الفصل العشرون

سقوط الأندلس

كان العرب في الأندلس في جهاد دائم مع أعدائهم منذ وطئ طارق بن زياد وموسى بن نصير أرضها، ورفعوا علم الأمويين على ربوعها، ودفعوا بأعدائهم إلى أقصى الشمال. يسكن الجلالقة وغيرهم إذا وجدوا العرب مستمسكين بعروة الوحدة، ومتى شاهدوا اختلاف أمور العرب أو آنسوا من بعضهم ميلًا إليهم أو نزوعًا إلى الاحتماء بهم؛ لينالوا من خصومهم يحملون حملات منكرة، ويقاتلون أعداءهم بكل ما فيهم من قوة؛ ولذلك قَلَّتْ غارات الإسبانيين والبرتغاليين على البلاد التي نزلها العرب على عهد دولة بني أمية أوائل المائة الخامسة، وإن كان الثوار لم ينقطعوا تمامًا في الداخل عن مجاذبة الأمويين حبل السلطة.

ثم فسدت عصبية هذه الدولة من العرب، واستولى ملوك الطوائف على الأندلس، واقتبسوا خطتها، وتنافسوا بينهم، وتوزعوا ممالك الدولة، وانتزا كل واحد منهم على ما كان في ولايته، وشمخ بأنفه، وبلغهم شأن العجم مع الدولة العباسية فتلقبوا بألقاب الملك، ولبسوا شارته، واستبد كل واحد منهم بجانب من الأندلس، ودعا نفسه ملكًا فتلقبوا بالناصر والمنصور والمعتمد والمعتضد والمظفر، وأمثالها حتى نعى عليهم ابن شرف عملهم بقوله المأثور:

مما يزهدني في أرض أندلس
أسماء معتضد فيها ومعتمد
ألقاب مملكة في غير موضعها
كالهر يحكي انتفاخًا صورة الأسد

أو كما قال ابن حزم: فضيحة لم يقع في الدهر مثلها: أربعة رجال في مسافة ثلاثة أيام في مثلها يسمى كل واحد منهم بأمير المؤمنين، ويخطب لهم في زمن واحد؛ أحدهم في إشبيلية، والثاني بالجزيرة الخضراء، والثالث بمالقة، والرابع بسبتة، وأصبح العرب والبربر في خصام مستديم، والجميع في خلاف مع أهل المغرب الأقصى من الجنوب، وفي حروب مع بقايا الأمم الإسبانية والبرتغالية من الشمال والغرب.

سقطت الأندلس؛ لتشتت أهواء أمرائها، وأصبح بعضهم «ولا هم له سوى كأس يشربها، وقينة تسمعه، ولهو يقطع به أيامه» واسترسلوا إلى اللذات، وركنوا إلى الراحات، وأغفلوا الأجناد، واحتجبوا عن الناس، ولم يعودوا ينظرون في الملك، ومنهم من قتل كبار قواده، ووسد الأمر إلى الضعاف، فكثرت المظالم والمغارم، وكثر الثوار مرات بشرق الأندلس وغربها من القضاة وغيرهم، وهكذا تبدد شمل الجماعة «فضبط أشراف العمالات أزمة أمورهم، وركبوا ظهور غرورهم، فأتوا من ذلك بكل شنيعة.»

وقال ابن حزم: كانت طرطوش وسرقسطة وأفراغة ولاردة وقلعة أيوب في يد بني هود، وبلنسية في يد عبد الملك بن عبد العزيز، والثغراي ما فوق طليطلة من جهة الشمال في يد بني رزين، وطليطلة في يد بني ذي النون، وقرطبة في أيدي أبناء جهور، وإشبيلية في يد بني عباد، ومالقة والجزيرة في يد بني برزال من البربر، وألمرية في يد زهير العامي ثم ابن صمادح، ودانية وأعمالها والجزائر الشرقية (الباليار) في يد مجاهد العامري، وبطليوس ويابرة وشنتين ولشبونة في يد بني الأفطس، وأصبح كل امرئ وما اختار من الألقاب والأسماء حتى إن المستعين لما جلس على عرش الخلافة قال للناس أجمعين: ارتعوا كيف شئتم، وارتسموا بما أحببتم من الخطط، فتسمى بالوزارة في أيامه منفردة ومثناة (أي الوزير وذو الوزارتين) أراذل الدائرة، وأخابث النظار، فضلًا عن زعانف الكتاب والخدمة.

قسمت الأندلس بعد سقوط الأمويين، إلى تسع عشرة مملكة منها قرطبة وإشبيلية وجيان وقرمونة والغرب والجزيرة الخضراء ومرسية وبلنسية ودانية وطرطوشة ولاردة وسرقسطة وطليطلة وباجة ولشبونة … وغيرها، ولقد كان يخشى بعد هذا التفرق وتراجع أمر الدولة الأموية أن تسقط الأندلس دفعة واحدة، ولكن قدر الله أن يكون ملوك الجلالقة وقشتالة وغيرهم مشتتة كلمتهم متفرقة أهواؤهم، وقيض للبلاد دولة أخرى جديدة قوية جاءتها من الجنوب أي من المغرب الأقصى، وهي دولة المرابطين، فأفرج بها عن العرب بعض الفرج، فجاء يوسف بن تاشفين وقاتل الأدفنش سنة ٤٨٠، وانتصر عليه، وكانت البلاد إلى البوار بسبب استيلاء النصارى عليها وأخذهم الإتاوة من ملوكها قاطبة.

ثم عادت أحوال الأندلس فاختلت اختلالًا مفرطًا آخر دولة أمير المسلمين علي بن يوسف أوجب ذلك «تخاذل المرابطين وتواكلهم، وميلهم إلى الدعة، وإيثارهم الراحة، وطاعتهم النساء، فهانوا على أهل الجزيرة، وقلوا في أعينهم، واجترأ عليهم العدو، فاستولى على كثير من الثغور المجاورة لبلادهم.» حتى جاء الموحدون كما كان المرابطون من قبل بدعوة عقلاء الأندلس وأمرائها، وقد كانوا يدعونهم إلى نصرتهم بضروب الفصاحة من الشعر والنثر، ويستنفرون الناس من العدوة.

لما اشتد الحصار على أهل إشبيلية سنة ٦٤٥ صنع إبراهيم بن سهل الإسرائيلي قصيدة يستنفر بها الغزاة من العدوة، ويستنصر بأمراء العرب، وذلك إذ كان العدو عليها، قال فيها:

يا معشر العرب الذين توارثوا
شيم الحمية كابرًا عن كابر
إن الإله قد اشترى أرواحكم
بيعوا ويهنئكم وفاء المشتري
أنتم أحق بنصر دين نبيكم
وبكم تمهد في قديم الأعصر

إلى أن قال:

والخيل تضجر في المرابط عرة
ألا تجوس حريم رهط الأصفر
كم نكروا من معلم، كم دمروا
من معشر، كم غيروا من مشعر
كم أبطلوا سنن النبي، وعطلوا
من حلية التوحيد صهوة منبر

إلى أن قال:

عند الخطوب النكر يبدو فضلكم
والنار تخبر عن ذكاء العنبر
لو صور الإسلام شخصًا جاءكم
عمدًا بنفس الوامق المتحير
ولَوَ انَّهُ نادى النصير لخصكم
ودعاكمُ يا أسرتي يا معشري

نعم، كانت التفرقة بين أمراء العرب في الأندلس مما علم أعداءهم كيف يتحدون ليدفعوهم عن أرضهم، كما وقع للعرب في صقلية سنة ٤١٣ فإنهم بعد أن دافعوا عنها جيوش البيزنطيين والنورمانديين والروسيين والفاكريكيين قسموا صقلية إلى إمارات صغرى؛ فأنشئوا جمهورية في بلرم، وأخرى في سرقوزة، وكان ذلك من أكبر الدواعي في زوال سلطانهم. لا جرم أن ضعف الوازعين الديني والمدني من ميل القوم إلى الراحة والدعة، وضعف الأخلاق الحربية فيهم، وانتشار الفوضى في أحكامهم كان منه أن تأذن الله بذهاب ريحهم لا كما يدعي بعض العامة من أن رواج سوق الشعر كان السبب في زوال الأندلس، وتبديد شمل أهلها، فقد كان الشعر عندهم من جملة المسليات؛ لأن للعرب عامة غرامًا به، والأدب وسيلة إلى العلوم كافة، والعرب أمة أولعت منذ عرف تاريخها بالفصاحة والبلاغة.

ومن تدبر سير الحروب بين العرب والإسبان والبرتغاليين في المدة التي ارتفعت فيها أعلام المسلمين على الأندلس يدرك أن القوتين قوة الغالب والمغلوب كانت متعادلة في أكثر الأيام، ولكن تكتب الغلبة للفريق الذي كان جنده منظمًا أحسن من جند خصمه، وكان بعض خلفاء الأندلس يعتمدون على جنودهم من الرقيق كالصقالبة وغيرهم، ويعفون رعاياهم من التجنيد، على حين كان زعماء الإسبان يصرفون أيام شبابهم في تعلم الضرب بالسيف والرمح؛ لقتال أعدائهم،١ والعرب لا يجوزون أن يستبدلوا العادات الحربية بأعمال الزراعة وما في المدنية الراقية من التمتع والهناء، فكان الناس في الممالك النصرانية يضطرون إلى الخدمة في الجندية، ويرافق الأشراف ملوكهم إلى الحرب مع أتباعهم.

أما العرب فلا يخرج أحدهم إلا إلى الجهاد، وإذا خرج فيكون خروجه على الأغلب متكارهًا لمدة معينة، فكانت أوضاع الإسبان حربية محضة تكون لهم بها الغلبة في القتال، أما في البحر فكان العرب أشد بأسًا وأقوى أساطيل، ولهم في كل فرضة من فرض الأندلس سفن معدة، وقد أقاموا لهم دور صناعة في ألمرية وطرطوشة وطرخونة، وكانت معامل إشبيلية وقرطاجنة تخرج كل سنة سفنًا جديدة تمخر في عرض البحار.

استولى الملوك من بني الأحمر قرنين ونصف قرن كما تقدم لنا الكلام في ذلك، وهم الذين استولوا على بقايا مجد العرب بعد أن انتصر سلطانهم سنة ٦٦٣ﻫ على الفرنج، واسترجع منهم اثنين وثلاثين بلدًا من جملتها مرسية، ثم عاد العدو وأخذ بمخنقهم، ولكن لم ينل منهم لاجتماع كلمتهم في الداخل على الجملة، ولما دب الهرم في جسم دولتهم وقوي الإسبان باتحاد إيزابيلا ملكة قشتالة وفرناند ملك الأراغون، أي باتحاد المملكتين الرئيسيتين في الشمال، تأذن الله بفناء الأندلس، فلم يبق أمامهم إلا التسليم والاستسلام، وفي ذلك كان هلاكهم وبوارهم.

هوامش

(١) وصف لسان الدين أمة قشتالة بقوله: وحال هذه الأمة غريب في الحماية الممزوجة بالوفاء والرقة، والاستهانة بالنفوس في سبيل الحمية، عادة العرب الأول، وأخبارهم في القتال غريبة من الاسترجال، والزحف على الأقدام، أميرهم ومأمورهم، والجثو على الأرض، أو الدفن في التراب، والاستظهار في حال المحاربة ببعض الألحان المهيجة، ورماتهم قسيهم عربية جافية، وكلهم في دروع، ولا لجام عندهم، والتقهقر مقدار الشبر ذنب عظيم وعار شنيع، ورماتهم يسبقون الخيل في الطراد، وحالهم في باب التحلي بالجواهر وكثرة آلات الفضة غريب. ا.ﻫ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤