden وهو من أقدم وأهم شوارع برلين (حرفيًّا: تحت ظلال الزيزفون — ولكن لا علاقة لها برواية المنفلوطي المعروفة.) (المراجع)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤