الفصل الرابع عشر

آثاره المجيدة، أو بعض أفكاره السديدة!

واجب الشرق الأول

سُئِلَ سموه عن أول شيء يجب على الأمم الشرقية أن تهتمَّ به في حياتها العامة، فأجاب بما يلي؛ وقد نشرته مجلة «الهلال» الشهرية:

إن الجواب على هذا السؤال يختلفُ باختلاف من يُلقَى عليه، وما يخطُرُ بباله عند إجالة الفكر فيها؛ فمثلًا الأشياء التي تنقص الأمم الشرقية في حياتها العامَّة عديدة، وتقديم بعضها على البعض الآخر بالاهتمام به لمسيسِ الحاجة إليه، وكثرة مزاياه، قد يكونُ في نظرنا غير ما هو في نظر غيرنا، يصحُّ أن يكون الذي أُلقي في روعنا، وتشبَّثَ فيه فكرنا والتمس له الأسباب والنتائج ليجعله أولى الأشياء بالاهتمام لو لم يسبق إلى الخاطر بمناسبةٍ خفيَّةٍ، ومُلابَسَاتٍ خاصَّة، وسبقه غيره لكان أولى منه عندنا وأجدر بالتقديم والأفضلية.

فالجواب عن هذا السؤال وأمثاله يعتمدُ كلَّ الاعتماد على الاعتبار، ولكلِّ إنسان وجهة في طرق تفكيره واعتباره للأشياء. ولا تظهر وجاهة مثل هذه الآراء إلَّا إذا عمل بها، وجُرِّبَت وبانت فوائدها عيانًا حتَّى لم يَعُد فيها شكُّ شاكٍّ، ولا ظنَّةُ مُرتاب.

هذه مقدمة صغيرة نُقدِّمُها بين يدَي إجابتنا، ليتبيَّن منها مذهبنا فيها، وأنها مبينة على الاعتبار، وقد تطابق الواقع أحيانًا وتصيبُ شاكلة الصواب، وقد لا تكون كذلك.

وبعد، فأولى الأشياء باهتمام الأمم الشرقية في حياتها العامَّة، كما يكونُ من الوجهة الاجتماعية يكونُ من الوجهة السياسية والاقتصادية، وغيرهما من الوجهات الكثيرة. على أن هذه الوجهات مُشتبكة مُترابطة لا انفصالَ بينها ولا انقطاع، حتَّى لتؤثِّرُ إحداها في الأُخرى، وتأتي نتيجة ذلك بأثرٍ في الثَّالثة عفوًا بلا قصدٍ وبدونِ تعمُّل وهكذا. ولا شكَّ أنكم لا تريدون كلَّ هذه الوجهات، بل تقصدون واحدة منها، فنقول مجيبين عن سؤالكم:

إن أول ما يجبُ على كلِّ أمة من الأمم الشرقية أن تُعيد النظر في تكوينها وتأليفها كأمة، فتشيد بناءها من جديد تشييدًا مُحكمًا، وتدخل في كيانها العناصر التي تفيض على الحياة، وتنفخُ في جسمها الروح بعد أن تعرف كلَّ ما صدع بناءها الأول من الآفات والعلل، فتقتلعه وترمي به وراء ظهرها، فلا تجعل للمذاهب أيًّا كانت، والديانات مهما اختلفت، سبيلًا لتصديع هذا البناء وتوهين أسسه ودعائمه، بل تكسر حدتها، وتقفُ بها عند حدودها، ولا تتجاوزُ ما وُضعت له من قصد الخير لا إلى ما وصلت إليه الآن من الانقسام والتفرُّق، وما جرَّ إليه من الأحقاد والضغائن؛ فإنَّ هذا هو الذي أضعف شأنها، وجلب عليها البلاء العام والضر الشامل.

فإذا عرف زعماء كل أمَّةٍ وكبراؤها أن أسباب ما هم فيه من المصائب في أنفسهم، وفي أوطانهم، إنما هي تلك الخلافات التي ورثوها عن أسلافهم، والتي أورثتهم العداوة والبغضاء، وقسَّمتهم على أنفسهم، وفرقتهم شيعًا، وجعلت بأسهم بينهم شديدًا، وقُوتهم ضعفًا، وكثرتهم قلَّة، واعتقدوا ذلك حقيقة، وألمُّوا به؛ لا يلبث ذلك الألم أن يهيب بهم إلى العمل على تناسي هذه الفوارق، وفضِّ هذه الاختلافات أو تلطيفها وحصرها في أضيق الدوائر؛ حتى لا تكون مانعة من أخوَّة أبناء الوطن الواحد، ولا حائلة دُون ما يجب أن يكون بينهم من الهيبةِ والتعاوُنِ والتناصُرِ، بحيثُ يصبح لهم من الوطن الذي آواهم والمرافق المشتركة بينهم جامعة تجمعهم ورابطة تربطهم وتؤلِّفُ بين قلوبهم. فلا تلبَث تلك الخلافات الحادَّة، والنعرات المتأجِّجَة أن تخمد جذوتها فتنقلبُ بردًا وسلامًا، وتصيرُ نسيًا منسيًّا أمام المصالح العامَّة والمنفعة القومية.

وبالجُملة فإنَّ داءَ الشرق الشِّقاق، ودواؤه الوفاق. وقد عرف ذلك حكيم الشرق السيد جمال الدين الأفغاني، فذكره في جُملته المأثورة: «اتَّفق المصريُّون على ألَّا يتَّفقوا.» وأدركه الغربيون، فكان أساس سياستهم في الشرق سياسة «فرِّق تسُد»! وقديمًا أورث الخلاف أبناء الوطن الواحد الضعف والذلة. وفي حكاية منشأ ملوك الطوائف بفارس، وما أشار به أرسطو على الإسكندر ليدوم سلطانه عليهم أبلغ العظة والعِبرة لمن يتَّعظ ويَعتبر. ومن حكمة المهاتما غاندي عندما بلغه نزاع بعض المسلمين له جهلًا وغباءً ما حمله على أن يقولَ: «إنَّنَا لنرضى أن نكون تحت حكم الأقليَّة من إخواننا المسلمين، ونُفضِّل هذا على انقسامهم علينا وخلافهم لنا.»

هذا ما رأيناه أول ما يجب على الأمم الشرقية الاهتمام به، وتجدوننا فيه لم نأتِ بجديد. وإنَّمَا ردَّدنا صدى أقوال الآخرين؛ لأنها في نظرنا ليس وراءها غاية لمستزيد.

عصبة أمم شرقية

وسُئل سموه أيضًا: «وهل يمكن تأليف عصبة أمم شرقية؟ وكيف تكون وأين يكون مركزها»؟

فقال: إذا عملت كل أمَّة شرقية كلَّ ما يمكن عمله لتكون أمَّة حقيقية مُؤتلفة متحدة مُتضامنة مصبوبة في قالبٍ واحدٍ، معتزَّة بوطنها وقوميتها، كان من السَّهل بعدئذٍ النظر في تأليف عصبة أمم شرقية تنظرُ في الأمورِ العامة التي تشملها، فيكون لها صوت مسموع وأثر محمود.

أمَّا الآن وهي كما هي فإنَّ تألُّف هذه العصبة وإن كان ممكنًا يكون واهنًا ضعيفًا في ذاته، فضلًا عن سريان الوهن إليه من الأعضاء الذين تتألَّفُ منهم تلك العصبة، فلا يكونُ لها كبير طائلٍ ولا جدوى. أمَّا كيف تكون وأين يكونُ مركزها فأمورٌ ثانويَّة ومن التسرُّعِ الخوض فيها الآن.

نهضة الشرق الحاضرة

ومن رأي سمو الأمير في نهضة الشرق الحاضرة، وهل هي مُحقِّقة للآمال أو تنقصها عناصر تحتاج إليها، وإذا كان لها عيوب فبماذا تُداوى هذه العيوب قوله: إنَّ نهضة الشرق الحالية لا ريبَ فيها. وقد كان للحربِ العالمية الأخيرة وكوارثها أكبر الأثر فيها، ولكنها إلى الآن لم تحقِّق الآمال، غير أن الأمل معقودٌ ببلوغها هذا الشأن إن قريبًا وإن بعيدًا. ولا شكَّ أنها تحتاجُ إلى عناصِرَ أُخرَى أهمها العناية بالصنائع المُختلفة التي تُغني الأمم عن جلبِ ما تحتاجُ إليه، وتكونُ مصدر رزقٍ لكثيرين من أفرادها، ومن أسباب الإثراء والغِنَى والقوَّة والاستقلال حتَّى لا يظل الشرق — كما هو — عالة على الغرب.

وعيوبها العامَّة ما لا يزالُ يشوبها من الانقسامات والخلافات الحزبية والسياسية والدينية. ولها أيضًا عيوب خاصَّة تختلفُ باختلاف الأوطان الشرقية. فعيوب النهضة في مصر أنها تُسرِفُ في ترسُّمِ خُطَا أوروبا في الحَسَنِ والقبيحِ، وتُقلِّدُ المدنية الغربية تقليدًا أعمى. فهي نهضة غير مُستقلة لم يراعَ فيها ما بيننا وبين الأوروبيين من خلافٍ في الطباع والعادات والأخلاق والدِّين، ولم يُنظر فيها إلى مدنيتنا القديمة مع أن الواجب الأخذ منها، بل جعلها أساسًا لنهضتنا الحاضرة، مع ترك ما لا يتَّفِقُ وروح العصر، أو تعديله واقتباس ما لا بُدَّ منه من مدنيات الأمم الأخرى، بما فيها المدنيات الأوروبية، وصبغه بصبغتنا؛ حتَّى تبقى لنا قوميتنا الممتازة وطرق حياتنا الخاصة.

الشرق شرق والغرب غرب!

وسموه يرى أن القول الشائع بالشرق شرق والغرب غرب قول حقٍّ يؤيده التاريخ والواقع، والماضي والحاضر؛ إذ لا يمكن الجمع بينهما إلَّا إذا علت الإنسانية عن أُفُقِهَا الحالي، فشملت الناس جميعًا. وهذا بعيد الاحتمال جدًّا، والتعلق به ضربٌ من الأوهام.

طرق الإصلاح الاجتماعي

كذلك يرى سموه أن خير طرق الإصلاح الاجتماعي التي ينبغي اتباعها في الوقت الحاضر — وهي كثيرة — ولكن المهم منها، ولنذكرها مجملة موجزة، هو:
  • (١)

    القضاء على الخلافات والمنازعات والخصومات السياسية والدينية.

  • (٢)

    تعميم التعليم الذي يذهب بالأمِّيَّةِ عن أبناء هذه الأمة بنين وبنات، وإصلاح برامجه ومناهجه في درجاته كلِّهَا إِصلاحًا عامًّا يضمنُ لجوهرها وأصولها الثبات وعدم التقلقل، ولا تستعصي معه عن التمشِّي مع التغييرات الضرورية التي يقتضيها مرور الزمن، وما يجيءُ به من الطوارئ. ويجبُ أن ينظر في هذا الإصلاح إلى المصلحة العملية قبل أي شيء آخر؛ حتَّى تُخرج لنا أبناء صالحين لمزاولة جميع المهن والأعمال الحرَّة لا يتهافتون على الوظائف، ولا يقصرون نظرهم عليها.

  • (٣)

    الاهتمام بمختلف الصنائع المنتجة اهتمامًا كبيرًا بمقدار حاجتنا الشديدة إليها، والتغلُّب على العقبة القائمة في سبيلها وسبيل التوسع الزراعي في مصر بتوليد الكهرباء من التَّيَّارات المائية، والعمل لهذا الأمر الحيوي الهام بهمَّة ماضية لا كما هو حاصلٌ الآن من التلكُّؤِ والتسويف فيه.

    فمتى صدقت الهمم هانت أمامها الصعاب، وأدنت ما بَعُدَ منالُه، وأتت بالعجب العُجاب. وبذلك يتهيَّأُ إيجاد المصانع الكثيرة، وبالأخصِّ مصانع النسيج والغزل، فنستهلك جزءًا كبيرًا من قطننا في بلادنا، ولا يكونُ سِلعة بائرة كما هو الآن، وكما ينذر به المستقبل. وقد عددنا هذا الأمر من الإصلاح الاجتماعي مع أنه أدخل في باب الاقتصاد؛ لما له من علاقة كبيرة به. ومن ذلك إنشاء «البنوك المالية الأهلية» التي لا غنى عنها للصناعة والزراعة والتجارة، وجمعيات التعاون.

  • (٤)

    العناية بالشئون الصحيَّة، ومُضاعفة في مقاومة الأمراضِ المستوطنة في بلادنا، وتوفير أسباب النظافة، وقطع دابِرِ عادة «الحفا» المتفشِّية في أبناء القرى والفلاحين، وتشجيع الألعاب الرياضية، وتوسيع نطاقها، ومُقاومة المسكرات والمخدرات، ومنع البغاء الجهري والسري.

  • (٥)

    حسن القيام بوظيفة الوعظِ والإرشادِ، وتعميمها، وتخريج العدد الكافي لها من الخطباء المؤثِّرين والوُعَّاظ المهذَّبِين الذين يعهد إليهم في القيامِ بتعزيزِ جانب الفضيلة والتربية العامة للأمة، وبث روح الدين بطريقة لا تجعله أداةً للتفريق، بل يكون كما يريد الله رحمةً عامَّة وسببًا في الخير والسعادة.

    وقد بدأت بذلك فعلًا وزارة الأوقاف والأزهر الشريف، وسيكون لهذا العمل العظيم أثرٌ كبيرٌ في الإصلاح إذا عُمِّمَ في الوجهين البحري والقبلي، ونُظِّمَ تنظيمًا مُحكمًا، ورُوعيت فيه الطرق القويمة المؤدِّيَةِ إلى الغرض، وأفردت له مصلحة تنظر في شئونه وترقيته، وكيفية الرَّقابة عليه؛ فإنَّه جديرٌ بذلك لما يُرجَى من ورائه من الفوائِدِ العُظمَى، وعندنا أن هذا النوع من الإصلاح في أُمَّةٍ يكثُرُ فيها الأميون أقرب الوسائل للتعليم العام، وأسرع وسائط التثقيف والتهذيب واستتباب الأمن والطمأنينة ومُقاومة المنكرات.

  • (٦)

    التعاون بين الهيئات المنظَّمَة على احترامِ «الدستور» احترامًا يتغلغَلُ في النفوس، ويكفل له النمو والشيوع؛ حتَّى يصبح نظام الشورى عامًّا في جميع الشئون؛ فيكون أساسًا في بناء الأسر، ويسود العلاقات والمعاملات بين الناس.

ما للمرأة وما عليها

أما عن رأي سمو الأمير فيما يجب للمرأة الشرقية، وما يجب عليها، فهو يقولُ: يجبُ للمرأَةِ منذ الطفولة التهذيب والتربية والتعليم، ويجب لها وهي زوجة العدل والإخلاص وحسن المعاملة؛ حتَّى تتمكَّن من تأدية وظائفها في المجتمع، فتكون زوجة صالحة وربَّةَ بيت مُدبِّرَة، مُشاركةً لبعلها في الحياة مُشاركَةً مثمرة.

ونعني بتعليمها أن تتعلَّم ما يُمكِّنُها من القيامِ بالوجبات التي عليها لزوجها وبيتها وأبنائها، وهذا ما يجب عليها. ويجدر أن يكون من بين النِّسَاءِ من يتعلَّمنَ ما لا بدَّ منه للنساء، وأن يعرفن بعض الصنائع، وما يدخُلُ في باب جمال الحياة وزينتها من غيرِ إسرافٍ ولا إفراط.

فمن الأول أن تكون معلمة أو طبيبة أو قابلة أو ممرضة أو خادمة، ومن الثاني أن تتعلم صناعة الخياطة أو النسيج أو التطريز ونحو ذلك، ومن الثالث أن تتعلَّم بعض الفنون الجميلة كالتصوير والموسيقى والغناء والرسم والكتابة والشعر.

أمَّا أن تكون محامية أو مهندسة أو ممثِّلَة أو نائبة أو ما ماثل ذلك ممَّا يقضي عليها بالاختلاط المحظور والتبرُّجِ الممقوت، فرأينا أن في ذلك مع عدم الحاجة إليه أكبر الضرر عليها وعلى المجتمع. ولا يعنينا أن من الأوروبيات من تُزاوِلُ هذه الأمور أو تُطالِبُ بها، فلهنَّ شأنٌ ولنسائنا شأنٌ آخر.

وأكبرُ ما نُوصي به بنات وطننا أن يتزينَّ بالحياءِ والعفافِ والفضيلةِ أكثر ممَّا يتزيَّنَّ بالثياب والأطلية والحلي، وأن يمقتن التبرج والخلاعة والمجون والسرف والرذيلة، ويمقتن من تتَّصِفُ بها منهن، وأن يتمتَّعن بالحرية الواجبة لهنَّ حقًّا وعدلًا مع المُحافظة على الشرف والصيانة والعرض، فيكنَّ جديرات بالاحترام الواجب لهنَّ خليقات بالإكرام والإعزاز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤