الفصل الثاني عشر

ذكريات مطوية من ذيول الحرب الكبرى الماضية!

وشاية، واعتقال

حين تولَّى حكم مصر المغفور له السلطان حسين كامل — وكانت أيَّامه في الحكم معدودة — حدث أن شبَّت نيران الحرب العالمية الماضية، فوشى للحلفاء الواشون الكاشحون بأن سموَّ الأمير الجليل عمر طوسون — طيَّبَ الله ثراهُ — معادٍ لهم، متآمر مع الوطنيين في مراكش وتُونس والجزائر ضدهم، وأنه يمد أعداءهم هؤلاء بالأموالِ والأسلحة. وكنت إذ ذاك أنا أيضًا بأوروبا، وكان سموه كذلك هناك. ولما عزمنا على المجيء إلى مصر، كان سمو الأمير عمر قد سبقني لمارسيليا، وأنا وغيري من المصريين لحقنا به إليها على نيَّة قيامنا جميعًا لمصر، ولكن بمجرَّد وصول سموه إلى الميناء حجزته السلطة العسكرية وأمرته بعدم الرحيل إلى مصر، فلمَّا وصلتُ أنا إلى مارسيليا، عُدته لما بيني وبين سموه من أواصر الصداقة المتبادلة، فردَّ لي الزيارة بالفندق الذي كنت نازلًا فيه.

ولمَّا كان سموه مُحاطًا بعدَدٍ من الجواسِيسِ، فقد اتخذوا من هذه الزيارة ذريعة لأن ينسبوا إليَّ ما نسبوه لسموه، فصدرت لي أيضًا أوامر أُخرى من البوليس بعدم مُبَارحتي لمارسيليا وعدم عودتي إلى مصر؛ فهالني هذا الأمر جدًّا من تلك المعاملة التي لم أعرف لها من سبب، فتظلَّمتُ لرئيس الجمهورية الفرنسية ولوزير خارجيتها، وكان إذ ذاك المسيو ديلكاسيه، وكنتُ أعرفه شخصيًّا، كما تظلَّمت للورد كتشنر الذي كان وقتها وزيرًا لحربية إنجلترا.

figure
المرحوم اللورد كتشنر.

وبلغت المرحوم حسين رشدي باشا الذي كان رئيس الحكومة المصرية وقتها، وبعد زمن صدر لي الإذن بالسفر إلى مصر، فسُررتُ كثيرًا لحلِّ هذه الأزمة، ولكن سروري لم يدم طويلًا؛ إذ بمجرَّد ركوبي الباخرة عادَ إليَّ في منتصف الليل — رئيس البوليس السِّرِّي — وأمرني بالنزول منها، وأخدني في سيارة مُسلَّحة، وأخبرني أنه صدرت إليه أوامر جديدة تُخالِفُ التصريح الذي أُعطي لي. وقال: أي الفنادق تريد السكنى فيها؟

فقلت له: الفندق الذي فيه سمو الأمير.

فقال: أنصحك ألَّا تفعل! لأن في هذا الأمر صُعوبة، وهو ليس في صالحك.

فقلت له: أنا مُتَّهَمٌ بذاتِ التُّهمَةِ الموجَّهَةِ لسموِّه، فلا داعي لانفرادي بنفسي بعيدًا عن إنسان أحبه يسليني ويسرِّي عنِّي، فما يجري عليه يجري عليَّ والأمر لله!

وعلى ذلك سارت بنا السيارة مُسرعة إلى الفندقِ الذي كان به سمو الأمير، وفي الصباح دهش سموه كثيرًا لمَّا رآني؛ فقصصتُ لسموِّهِ ما جرى، فتكدَّرَ جدًّا. أمَّا أنا فقد عُدتُ فكرَّرتُ الشكوى حتَّى أنفقت على البرقيات التي أرسلتها لهذا الغرض كل ما كان معي. وبعد مضي مُدَّة كنَّا مُحاطين فيها بالجواسيس أينما ذهبنا، صدرت أوامر جديدة بالسماح لي بالعودة إلى مصر، وعندما وصلتُ إلى أرض الوطن، أراد الأمير حسين — السلطان حسين فيما بعد — مُقابلتي ليستعلم عن حالة البرنس عمر؛ فترددتُ — بل رفضتُ المُقابلة — خوفًا من أن ينالني ضرر جديد خلاف الضرر الذي مسَّنِي بسبب الأمير. وبعد أن اطمأننتُ تشرَّفتُ بمقابلة عظمته، فعاتبني على التأخيرِ، فعرضتُ عليه السبب. وأخيرًا قال لي: ماذا ترى في حلِّ مشكلة الأمير عمر؟

فقلت: إنَّ سموه يُعلِّقُ كلَّ آماله على همتك ويعتبرك كبير العائلة، ويترك لك الأمر للعمل على نجاته من هذه الورطة.

فقال لي: إنِّي فعلت كلَّ ما أستطيع، ولكن لم تزل بعض العقبات أمامي.

فقلت له: هل استعنت باللورد كتشنر؟ فأنا أعرف أنه ذو هِمَّةٍ عالية، ومروءةٍ كُبرى، ولو طلبت إليه المعاونة لأجاب طلبك!

فقال: هذا آخر سهم عندي، فأخشى أن أستعمله الآن فيخيب أو يطيش! ولذلك فإنِّي سأُبقِيهِ للفُرصة المُناسبة. وتحدثنا أخيرًا في أحوالٍ أُخرى، واستأذنته وانصرفت.

وظلَّ الأمير يُجاهد، وساعده على ذلك توليته على العرش المصري، وحينذاك أمكنه إنقاذ سموِّ الأمير عمر من موقفه الحرج الذي كان فيه، وقَدِمَ لمصر معزَّزًا مُكرَّمًا.

وهذه حسنة من حسنات المغفور له السلطان حسين، وكان سموه بعد عودته كلَّما رآني يبتسمُ ويقولُ لي: «أهلًا بزميلي!»

•••

رحم الله الأمير الجليل عمر طوسون! إنَّ وادي النيل ليبكي في فقده زعيمًا وطنيًّا عظيمًا، نافح عن حقوقه، ودافع عن حياضه؛ كما يبكي فيه الشرق مُصلحًا اجتماعيًّا كريمًا، خالد الأثر، بعد أن انطبعت على صفحات الصدور هباته وأعماله، ورسخت في سراديب العقول صفاته وفعاله، وصدق شوقي:

فالنَّاسُ صنفان: موتى في حياتهمُ
وآخرون ببطنِ الأرضِ أحياءُ

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤