مثال القلب بالإضافة إلى العلوم

اعلم أن مثال القلب الذي هو عبارة عن الروح المدبر لجميع الجوارح المخدوم من جميع القوى والأعضاء بالإضافة إلى حقائق المعلومات، كالمرآة بالإضافة إلى صور المتلونات، فكما أن للمتلون صورة ومثالًا لتلك الصورة ينطبع في المرآة، ويحصل فيها، فكذلك لكل معلوم حقيقة وتلك الحقيقة صورته فتنطبع في المرآة — أعني مرآة القلب — فتتضح فيه، وكما أن المرآة غيرٌ وصورة الأشخاص غيرٌ وحصول مثالها في المرآة غيرٌ، فهي ثلاثة أمور ويحتاج إلى أمر رابع وهو نور، بواسطته تنكشف الصورة في المرآة وتظهر، فكذلك ها هنا أربعة أمور: القلب، وحقائق الأشياء، وحصول نقش الحقائق في القلب وحضوره فيه، ونورٌ به تنكشف الحقائق في القلب، وهو في الشرع عبارة عن جبريل عليه السلام، وفي عبارة الحكماء عبارة عن العقل بواسطته تفيض العلوم على الأرواح البشرية، فالعالم عبارة عن القلب الذي يحل فيه مثال حقائق الأشياء، والعلم عبارة عن حصول المثال في المرآة، والنار والشعاع عبارة عن الملك الموكل بإفاضة العلوم على القلوب البشرية، وكما أن المرآة لا تنكشف فيها الصور لخمسة أمور: أحدها لنقصان صورته كجوهر الحديد قبل أن يدور ويشكل ويصقل، والثاني لخبثه وصدئه وكدورته، وإن كان تام الشكل، والثالث لكونه معدولًا به عن جهة الصورة إلى غيرها كما إذا كانت الصورة وراء المرآة، والرابع لحجاب مرسل بين المرآة والصورة، والخامس الجهل بالجهة التي فيها الصورة المطلوبة حتى يتعذر بسببه أن يحاذي بها شطر الصورة وجهتها، فكذلك القلب مرآة مستعدة لأن يتجلى فيه حقيقة الأمور كلها، وإنما خلت القلوب عنها لهذه الأسباب الخمسة:
  • أولها: نقصان في ذاته كقلب الصبي، فإنه لا يتجلَّى فيه حقائق المعلومات لنقصانه أو كروح ناقص في أصل الفطرة، فإن النفوس وإن كانت نوعًا واحدًا، ولكن في هذا النوع تفاوت عظيم وعرض واسع.
  • والثاني: لكدورة المعاصي والخبث الذي تراكم على وجه القلب من كثرة الشهوات، فإن ذلك يمنع صفاء القلب وجلاءه فيمنع ظهور الحق فيه، كالشمس التي ينكسف بعضها أو كلها، فيذهب نورها وبهاؤها بقدر ظلمتها، وإليه الإشارة بقوله عليه السلام: «من قارب ذنبًا فارقه عقل لا يعود إليه أبدًا.» أي حصل في قلبه كدورة لا يزول أثرها أبدًا؛ إذ غايته أن يتبعها بحسنة تمحوها، فلو جاء بالحسنة ولم تتقدم السيئة سقطت فائدة الحسنة، لكن عاد القلب بها إلى ما كان قبل السيئة ولم يزدد بها، فالإقبال على طاعة الله تعالى والإعراض عن مُقتضى الشهوات هو الذي يجلو القلب ويصفيه؛ ولهذا قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا،١ وقال عليه الصلاة والسلام: «من عمل بما ورثه الله علم ما لا يعلم.»
  • الثالث: أن يكون معدولًا به عن جهة الحقيقة المطلوبة، فإن قلب المطيع الصالح، وإن كان صافيًا فإنه ليس يتضح فيه جلية الحق؛ لأنه ليس يطلب الحق وليس يحاذي بمرآته شطر المطلوب، بل ربما يكون مستوعب الهم بتفصيل الطاعات البدنية أو تهيئة أسباب المعيشة، ولا يصرف فكره إلى التأمل في الحضرة الربوبية والحقائق الخفية، ولا ينكشف له إلا ما هو متفكر فيه من دقائق آفات الأعمال، وخفايا عيوب النفس إن كان متفكرًا فيها، أو مصالح المعيشة إن كان متفكرًا فيها، وإذا كان تقيد الهم بالطاعات وتفصيلها مانعًا عن انكشاف جلية الحق، فما ظنك في صرف الهم إلى الشهوات واللذات الدنيوية وعلائقها وزخارفها، فكيف لا يمنع عن الكشف الخفي.
  • الرابع: الحجاب فإن المطيع القاهر لشهواته المتجرد للفكر في حقيقة من الحقائق قد لا ينكشف له ذلك، لكونها محجوبة عليه باعتقاد سبق إليه في ضد الحق منذ الصبا على سبيل التقليد، والقبول بحسن الظن يحول ذلك بينه وبين حقيقة الحق، ويمنع من أن ينكشف في قلبه خلاف ما تلقفه من ظاهر التقليد.

    وهذا أيضًا حجاب عظيم به حجب أكثر المتكلمين والمتعصبين للمذاهب، بل أكثر الصالحين المتفكرين في ملكوت السموات والأرض؛ لأنهم محجوبون باعتقادات تقليدية جمدت في نفوسهم ورسخت في قلوبهم، وصارت حجابًا بينهم وبين درك الحقائق.

  • الخامس: الجهل بالجهة التي منها يقع العثور على المطلوب، فإن طالب العلم ليس يمكنه أن يحصل العلم بالمجهول، إلا بتذكر العلوم التي تناسب مطلوبه، حتى إذا تذكرها ورتبها في نفسه ترتيبًا مخصوصًا يعرفه العلماء، استخرج مطلوبه بطريق الاعتبار وتحصيل المجهول من المعلوم الذي سبق، وهذا هو القانون المنطقي.

فإن المنطق آلة قانونية تعصمه مراعاتها من أن يضل في فكره، فإذا حكم القوانين وطرق التفكر فعند ذلك يعثر على جهة المطلوب، فتتجلى حقيقة المطلوب لقلبه، فإن العلوم المطلوبة ليست فطرية لا تحتاج إلى تجشم الاستدلال والنظر والاعتبار، بل لا تقنص إلا بشبكة العلوم الحاصلة، فكل علم نظري لا يحصل إلا عن علمين سابقين يأتلفان ويزدوجان على وجه مخصوص وشكل معلوم من الأشكال القياسية، حمليًّا أو شرطيًّا، متصلًا أو منفصلًا، فيحصل من ازدواجهما علم ثالث يسمى النتيجة عند حصولها والمطلوب قبل حصولها، فالجهل بتلك الأمور وبتلك المقدمات، وبكيفية الازدواج والترتيب المفضي إلى المطلوب تصورًا أو تصديقًا هو مانع من العلم.

وهكذا كالمرآة إذا لم تحاذها شطر الصورة فلا تقع فيها الصورة، وكذلك إذا حرف عن جهة الصور، ففي اقتناص العلوم طرق عجيبة وازورارات وتحريفات خفية أعجب مما ذكرنا في المرآة، ويعز على بسيط الأرض من يهتدي إلى كيفية الحيلة في تلك الازورارات. فهذه هي الأسباب المانعة للقلوب من معرفة حقائق الأمور، وإلا فكل قلب هو بالفطرة صالح لمعرفة الحقائق، وإن كان بينها تفاوت كثير؛ لأنه أمر رباني شريف — كما ذكرناه — فارق سائر جواهر العالم بهذه الخاصية والشرف، وإليه الإشارة بقوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ٢ إشارة إلى أن له خاصية تميز بها عن السموات والأرضين والجبال، بها صار مطيقًا لحمل أمانة الله تعالى، وتلك الأمانة هي المعرفة والتوحيد، وقلب كل آدمي مستعد للأمانة ومطيق لها في الأصل، ولكن يثبطها عن النهوض بأعبائها، والوصول إلى تحقيقها الأسباب التي ذكرنا؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «كل مولود يُولد على الفطرة، فأبواه يُهودانه ويُنصرانه ويُمجسانه.» وقول رسول الله : «لولا الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء.» إشارة إلى بعض هذه الأسباب، التي هي الحجاب بين القلب وبين الملكوت.

وفي الخبر قال الله تعالى: «لم يسعني أرضي وسمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن اللين الوديع.» وفي الخبر أنه قيل: من خير الناس؟ فقال: كل مؤمن محموم القلب. فقيل: وما محموم القلب؟ فقال: هو التقي النقي الذي لا غش فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد. ولذلك قال عمر — رضي الله عنه: رأى قلبي ربي إذا كان قد رفع الحجاب بالتقوى، ومن ارتفع الحجاب بينه وبين قلبه، تجلت صورة الملك والملكوت في قلبه، فيرى جنة عرضها السموات والأرض بل أكثر سعة من السموات والأرض، فإن الجنة وإن كانت واسعة الأطراف متباعدة الأكناف فهي متناهية، وأما عالم الملكوت وهي معرفة — الحقائق والأسرار الغائبة عن مشاهدة الأبصار المخصوصة بإدراك البصر — فلا نهاية لها.

نعم الذي يلوح للقلب منه أيضًا مقدار متناهٍ، ولكنه في نفسه — بالإضافة إلى علم الله تعالى — لا نهاية له. وجملة عالم الملك والملكوت إذا أخذت دفعة واحدة يُسمى الحضرة الربوبية؛ لأن الحضرة محيطة بكل الموجودات، إذ ليس في الوجود شيء سوى الله وأفعاله ومملكته وعبيده من أفعاله، فما يتجلى من ذلك للقلب هو الجنة بعينه عند قوم، وهو سبب استحقاق الجنة عند أهل الحق، وتكون سعة ملكه في الجنة بحسب سعة معرفته، وبمقدار ما تجلى له من الله تعالى وصفاته وأفعاله، وإنما مراد الطاعات وأعمال الجوارح كلها تصفية القلب وتزكيته وجلاؤه، ومراد تزكيته حصول أنوار المعارف فيه، وهو المراد بقوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ،٣ وبقوله تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ.٤

نعم هذا له مراتب فيها تتفاوت العلماء والحكماء، وكل واحد له مقدار معلوم، وغايته درجة الأنبياء الذين تتلألأ أنوار الحقائق في قلوبهم، وينكشف لهم أسرار الملك والملكوت في صفائح أرواحهم على أتم ظهور وأجلى بيان، وفقنا الله لاتباعهم في جميع أفعالهم وأحوالهم وأخلاقهم.

أمثلة القلب مع جنوده، وله ثلاثة أمثلة

  • الأول: نقول مثل نفس الإنسان في بدنه كمثل والٍ في مدينته ومملكته، فإن البدن مملكة النفس وعالمه ومستقره ومدينته، وقواه وجوارحه بمنزلة الصناع والعملة، والقوة العقلية المفكرة له كالمشير الناصح والوزير العاقل، والشهوة له كعبد سوءٍ يجلب الطعام والميرة إلى المدينة، والغضب والحمية له كصاحب شرطة، والعبد الجالب للميرة كذاب مكار مخادع خبيث، يتمثل بصورة الناصح، وتحت نصحه الشر الهائل والسم القاتل، وديدنه وعادته منازعة الوزير الناصح في كل تدبير يُدبره، حتى لا يخلو من منازعته ومعارضته في آرائه ساعة، فكما أن الوالي في مملكته متى استشار في تدبيراته لوزيره معرضًا عن إشارة العبد الخبيث، بل يستدل بإشاراته على أن الصواب في نقيض رأيه وأدب صاحب شرطته وأسلسه لوزيره، وجعله مؤتمرًا له مسلطًا من جهته على هذا العبد الخبيث وأتباعه وأنصاره، حتى يكون العبد مسوسًا لا سايسًا، ومأمورًا مدبرًا لا آمرًا مدبرًا، استقام أمر بلده وانتظم العدل بسببه. فكذلك النفس متى استعانت بالعقل وأدبت القوة الغضبية وسلطتها على الشهوة، واستعانت بأحديهما على الأخرى، فتارة بأن تقلل من تيه الغضب وغلوائه بخلابة الشهوة واستدراجها، وتارة بقمع الشهوة وبقهرها بتسليط القوة الغضبية عليها وتقبيح مقتضياتها، اعتدلت قواه وحسنت أخلاقه، ومن عدل عن هذا الطريق كان كمن قال الله سبحانه فيه: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ،٥ وقال تعالى: وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ. وقد ذكرنا كيفية تهذيب هذه الجنود في الفصل المتقدم.
  • المثال الثاني: إن البدن كالمدينة، والعقل — أعني القوة المدركة — كملك مدبر لها، وقواه المدركة من الحواس الظاهرة والمشاعر الباطنة كجنوده وأعوانه، وأعضاؤه كرعية، والنفس الأمارة بالسوء التي هي الشهوة، والغضب كعدو يُنازعه في مملكته ويسعى في إهلاك رعيته، فصار بدنه كرباط وثغر، ونفسه كمقيم فيه مرابط، فإن جاهد عدوه فهزمه وقهره على ما يجب، حمد أثره إذا عاد إلى الحضرة كما قال تعالى: فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً،٦ وإن ضيع ثغره وأهمل رعيته ذم أثره، وانتقم منه عند لقاء الله تعالى، فيقال له يوم القيامة: يا راعي السوء أكلت اللحم وشربت اللبن، ولم تئو الضالة ولم تجبر الكسير، اليوم أنتقم منك — كما ورد في الخبر — وإلى هذه المجاهدة أشاروا بقولهم: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.»
  • المثال الثالث: مثل العقل مثل فارس متصيد وشهوته كفرسه، وغضبه ككلبه، فمتى كان الفارس حاذقًا وفرسه مروضًا وكلبه مؤدبًا معلمًا كان جديرًا بالنجح، ومتى كان هو في نفسه أخرق وكان الفرس جموحًا والكلب عقورًا، فلا فرسه ينبعث تحته منقادًا، ولا كلبه يسترسل بإشارته مطيعًا، فهو خليق بأن يعطب فضلًا من أن لا ينال ما طلب، وإنما خرق الفارس مثل جهل الإنسان وقلة حكمته وكلال بصيرته، وجماح الفرس مثلٌ لغلبة شهوته خصوصًا شهوة البطن والفرج، وعقر الكلب مثلٌ لغلبة الغضب واستيلائه وغلوائه وزعارته.
١  سورة العنكبوت ٢٩: ٦٩.
٢  سورة الأحزاب ٣٣: ٧٢.
٣  سورة الأنعام ٦: ١٢٥.
٤  سورة الزمر ٣٩: ٢٢.
٥  سورة الجاثية ٤٥: ٢٣.
٦  الأعراف ٧: ١٧٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤