الفصل الثالث

أفضال الأمير عمر طوسون على التاريخ المصري

مؤرِّخ القومية المصرية

أُولِع سمو الأمير العظيم عمر طوسون بالتاريخ منذ أيَّام الصبا والشباب، فلم ينقطع يومًا عن البحث في نفائس المؤلفات التي كتبها الأفراد أو الجماعات التي يعنيها الوقوف على حقائق الأمم، في مُختلف الأقطار مُتتبعين في ذلك ما خلَّفَه الأقدمون من آثار!

ودفعه غَرَامُهُ بالكشفِ عن النَّواحي الخفيَّة من تاريخنا القومي إلى أن يقتني مكتبةً عامرة بالكُتُبِ الفريدة، والمراجع النادرة. ولم يكن يمرُّ يوم دون أن يُنفق منه سموه شطرًا كبيرًا باحثًا أو مُعلِّقًا، على سفر من هذه الأسفار التي تحتشد بالبينات الرَّائعات عن أمجادنا القومية. وقد وقف سموه بدوام بحثه وتنقيبه على جوانب العِزَّة والمجدِ في تاريخنا؛ فكشف عنها، وأضاءَ بثاقب بصيرته ظلماتها، التي كان العلماء — قبل سموه — يتخبَّطُون فيها، ويجهلون أوجُهَ الصواب منها. وقد أُشرِبتْ روحه العالية بالغيرة المتَّقِدَة على تراثنا من هذا التاريخ، مع الاستمساك بالحقائق الثابتة — مهما كان وضعها — لأن هدف سموه كان إقرار الحق، بوضع الأمور في نصابها؛ وبذلك كان في كلِّ أفضاله التاريخية مِثالًا للنزاهة والصدقِ وعنوانًا على الجدِّ والإخلاص!

وهكذا يستطيع كل مصري، أن يطلق على الأمير عمر لقب «مؤرِّخ القومية المصرية» بحق. وبذلك يصحُّ فيه قول الشاعر:

خدم التاريخ وليس أشرف عنده
من أن يُسمَّى خادمًا لبلادِهِ!

استقلال رأيه أبرز صفاته

ومن ينظر في مؤلفات الأمير عمر التاريخية — التي أربى عددها على ٣٩ مُؤلَّفًا — يجدْ تلك الآثار الحميدة ناطقة في أجلى بيانٍ، بما كان لسموه من استقلال الرأي وأصالته كمؤرخ، مع صادق الخبرة، والبعد عن الأهواء، وكمال الدراية التي يعزُّ نظيرها بين كلِّ من تصدَّوا لتناول شئون التاريخ بالبحث والتسجيل، ولا بدع في ذلك فمن كان على مثال سموه (ورث السيادة كابرًا عن كابرٍ) لا بدَّ أن تستهويه الحقيقة فيذكرها مُجرَّدة لوجه التاريخ. ولا غرابة في أن سموه بفطرته السليمة، ومبادئه القويمة، قد اضطلع بأمانة التاريخ؛ فكان الصدق ألزم صفاته وأجلى آياته!

ومن هنا كانت الهيئات العالمية في مُختلف الأمم تتلقَّف آثاره التاريخية بالشَّغَف الزَّائد، والشوق العظيم؛ فتقف فيها على الدقائق التي لا يمتري فيها اثنان، في بليغِ بيان وفصيح برهان؛ لأنه كان موضحًا للحقائق، مبرزًا معالمها، منيرًا خفاياها؛ لتبدو جليَّةً للعيان كما تبدو الشمس المشرقة ساطعة في كبد السماء!

إنَّ كل هذه الفضائل التي اقترنت بصراحة المؤرخ الأمير، وجماع هذه المواهب والصفات التي عرف بها، كانت تبلغ من قلوب الناس — المنتفعين بالآثار الطليَّة التي سجل فيها سموه مفاخر تاريخنا القومي ما تبلغه عظمة الحقائق التي يُقرِّرُها، وروعة الأساليب التي يُؤدِّيها بها، بما جعل مفعولها نافذًا، وأثرها على العقول وفي الصدور قويًّا بارزًا. وهذا وحده هو غاية الرفعة والجلال، ونهاية ما تصبو إليه نفوس عظماء الرجال من مراتب العزة والكمال!

سموه حجة للمؤرخين

وإنَّ من يُطالع مؤلَّفات الأمير عمر التاريخية العديدة، يجدها جميعًا تتَّصِلُ بالحِقبَةِ التي قطعتها مصر في مراحل التقدُّم ومعارج الرُّقي، منذ ولي أمرها المغفور له محمد علي باشا الكبير، ومن خلفوه من الوُلاة، مع بعضِ كتب عن الصِّلات الوثيقة التي تربط بين شطري النيل رباطًا لا تتقطَّعُ أوصاله. والأمير في تلك النواحي التي خصص لها عنايته كباحث كان يعتبر حجَّة، لا يُنازعه مكانته العلمية فيها مُنازع — في الشرق أو الغرب — ومن هنا كان رجال التاريخ يعدونه المرجع الأمين لهم، فإذا أعياهم الاهتداء إلى وجه الصواب في إحدى مسائل التاريخ المصري تكون إرشاداته وآراؤه هي وحدها المصدر الذي يلهمهم حقيقتها بعيدًا عن كلِّ مظنَّةٍ أو خطأ قد يقعون فيه إذا لم يرجعوا إليه في أبحاثهم!

دعايته لمصر في مؤلفاته

وكان الأمير عالمًا بأن هذه النَّاحية التي تعرَّض لتناولها في تاريخنا في حاجة لمن يكشف عنها؛ ولذلك فقد أسدى إلى تاريخ مصر والسودان، ونهضتهما العسكرية والبحرية، وفتوحات ولاتها التي امتدت إلى أبواب استانبول ومجاهل بلاد الحبشة خدمات لا تُقدَّر؛ إذ لولاه لظلَّت هذه الأمجاد التي نُفاخِرُ بها مجهولةً في طوايا هذا التاريخ، تكتنفها الظلمات من جهلِ العالمين بها، في حين أنها في طليعة نفائسنا ومقدمة مفاخرنا القومية!

وكان سموه يفسر التاريخ تفسيرًا صحيحًا، فهو حين يتناول ذكر موقعة من المواقع، أو يعرض لبيان حالة البلاد الاجتماعية في زمنٍ ما، لا يعنيه سرد الحوادث، إلَّا بمثل ما يعنيه ذكر النتائج التي أسفرت عنها؛ ولهذا كان يؤمن بأن تاريخنا القومي ليس مُجرَّد روايات وحوادث، أو ذكر أشخاص، وإنَّما هو يصوِّر مرحلة من مراحل التقدُّم العمراني في عصرٍ مضى، وهو يتوخَّى أن يكون لمصر في هذا التاريخ، أعظم دعاية أمام أُمم الدنيا بأسرها.

أسماء مُؤلَّفاته الفرنسية

ونكتفي بعد هذا العرض بذكر مؤلفاته الفرنسية، ولها أصلٌ بالعربيَّة أيضًا، وأسماؤها تُغني عن الإفاضة في شرحِ ما تضمَّنته من المعلومات العظيمة، وما تحتويه في تضاعيف صفحاتها من المباحث الهامَّة التي تناقلتها أندية العالم بمزيدِ العناية؛ وهي:
  • أولًا: تاريخ أفرع النيل القديمة (جزءان).
  • ثانيًا: تاريخ النيل.
  • ثالثًا: مالية مصر من عهد الفراعنة إلى الآن.
  • رابعًا: جغرافية مصر في عهد العرب.
  • خامسًا: سليا وأديرتها (مذكرات عن صحراء ليبيا).
  • سادسًا: فتح مصر «لابن الحكم».
  • سابعًا: وصف فنار الإسكندرية.
  • ثامنًا: مذكرة عن عمود السواري في سنة ١٨٤٣.
  • تاسعًا: المسألة السودانية.
  • عاشرًا: وادي النطرون.
  • حادي عشر: الإسكندرية في سنة ١٨٦٨.

أسماء مؤلفاته العربية

أمَّا مؤلفات سمو الأمير عمر باللغة العربية ولم تترجم إلى اللغات الأجنبية، فهي تتَّسِمُ بسدادِ الرَّأي، وبالرَّغبَةِ في التوجيه إلى تحقيقِ الإصلاح، وجلاء الحقائق في أسلوبِ مشرق مشوِّق خلَّاب، والحقُّ يُقالُ أن مؤلفاته تُزيِّن المكتبة المصرية؛ وهي:
  • أولًا: كتاب «خط الاستواء» (ثلاثة أجزاء).
  • ثانيًا: كتاب «البعثات العلمية» في عهد محمد علي باشا وعهدَي عباس الأوَّل وسعيد باشا.
  • ثالثًا: كتاب «الصنائع والمدارس الحربية» في عهدِ محمد علي باشا.
  • رابعًا: كتاب «١١ يوليو سنة ١٨٨٢».
  • خامسًا: صفحة من تاريخ مصر والجيش البري والبحري من عهد محمد علي باشا.
  • سادسًا: أعمال الجيش المصري في المكسيك.
  • سابعًا: مذكرة عن الوقف.
  • ثامنًا: كلمات في سبيل مصر.
  • تاسعًا: مذكرة بما صدر عنَّا منذ فجر النهضة الوطنية.
  • عاشرًا: تاريخ خليج الإسكندرية وترعة المحمودية.
  • حادي عشر: المسألة السُّودانية.
  • ثاني عشر: وادي النطرون ورهبانه وأديرته وتاريخ البطاركة.
  • ثالث عشر: مذكرتان: «لبيب باشا الشاهد» عن أعمال الجيش المصري في السودان.
  • رابع عشر: مذكرة: «ضحايا مصر في السودان وخفايا السياسة الإنجليزية»، وهذان مطبوعان على نفقةِ سموِّه.
  • خامس عشر: الأطلس التاريخي الجغرافي لمصر السُّفلى منذُ الفتحِ الإسلامي للآن.
  • سادس عشر: فتح دارفور.
  • سابع عشر: مصر والسودان.
  • ثامن عشر: مذكرة عن مسألة السودان بين مصر وإنجلترا.
وسمو الأمير عمر في كلِّ هذه المؤلفات كان يضربُ بسهمٍ وافرٍ في العلومِ التاريخية، حتَّى غدت مهوى اطلاع القدماء والمحدثين من محبِّي التاريخ. وأذكر — على سبيل المثال لا الحصر — أنِّي تناولت بالعرض والتنويه بعض هذه المؤلفات في الصحف. وأنشُرُ فيما يلي إحدى هذه الآثار للذكرى والتاريخ:

مؤلفان ثمينان

  • (١)

    تاريخ خليج الإسكندرية وترعة المحمودية.

  • (٢)

    مذكرة بما صدر عنَّا.

منذُ فجر النهضة الوطنية المصرية (١٩١٨–١٩٢٨)
لصاحب السمو الأمير الجليل عمر طوسون
عرض وتحليل، بقلم قلِّيني فهمي باشا

ليسَ من شكٍّ في أن تاريخ الأمم العظيمة هو صفحة لجهادِ مفكِّريها وعظمائها. وأعلام البيان فيها هم الذين هيَّأتهم مواهبهم لأن يكونوا حلقة الاتِّصالِ بين ماضي الأمم وحاضرها؛ لأنهم يصنعون بثمراتِ قرائحهم المرآة المجلوَّة التي يرى فيها أبناء الغدِ ورجال المستقبل أعمال هؤلاء العظماء، ويستشفُّون من المناظِرِ التي تنعكسُ على صفحتها اللامعة ما يرتقب بلادهم من مجدٍ باهرٍ ورقيٍّ زاهر.

وصاحب السمو الأمير الجليل «عمر طوسون» يعتبر في مُقدِّمَة المفكرين الذين تتَّسِم آراؤهم بميسم الإقناع؛ فهو إذا أدلى برأي في المشكلات الاجتماعية، أو المعضلات الاقتصادية التي تكابدها البلاد، جاءت آراؤه في مجموعها مثال الصواب، والحجَّة الثابتة، وهو إذا تعرَّضَ لبحثٍ من البحوثِ التاريخية فهو يتوفَّرُ عليه فيقتله تمحيصًا وتنقيبًا؛ فيجيء حافلًا بالطليِّ الجليِّ من الآراء الناضجة، والرَّائع النَّاصع من الأفكار الشائقة.

ولسموِّ الأمير عمر — حفظه الله — جهود موفَّقة في التاريخ المصري، يعجزُ البيان عن توفيتها حقها من التقديرِ والثناء. والتفاته الكريم إلى الجانب القومي منه خليقٌ بكلِّ تمجيدٍ؛ فهو في حرصه على الكشف عن الأمجاد العظيمة التي ينطوي عليها تاريخنا، وكلفه بإذاعتها بين الناس، للاستفادة منها، يعتبر فريدًا بين المؤرخين. وأكثر المواضيع التي يتناولها بالبحث الدقيق في هذا التاريخ هي دائمًا بنت الحقائق الرَّاسخة ووليدة البحوث الصحيحة، التي يحرص سموه فيها حرصًا بالغًا على أمانة التاريخ، ويتوخَّى من نشرها تشريف سمعة الوطن، وإعلاء قدر حكَّامه ورجاله العاملين بين أمم العالم.

وقد تفضَّلَ سموه، فأهدى إلى قرَّاء العربية، في الأسابيع الأخيرة مُؤلَّفين ثمينين: أحدهما عن «تاريخ خليج الإسكندرية القديم وترعة المحمودية». وثانيهما هو «مذكرة بما صدر عنَّا منذ فجر النهضة الوطنية المصرية» عن خلاصةٍ للحوادث التي وقعت إبان سنتَي (١٩١٨–١٩٢٨م).

والكتاب الأول — كما يرى المُطالعون — يتعلَّقُ بتاريخ مرفقٍ عظيمٍ، من مرافِقِ البلاد الحيويَّة. وقد تعقَّب فيه سمو الأمير المؤرخ خليج الإسكندرية والتطورات التي لَحِقَت به إلى أن صار ترعة، وأتى على أوصافه العامَّة والخاصَّة، وتقصَّى في هذا السرد البديع جانبًا من تاريخ الإسكندر الأكبر عندما أنشأ مدينة الإسكندرية، وما بذله من الجهود لإيجاد الوسائل لتزويد الإسكندرية بالماء الصَّالح للشرب. ثمَّ ألحق سموه بهذا البحث الوثائق التاريخية الموجودة بالمحفوظات المصرية عن حفر ترعة المحمودية، مُوضِّحًا كل ذلك بالصور الجميلة والرسوم المفصَّلَة؛ مع الأسلوب المتدفِّق المشوِّق الخلَّاب الذي يُغري الإنسان على المطالعة والاستفادةِ من كلِّ ما يتَّصلُ بهذه البحوث من دروسٍ وعِبَر.

figure
حضرة صاحب العطوفة قلِّيني باشا فهمي.

وأمَّا الكتاب الثاني، فهو يحوي صفحات من جهود سموِّ الأمير عمر؛ في الحركة الوطنية. والنهضة المصريَّة التي انبثقت أنوارها، واندلع أوارها، بعد أن وضعت الحرب العالمية الماضية أوزارها، نهضةٌ خليقة بأن يُوليها المؤرِّخُون ما هي جديرةٌ به من اهتمامٍ ورعاية. وقد تناول الأمير تاريخ هذه النهضة منذُ تأليفِ الوفد المصري، الذي وضع برنامجه على أساسِ المطالبة بحقوقِ البلاد والعمل على إعادة استقلالها، وإلغاءِ الحماية التي كانت مضروبة عليها. وأحاط بالظروف والفكرة التي أنشأت هذا الوفد، وما كان لسموه من آراء سديدة في توجيه هذا الوفد، ومُساهمته الثمينة في الدعوة إلى تضافر الجهود واتحاد القوى للظفر بالأغراض السامية المنشودة. وقد أتى سموه على ما نشره من احتجاجات على مُصادرة الحريَّات، وما أذاعه من بيانات لتأييد النهضة الوطنية، وأحاديث أفضى بها سموه لطائفةٍ من كبار الصحفيين والمشتغلين بالحركةِ الفكريَّةِ والوطنية؛ ممَّا له أبلغُ الأثر في تاريخ هذه الحركة القومية؛ ممَّا يعرف منه الجميع الصفحات النادرة في نهضتهم، وما ساهم به سموه فيها، وهو الأمير الديمقراطي النزعة، والشعبي المبدأ.

هذان هما المؤلفان القيِّمَانِ اللذان أهداهما سمو الأمير العلامة المفكِّر عمر طوسون لقرَّاء الضاد. ولا ريبَ في أنهما إلى جانب تلك المجموعة الضخمة العظيمة من مؤلفاته الفريدة، يزينان موائد الكتب الحديثة التاريخية في الشرق كله، أدام الله سموه ذخرًا للعلم والأدب والبلاد.

من سمو الأمير الجليل عمر طوسون

كتاب شكر وتقدير
وكان سموه — رحمه الله — يقدِّرُ كلَّ التقدير من ينتبه إلى مؤلَّفاته القيِّمة، فما كاد يطَّلع على ما كتبناه حتَّى تفضَّل فبعث إليَّ بالكتاب الكريم التالي، وهو ينطِقُ من تلقاءِ نفسه بعاطفته السامية:

حضرة صاحب السعادة قليني فهمي باشا

وصل إلينا خطاب سعادتكم المؤرَّخ ٢٤ مايو سنة ١٩٤٢ ومعه نُسختان من جريدة «التيمس المصري الغرَّاء». وإنَّنَا نشكُرُ سعادتكم أجزل الشكر على ما دُوِّنَ بهذه الصحيفة القيمة، وما تضمَّنَته كلمتكم الطيبة التي أبديتموها خاصَّة بمؤلَّفَينا: «تاريخ خليج الإسكندرية القديم وترعة المحمودية، ومذكرة بما صدر عنَّا منذ فجر الحركة الوطنية المصريَّة من سنة ١٩١٨ إلى سنة ١٩٢٨». ومع تقديرنا لكلمتكم البليغة وشكرنا لشخصكم الكريم، أرجو أن يُديمَ اللهُ عليكم نِعمة الصِّحة ويبلغكم أقصى ما ترجونه من سعادةٍ وهناءة.

واقبلوا مزيد سلامنا.

عمر طوسون
٢٧ مايو سنة ١٩٤٢

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤