الفصل السادس

في خدمة الوطن

وإذا كنت إلى جانب ذلك أفخر بشيء آخر، فهو ما كنت أحظى به من تقدير الزعيم الخالد سعد زغلول، الذي كان يتفضل بتشريف حفلاتي، والتردد باستمرار على مسرحي لمشاهدة التمثيل، وإظهار الإعجاب بين وقت وآخر. وكل ذلك ملأني سرورا وفخرا كان لهما الفضل الأول في اجتهادي وموالاتي للعمل بنشاط ورغبة.

كان هذا منذ سنوات عديدة. فهل تدري ماذا كان في هذا العام (١٩٣٦)؟ لقد تقدمت إحدى الجمعيات الخيرية إلى وزارة معارفنا الجليلة، ترجو السماح لها بدار الأوبرا الملكية لإحياء حفلتها السنوية، على أن تكون فرقة الريحاني هي التي تقوم بالتمثيل!!

فكان جواب الوزارة أن لا مانع من التصريح بالدار، على شرط ألا يسمح لفرقة الريحاني بالتمثيل على مسرحها!!

يالله!! الفرقة التي كانت منذ سنوات عديدة موضع تقدير الأمراء والزعماء والعظماء والكبراء!! تصبح اليوم غير أهل للظهور على مسرح الأوبرا — كما ظهر غيرها من فرق خلق الله؟!

ألا سامحك الله يا وزارة المعارف. وسامح رجالك العاملين.

في إحدى الليالي طرقت بابي فتاة بارعة الجمال، صغيرة السن تبدو عليها مظاهر الأرستقراطية، ومعالم «الأبهة» والفخفخة!! نظرت إلي من فوق لتحت!! وقالت: «أنت اللي بيسموك كشكش؟» فأجبت: «أيوه يا ستي أنا كشكش» فضحكت ضحكة فيها غير قليل من الاستخفاف وقالت: «النبي حارسك، أمال فين دقنك يا دلعدي؟».

نهايته أقول بأنني رغم هذا «استظرفت» الفتاة، وأعجبت بخفة روحها، ولطف حديثها، فسألتها عن اسمها وأجابت بأنها زينب صدقي!! طيب وعاوزة إيه يا ست زينب يا صدقي؟ عاوزة أشتغل ممثلة يا كشكش يا بيه!!

أهلا وسهلا م العين دي والعين دي. أصبحت زينب صدقي من هذه الليلة ممثلة بالفرقة. ولعل زينب لا يضيرها أن أصارح الجمهور بأنها لم تكن يوم أن قصدت إلى المسرح ميالة إلى التمثيل كل الميل، ولم تكن هوايتها للفن هي التي دفعت بها إلينا، وربما كان القصد قتل الوقت والتسلية، لأنها كانت في أخلاقها وحديثها أقرب إلى الطفولة منها إلى أي شيء آخر، ومع ذلك فقد أحبها كل من يظلهم سقف المسرح من ممثلين وممثلات، مصريين وأجنبيات، وهوت إليها أفئدتهم جميعا. وفي المقدمة (لوسي فرناي) الفتاة الفرنسية التي ذكرتها آنفا والتي عرف القراء أنها كانت شريكة لحياتي في تلك الآونة!! نعم أضحت لوسي وزينب صديقتين لا تفترقان.

المسرح والوطنية

قلت إن إقبال الطبقات الراقية على الأجبسيانة كان بالغا أشده، حتى أن الكثيرين كانوا يحجزون مقاعدهم قبل موعد التمثيل بأيام. وأذكر على سبيل التخصيص ذلك الرجل الذي أكن له إلى اليوم احتراما وتقديرا كبيرين، إلا وهو الأستاذ عبد السلام ذهني المستشار بمحكمة الاستئناف المختلطة (سابقا)، وصاحب المواقف المشهورة في الدفاع عن لغة البلاد بين جدران تلك المحكمة.

كان عبد السلام في ذلك الحين محاميا ببني سويف، وكان «زبونا» مستديما للأجبسيانة. وفي اليوم الذي يشعر أن مرافعته في إحدى القضايا قد تجبره على البقاء هناك إلى القطار الأخير. أقول إنه كان في هذه الحالة يحجز مقعده في التياترو بالتلغراف، ثم ينزل من القطار إلى التياترو مباشرة!!

وحين رأيت من الجمهور المثقف، ومن عامة الشعب هذا الإقبال المنقطع النظير، رأيت أن أستغله استغلالا صالحا، وأن أوجهه التوجيه النافع. فرحت أنقب عن العيوب الشعبية، وأبحث عن العلل الاجتماعية التي تنتاب البلاد. ثم أضمن ألحان الروايات ما يجب عن علاج ناجع لمثل هذه الأدواء. كذلك راعيت في كثير من هذه الألحان أن تكون أداة لإيقاظ شعور الجمهور، وتعويده حب الوطن وإعلاء شأنه، والمحافظة على كرامته، والتغني بمجده الخالد، وعزه الطريف التالد.

وكان من آثار هذا الإقبال وذلك النجاح أن تضاعف الخصوم والحساد، واختلفت أسلحة كل منهم في حربي، فمنهم من كان يطعن من الخلف بخسة ودناءة، ومنهم من كان ينازلني جهارا على صفحات الجرائد اليومية (إذ لم يكن للصحف الأسبوعية وجود في ذلك الحين). ولم يكن القارئ يفرد بين يديه إحدى الصحف إلا وجد فيها نهرا أو نهرين يتغنى كاتبهما بلعنة خاش كشكش وروايات كشكش واللي خلفوا كشكش كمان!!

ومع كل ذلك لم أكن أعير هذه الحملات أي التفات، ولم أكن أحدث نفسي بالرد على أي كاتب. وتحضرني في هذا المجال عبارة قالها أحد النقاد وهو الأديب المعروف الأستاذ حامد الصعيدي (الموظف الآن بالبرلمان): ذلك أنه قال يوما لبعض صحبه: «إيه اللي رايحين نعمله في راجل نفضل نشتم فيه في الجرايد، يقوم حضرته يرد علينا بكلمة: «ولو»، وهو اسم الرواية التي كنت أمثلها إذ ذاك!!

على أن ذلك كله لم يؤثر من ناحية الإقبال أي تأثير — ولئن كان هناك شيء من ذلك فقد كان تأثيرا عكسيا، لأن الجمهور كان يتهافت على حضور حفلاتنا تهافتا لا مثيل له.

وفي ذلك الحين ظهرت طوائف «البلطجية» الذين كانوا يحومون حول أولاد الذوات من رواد مسرحنا، كالمرحوم علي كامل فهمي وأمثاله من الشبان الوارثين والسراة. وقد شاءت دناءة بعض حسادي أن يتخذوا من أولئك البلطجية أداة لحربي، وقد كانوا يثيرون القلاقل، ويقومون بمشاجرات عنيفة داخل التياترو، ولست أنسى أن رصاصة مسدس أطلقت علي شخصيا أثناء التمثيل … ولكن الله سلم. وفي ليلة أخرى أطلق مأفون علي حصا من نبلة كادت تصيب عيني إلا قليلا!!

فكرت كثيرا في هذه الحوادث فرأيت ألا سبيل إلا محاربة الداء بالداء، فبحثت عن رئيس تلك العصابات وعلمت أنه (يوسف شهدي)، فجئت به، وعرضت عليه العمل بماهية يتقاضاها وأفهمته أن وظيفته هي حفظ نظام الصالة!! ولقد أفلحت خطتي هذه، فوقفت المشاغبات نهائيا. وسار الحال من تلك اللحظة على ما يرام!!

إش …!

كانت رواية «ولو» قد استغرقت في عرضها على الجمهور ثلاثة أشهر متوالية، لم ينقص الإيراد اليومي فيها عن الثمانين جنيها.

وكثيرا ما كان يزيد على ذلك، مما شجعنا على العناية بالرواية التالية، وقد اخترنا لها اسم «إش»، وهي أيضا من تلحين فقيد الموسيقا المرحوم الشيخ سيد درويش، كما أن واضع تلك الأزجال هو الزميل بديع خيري، الذي أضحى من ذلك الحين إلى اليوم وإلى غد وإلى أن نلقى الله، خلا وفيا وأخا عزيزا نتبادل الثقة ونتعاون في السراء وفي الضراء.

نالت رواية «إش» استحسانا مدهشا. وجاءت ألحانها بدعة من ناحيتي التأليف والتلحين. ويكفي أن أنبه الأذهان إلى اللحن الذي امتدت شهرته فتخللت الدور والقصور، وأنشده الكبير والصغير في عاصمة القطر وفي ريفه. ألا وهو «يا أبو الكشاكش كان جرى لك إيه يا هلترى. دقنك شابت في المسخرة وأمور الفنجرة».

وفي هذه الآونة كان الزعيم الراحل سعد «طيب الله ثراه» يؤلف الوفد المصري للقيام إلى مؤتمر الصلح في فرساي كي يدافع عن حق مصر في الاستقلال، ويعمل على استخلاص حقها ورفع الحماية الجائرة عن كاهلها. وكان رحمه الله ينادي بضرورة الاتحاد وجمع شمل الأمة تحت لواء واحد والتفاف عناصرها في كتلة واحدة مهما اختلفت النحل وتباينت الأديان والملل. ولقد انتهزت هذه الفرصة فضربت على تلك الوتيرة وضمنت رواية «إش» لحنا تلقيه طائفة من سياس الخيل، جاء في ختامه هذا المقطع: «لا تقول نصراني ولا يهودي ولا مسلم يا شيخ اتعلم. اللي أوطانهم تجمعهم. عمر الأديان ما تفرقهم».

وهكذا ظلت فرقتنا تؤدي واجبها الوطني على قدر ما تسمح به جهودنا المتواضعة. ولم أشأ أن أقف عند هذا الحد بل ساهمت في التبرع المادي، فدفعت لخزينة الوفد مبلغا شكرني من أجله المرحوم فتح الله بركات، وأولاني من عبارات التقدير ما لا أنساه.

فتحية وعبد الوهاب

وفي ذلك الحين — يعني في عز النغنغة والنجاح — كانت مطربة القطرين السيدة فتحية أحمد ضمن أعضاء الفرقة، وكانت إذ ذاك طفلة صغيرة تنال من إعجاب الجمهور واستحسانه قدرا وافرا، لأنها فضلا عن كونها مطربة جلية الصوت، ساحرة الغناء، كانت خفيفة الظل رشيقة الحركة دائمة الابتسام على المسرح.

وكثيرا ما كنا نعد لها قطعا تلحينية في صلب الرواية كانت تقوم بها على خير الوجوه، وفي إحدى الليالي زارني أحد الأصدقاء ومعه فتى صغير السن، لطيف المظهر، تبدو في عينيه دلائل النبوغ الذي لا يزال المستقبل يحجبه إلا على الخبير المتمكن وقد طلب مني الصديق أن الحق هذا الفتى بفرقتي، قائلا إن لديه موهبة قل أن توجد فيمن هم في سنه، وهي أنه يمتاز بحنجرة موسيقية نادرة، وصوت ساحر خلاب، وذاكرته فنية قوية.

لم أشك لحظة في أن الفتى يتمتع بهذه الأوصاف جميعا، فهل تدري من هو الفتى الصغير الذي نعنيه؟

هو الموسيقار الكبير الأستاذ محمد عبد الوهاب، ولولا أن المجال لم يكن يسمح بضمه إلى الفرقة لانتظم في سلكها إذ ذاك.

فلوس في كل مكان

كان المال ينهال على خزينة تياترو الأجبسيانة كالمطر الغزير وبشكل لم يكن أحد ينتظره أو يتصوره، وكلما ارتفعت أرقام الأرباح، ارتفعت معها عقائر الخصوم والحساد، وامتلأت أعمدة بعض الصحف بالطعن في كشكش من جميع النواحي. والظريف في الموضوع أن صاحب شخصية كشكش كان مجهولا من الناس طرا، فلم يكن يعرف شكله أحد، ولم يكن إنسان يدري أهو أبيض أم أسمر؟ فتى أم شيخ؟ مطربش أم معمم، ذلك لأنني كنت أظهر على المسرح بالجبة والقفطان وباللحية الطويلة الوقور، ولم أكن أكثر الظهور في الشوارع والطرقات، كذلك لم تكن الصحف الأسبوعية قد انتشرت، بل ولم تكن قد ظهرت وامتلأت صفحاتها بالصور كما هو الحال الآن، تلك الصور التي أوقفت القراء في أنحاء مصر وغيرها على «أشكال» الممثلين والممثلات، وقربتهم إلى الأذهان، بحيث أصبح من السهل الآن على كل امرئ أن يتعرف على أقل مخلوق أو مخلوقة من ممثلي المسرح وممثلاته.

ويحلو لي الآن في هذا الصدد أن أقول، بأن وفرة المال بين يدي كانت تنسيني في كثير من الأحوال المواضع التي كنت أحفظ فيها النقود، من ذلك أنني وضعت يوما في «القمطر»، وأرجو أن يسامحني القراء في استعمال هذا اللفظ، لأنني لم أسمع به إلا من صديق لي قال إن المجمع اللغوي وضعه بدل كلمة «الدولاب»، فأردت أن أنتهز الفرصة وأتفلسف على قرائي المحبوبين، أمال يعني حاتفلسف على مين غيرهم؟ ع المتفرجين؟ … نهايته.

وضعت يوما في «قمطر» التواليت (لم يخبرني صديقي على الاسم الذي انتخبه المجمع بدل كلمة التواليت) وضعت فيه مبلغ ثلثمائة جنيه مصري، ثم نسيت هذا المبلغ بعد ذلك، ولم أعره أهمية، لأن الخير كثير، وستر المولى كان متوافرا للغاية. وبعد عشرين يوما من هذا الحادث تصادف أن كانت «لوسي» تنظف أدراج القمطر — يا سلام أنا داخله في مزاجي كلمة القمطر دي بشكل؟! — فعثرت على ٣٠٠ جنيه، سلمتها لي بعد أن فركت أذني بأصابعها الجميلة وهي تقول: «خلي بالك من فلوسك يا نجيب أحسن ييجي يوم تحتاج لها» ….

كانت نصيحة ثمينة من «لوسي» ولكنني لم أعمل بها. وكم أتمنى من صميم الفؤاد أن تعود تلك الأيام بأموالها المغدقة أو المغرقة … كي أعمل بنصيحة لوسي — والله العظيم — ولا أفرطش في القرش الأبيض علشان ينفع في اليوم الأسود!!

وفي يوم آخر كنا «بنعزل» — اعذروني إذ لم أجد كلمة لغوية تفيد معنى النقل من بيت لبيت غير دي — وفيما نحن نرفع بساط غرفة النوم وجدنا تحته ثمانين جنيها!!

أما قفاطين كشكش فلم تكن تخلو يوما من كبشة نقدية «مبعزقة» في جيوبها هنا وهنا!! فكانت لوسي — الله يمسيها بالخير — تتولى جمعها في كل مساء وتسلمها لي مقرونة بالنصيحة إياها!!

لعل واحدا يسأل: «ما علة هذا النسيان؟» وردا عليه أقول إنني كنت دائم التفكير في عملي، وفيما يجب أن تكون عليه الرواية الجديدة، وما هي العيوب الاجتماعية المتفشية في البلاد كي نعالجها فيما نقدمه للجمهور بين ثنايا ألحان الرواية وموضوعها؟ وقد كانت نتيجة هذا التفكير المتوالي السرحان … المتوالي برضه!!

قلت إنني كنت أدير الفرقة لحسابي الخاص نظير حصة مقدارها ٣٠٪ من الإيراد يتقاضاها المسيو ديمو كنجس صاحب التياترو. وقلت إن التياترو لم يكن مسقوفا، بل مغطى بالقماش وكانت الأرضية ترابا في تراب، ومع ذلك لم يكن الكبراء يأنفون ارتياده، أو ينقطعون عن زيارته، أحصى المسيو ديمو كنجس نصيبه في العام الأول فإذا به ثمانية آلاف وخمسمائة جنيه مصري!! وهذا المبلغ هو ثلاثون في المائة فقط من الإيراد! فكم يكون نصيبي أنا … يا صاحب السبعين في المائة الباقية!! س — وسين تساوي … حوالي عشرين ألف جنيه تقريبا!! فأخ … أخ من زمان وفلوس زمان!

الأوبرا كوميك والأوبريت حمار وحلاوة

ومن أظرف ما كان يتردد على ألسنة الناس في عهد «النغنغة» أن نجيب الريحاني اشترى عزبة، وأطلق عليها اسم «حمار وحلاوة»، فإذا سأل سائل: «وأين مقر هذه العزبة؟«أجاب بعضهم: إنها في الشرقية، وفي مركز فاقوس كمان!! وربما تطور به الخيال فقال: «وفي زمام بلد اسمها منزل نعيم على حدود نجع عودة، وعمدتها بالأمارة اسمه الحاج عبد الوهاب».

وبعد هذا التعيين المدهش، كدت أنا نفسي أصدق أنني أمتلك عزبة بحق وحقيق … مين عارف يمكن صحيح؟؟ ولذلك انتهزت فرصة وجود صديق لي من أعيان تلك الناحية، فسألته فيما بيننا: هل صحيح يا خوي عندكم عزبة ملكي اسمها حمار وحلاوة؟ وللأسف نفى لي صديقي هذا «الحلم» اللطيف، مؤكدا أنها مجرد إشاعة عارية من الصحة مختلقة من أساسها! ولو كان قلم المطبوعات يهتم في ذلك الحين بإصدار بلاغات التكذيب، لتوسلت إليه أن يفعل، بعد أن استفحلت تلك التهمة، ووجدت بين عباد الله خلقا كثيرا يؤمنون بها! حتى خشيت أن تنمو عائلتي، ويظهر لي مئات من الأقارب الذين لا أعرفهم، والذين ربما تكون رابطة القرابة الوحيدة بيني وبينهم هي … حمار وحلاوة ليس إلا!!

على أن الظريف أن بعضهم كان يقول في بعض الأحيان، إن العزبة ليست في الشرقية، بل في المنوفية، وفي يوم ثالث تكون في الدقهلية، وهكذا ظلت «حمار وحلاوة» تتناولها حركة التنقلات — كما تتناول السادة الموظفين — إلى أن تبخرت يا حسرة … ولم يبق لها وجود في غير أدمغة مخترعيها.

على أنني كنت أستطيع بلا شك لو عمدت إلى الاقتصاد المعقول — وبلاش التقتير — أن أملك عزبا بعدد رواياتي، وأن يكون في حوزتي بدل حمار وحلاوة بس — ولو، وإش، وعلى كيفك … وأخيرا «٢٤ قيراط» التي لم يحن وقت الكلام عنها بعد.

وقد دار حوار بيني وبين المستر هورنيلو (مدير الأمن العام إذ ذاك). وكانت التقارير والمعلومات التي جمعها له مخبروه حملته على أن يأمر بمصادرة الرواية التي كنا نستعد لإخراجها واسمها (قولوا له). ولكن لم تمض على هذه المصادرة أيام حتى قامت الثورة في مصر قاصيها ودانيها، واشتركت الطوائف والطبقات جميعها في مظاهرات وطنية حارة، فخرجت مع أعضاء فرقتي (ممثلين وممثلات) ننشد على أنغام أوركستر الفرقة نشيد الكشافة.

الريحاني «دسيسة إنجليزية»!

قلت إن شعوري هو الذي كان يدفعني إلى العمل بنشاط وهمة. ولم أكن بطبيعة الحال أرغب من وراء ذلك جزاء ولا شكورا. ولكن الخصوم والحساد والناقمين، جزاهم الله عن المروءة والشهامة كل خير!

في الساعة الحادية عشرة من مساء إحدى الليالي جاءني الأستاذ مصطفى أمين (وقد كان قبل ذلك شريكا للأستاذ علي الكسار في فرقة كازينو دي باري) جاءني مصطفى إلى منزلي يلهث من التعب ويقول: «انج بنفسك يا نجيب فإنك الليلة مقتول لا محالة»!

كيف؟ وبيد من؟ ومن الذي يفكر في إعدامي؟ قال: «هم مواطنوك المصريون! هذا فظيع … فظيع!».

وراح الزميل مصطفى يقص ما حدث، قال: «إنني آت من الأزهر الشريف حيث عقد اجتماع حافل تبودلت فيه الخطب الحماسية، وقد وقف شخص من خصومك على المنبر، وبدون أن يدعوه أحد للكلام سمم أذهان المستمعين بأكاذيبه مدعيا أنك (دسيسة إنجليزية)، وأن السلطة العسكرية قد أمدتك بالمال لتلهي الشعب برواياتك عن المطالبة بأمانيه العالية! ولما كانت الجماهير في أوقات الثورات تنساق بلا روية، فقد هتف الناس ضدك وصمموا على قتلك!».

يا للصدمة! ينتقل الواقع من اليمين إلى الشمال في طرفة عين، وينقلب الحق سريعا إلى بهتان ومين؟!

القصد، ثارت زميلتي «لوسي فرناي»، وخشيت علي سوءا فصممت على أن نسرع بهجر المنزل توا قبل أن تحل النكبة.

وكانت ليلة لن أنساها!

أخذنا عربة. وكنت في تلك الساعة أحس أن قلب العزيزة لوسي يكاد يقفز من بين جنبيها، وكان يخيل إلي أنني أسمع دقاته وهو يعلو ويهبط، إذ وقفت على سلم العربة لتحول بيني وبين أنظار المارة، وتستحث الحوذي أن يلهب ظهور خيله كي يبتعد بنا عن منزلنا قبل أن تغشانا الغاشية. نعم لم تشأ لوسي أن تجلس بجواري طول الطريق فظلت على هذه الوقفة حتى وصلنا إلى فندق «هليوبوليس هاوس» أمام المكان الذي تقع فيه الآن لوكاندة هليوبوليس بالاس بمصر الجديدة، ولم تكن هذه قد شيدت بعد.

وهناك في إحدى غرف «هليوبوليس هاوس»، نزلت مع لوسي وكانت الساعة قد تجاوزت الثانية صباحا.

بقيت في هذا الفندق عدة أيام لم تلهني فيها المخاوف عن واجبي الوطني، فقد كنت آتي إلى المسرح في كل صباح، فأجتمع بالممثلين والممثلات وغيرهم، لنرتب أمورنا ولننظر في شئوننا. ولم تكن هذه الشئون غير مظاهرات نقوم بها هنا وهناك (لأن جميع المسارح كانت معطلة بأمر السلطة).

وجاء الاستقرار

ومضت على ذلك الحال أيام استقرت فيها أمور العامة، وسمحت السلطات لسعد زغلول «رحمه الله» بمغادرة منفاه في مالطة إلى «فرساي»، حيث عقد مؤتمر السلام كما كانوا يدعونه، وكانت النتيجة الطبيعية لذلك أن تفتح المسارح ودور اللهو، وأن تعود إلى ما عهده الجمهور فيها من تسلية، وأن تكون هذه العودة بشروط فيها شيء من الشدة، كتحديد مواعيد السهر، وكدقة المراقبة التي فرضتها الداخلية عليها، ونقول الداخلية ونحن على يقين من أنها كانت «مظلومة»، لأنها لم تكن إلا «مخلب القط» في أيدي السلطة الأجنبية!

ما علينا فلندع شأن السياسة، ولنبق في محيطنا الذي نحن بصدده. جاهدنا بعد أن عادت البلاد إلى ما يقرب من الحالة الطبيعية في أن يسمح لنا بتمثيل روايتنا المصادرة «قولوا له»، وقد سرني أن أصل إلى مبتغاي بعد أن كدت أيأس من الوصول إليه.

وجاءت الليلة الأولى لظهور الرواية … فكيف أصفها؟ وأين لي قدرة الكاتب النحرير لأستطيع الدقة في التعبير؟

كانت هذه الليلة عيدا شاملا لكل من احتوته دار التمثيل، سواء في ذلك الممثلون أو المتفرجون. أما تأثير الرواية فتصور قنبلة تنفجر في مكان آهل، ثم تصور ما يكون لها من دوي يهز الجماد ويحرك الصخور!

ظهرت الرواية على أثر المظاهرات التي اشتركت فيها جميع الطبقات، وقد راعينا أن ندخل في صلب الرواية ألحانا وطنية على ألسنة كل طائفة من الطوائف التي قامت بهذه المظاهرات، بحيث لم ندع واحدة منها إلا أرضيناها بما كان يلقيه الممثلون، حين يتقمصون شخصيات أفراد تلك الطوائف على المسرح، واحدة بعد أخرى.

وناهيك بأزجال يضعها بديع ويلحنها سيد درويش!

وإذا كان للنسيان أن يجر أذياله على الذكريات جميعا، فإني على يقين من أنه لن يمحو من مخيلتي، ذلك المظهر الفاتن الذي بدا من الجمهور في اللحظة التي تحرك فيها الستار مرتفعا عن الفصل الأول في هذه الرواية في كل مساء!

هتاف يرتفع إلى عنان السماء، وتصفيق يكاد يصم الآذان، أما حين أظهر على المسرح بعد ذلك، فلك أنت يا سيدي القارئ أن تقدر ما كنت أقابل به من الجمهور!

دعني أقرب لك الواقع فأقسم أن الدموع كانت تغالب الموقف في عيني، وكان قلبي يطفر اعترافا بالجميل لأبناء الوطن، الذين تهافتوا على أخ لهم يشعر أنه لم يؤد من الواجب عليه إلا قليلا. ومع ذلك فقد ارتفع في نظرهم قدره وسما بينهم ذكره، حتى كدت والله أعذر حسادي فيما فعلوا من محاربتي، لأن هذه المظاهرة الكاملة — بل وأقل منها — كان يكفي لكمدهم ولإشعال نار الحقد بين ضلوعهم.

وبعد أن انتهت الأيام التي قدرناها لرواية (قولوا له)، كنا قد أعددنا الرواية التالية واخترنا لها اسم (رن) … وقد جاءت كسابقتها شعلة من الوطنية متأججة، ولهبا من الحماس تشتعل ناره ويلتهب أواره، وقد ظهر فيها مع (كشكش بك) تابعه وأمينه (زعرب)، ونجحت بالفعل رواية (رن) كما نجحت سابقاتها.

ماذا أديت للفن؟

على أنه يحلو لي في هذا الوقت أن أعترف بحقائق لم أكن أطالع بها إذ ذاك غير المخلصين من المحبين. فإنني كنت كلما خلوت بنفسي وحاسبتها على ما أديت للفن من خدمات تستحق أن توصلني إلى ذروة الشهرة التي اعتليتها، وإلى أفق الصيت الذي لا يحد مداه، أقول إنني كنت أحاسب نفسي، فأجد أعمالي كلها من الناحية الفنية — صفرا على الشمال! وليس لها من قيمة إلا ما فعلت في الأفئدة من إشعال جذوة الوطنية بين الجماهير، وهذا وحده ليس كافيا لأن يكون مطية ذلولا تطفر بي في ميدان الشهرة هذه الطفرات المتواليات، ولذلك أردت أن أشبع حاستي الفنية، وأن أستبدل بهذا النوع الحالي من الفن نوعا جديدا أرضي به ضميري وجمهوري في آن واحد!

ولكنني بعد أن أعملت الفكر كثيرا، خفت أن يرى الناس نوعا لم يألفوه من قبل. وبذلك يهجرونني فأكون كالغراب حين فتنه مشي العصفور فعمد إلى تقليده، ولما أعيته الحيل فضل العودة إلى مشيته الأصيلة ولكنه كان قد نسيها، فظل على الحال التي نراه بها من القفز الثقيل الظل.

فماذا أفعل للتوفيق بين النظرتين؟

العشرة الطيبة

نظرت حولي فألفيت الأستاذ عزيز عيد خاليا من العمل بعد أن فشل مشروعه في كازينو دي باري، ذلك المشروع الذي افتتحه برواية «حنجل بوبو».

وكان حوله طائفة من الزملاء أعيتهم البطالة: فاستدعيت عزيزا وأشرت عليه بتأليف فرقة تجمع بعض البارزين من الممثلين. ثم صممت على أن أتخذ لها مسرحا مستقلا، فاستأجرت كازينو دي باري بالذات، وكانت قيمة الإيجار ألفي جنيه في العام.

وكنت قد قرأت رواية فرنسية أعجبني اسمها «اللحية الزرقاء»، فاتفقت مع الكاتب المرحوم محمد تيمور بك على أن يقتبسها ويمصرها. ثم عهدت إلى الأستاذ بديع خيري في وضع أزجالها، وإلى المرحوم الشيخ سيد درويش أن يلحن هذه الأزجال. فأثمرت جهود أولئك الفطاحل عن الدرة التي أطلقنا عليها اسم «العشرة الطيبة».

وتألفت الفرقة من الأستاذ عزيز والسيدة روز اليوسف والأساتذة محمود رضا ومنسي فهمي ومختار عثمان واستيفان روستي والمطرب زكي مراد والمطربة برلنته حلمي والسيدة نظلي مزراحي وغيرهم، وقد مكثوا يؤدون بروفات هذه الرواية مدة أربعة أشهر كاملة كنت أدفع فيها مرتباتهم.

أخرج عزيز الرواية. ويهمني هنا أن أقول بأنني اعتنيت بها عناية فائقة، فلم أغلل يدي عن الصرف، ولم أحجم عن بذل كل ما تطلبه إظهارها في المظهر اللائق من مال قل أو كثر أما المناظر فقد عهدت في رسمها إلى الأستاذين أحمد لطفي (الموظف الآن بمصلحة المساحة)، وعلي حسن الذي تخصص في إيطاليا لهذا العمل، ثم قصدت إلى خان الخليلي فحصلت على مجموعة شائقة من التحف القديمة والملابس الأثرية ذات القيمة، وكان من بينها ما ارتداه أو استعمله بعض مشاهير القواد والفاتحين من العصور السابقة.

وفي اليوم المحدد لظهور الرواية، كان مجموع ما صرف في سبيل إعدادها إلى اللحظة التي يرفع فيها الستار عن أول مشاهدها مبلغ ثلاثة آلاف جنيه مصري. وكانت رواية «العشرة الطيبة» هذه أول عهد الأوبرا كوميك والأوبريت في مصر! كان موضوع الرواية يتضمن تبيان شيء من استبداد الشراكسة، وكانت تركيا قد خرجت إذ ذاك من الحرب العالمية مقهورة، وكانت الأفكار في مصر تعطف عليها وتحن إليها، كما كانت حاقدة على الإنجليز لوقوفهم في سبيل نهضة مصر أولا، ولأنهم كانوا أقوى عامل في هزيمة تركيا ثانيا.

دسيسة أخرى

ولذلك استغل خصومي الموقف، وراحوا يعيدون فريتهم السابقة من أنني دسيسة إنجليزية، وأن القصد من عرضي لرواية «العشرة الطيبة» هو تجسيم مساوئ الأتراك في عين المصريين، وتقريب الإنجليز لقلوبهم. وهذا مع أن الرواية ليس فيها أقل رائحة يشتم منها أي عطف على الإنجليز، أو أي إساءة للترك. ولكن ماذا أفعل مع من لا يتورعون؟ فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ.

ولم تكن تمر ليلة إلا ويقف في إحدى مقاصير كازينو دي باري في أثناء التمثيل، أو في فترة الاستراحة، خطيب ينادي بالويل والثبور وعظائم الأمور، ويهتف بسقوط الريحاني (داعية الإنجليز وربيب نعمتهم). كل ذلك وهم يعرفون تماما أن الريحاني كان هدفا لنقمة الإنجليز وسلطتهم العسكرية في مصر، وكثيرا ما كان يقف بين المتفرجين بعض العقلاء والمتنورين، فيردون على سفاسف أولئك الخطباء ويسفهون آراءهم.

انتصار

ولكنني مع ذلك أعترف بأن دعاة السوء قد استطاعوا التأثير في بعض السذج بهذه الدعاية.

فلما رأيت هذه النتيجة طلبت إلى الصديقين المرحوم محمد تيمور بك والأستاذ بديع خيري، أن يقصدا إلى أحد البارزين من أعضاء الوفد المصري الذين يعتقد الشعب بآرائهم، ويطلبا إليه أن يتفضل بمشاهدة تمثيل الرواية، ثم يحكم بعد ذلك من الناحية الوطنية لها أو عليها. فكان أن وقع اختيارهما على المرحوم مرقص حنا، وكان إذ ذاك وكيلا للجنة الوفد المركزية. فذهبا إليه، وفي المساء نفسه حضر رحمه الله في رفقة السيدة قرينته والآنسة كريمته السيدة عايدة هانم (قرينة الأستاذ مكرم عبيد).

وفي اليوم التالي تفضل المرحوم مرقص حنا فنشر في الصحف رأيه الصريح، مقرظا الرواية نافيها عنها كل ما يذيعه المغرضون لحاجة في نفس يعقوب. فكان هذا التصريح الكبير من رجل مثله له مكانته في قلوب الأمة، معولا دك حصون خصومي ودورهم على أعقابهم خاسرين. ومع ذلك فإن فرارهم من الميدان العام لم يكن ليحول بينهم وبين بث دعايتهم، كل وما يقدر عليه. ولعله من الظريف أن أروي في هذه المناسبة ما وقع بين واحد منهم وبيني شخصيا!

مقارنة مضحكة

كان ذلك في سنة ١٩٢٠، حين وفد إلى مصر الممثل الفرنسي الكبير (جان كوكلان). وكانت الصداقة قد ربطت بيني وبينه موثقا، فدعاني إلى مشاهدة إحدى رواياته في حفلة (ماتينيه) بتياترو برنتانيا القديم. ولبيت الدعوة، وكان إعجابي بالرواية شديدا بحيث كنت من أكثر المتفرجين تصفيقا. وهنا التفت إلي الشخص الجالس في المقعد المجاور لي ولم يكن بالطبع يعرف من أنا، وقال ما نصه: «أيوه كده … أهو دا التمثيل الصحيح مش الراجل كشكش اللي بيضحك على عقلنا بكلامه الكارع».

وتمشيت معه في الحديث، فوصفت كشكش بأنه دجال لا أقل ولا أكثر. «وتبحبح» الرجل معي بحبحة «فضفض» فيها بكل ما يأكل قلبه من حقد. وأنا أنصت إليه بكل انتباه. ويظهر أن الشك داخل الرجل أخيرا، فسألني عن شخصيتي، وتطمينا له أجبته بأنني وإن أكن «شقيق» نجيب الريحاني، إلا أنني لا أقر خطته في المسرح، ولا أوافق مطلقا على النوع الذي يعرضه أخي الدجال!

تدهور مادي ومعنوي

والآن نترك السادة الخصوم، وندع تأثيرهم في أذهان الجمهور، وننظر إلى هذا الأثر في نفسي. فأقول بكل صراحة إن شيئا من اليأس قد داخلني، وزاد منه أن توالت علي صدمات مالية قاسية. فقد اشتريت قبل ذلك قدرا هائلا من الفرنكات والليرات والأسهم والماركات، فهبطت أسعارها جميعا. وكان التدهور المادي شنيعا فأحسست بعده فعلا بهبوط حالتي المعنوية، حتى لم أكن أتمالك نفسي على خشبة المسرح … ودب في عملي نوع من الإهمال الذي انقلب إلى فوضى تفشت في ثنايا المسرح، وكادت تقلبه رأسا على عقب.

وكانت ثالثة الأثافي أن تغير شعور كل من المرحومين عزيز عيد والشيخ سيد درويش نحوي، وسمعت من بعض المتصلين بهما أنهما ينويان رفع راية العصيان، ويتحدثان بأن الإيراد الذين يدخل جيبي من فرقة الكازينو — ولست ممثلا فيها — يجب أن يكون من حقهما وحدهما.

وحين وصل إلى سمعي هذا الخبر، قصدت إليهما وصارحتهما بأنني رجل لا أحب العمل إلا في وضح النهار. ثم سردت عليهما ما وقفت عليه من شأنهما، وأتبعته بأنني على تمام الاستعداد لنفض يدي من المشروع وتركه لهما بخيره وشره، فعليهما أن يذهبا بالفرقة حيث شاءا، وأن يكفياني مئونة النظر في أمرها. وكان ذلك الإجراء الحاسم فصل الخطاب بيني وبينهما، وتضافر الاثنان في إخراج رواية (شهر زاد).

ثلاث شقيقات

فاتني أن أذكر حادثا له أهميته، في مذكرات كهذه، يقصد بها وجه التاريخ الصحيح، الذي آليت على نفسي فيه منذ البداية أن أكون صريحا في سرد الحقائق، وإن آذت مرارتها شخصي في بعض الأحايين.

في سنة ١٩٢٠ تقدمت إلى ثلاث فتيات منهن طفلة يبلغ سنها حوالي الأحد عشر أو الاثني عشر عاما، وطلبن الالتحاق بالفرقة!

فلم أتأخر عن إجابة هذا الطلب، وأضحت الفتيات (رتيبة وإنصاف وفاطمة رشدي) من أفراد فرقتي، وأريد إلى جانب ذلك أن أقول بأنني لاحظت في الصغرى ذكاء وقادا، وهواية شديدة للتمثيل، ورغبة أكيدة في العمل للتقدم على خشبة المسرح، بعكس شقيقتيها اللتين شعرت أن ميلهما كان متجها إلى إلقاء المقطوعات التلحينية. هذا ما رأيت إثباته قبل العودة إلى المدى الذي تركت القارئ عنده.

وهناك شيء آخر تدفعني الصراحة كذلك إلى إبدائه، وهو أنه في أواخر عام ١٩٢٠ كان الخلاف قد دب بين الصديقة (لوسي دي فرناي) وبيني، فافترقنا إلى غير عودة. ويقيني أن هذا الفراق كان أول النكبات التي صبها القدر فوق رأسي وساقها إلي حلقات متتالية يأخذ بعضها برقاب بعض.

ذلك لأن ما كان يغمرني من خير جارف، أضحى بعد ذلك البحر جفافا من كل ناحية، بل وشرا مستطيرا، حتى لقد اقتنعت تماما أن هذه الفتاة كانت هي مصدر الأرزاق، وأنها إنما حملت في جعبتها بسمات الدهر وحظ العمر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤