نوع آخر من المعرفة

وكما أن حركة الجسم تدل على المحرك، والمتحرك إذا لم يكن طبيعيًّا، فيدل على مدرك يحركه بالإرادة، والمدرك قد يكون ظاهرًا وقد يكون باطنًا، وقد يكون عقليًّا نظريًّا أو عمليًّا.

فكذلك فاعلم أن وجود الأجسام مقعر فلك القمر قابلة للتركيب، فإن الطين مثلًا مركب من الماء والتراب.

فنقول هذا التركيب المشاهد يدل على وجود الحركة المستقيمة، وتدل الحركة من حيث مسافتها على ثبوت جهتين محدودتين مختلفتين بالطبع، ويدل اختلاف الجهتين على وجود جسم محيط كالسماء، وتدل الحركة من حيث حدوثها على أن لها سببًا ولسببها سببًا إلى غير نهاية، ولا يمكن ذلك إلا بحركة السماء حركة دورية، والحركة الدورية لا تكون إلَّا إرادية، والإرادة الجزئية لا تكون إلَّا مستمدة من إرادة كلية، والإرادة الجزئية تكون للنفس والإرادة الكلية تكون للعقل.

فقد ثبت بهذا وجود العناصر القابلة للتركيب، ووجود السموات المتحركة المحركة للعناصر، والسموات المتحركة تدل على محركات هي نفوس سماوية، والنفوس مستمدة من العقول، والكل مستند إلى الله تعالى إبداعًا وإنشاءً واختراعًا، وخلقًا وإحداثًا وتكوينًا، وإيجادًا وإبداءً وإعادة وبعثًا، فله الملك كله والملك كله هو الأول بلا أول كان قبله، الآخر بلا آخر يكون بعده، الذي قصرت عن رؤيته أبصار الناظرين، وعجزت عن نعته أوهام الواصفين، ابتدع الخلق بقدرته ابتداعًا، واخترعهم على مشيئته اختراعًا.

فأشرف المبدعات هو العقل، أبدعه بالأمر من غير سبق مادة وزمان، وما هو إلا مسبوق بالأمر فقط، ولا يقال في الأمر أنه مسبوق بالباري تعالى ولا مسبوق، بل التقدم والتأخر إنما يعتوران على الموجودات التي هي تحت التضاد، والباري تعالى هو المقدم المؤخر لا المتقدم المتأخر، وما دون العقل هو النفس وهو مسبوق بالعقل، والعقل متقدم عليه بالذات لا بالزمان والمكان والمادة، فالسبق بالذات إنما ابتدأ من العقل فقط، والسبق بالزمان إنما ابتدأ من النفس، والسبق بالمكان إنما ابتدأ من الطبيعة، فالطبيعة إذًا سابقة على المكان والمكانيات ولا يعتورها المكان، بل يبتدي المكان من تحريكها أو حركتها في الجسم، والنفس سابقة على الزمان والزمانيات ولا يعتورها الزمان، بل الزمان والدهر يبتدئ منها — أعني من شوقها — إلى كمال العقل، والعقل سابق على الذوات والذاتيات ولا يعتوره الذات والجوهرية، بل الجوهرية إنما تبتدئ منه — أعني هو مبدأ الجواهر — والسابق على الذوات والجواهر والدهر والزمان والمكان والجسم والمادة والصورة، ولا يوصف بشيء مما تحته إلا بالمجاز، ومن له الخلق والأمر فله الملك والملك، وهو الأول والآخر حتى يعلم أنه ليس بزماني، وهو الظاهر والباطن حتى يعلم أنه ليس بمكاني، جل جلاله وتقدست أسماؤه. ونعني بالأمر القوة الإلهية، والذي يقال من أن العقل صدر عنه بالإبداع شيء ليس ادعاء بأنه المبدع كلا، بل نعني به تنزيه الحق الأول أن يفعل بالمباشرة، فأما المبدع بالحقيقة فهو من له الخلق والأمر تبارك اسمه.

وكما أن النفس واحدة ولها قوى وإشراقها على البدن والروح الحيواني يفعل في كل موضع فعلًا آخر لاختلاف القوى، ففي موضع الإبصار، وفي موضع السمع، وفي موضع الشم، وفي موضع الحس المشترك، وفي موضع التخيل والتوهم وغير ذلك، فكذلك أمر الأول الحق جل جلاله بالنسبة إلى وجود العقل إبداع، وبالنسبة إلى وجوده في دوامه تكميل بالفعل، بالنسبة إلى النفس تتميم وتوجيه من القوة إلى الفعل، وبالنسبة إلى الطبيعة تحريك، وبالنسبة إلى الأجسام تصريف، وبالنسبة إلى الطبائع والعناصر تعديل، وبالنسبة إلى المركبات تصوير، وبالنسبة إلى المصورات إحياء، وبالنسبة إلى الحيوان إحساس وهداية، وبالنسبة إلى العقل الإنساني تكليف وتعريف، وبالنسبة إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أمر وكلام وكلمات وقول وكتاب ورسالات وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ.١ فالأمر الأعلى بالنسبة إلى المكونات عبارة عن التكوين والإبداع، وبالنسبة إلى جزئيات المكلفين عبارة عن القول، الذي هو الأمر والنهي والوعد والوعيد والخبر والاستخبار، فظاهر الأمر التكويني أوضاع الملائكة وسوقها الموجودات إلى كمالاتها، وكمالات الموجودات قبولها الأمر، وكمالات المكلفين قبولها للثواب، فمن لم يقبل الأمر أخرج من عالم الحق، والإخراج من الحق لعن كحال الشيطان الأول؛ إذ لم يقبل الأمر فأخرج من جنة العقل، وقيل أخرج منها فإنك رجيم، وذلك معنى اللعن، ومن قبل الأمر ادخل في عالم الثواب وتحققت فيه الملكية، كحال الملائكة المأمورين بالسجود، إذ قبلوا فدخلوا في عالم الثواب.

وكما تستغني القوى النباتية والحيوانية والإنسانية عن إمداد النفس لحظة واحدة، بل لا بد من دوام الإشراق عليها، وإمداد تأثيرها حتى ينتظم العالم الصغير، فكذلك في العالم الكبير نقول في المبدأ: إن كل صاحب مرتبة وإن تولى ما قيض له وأرصد لعمله، فلن يستغني عما فوقه بالإمداد له والإفاضة عليه، والنظر إليه والتأييد له، وكذلك في العود إن كل صاحب مرتبة وإن نقل عمله إلى ما فوقه، فلن ينقطع عمله من معملته بالكلية، ولو انقطع عمل الطبيعة لبطلت القوى النباتية، وببطلانها بطلت القوى الحيوانية، وكذلك لو انقطع عمل النفس لبطلت القوى الحيوانية، وببطلانها بطلت الإنسانية، وكذلك لو انقطع عمل العقل لبطلت القوى الإنسانية وببطلانها بطلت النبوة.

فالطبيعة حافظة للنفس النباتية، والنفس حافظة للنفوس الحيوانية، والعقل حافظ للنفس الناطقة الإنسانية، وأمر الباري تعالى حافظ للنفس القدسية النبوية إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ هذا على العموم، له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله؛ أي بأمر الله — وهذا على الخصوص — فالأول الحق كما أبدع العقل الأول أكمله بالفعل، وكما اخترع بواسطة النفس أتمها بالقوة المتوجهة إلى كمال العقل، وكما ابتدع بواسطتها الطبيعة أمدها بالتحرك، وكما أحدث الأجسام قدرها بالتصريف، وكما ركب العناصر سواها بالاعتدال، وكما عدل الأمشاج والأمزجة أظهرها بالتصور، وكما صورها أحياها بالنفوس، وكما سخرها بالنفوس دبرها بالعقول، وكما دبر العقول ساقها إلى معادها بالتكليف والشرائع، فأمر ونهى وبشر وأنذر ووعد وأوعد على لسان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

وبالجملة ليس خلقه العالم كمن بنى دارًا وسرح فيها من عبيده خلقًا كثيرًا، فرتب لكل واحد منهم ما خلقه لأجله، وقطع عنهم نظره وتدبيره وعلمه وقدرته وإرادته، فهم بخلقه يعملون للأمر وبحكمه يتصرفون، فلا الدار محتاجة في بقائها إلى ممسك؛ إذ قد استغنى البناء عن الباني كما ظنه قوم، ولا أهلها محتاجون إلى مدبر ومقدر إذا استغنوا بفطرتهم على ما هم عليه عن تجديد أحد وبنيان بان كما يخيله قوم، بل كما كانوا محتاجين في وجودهم إلى خلقه تعالى كانوا محتاجين في دوام وجودهم بذواتهم، لم يكن دوام وجودهم بذواتهم، فهو القيوم على الملكوت جل جلاله.

وكما استكمل الآدمي بدنًا بالطبيعة حتى عاش في هذا العالم، فيجب أن يستكمل نفسًا بالشريعة، حتى يعيش في ذلك العالم، فقيضت الملائكة مسخرين للطبيعة، فحصل كمال الأبدان وبعث الأنبياء عليهم السلام مدبرين للشريعة حتى حصل كمال النفوس، وكما أن الصفوة في المزاج إنما حصلت بابتلاء الأمشاج واستخلاص المواد، حتى صار مولودًا سميعًا بصيرًا في هذا العالم، كذلك الصفوة في النفوس إنما حصلت بابتلاء التكاليف واستخلاص النفوس، حتى صار سميعًا بصيرًا كاملًا في ذلك العالم، ولولا تلك التصفية لم يكن ليبعث ملك إلى عالم الأرحام، ولولا هذه التصفية لم يكن ليبعث نبي إلى عالم الأحكام.

وأعجب بروحانيين متوسطين في الخلق وجسمانيين متوسطين في الأمر، والملائكة يحشرون الخلق من التراب إلى تمام الخلقة الإنسانية لهذا العالم، والأنبياء عليهم السلام يحشرون الخلق من الجهل إلى تمام الفطرة الملكية لذلك العالم، فالملائكة والأنبياء عليهم السلام في عالمي الخلق والأمر عمال الأمر الأعلى، وكل بأمره يعملون ومن خشيته مشفقون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون.

فإن قال قائل: ما ذكرتم في إثبات هذه المعارج والموازنات بين النفس وبين الله تعالى وصفاته وأفعاله، كلها تشير إلى إثبات مشابهة ومضاهاة بين العبد وبين الله، ومعلوم شرعًا وعقلًا إن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأنه لا يشبه شيئًا ولا يشبهه شيء.

فالجواب أن نقول: قد أشرنا في إثبات هذه المعارف ما يوجب تقدس الباري عن جميع صفات مبدعاته ومكوناته، ومع هذا مهما عرفت معنى المماثلة المنفية عن الله سبحانه وتعالى عرفت أنه لا مثال له، ولا ينبغي أن نظن أن المشاركة في كل وصف توجب المماثلة، أفترى أن الضدين متماثلان وبينهما غاية البعد الذي لا يتصور أن يكون بعد فوقه، وهما يشتركان في أوصاف كثيرة؛ إذ السواد يشارك البياض في كونه عرضًا، وفي كونه لونًا، وفي كونه مدركًا بالبصر، وأمر آخر سواه أفترى أن من قال إن الله موجود لا في محل، وإنه حي سميع بصير، عالم مريد متكلم قادر فاعل، والإنسان أيضًا كذلك قد شبه وأثبت المثل، هيهات ليس الأمر كذلك، فلو كان كذلك لكان الخلق كلهم مشبهة، إذ لا أقل من إثبات المشاركة في الوجود، وهو يوهم المشابهة، بل المماثلة عبارة عن المشاركة في النوع والماهية، والفرس وإن كان بالغًا في الكياسة لا يكون مثلًا للإنسان؛ لأنه مخالف له في النوع، وإنما يشابهه في الكياسة التي هي عارضة خارجة عن النوع والماهية المقومة لذات الإنسانية، الخاصية الإلهية هي الموجود بذاته، الذي يوجد عنه كل ما في الإمكان وجوده على أحسن وجوه النظام والكمال، وهذه الخاصية لا يتصور فيها مشاركة البتة، والمماثلة بها لا تحصل، فكون العبد رحيمًا صبورًا شكورًا لا يوجب المماثلة، ككونه سميعًا بصيرًا عالمًا قادرًا حيًّا فاعلًا.

بل أقول الخاصية الإلهية ليست إلا لله تعالى، ولا يعرفها إلَّا الله تعالى ولا يتصور أن يعرفها إلا هو؛ ولذلك لم يعط أجل خلقه إلَّا أسماء حجبه بها فقال: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى فوالله ما عرف الله غير الله في الدنيا والآخرة، يعني على سبيل الإحاطة والكمال، فهو الله المُنزه عن الماهية، الأحد المقدس عن الكمية، الصمد المتعالي عن الكيفية، الذي لم يلد بل هو المبدع، ولم يولد بل هو قديم الوجود، ولم يكن له كفوًا أحد في ذاته وصفاته وأفعاله؛ هذا ما أردنا أن نذكره في هذا الكتاب، وقد كشفت الغطاء عن وجوه الأسرار المخزونة، ورفعت الحجاب عن كنوز العلوم، ودللت على الأسرار المخزونة، وأبديت فيه العلوم المكنونة المضنون بها تقربًا إلى الإخوان الذين لهم قوة القريحة وصفاء الذهن، وزكاء النفس ونقاء الحدس، وتيقنًا بأن الزمان قد حلا من الوارثين لهذه الأسرار تلقفًا، ومن المقتصرين على الإحاطة بها استنباطًا، وتأسيًا من أن يكون للراغب في تخليد العلم وإيراثه من بعده وجه حيلة إلا تدوينه، وإيداعه الكتب مسطرًا مرقومًا دون الاعتماد على رغبة متعلم في تحققه على وجهه، وحفظه وإيراثه من بعده ودون الاعتماد على همم أهل العصر، ومن يكون بعدهم مثلهم في البحث والتفتيش وإزالة الإشكال، وحل الإشكال والغوص في غوامض العلوم، فمن أين للغراب هوي العقاب، ومن أين للضباب صوب السحاب، ثم إني حرمت على جميع من يقرؤه من الإخوان الذين لهم المناسبة العلوية والقريحة الصافية أن يبذله لنفس شريرة أو معاندة، أو يطلعها عليه أو يضعه في غير موضعه.

فمن منح الجهال علمًا أضاعه
ومن منع المستوجبين فقد ظلم

فإن وجد من يثق بنقاء سريرته واستقامة سيرته، وبتوقفه عما يتسرع إليه الوسواس، وبنظره إلى الحق بعين الرضا والصدق فليؤته مجزئًا مدرجًا، يستغرس مما يسلفه لما يستقبله وعاهده بالله وبأيمان لا مخارج لها أن يجري فيما يؤتيه مجراك متأسيًا بك، فإن أذاع هذا العلم وأضاعه فالله بيني وبينه، وكفى بالله حسيبًا.

وحسبنا الله ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير.

تنبيه

وجد في آخر النسخة التي طبعنا عليها هذا الكتاب هذه العبارة:

قد استراح من كمد الانتهاض إلى نقل هذا الكتاب من السواد إلى البياض: أحمد بن شعبان بن يحيى الأندلسي المعروف بابن عبد العزيز الأمير، وذلك بتاريخ يوم الأربعاء، الخامس عشر من شهر رجب الأصم سنة ١٠٦٦ﻫ.

على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم.

وإن تجد عيبًا فسد الخللا
جل من لا عيب فيه وعلا
١  الشورى ٤٢: ٥١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤