بقاء النفس

ونذكر أنها لا تموت بموت البدن، ثم نذكر أنها لا تفنى مطلقًا، ونذكر برهانه من المنقول والمعقول.

أما المنقول فقوله تعالى: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فرحين بما آتاهم الله من فضله١ ومعلوم أن من كان حيًّا مرزوقًا فرحًا مستبشرًا به لا يكون ميتًا معدومًا. وكذلك قوله تعالى: وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ،٢ وقال رسول الله : «أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في رياض الجنة.» وقد ترسخ في جميع عقائد أهل الإسلام هذا، فإن رسول المغفرة والرحمة لمن يكون باقيًا لا لمن يكون فانيًا، وكذلك إهداء الصدقة؛ فاعتقادهم أنها تصل إليه، وكذلك المنامات فكل ذلك دليل على أنها باقية.

وقد ذكرنا أن النفس ليست منطبعة في البدن، بل لها العلاقة مع البدن بالتصرف والتدبير، والموت انقطاع تلك العلاقة؛ أعني تصرفاتها وتدبيراتها عن البدن، وإنما يموت الروح الحيواني وهو بخار لطيف ينشأ من القلب، ويتصاعد إلى الدماغ، ومن الدماغ بواسطة العروق إلى جميع البدن، وفي كل موضع ينتهي إليه يفيد فائدة من الحواس الظاهرة والمشاعر الباطنة، فذلك الروح لا ينقى، وإذا بطل ذلك الروح بطل ما يتبعه من الحواس الظاهرة والباطنة والقوى المحركة.

أما البرهان العقلي فلأن كل شيء يفسد بفاسد شيء آخر، فهو متعلق به نوعًا من التعلق، وكل متعلق بشيء آخر نوعًا من التعلق، فإما أن يكون تعلقه به تعلق المكافئ في الوجود، أو تعلق المتأخر عنه في الوجود، أو تعلق المتقدم عليه في الوجود الذي هو قبله في الذات لا في الزمان، فإن كان تعلق النفس بالبدن تعلق المكافئ في الوجود — وذلك أمر ذاتي له لا عرضي — فكل واحد منهما مضاف الذات إلى صاحبه، فليس لا النفس ولا البدن بجوهر ولكنهما جوهران.

وإن كان ذلك أمرًا عرضيًّا لا ذاتيًّا، فإن فسد أحدهما بطل العارض الآخر من الإضافة ولم يفسد الذات بفساده. وإن كان تعلقه به تعلق المتأخر عنه في الوجود، فالبدن علة للنفس في الوجود، والعلل أربع: فإما أن يكون البدن علة فاعلية للنفس معطية لها الوجود، وإما أن يكون علة قابلية لها بسبيل التركيب كالعناصر للأبدان، أو بسبيل البساطة كالنحاس للصنم، وإما أن يكون علة صورية، وإما أن يكون علة كمالية، ومحال أن يكون علة فاعلية؛ فإن الجسم بما هو جسم لا يفعل شيئًا وإنما يفعل بقواه، ولو كان بذاته يفعل لا بقواه لكان كل جسم يفعل ذلك الفعل.

ثم القوى الجسمانية كلها؛ إما أعراض وإما صور مادية، ومحال أن يفيد الأعراض أو الصور القائمة بالمواد وجود ذات قائمة بنفسها لا في مادة ووجود جوهر مطلق، ومحال أيضًا أن يكون علة قابلية، فقد برهنا وبينا أن النفس ليست منطبقة في البدن بوجه من الوجوه، فلا يكون إذًا البدن متصورًا بصورة النفس لا بحسب البساطة، ولا على سبيل التركيب بأن يكون جزءًا من أجزاء البدن يتركب فتحدث النفس، ومحال أن تكون علة صورية للنفس أو كمالية، فإن الأولى أن يكون الأمر بالعكس، فإذا ليس تعلق النفس بالبدن تعلق معلول بعلة ذاتية.

نعم البدن والمزاج علة بالعرض للنفس، فإنه إذا حدث بدن يصلح أن يكون آلة لنفس ومملكة له أحدثت العلل المفارقة النفس الجزئية أو حدث عنها ذلك، فإن إحداثها بلا سبب يخصص إحداث واحد دون واحد محال، ومع ذلك فإنه يمنع عن وقوع الكثرة فيها بالعدد لما بيناه، ولأنه لا بد لكل كائن بعد ما لم يكن من أن يتقدمه مادة، فيكون فيها تهيؤ قبوله أو تهيؤ نسبة إليه كما تبين في العلوم الأخر، ولأنه لو كان يجوز أن تكون نفس جزئية تحدث ولم يحدث لها آلة بها تستكمل وتفعل، لكانت معطلة الوجود ولا شيء معطل في الطبيعة المسخرة المبلغة كل شيء من العنصريات إلى كمالها وغايتها، ولكن إذا حدث التهيؤ للنسبة والاستعداد للآلة، فيلزم حينئذٍ أن يحدث من الجود الآلهي الفياض بواسطة العلل المفارقة شيء هو النفس، وليس إذا وجب حدوث شيء مع حدوث شيء وجب أن يبطل مع بطلانه، وإنما يكون ذلك إذا كان ذات الشيء قائمًا بذلك الشيء وفيه.

وقد تحدث أمور عن أمور وتبطل تلك الأمور، وتبقى هي إذا كانت ذاتها غير قائمة فيها، وخصوصًا إذا كان مفيد الوجود لها شيئًا آخر غير الذي إنما هو تهيأ إفادة وجوده مع وجوده، ومفيد وجود النفس شيء غير الجسم — كما بينا — وإلا هو قوة في جسم، بل هو لا محالة أيضًا جوهر غير جسم، فإذا كان وجوده من ذلك الشيء ومن البدن يحصل وقت استحقاقه الوجود فقط، فليس له تعلق في نفس الوجود بالبدن، ولا البدن علة له إلا بالعرض، فلا يجوز إذًا أن يُقال أن التعلق بينهما على نحو يوجب أن يكون الجسم متقدم الذات على النفس.

وأما القسم الثالث مما كنا ذكرنا في الابتداء، وهو أن يكون تعلق النفس بالجسم تعلق المتقدم في الوجود، فإما أن يكون التقدم مع ذلك زمانًا، فيستحيل أن يتعلق به وجوده وقد تقدمه في الزمان، وإما أن يكون التقدم في الذات لا في الزمان؛ لأنه في الزمان لا يفارقه، وهذا النحو من التقدم هو أن يكون الذات المتقدمة، كلما توجد يلزم أن يُستفاد عنها ذات المتأخر في الوجود، وحينئذٍ لا يوجد أيضًا هذا المتقدم في الوجود إذا فرض المتأخر قد عدم، لا لأن فرض عدم المتأخر أوجب عدم المتقدم، ولكن لأن المتأخر لا يجوز أن يكون عدم إلا وقد عرض أولًا بالطبع للمتقدم ما أعدمه، فحينئذٍ عدم المتأخر فليس فرض عدم المتأخر يُوجب عدم المتقدم، ولكن فرض عدم المتقدم نفسه؛ لأنه إنما افترض المتأخر معدومًا بعد أن عرض للمتقدم إن عدم في نفسه، وإذا كان كذلك فيجب أن يكون السبب المعدم يعرض في جوهر النفس، فيفسد معه البدن، وأن لا يكون البتة يفسد بسبب يخصه، لكن فساد البدن بسبب يخصه من تغير المزاج أو التركيب، فباطل أن تكون النفس تتعلق بالبدن تعلق المتقدم بالذات، ثم تفسد بالبدن البتة، فليس إذًا بينهما هذا التعلق، وإذا كان الأمر على هذا فقد بطل أنحاء التعلق كلها وبقي أن لا تعلق للنفس في الوجود بالبدن، بل تعلقه في الوجود بالجود الإلهي بواسطة المبادئ الأخر التي لا تستحيل ولا تبطل.

النفس لا تفنى مطلقًا

نقول إن النفس لا يتطرق إليها الفناء والعدم والفساد والهلاك، وذلك أن كل شيء من شأنه أن يفسد بسبب ما؛ ففيه قوة أن يفسد، وقبل الفساد فيه فعل أن يبقى، ومحال أن يكون من جهة واحدة وفي شيء واحد قوة أن يفسد وفعل أن يبقى، بل تهيؤه للفساد ليس لفعل أن يبقى، فإن معنى القوة مغاير لمعنى الفعل، وإضافة هذه القوة مغايرة لإضافة هذا الفعل؛ لأن إضافة ذلك إلى الفساد وإضافة هذا إلى البقاء، فإذًا لأمرين مختلفين في الشيء يوجد هذان المعنيان، وهذا إنما يكون في الأشياء المركبة أو الأشياء البسيطة في المركبة، وأما في الأشياء البسيطة المفارقة الذات فلا يجوز فيها هذان الأمران.

ونقول بوجه مطلق أنه لا يجوز أن يجتمع في شيء أحدي الذات هذان المعنيان؛ وذلك لأن كل شيء يبقى، وله قوة أن يفسد فله قوة أن يبقى؛ لأن بقاءه ليس بواجب ضروري، وإذا لم يكن واجبًا كان ممكنًا — والإمكان طبيعة القوة — فإذًا يكون له في جوهره قوة أن يبقى، وفعل أن يبقى وفعل أن يبقى منه لا محالة، ليس هو قوة أن يبقى منه وهذا بين، فيكون إذًا فعل أن يبقى منه أمرًا يعرض للشيء الذي له قوة أن يبقى منه، فتلك القوة لا تكون لذات ما بالفعل، بل للشيء الذي يعرض له أن يبقى بالفعل لا بوجود ذاته.

فلزم من هذا أن تكون ذاته مركبة من شيء، كان به ذاته موجودًا بالفعل، وهو الصورة في كل شيء، ومن شيء حصل له هذا الفعل وفي طباعه قوته وهو مادته، فإن كانت النفس بسيطة مطلقة لم ينقسم إلى مادة وصورة، وإن كانت مركبة فلنترك المركب ولننظر في الجوهر الذي هو مادته، ولنصرف القول إلى نفس مادته ولنتكلم فيها.

ونقول إن تلك المادة، إما أن تنقسم هكذا دائمًا ونثبت الكلام دائمًا وهذا محال، وإما أن لا يبطل الشيء الذي هو الجوهر والسنخ، وكلامنا في هذا الشيء الذي هو السنخ والأصل، لا في شيء يجتمع منه ومن شيء آخر، فبين أن كل شيء هو بسيط غير مركب أو هو أصل مركب وسنخه، فهو غير مجتمع فيه فعل أن يبقى وقوة أن يعدم بالقياس إلى ذاته، فإذا كانت فيه قوة أن يعدم فمحال أن يكون فيه فعل أن يبقى، وإن كان فيه فعل أن يبقى وأن يوجد فليس فيه قوة أن يعدم، فبين إذًا أن جوهر النفس ليس فيه قوة أن يفسد.

وأما الكائنات التي تفسد فإن الفاسد منها هو المركب المجتمع، وقوة أن تفسد وأن تبقى ليس في المعنى الذي به المركب واحد، بل في المادة التي هي بالقوة قابلة كلا الضدين، فليس إذًا في الفاسد المركب لا قوة أن يبقى ولا قوة أن يفسد، فلم يجتمعا فيه.

وأما المادة فإما أن تكون باقية لا بقوة تستعد بها للبقاء — كما يظن قوم — وإما أن تكون باقية بقوة بها تبقى، وليس لها قوة أن تفسد، بل قوة أن تفسد شيء آخر فيها يحدث، والبسائط التي في المادة فإن قوة فسادها هو في المادة لا في جوهرها، والبرهان الذي يوجب أن كل كائن فاسد من جهة تناهي قوة النفي والبطلان، إنما يوجب فيما كونه من مادة وصورة، ويكون في مادته قوة أن يبقى فيه هذه الصورة، وقوة أن تفسد هي فيهما معًا، فقد بان إذًا أن النفس لا تفسد البتة، وإلى هذا سقنا كلامنا والله ولي التوفيق.

١  آل عمران ٣: ١٦٩-١٧٠.
٢  البقرة ٢: ١٥٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤