الفصل الرابع

في المسرح الكوميدي

فرقة الكوميدي العربي

أما المسرح الذي وقع عليه الاختيار كي تعمل به فرقتنا الجديدة فهو مسرح برنتانيا القديم.

وأطلقنا على فرقتنا الجديدة اسم «فرقة الكوميدي العربي» واتفقنا على أن نفتتح العمل برواية «خلي بالك من إميلي»، وكان قد نقلها عن الفرنسية الأستاذ أمين صدقي.

وجاء أول توزيع الأدوار، فاختصوني بدور «برجيه» والد إميلي: وهنا أستميح القراء الأفاضل في وقفة، على الهامش، تلجئني إليها أهمية ذلك التاريخ الذي أسرده بصدق وأمانة.

لا شك أنني كنت في ذلك الحين أهوى التمثيل من كل قلبي، ولكنه ميل كان منصبا على نوع واحد من هذا الفن هو «الدرام». أما الكوميدي فلم أكن أشعر نحوه بأية عاطفة. كما أنني كنت أحس أنني لم أخلق له، وإذا ما بدا لي أن أظهر في دور كوميدي فسيكون السقوط حليفي. والطماطم … من الجمهور نصيبي!

والآن فلنعد إلى مواصلة حديثنا فنقول إن «برجيه» هذا جندي بوليس قديم، له ابنة جميلة كان يعيش عالة على كدها وسعيها، أو «بالمفتشر» عايش على قفا بنته، وإن المؤمن لا يستحي من الحق! الدور جامد، وبطل من أبطال الرواية، وفوق هذا وذاك فهو فكاهي خفيف.

اعتذرت أولا عن قبوله ثقة مني بأنه أكبر من أن أستطيع إجادته. ولكن اعتذاري هذا رفض رفضا باتا، لا لاعتقاد الفرقة بقدرتي، بل بحجة أنه لا يوجد ممثلون يكفون لأداء أدوار الرواية. يعني يا سي عزيز عيد، أروح أنا في ستين داهية علشان حضرتك مش لاقي ممثل يعمل «برجيه»؟!

اعتذرت عن قبول الدور الذي أسنده إلي عزيز عيد، وهو دور برجيه، وتوسلت أن يعفوني من أدائه، ولكن لم تفد توسلاتي واسترحاماتي، فرأيت ألا بد مما ليس منه بد. فقبلت الدور مرغما وذهبت إلى المنزل فأغلقت على نفسي الحجرة، ورحت أرسم له شخصية أؤديه بها. ووقفت أمام المرآة ألقي جمل الدور واحدة إثر أخرى، وأرقب ما يرتسم على وجهي من تعبيرات، متلمسا السبيل إلى إجادتها، ولكن … والحق أقول، أحسست نفسي سمجا ثقيلا.

أخيرا جددت الاعتذار لعزيز عيد، فأمعن في الرفض، وكنت كلما اقترب اليوم المحدد للافتتاح ازداد خفقان قلبي، و«تلخلخت ركبي»، وركبني مائة عفريت وعفريت.

ساقط ساقط!

تصور أيها القارئ العزيز جبانا داخل اليأس قلبه واحتل فؤاده! لقد كان هذا حالي ليلة البدء بالتمثيل، فدخلت حجرة المكياج وأتممت تلوين وجهي، كي أظهر بمظهر العجوز الشيخ «برجيه» الله يمسيه بالخير. واعتزمت — مادام ساقط ساقط — أن أغامر، وأن أخدها بالعريض، وأطلع فيها مرة واحدة. وخليه سقوط بالشرف:

وإذا لم يكن من المـوت بـد
فمن العجـز أن تكون جبانا!

اقتحمت المسرح وتشجعت وأديت الدور. ولشد ما كانت دهشتي حين سمعت أرجاء الصالة تضج بالضحك ويتجاوب التصفيق جوانبها!؟

لم أكن أصدق أنني أنا الذي أنتزع هذا الضحك وذاك التصفيق من الجمهور. وأنه لابد وأن يكون غيري مصدرهما، فنظرت خلفي وإلى جانبي لعل ممثلا مختبئا يضحك الناس دوني، ولكن لم أجد!

ولست أغالي حين أعترف من غير تواضع، والأجر على الله، بأن دوري فاز بقصب السبق وأن إخواني، مع أنهم كانوا أبطال الكوميدي في مصر، وعماد الفكاهة فيها، لم ينلهم مثل ما نالني.

وإني لأذكر في هذه المناسبة حادثا طريفا لا بأس من سرده. من فائق النجاح!

قابلت في آخر الليل المدير المالي: وهو الخواجة (صاحب قهوة متروبول)، ولم يكن يعرف أنني أمثل. بل كان يزعم أنني أحد مديري الفرقة وبس! سألت «الخواجة» عن رأيه في الرواية وممثليها، فقال باللهجة العربية الممتزجة «بالجريجية». «يا سلام! يا سلام فري … دي خاجه تمام … خاجه خلوه … الراجل فري دي برجيه إيه ابن الكلب ده!!».

ثم تفضل فوجه إلي هذا السؤال «من خنزير عجوز برجيه دي مسيو نجيب؟»

فأجبته: «أهو واحد ممثل. بكره تعرفه والسلام».

وفي اليوم التالي، كان «الخواجة» قد عرف من زملائي أن الخنزير العجوز برجيه لم يكن إلا … نجيب الريحاني، ومن ثم جاء يضاعف تهنئته لي. ويعتذر عن إعجاب أمس المقرون بالسباب.

هبـوط!

وبعد أيام من عمل فرقتنا في مسرح برنتانيا القديم رأينا الإيراد بدأ «يخسع»، وحالة الأسهم في هبوط مخيف. فلم يكن الدخل يزيد في ليلة من الليالي عن العشرة جنيهات أو الثمانية كان الجزء الأكبر منها يدفع في إيجار التياترو. والباقي يقسم على أسهم الممثلين. فكان يخص السهم إذ ذاك «ثلاثة تعريفه». وإذا «نغنغت» الحالة في إحدى الليالي، ارتفع نصيب السهم إلى سبعة عشر مليما أو ثمانية عشر.

ولم نكن نعمل طيلة أيام الأسبوع، بل كنا نكتفي بثلاث ليال فقط كنت أحصل في أثنائها على مبلغ يتراوح بين الاثني عشر والأربعة عشر قرشا أسبوعيا. أما بقية أيام الأسبوع، فقد كانت تشغلها البروفات. والبروفات بالطبع لا أجر عليها.

كنت أسكن كما سبق القول — في مصر الجديدة — وكانت أجرة المترو عشرة مليمات في الذهاب ومثلها في الإياب. فأين لي العشرون مليما أدفعها للحضور والعودة في أيام البروفات!!

وبعد محاولات ومحاولات، صدر الأمر بإعفائي من الاشتراك في البروفات ماعدا البروفة النهائية، فقد تحتم علي حضورها. وفي ميدان الاقتراض والسلفيات متسع للجميع.

مقلب من الوجه البحري

القصد، مر علينا عهد كاد قحطه يودي بنا، فرحنا نتلمس السبل للتغلب عليه. وكان بين ممثلي الفرقة شاب ممتلئ بالنشاط هو المرحوم أحمد حافظ شقيق الأستاذ عبد المجيد شكري الممثل بفرقة الأستاذ يوسف وهبي. طلع علينا المرحوم أحمد حافظ بفكرة نالت من الجميع حسن القبول، هي أن يسافر إلى المنصورة لترتيب حفلات تحييها الفرقة هناك. ووافق الجميع بالطبع، فغادرنا أحمد حافظ إلى المنصورة، ولم يمض عليه فيها يومان، حتى كتب خطابا إلى الأستاذ عزيز عيد يبشره فيه أن الدنيا «قهقهت» لنا مش بس ضحكت. وأن الطلبات تنهال عليه للحصول على التذاكر، وأن إيراد الليلة في المنصورة لن يقل عن الستين جنيها … وأن ….

«وظأططنا»، وانقلبت أتراحنا أفراحا، وظللنا ننتظر اليوم الموعود بصبر نافد. إلى أن حل الأوان، فقصدنا إلى «أرض الميعاد» … المنصورة، في القطار الذي يغادر العاصمة قبيل الظهر. وأذكر أن أحدا منا لم يتناول طعاما إذ ذاك. لأن الحالة لم تكن تسمح بشراء رغيف واحد … ولو حاف.

ولكي أكون أمينا في سرد الحوادث أعترف بأننا اقترضنا أجرة سكة الحديد على الحساب، كما أن الجوع ظل «يشاغبنا» ويتلاعب بأمعائنا طول الوقت الذي قضيناه في القطار. كل هذا ونحن نأمل أن نجد طعامنا في المنصورة بعد تسلم الإيراد «العظيم» من الأمبرزاريو (المتعهد) أحمد حافظ. الله يرحمه ويحسن إليه.

ووصلنا إلى المنصورة، وحملنا أمتعتنا، وبلاش أطول في الوصف اللي مافيهش فايده … ويكفي أن أقسم أننا ظهرنا على المسرح في تلك الليلة ببطون خالية وأمعاء خاوية … وبس!!

تبخرت الأماني والآمال. وضاعت الوعود الحلوة التي كانت تزخر بها خطابات مندوبنا، في الوجه البحري. بلغ إيراد الليلة الأولى أربعة جنيهات مصرية لا غير … وخرم حساب أحمد حافظ ذلك التخريم الذي أترك تقديره لخيال القارئ العزيز.

ويلاه ما حيلتي. ويلاه ما عملي. على رأي المنولوج إياه! وماذا نفعل بالقروض التي فتحنا بها حسابات جارية هنا وهناك!

عزومة!

نهايته، أترك ذلك برضه لذكاء القراء الأعزاء. وفي آخر الليل وبعد التمثيل خرجت من المسرح وحيدا فعثرت في طريقي على بائع سميط عال، وجبنه رومي، فجرت بيننا مفاوضات انتهت بالرضا والاتفاق على شراء سميطة واحدة بالممارسة. ومعها قرطاس دقة «فوق البيعة».

وسرت في طريقي أقضم السميطة قضما، وما هي إلا خطوات حتى لقيني الصديق «الأمبرزاريو» أحمد حافظ. وبعد التحية المناسبة للمقام. من داهية تسم الأبعد، إلى غور جاك دم يلهف القفا! بعد تبادل هذه التحيات التي لابد منها في مثل هذه الظروف، سألني إلى أين أقصد، فقلت إلى اللوكاندة بالطبع. فضحك ضحكة هتكت ستر الليل وقال «تعال أنا عازمك الليلة في فسحة على كيفك!!».

عازمني! عازمني إيه يا بلا، وأنا مافيش في جيبي ثمن حتة جبنة أغمس بها السميطة؟

فقال «ولا يهمك». ثم داعب بأصابعه جيوب صديريته فسمعت رنين النقود التي كدت أنسى لونها. فاطمأنت نفسي وقبلت أن أمضي السهرة معه.

وهنا أستميح القراء في أن أمر على تلك السهرة مر الكرام، وأن ألقي على تفاصيلها طشت غسيل. مش ماجور بس!! ويكفيهم مني أن أقول إنها كانت ليلة «بوهيمية» وإننا توسعنا إذ ذاك في الانبساط، كأنه كان آخر زادنا!! كل ذلك وأنا أخشى ألا يغطي ما في جيوب زميلي حافظ نفقات هذه الليلة.

وفي صباح نهاية السهرة خلوت بالسيد السند، وسألته عما لديه من النقود؟ فأخرجها … وإذا بالمجموع ثمانون قرشا صاغا ليس إلا! فلما تقدم كشف الحساب، اتضح أن المطلوب منا أربعة جنيهات!! يا نهار زي الكوبيه يا أحمد يا حافظ! هي كل سكك كده؟

فاعل خير

نهايته. لم تفد التوسلات والاسترحامات. فكانت نجاتنا على يد مجهول. الله لا يغلب له وليه. ولكي أخلص ذمتي. أقول بأنني بعد سنوات كثيرة من هذه الحادثة، وبعد أن ألفت فرقتي التي تحمل اسمي، ذهبت إلى المنصورة لإحياء حفلات بها. وقصدت إلى المكان المعهود خاصة لمقابلة ذلك «الجندي المجهول»، ودفع ما في عنقنا من دين وفوقه ولو كلمة متشكر أو ممنون … إلخ، ولكن أقول مع الأسف الشديد إنني لم أعثر عليه طيلة إقامتي في المنصورة … فعوضه على الله، ومين قدم شيء بيداه التقاه! وهنيالك يا فاعل الخير.

ولما كان الشيء بالشيء يذكر، فلا بأس من أن أشير هنا إلى خناقة لرب السما، وقعت بين السيدة روز اليوسف وبين الأستاذ عزيز عيد، كان من نتاجها أن وقع طربوش الثاني أسيرا في يد الأولى. فكان نصيبه منها التقسيم إلى أربعة أجزاء متساوية. هذا عدا ما حدث «للزر» الذي لم يبق منه «فتلة» … توحد الله.

لم يكن بالطبع لدى الأستاذ عزيز طربوش آخر، كما أنه ما فيش لزوم أقول لك إن الحالة المالية لم تكن تسمح بشراء رباط جزمه، مش طربوش كمان. واضطر عزيز أن يسير في الشارع «حافي» الرأس … أو عاريه. ولم يكن التمدن في ذلك الحين قد طلع علينا بمودة «الاسبور» الحالية، التي تبيح السير بلا طربوش. ولو فرض حتى وكانت هذه المودة موجودة، فإن السيد عزيز آخر من يلجأ إليها.

نهايته. لم يكن حظ ليالي المنصورة الباقية من وجهة الإيراد خيرا من الليلة الأولى. فقد كانت الحالة نايمة إلى درجة لا يتصورها أحد. وكنا عايشين على القدرة. ومن غير تطويل أو شرح، أقول إننا فتحنا قرضا جديدا في المنصورة لأجرة العودة بسكة الحديد إلى القاهرة.

لم تكن هذه الأهوال المتلاحقة لتدخل اليأس إلى قلبي، بل كانت تملؤني يقينا باقتراب ذلك اليوم الذي يعرف فيه الناس لهذه المهنة حقها، ويغيرون آراءهم بالنسبة لها. أضف إلى ذلك أنني عقدت العزم على أن أجاهد ما استطعت، واضعا نصب عيني هدفا واحدا، هو حمل الناس على الاعتراف بالتمثيل كمهنة تشرف أصحابها وتتشرف بانتسابهم لها.

كان اتفاقنا مع إدارة تياترو برنتانيا (القديم) جائرا بالنسبة لنا، ففكرنا في الانتقال إلى مسرح آخر على قد الحال، يكون إيجاره أقل من إيجار ذلك المسرح الذي كان يلتهم أرزاقنا التهاما، وانتهينا إلى اختيار تياترو الشانزلزيه بشارع الفجالة.

زعرب …!

اتفقنا مع إدارة تياترو الشانزلزيه على أن نشغله بفرقتنا (الكوميدي العربي)، وبدأنا في إجراء البروفات. وفي أحد الأيام، وبينما كنت جالسا مع بعض زملائي أمام الباب الخارجي، إذ هبط من الترام شخص يحمل بين يديه حقيبة، بل قل «بقجة».

– سلام عليكم يا جماعة.

– عليكم السلام يا أخينا … إيه خير إن شاء الله!!

– أنا عبد اللطيف المصري، ممثل كبير، وسمعت أن عندكم شغل وعاوز أشتغل وياكم!!

– أهلا وسهلا … تفضل يا سيدنا تناول كام سهم أنت راخر!!

ذكرت هذا الحادث، لأن عبد اللطيف المصري هذا أصبح فيما بعد ممثل دور (زعرب)، التابع الخاص لكشكش بك عمدة كفر البلاص، كما سيأتي القول في حينه، ولا مانع هنا من أن أذكر أن عبد اللطيف رأى أن يشارك الزميل أمين عطا الله في مسكنه، وكان عبارة عن غرفة في أعلى بناء التياترو أثثها أمين أثاثا فاخرا، بالنسبة للحالة إذ ذاك يعني زي ما تقول مرتبة ولحافا ومخدتين وقلة وكباية … ورأسك تعيش!!

سكن عبد اللطيف مع أمين، فكان اجتماعهما كاجتماع القط والفأر. وقد كنت أود — لولا الإطالة — أن أشرح بعض المقالب التي كان يدبرها أمين لزميله، والتي كانت تحتاج في كثير من الأوقات إلى عقد لجنة مصالحات خاصة لإصلاح ذات بينهما. ولكني أرجئ ذلك إلى مناسباته.

أخرجنا في «الشانزلزيه» طائفة من الروايات، منها «عندك حاجة تبلغ عنها» و«ضربة مقرعة» و«الابن الخارق للطبيعة» و«المهرج بلفجور».

ليلة بين اللصوص

حدث في أحد الأيام أن تراءى للزميل علي يوسف أن يسير بي إلى مكان غير مأمون العاقبة، فكانت النتيجة أن قبض علينا. وكان في جيبي إذ ذاك خمسون قرشا أخرجتها «وغمزت» بها جندي البوليس الذي زغللت عيناه وتراخى في حماسة. وشاور عقله في تذليل هروبنا، ولكن «أبا يوسف» أخذته العزة بالإثم فصرخ صرخة مضرية وقال:

»انت عبيط يا نجيب! ليه تدي العسكري فلوس؟ دلوقت تشوف رايح يجري إيه؟».

وما إن سمع الجندي هذا التحدي لمقامه الكريم في أثناء تأديته وظيفته، حتى غلا الدم في عروقه، وأخذته نخوة «الحكام» العظام، وأضاف إلى تهمتنا الأصلية، تهمة أخرى فرعية، هي الشروع في … رشوة!! قلت (بس) ختمت على روسنا يا سي علي يا يوسف!! وبدل تهمة واحدة بقو اثنين، ووقعنا في سين وجيم، وقول علينا يا رحمن يا رحيم. فقال: «يا شيخ ما يهمكش. شد حيلك دلوقت تشوف». فشديت حيلي ودخلت معه القره قول. فماذا شفت؟ ألقوا بنا في «الحاصل» أو الحبس القذر بين المتشردين واللصوص، وأذكر أنني كنت في ذلك اليوم أرتدي بدلة بيضاء. الله يا سيدي على التيل الأبيض من نومه على الأسفلت طول الليل!

إن ما قاسيته في هذه الليلة لا يمكن أن أنساه، كما أنني لا أنسى كلما ذكرت آلامي أن أعترف بجميل السيدتين سرينا إبراهيم ونظلة مزارحي، اللتين برزتا لنا في صباح اليوم التالي كملائكة الرحمة، وقد حملتا إلينا الفطور والسجاير وكل ما خف حمله ولم يغل ثمنه.

ونترك هذه الحوادث ونعود إلى المسرح فأقول إنني بدأت أشعر أن قدمي قد ثبتت تماما، وأنني أصبحت شيئا مذكورا، أجيد تنفيذ ما يجول في مخيلتي من أفكار فنية. إذ كنت أدرس دوري وأعرف كيف أرضي الجمهور، وكيف أتعمق إلى قرارة الشخصية التي تسند إلي.

مع منيرة المهدية

ومع ذلك لم تكن حالة الفرقة من الوجهة المادية تسر أحدا. فظللنا نفكر في طريق الإصلاح، لعل وعسى يفرجها من لا يغفل ولا ينام.

وهبط علينا علي يوسف في تلك الأثناء باقتراح لم نتأخر في تنفيذه، قال: «إن السيدة منيرة المهدية اشتهرت في عالم الغناء، فماذا لو جعلنا منها ممثلة تظهر كذلك على المسرح؟».

وحصل الرضا والاتفاق على أن تمثل السيدة منيرة المهدية في كل ليلة فصلا من إحدى روايات الشيخ سلامة حجازي، ثم نمثل نحن روايتنا كالمعتاد. على أن يكون الإيراد مناصفة بين الفرقة ومنيرة.

واختير لأول ظهور المطربة الكبيرة الفصل الثالث من رواية «صلاح الدين الأيوبي»، وفيه تغني القصيدة المشهورة «إن كنت في الجيش أدعى صاحب العلم».

ونجح برنامجنا والحق يقال، وأقبل الناس إقبالا لم نكن ننتظره.

كانت السيدة منيرة في ذلك العهد تقطن في مصر الجديدة. وبما أنني من سكان هذه الضاحية، فقد اختارتني إدارة الفرقة كي أراجع للمطربة أدوارها نهارا، وأدخل لها ما تمثله مساء.

وفي اليوم الأول دخلت منزلها أمشي على استحياء، يعروني ثوب من الخجل. وتقدمت ربة البيت … لا لتراجع معي الدور، ولكن لتداعب حيوانا أليفا كانت تقتنيه. أتدري ما هو «عرسة»، أي والله عرسة! والعرسة كما يعرف أصحاب البيوت حيوان كل همه ارتكاب جرائم القتل خنقا ضد الطيور المنزلية المفيدة كالدجاج والحمام. ولكن «عرسة» الست منيرة كانت يا أخي شيء إلهي محبوبة من الجميع.

وجدت أن مراجعتي للست لا فائدة منها، لأن النظرة في وش «العرسة» خير لها ألف مرة من التطلع إلى العبد لله …! وفي الحال اعتذرت للفرقة عن أداء هذه المهمة. والبركة في الإخوان، اللهم زد وبارك.

عودة إلى الفلس

قلت إن الجمهور تهافت على مسرحنا، وارتفع رقم الدخل ارتفاعا غير منتظر. ولكن لم تمض مدة طويلة حتى شعرت السيدة منيرة أنها هي وحدها المقصودة بهذا الإقبال، وأن اسمها هو الذي يجذب الناس إلى ارتياد التياترو، وأنه من الغبن لها أن نشاركها في الإيراد نصفا بنصف.

ومن ثم صممت على فصم الارتباط. وأنتم من هنا يا أولاد الناس وأنا من هنا، ولقد صح تقدير «الست» … فما كادت «تسلت» يدها من الفرقة، حتى انسحب على أقدامها الخير الذي عمنا ردحا من الزمن. وعدنا إلى «غلب الزمان». دخل النحس علينا بعد أن فارقتنا وما خلنا أنه نسينا وعرف مضيفين غيرنا. ولكن لا، ما يمكنش نهرب منه. ولو كنا في بروج مشيدة!

وبعد مدة قضيناها. في تلطيش من اللي قلبك يحبه، جاء من يقترح علينا اقتراحا جديدا. كان إخوان عكاشة يعملون على مسرح دار التمثيل العربي، وكان حالهم كحالنا. يعني كنا في الهوا سوا. بس إحنا أميز منهم شوية. لأنهم كانوا … الله لا يوري عدو ولا حبيب.

والاقتراح هو أن نعقد اتفاقا مع «العكاكشة» على العمل في مسرحهم. مع بقاء الفرقتين مستقلتين الواحدة منهما عن الأخرى، بمعنى أن كلا منهما تمثل ليلة. والإيراد المتجمع يقسم مناصفة بين الفرقتين.

وعقد الاتفاق بالفعل، وانتقلنا من الشانزلزيه إلى دار التمثيل العربي بشارع الباب البحري لحديقة الأزبكية. وكانت نتيجة هذا الاتفاق على رأي المثل، كالمستجير من الرمضاء بالنار!

بارزت عزيز عيد

ويحضرني بهذه المناسبة حادث وقع في الليلة الأولى من عملنا بدار التمثيل العربي لا بأس من ذكره.

كثيرا ما كانت الغيرة على مصلحة العمل تدعو السيدة روز اليوسف إلى الوقوف موقف العناد التام مع الأستاذ عزيز، وكم لهما من مناقشات انقلبت إلى مشاحنات فمصادمات … إلخ.

ففي الليلة الأولى وقع ما أدى إلى إصرار الاثنين على عدم الظهور على المسرح مطلقا. وكان عليهما رفع الستار فلما حان الموعد ورأيت حرج الموقف. حملت عزيزا بين يدي وقذفت به إلى خشبة المسرح بعد أن رفع الستار، فوجد نفسه أمام الجمهور واضطر إلى التمثيل. ودخلت السيدة روز اليوسف واندمجت في دورها وكأن شيئا لم يحدث على الإطلاق.

وانتهت الليلة على خير. وظننت أن كل شيء قد انتهى، ولو من ناحيتي أنا. ولكن الغريب أن الأستاذ عزيز تقدم إلي في حركة عصبية غريبة، وطلب مني أن أدخل معه في «دويللو». يا دي الداهية يا أولاد … «دويللو» كده حتة واحدة!

وفكرت طويلا قبل أن أجيبه إلى طلبه، ثم شاورت عقلي، بم أجيب؟ وإذا نزلت على تلك الرغبة فأي سلاح أختار؟ وهل هناك ما يمنع إذا صارحته بأن تكون «الصرمة» سلاحنا في مبارزة سلمية كهذه؟ «فالصرمة» على كل حال سلاح إذا طال عمره ما هو مسيح نقطة دم واحدة!

دارت هذه الأفكار في مخيلتي، ولكنني فضلت أن أحتفظ بهذا الاكتشاف الثمين في عالم المبارزة فتركت عزيزا دون أن أفوه بكلمة.

وقد قلت إننا بعد أن هجرتنا السيدة منيرة اتفقنا مع فرقة أبناء عكاشة على أن نعمل في مسرح دار التمثيل العربي ليلة بينما تعمل الفرقة العكاشية ليلة أخرى وهكذا.

وسار الحال على هذا المنوال إلى أن كان شهر مارس عام ١٩١٦ حيث أحسسنا أن وجودنا مع العكاشيين لم يزدنا إلا خيالا، فنشدنا الاستقلال وقررنا أن نترك ما لعكاشة لعكاشة، وننقل حالنا ومحتالنا إلى تياترو برنتانيا مرة أخرى. ومن فات قديمه تاه.

وبعد أن عملنا مدة شعرت أنني أزداد كل يوم نجاحا عن سابقه، وأن الجمهور يرمقني بشيء من انتباهه، ومع ذلك فقد كنت مهضوم الحق لا من الناحية المادية وحدها، بل ومن الناحية الأدبية كذلك. فتشجعت وطلبت إلى الأستاذ عزيز عيد أن يضع اسمي في إعلانات الفرقة، وأن تكلأني الإدارة بشيء من الرعاية من حيث تعريف الجمهور بممثل يحب الجمهور نفسه أن يعرف عنه الكثير. ولكن عزيزا رأسه وألف سيف، مش ممكن وضع الاسم. يا سيدي يهديك، مافيش فايدة. فلما فكرت في واقع الأمر، ورأيت الحالة المؤلمة التي تعيش فيها الفرقة قلت:

سيبك يا واد. بلا فرقة بلا دياولو. وما دامت الفرقة «ميتانة ميتانة» فأشرف لي أنني أموت بعيدا عنها، وأريح نفسي من قرفها.

انفصال …!

وفي شهر مايو من عام ١٩١٦، وما زلت أذكر التاريخ تماما، هجرت فرقة الكوميدي العربي دون أن أفكر في العمل الذي أعيش منه.

وظللت شهرا ونصف شهر أقدح زناد الفكر، وأعرض على بساط البحث، اقتراحات كثيرة، بمشروعات أعمال واسعة النطاق، النجاح فيها مضمون ٢٤ قيراطا. ولكن آخ يا خسارة. مافيش فلوس!

وفي تمام الساعة الواحدة من مساء يوم أول يونيو عام ١٩١٦ كنت جالسا في بوفيه تياترو برنتانيا. مفلسا كالعادة. وإذا بي أرى شخصا يهبط علي في سترة فاخرة وعصا ذهبية المقبض وخاتم يلعب شعاعه بالنواظر. فلما جلس إلى جانبي أخرج من جيبه علبة سجاير فاخرة من الفضة وفي حركة أرستقراطية فخمة، ناولني سيجارة!؟

أتدري يا عزيزي القارئ من هو هذا «الوارث» العظيم الذي وصفت. أنه استيفان روستي، زميل العناء والشقاء، استيفان اللي كان زي حالاتي يشتهي سيجارة ماركة الحملي … والا حتى ماركة الكوز!

إيه يا ولد النعمة اللي ظهرت على جتة اللي خلفوك دي، ومنين العز دا كله؟ تكونش «سطيت» على خزينة البنك الأهلي؟ والا قتلت واحد بنكير ولطشت اللي في جيبه؟ وبكل برود هز استيفان رأسه وقال: «لا هذا ولا ذاك، المهم أن ربنا فرجها علينا والسلام».

خيال ظل …!

وبعد مناقشات لاستطلاع سر هذا الثراء المفاجئ، ذكر لي استيفان أن هناك «كباريه» خلف برنتانيا يطلقون عليه اسم «أبيه دي روز» وأنه وجد هناك عملا يتقاضى عليه ستين قرشا في كل مساء!

يا نهار أبوك زي الكرمب يا استيفان يا روستي؟ ستون قرشا في الليلة، يعني قد ماهية العبد لله في الشهر إذا كانت الحالة رايجة كمان!

وراح استيفان يشرح لي ماهية عمله.

فإذا به يظهر خلف ستار من الشاش أثناء انطفاء الأنوار في المحل، فيؤدي من مكمنه هذا بعض حركات هزلية، وغير هزلية. يعني بالعربي «خيال ظل» …

فقلت له: «إنني أعلم أن سمعة هذا المكان لا تتفق وكرامة الإنسان» …

فأجاب: «وأنا مالي ومال الكلام الفارغ ده. أنا راجل باشتغل من «وراء الستار» ولا حد عارفني ولا حد شايفني».

«ثم أن الوقت اللي بامضيه في عملي لا يزيد عن ربع ساعة في كل ليلة، ألهف فيهم الستين صاغ، ولا حد شاف ولا حد دري!».

وفكرت مليا ثم وضعت يدي في جيبي فإذا بها تخرج بيضاء من غير سوء. يعني من غير تشبيه ولا تمثيل. كان الفلس ضاربا أطنابه بشكل يخلي الواحد يبيع هدومه.

أخيرا مددت يدي إلى استيفان، وقلت: «ألا مافيش عندكم شغلة لواحد زيي؟ أي دور، خدام، سيد، باشا، بيه، أفندي، واحد مش لاقي اللضا، أي دور أنا قابل. ثم مش طمعان كمان، نص ريال في الليلة كويس قوي، وثمانية صاغ كمان … رضا!».

وتركني استيفان بعد أن وعدني خيرا. وفي المساء تلاقينا أمام باب «الأبيه دي روز» فقادني إلى صاحب الملهى وكان إيطاليا اسمه الخواجة «روزاتي».

وكان اسكتش «خيال الظل» المزمع إخراجه في تلك الليلة يحتاج إلى ظهور خادم بربري، فقدمني استيفان لروزاتي قائلا إنني ممثل كبير مشهور، وإنني، ولم يكمل استيفان سلسلة المحاسن والأوصاف، لأن الرجل قاطعه قائلا بالفرنسية: «لا لا، أنا مش عاوز ممثل كبير وشهير، وبتاع … أنا عاوز ممثل كل شيء كان لأن الدور مش مهم».

وهنا تدخلت أنا في المناقشة وقلت للخواجة: «أنا يا أفندم ممثل بسيط على قد الحال. لا أنا شهير ولا أنا كبير».

فقال: «أنا مش رايح أدفع أكثر من أربعين قرشا».

فأبرقت أساريري، ونظرت إلى استيفان نظرة استفهام، لأنني لم أكن أصدق أن أحصل على مرتب كهذا!

مفاجـأة

وأشفقت على نفسي خوفا من أن يكون هذا المبلغ هو المرتب الشهري. وليس اليومي! وحين زالت معالم الدهشة من نفسي، هنأني استيفان وقادني إلى مدير المسرح ومعاونة المسيو روزاتي، وهي فتاة رائعة الجمال كانوا يسمونها «ليليان الجميلة». وهناك أفهمتنا ليليان موضوع «خيال الظل» الذي سنؤديه في تلك الليلة، وكانت إدارة الملهى قد أعلنت في جميع أنحاء القاهرة عن مفاجأة كبرى: هي أن هناك سيدة باريسية ذات جمال فاتن وحسن رائع، ستبدو للجمهور خلف الستار الشفاف ثلاث ليال سويا، وفي الليلة الرابعة تظهر بشكلها الطبيعي، وأمام الستار لا خلفه.

ونجحت هذه الدعاية في جلب الجماهير الغفيرة طيلة الليالي الأربع، ولما آن وقت ظهور المفاجأة المدهشة، عرف الناس أن السيدة الباريسية الفاتنة، لم تكن إلا استيفان روستي بعينيه وأنفه و«شنبه».

وبعد ذلك بدأنا نمثل على المسرح روايات باللغة الفرنسية ذات فصل واحد: عمادها من الذكور شخصان … أنا واستيفان أما السيدات … فقد كان الخير كثيرا … والكباريه فيه الصنف ده على قفا من يشيل … فماذا كان يحدث أثناء التمثيل وهل نجحنا في عملنا أو كان الفشل حليفنا؟

الإجابة على هذا السؤال تتضح لك حين تعلم أن المتفرجين كانوا ينتهزون فرصة التمثيل فيديرون ظهورهم إلى المسرح، ويتحدثون بعضهم إلى البعض الآخر، هازلين مصفقين ضاحكين، أما نحن، فقد كنا نمثل للمقاعد وحدها. واللي مش عاجبه يشتغل في برنتانيا، بدال ما يشرب م البحر؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤