واستهلت سنة عشرين ومايتين وألف

فكان ابتدا المحرم يوم الاتنين، ولما نزل الدلاة جهة البساتين وتلك النواحي فأكلوا زروعات الناس ونهبوا دورًا بدير الطين وطلبوا علوفات زايدة، رتب لهم الباشا الجرايات والعليق والجامكية، وقدرها ستماية كيس في كل شهر.

وفي تامنه سافر أناس كثيرة لزيارة مولد سيدي أحمد البدوي المعتاد، وسافر أيضًا الشيخ الشرقاوي، وحضر هناك كاشف الغربية، وحصل منه قبايح كثيرة وقبض على خلايق كثيرة وبلصهم وحبسهم، وخَوْزَق أناسًا كثيرة من غير ذنب ولا يقبل شفاعة أحد في شيء.

وفيه أشيع قدوم محمد علي وحسن باشا إلى مصر؛ وذلك أنهما لما سمعا بوصول طايفة الدلاة وأن أحمد باشا أرسل إليهم وطلبهم ليتعاضد بهم ويقوِّي بهم ساعِده على الأرنؤدية، عزموا على الرجوع إلى مصر ليتلافوا أمرهم قبل استفحال الأمر.

وفي يوم الخميس حادي عشره طلب الباشا المشايخ وعمر أفندي النقيب والوجاقليلة وأرباب الديوان، فلما اجتمعوا قال لهم: إن محمد علي وحسن باشا راجعان من قبلي من غير إذن أو طلب سرًّا، فإما أن يرجعا من حيث أتيا ويقاتلا المماليك، وإما أن يذهبا إلى بلادهما وأعطيهما ولايات ومناصب في غير أراضي مصر، ومعي أمر من السلطان وكيل مفوض ودستور مكرم أعزلُ من أشا، وأولِّي من أشا، وأعطي من أشا، وأمنع من أشا، ثم أخرج من جيبه ورقة صغيرة في كيس حرير أخضر، وأخبرهم أنها بخط السلطان بما ذكر، فأنتم تكونون معي وتقيمون عندي صحبة كبار الوجاقلية، فقالوا له: إن الشيخ الشرقاوي والشيخ البكري والشيخ المهدي غايبون عن مصر، فقال: نرسل لهم بالحضور؛ فكتبوا لهم أوراقًا من الباشا وأرسلوها إليهم مع السعاة يستعجلونهم للحضور.

ثم اتفقوا على أن يبيت عنده بالقلعة في كل ليلة اثنان من المتعممين، واثنان من الوجاقلية، وأعدوا لهم مكانًا بالضربخانة وأمر بأن يذهب الدلاة والعسكر الباقية إلى ناحية طُرا والجيزة، وأخذوا مدافع وجبخانة.

ووصل محمد علي وحسن باشا إلى ناحية طرا، ومعهم عساكرهم فلم يجسر الدلاتية على ممانعتهم.

وكاد لهم محمد علي كيدًا، منها أنه أرسل إليهم يقول: إنما جينا في طلب العلايف ولسنا مخالفين ولا معاندين، فقال الدلاتية لبعضهم: إذا كان الأمر كذلك فلا وجه للتعرض لهم وأخلوا من طريقهم، ودخل الكثير من طوايف عساكرهم ورجع الدلاتية إلى أماكنهم بدير الطين وقصر العيني والآثار، ونزل كتخدا الباشا وعمر بك الأرنؤدي، فتكلما مع الدلاتية فقالوا: إن القوم لم يكن عندهم خلاف ولا تعدٍّ، وإذا كنتم تمنعون وتحاربون من يطلب حقه فكذلك تفعلون معنا إذا خدمناكم زمنًا ثم طلبنا علايفنا، فرجع الكتخدا وعمر بك الأرنؤدي وتتابع دخول أوليك في كل يوم طايفة بعد أخرى، وسكنوا الدور والبيوت.

وفي يوم الأربع ذهب إليهم سعيد أغا وقابجي باشا الأسودان، وسلما على محمد علي وحسن باشا ثم رجعا.

وفي يوم الجمعة تاسع عشره دخل محمد علي بعد العصر وذهب إلى بيته بالأزبكية، ودخل حسن باشا في صبحها ودخلت طوايفهم، وأخذوا الحمير والبغال وجِمال السقايين وحملوا عليها متاعهم ودخلوا البيوت وأزعجوا السكان وأخرجوهم من مساكنهم وفتحوا البيوت المسدودة، وكثرت أخلاطهم بالأسواق، ومنع الباشا المشايخ والوجاقلية من الذهاب إلى محمد علي والسلام عليه، واستمر الأمر على القلقلة واللقلقة والتوحش، وأخذ محمد علي في التدبير على أحمد باشا وخلعه.

شهر صفر الخير (سنة ١٢٢٠)

استهل بيوم الأربع، والأمر على ما هو عليه، وسعيد أغا ساعٍ ومجتهد في إجرا الصلح، ويركب تارة إلى الباشا وتارة إلى محمد علي وإلى حسن باشا، ويطلع من المشايخ في كل ليلة اتنان من الوجاقلية يبيتون بمكان في دار الضرب وينزلون في الصباح، ولم يعقل لذلك معنى، وفي كل وقت يقع التشاحن بين أفراد العسكر في الطرقات، ويقتلون بعضهم بعضًا.

وحضر سليمان كاشف البواب ومر من خلف الجيزة وذهب إلى جهة وردان، وطلب الأموال من البلاد والكلف، وعدى خازنداره إلى بر المنوفية ومعه عدة كثيرة من العربان بطلب الأموال من البلاد، ومن عصى عليهم من البلاد ضربوهم ونهبوهم وحرقوا أجرانهم، وكاشف المنوفية داخل منوف لا يقدر على الخروج إلى خارج.

وحضر أيضًا محمد بك الألفي إلى ناحية أبو صير الملق، وانتشرت طوايفه وعربانه بإقليم الجيزة، ومصر مشحونة بأخلاط العسكر وأجناسهم المختلفة داخل المدينة وخارجها، والدلاتية جهة مصر القديمة وقصر العيني والآثار ودير الطين يأكلون الزروعات، ويخطفون ما يجدونه مع الفلاحين والمارين، ويأخذون ما معهم ويخطفون النسا والأولاد، بل ويلوطون في الرجال الاختيارية.

وفي أوله حضر سكان مصر القديمة نسا ورجالًا إلى جهة الجامع الأزهر يشكون ويستغيثون من أفعال الدلاتية، ويخبرون أن الدلاتية قد أخرجوهم من مساكنهم وأوطانهم قهرًا عنهم، ولم يتركوهم يأخذون ثيابهم ومتاعهم، بل ومنعوا النسا أيضًا عندهم، وما خلص منهم إلا من تسلق ونط من الحيطان، وحضروا على هذه الصورة، فركب المشايخ إلى الباشا وخاطبوه في أمرهم؛ فكتب فرمانًا خطابًا للدلاتية بالخروج من الدور وتركها إلى أصحابها، فلم يمتثلوا ولم يسمعوا ذلك.

وخوطب الباشا تانيًا وأخبروه بعصيانهم فقال: إنهم مقيمون ثلاثة أيام ثم يسافرون، وزاد الضجيج والجمع، فاجتمع المشايخ في صبحها يوم الخميس بالأزهر، وتركوا قراة الدروس وخرجت سرية من الأولاد الصغار يصرخون بالأسواق، ويأمرون الناس بغلق الحوانيت، وحصل بالبلدة ضجة ووصل الخبر إلى الباشا بذلك، فأرسل كتخداه إلى الأزهر فلم يجد به أحدًا.

وكان المشايخ انتقلوا بعد الظهر إلى بيوتهم لأغراض نفسانية وفشل مستمر فيهم، فلما لم يرَ أحدًا ذهب إلى بيت الشيخ الشرقاوي.

وحضر هناك السيد عمر أفندي وخلافه فكلموه وأوهموه، ثم قام وانصرف، وفي حال خروجه رجمه الأولاد بالحجارة وسبوه وشتموه.

وبقي الأمر على السكوت إلى يوم الجمعة عاشره، والمشايخ تاركون الحضور إلى الأزهر، وغالب الأسواق والدكاكين مغلوقة، واللغط والوسوسة دايران، وبطل طلوع المشايخ والوجاقلية ومبيتهم بالقلعة.

وفي ذلك اليوم نزل أحمد باشا من القلعة ودخل بيت سعيد أغا؛ وذلك أنه ورد قاصد من إسلامبول وعلى يده تقليد لمحمد علي بولاية جدة، فامتنع من طلوع القلعة، فوقع الاتفاق على أن الباشا ينزل إلى بيت سعيد أغا ويخلع محمد علي هناك.

فلما حضر الباشا هناك، وحضر محمد علي وحسن باشا وأخوه عابدي بك، وتقلد محمد علي باشا ولاية جدة ولبس فروة وقاووقًا وخرج يريد الركوب، ثارت عليه العسكر وطلبوا منه العلوفة، فقال لهم: ها هو الباشا عندكم، وركب هو وذهب إلى داره بالأزبكية، وصار يفرق وينثر الذهب بطول الطريق.

ثم إن العسكر ساروا إلى أحمد باشا ومنعوه من الركوب، فلم يزل إلى بعد الغروب، فلاطفهم حسن باشا ووعدهم، ثم ذهب مع حسن باشا إلى داره، وأُشيع في المدينة حبسه، وفرح الناس وباتوا مسرورين، فلما طلع النهار يوم السبت تبيَّن أنه طلع ثانيًا إلى القلعة في آخر الليل، وطلع صحبته عابدي بك فاغتمَّ الناس ثانيًا.

وفي ذلك اليوم طلب الباشا من ابن المحروقي وجرجس الجوهري ألفي كيس، وأُشيع أنه عازم على عمل فردة على أهل البلد، وطلب أجرة الأملاك بموجب قوايم الفرنساوية.

وفيه ركب الدلاة وذهبوا إلى قليوب، ودخلوها واستولوا عليها وعلى دورها، وربطوا خيولهم على أجرانها وطلبوا من أهلها النفقات والكلف، وعملوا على الدور دراهم يطلبونها منهم في كل يوم، وقرروا على دار شيخ البلد الشواربي كل يوم ماية قرش، وحبسوا حريمهم عن الخروج، وكان الشواربي بمصر فوصل إليه الخبر بذلك، واستمروا على ذلك حتى أخذوا النسا والبنات والأولاد، وصاروا يبيعونهم فيما بينهم.

وبعد أيام أرسل إليهم محمد علي وقرر لهم الكلف على البلاد فصاروا يقبضونها، ومن عصى عليهم ضربوه ونهبوه، وأرسلوا إلى بلدة يقال لها أبو الغيط، فامتنعت عليهم وخرج أهلها ودفنوا متاعهم بالجزيرة المقابلة للقرية، فركبوا عليهم وحاربوهم؛ فقُتل من الفلاحين زيادة عن ماية شخص، ودلَّهم بعض الناس من الفلاحين على خباياهم بالجزيرة، فذهبوا إليها واستخرجوها وكانت أشيا كثيرة، والأمر لله وحده لا شريك له، والمشايخ تاركون الحضور إلى الأزهر، وغالب الأسواق والدكاكين مغلوقة.

وبطل طلوع المشايخ والوجاقلية ومبيتهم بالقلعة، فحضر الأغا إلى نواحي الأزهر ونادى بالأمان وفتح الدكاكين في العصر، فقال الناس: وأي شي حصل من الأمان وهو يريد سلب الفقرا ويأخذ أجر مساكنهم ويعمل عليهم غرامات؟ وباتوا في هَرْج ومَرْج.

فلما أصبح يوم الأحد تاني عشره ركب المشايخ إلى بيت القاضي، واجتمع به الكثير من المتعممين والعامة والأطفال حتى امتلا الحوش والمقعد بالناس، وصرخوا بقولهم: شَرْعُ الله بيننا وبين هذا الباشا الظالم، ومِن الأولاد مَن يقول: يا لطيف، ومنهم من يقول: يا رب يا متجلي أهلك العثملي، ومنهم من يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل وغير ذلك، وطلبوا من القاضي أن يرسل بإحضار المتكلمين في الدولة لمجلس الشرع، فأرسل إلى سعيد أغا الوكيل، وبشير أغا الذي حضر قبل تاريخه، وعثمان أغاقبي كتخدا، والدفتردار والشمعدانجي، فحضر الجميع واتفقوا على كتابة عرضحال بالمطلوبات ففعلوا ذلك، وذكروا فيه تعدي طوايف العسكر والإيذا منهم للناس، وإخراجهم من مساكنهم، والمظالم والفرد وقبض مال الميري المعجل، وحق طرق المباشرين ومصادرة الناس بالدعاوى الكاذبة وغير ذلك، وأخذوه ووعدوه برد الجواب في تاني يوم.

وفي تلك الليلة أرسل مراسلة إلى القاضي يرفق فيها الجواب ويظهر الامتثال، ويطلب حضوره إليه من الغد مع العلما ليعمل معهم مشورة، فلما وصلته التذكرة حضر بها إلى السيد عمر أفندي، واستشاروا في الذهاب ثم اتفقوا على عدم التوجه إليه، وغلب على ظنهم أنها منه خديعة وفي عزمه شي آخر؛ لأنه حضر بعد ذلك مَن أخبرهم أنه كان أعد أشخاصًا لاغتيالهم في الطريق، وينسب ذلك الفعل لأوباش العسكر إن لو عوتب بعد ذلك.

فلما أصبحوا يوم الاتنين (٢٠ صفر) اجتمعوا ببيت القاضي، وكذلك اجتمع الكثير من العامة فمنعوهم من الدخول إلى بيت القاضي، وقفلوا بابيه، وحضر إليهم أيضًا سعيد أغا والجماعة، وركب الجميع وذهبوا إلى محمد علي وقالوا له: إنا لا نريد هذا الباشا حاكمًا علينا، ولا بد من عزله من الولاية، فقال: ومَن تريدونه يكون واليًا؟ قالوا له: لا نرضى إلا بك وتكون واليًا علينا بشروطنا لما نتوسمه فيك من العدالة والخير، فامتنع أولًا ثم رضي وأحضروا له كركًا وعليه قفطان.

وقام إليه السيد عمر والشيخ الشرقاوي فألبساه له، وذلك وقت العصر، ونادوا بذلك في تلك الليلة في المدينة.

وأرسلوا إلى أحمد باشا الخبر بذلك، فقال: إني مُوَلًّى من طرف السلطان؛ فلا أُعزل بأمر الفلاحين، ولا أنزل من القلعة إلا بأمر من السلطنة.

وأصبح الناس وتجمعوا أيضًا، فركب المشايخ ومعهم الجم الغفير من العامة، وبأيديهم الأسلحة والعِصِيُّ وذهبوا إلى بركة الأزبكية حتى ملوها، وأرسل الباشا إلى مصر العتيقة فحمل جمالًا من البقسماط والذخيرة والجبخانة، وأخذ غلالًا من عرصة الرملية، وطلع عمر بك الأرنؤدي الساكن ببولاق عند الباشا بالقلعة.

ثم إن محمد علي باشا والمشايخ كتبوا مراسلة إلى عمر بك وصالح أغا قوش المعضدين لأحمد باشا المخلوع يذكرون لهما ما اجتمع عليه رأي الجمهور من عزل الباشا، ولا ينبغي مخالفتهم وعنادهم؛ لما يترتب على ذلك من الفساد العظيم وخراب الإقليم، فأرسلا يقولان في الجواب: أرونا سندًا شرعيًّا في ذلك، فاجتمع المشايخ في يوم الخميس سادس عشره ببيت القاضي، ونظموا سؤالًا وكتب عليه المفتون وأرسلوه إليهم، فلم يتعقلوا ذلك واستمروا على خلافهم وعنادهم، ونزل كثير من أتباع الباشا بثيابهم إلى المدينة، وانحل عنه طايفة الينكجرية، ولم يبقَ معه إلا طوايف الأرنؤد المغرضون لصالح أغا قوش وعمر أغا.

وفي هذه الأيام حضر محمد بك الألفي ومن معه من أُمراه وعربانه وانتشروا جهة الجيزة، واستقر الألفي بالمنصورية قرب الأهرام، وانتشرت أتباعه إلى الجسر الأسود، وأرسل مكاتبة إلى السيد عمر أفندي والشيخ الشرقاوي ومحمد علي باشا يطلب له جهة يستقر فيها هو وأتباعه، فكتبوا له بأن يختار له جهة يرتاح فيها، ويتأنى حتى تسكن الفتنة القايمة بمصر، واستمر أحمد باشا المخلوع ومن معه على الخلاف والعناد وعدم النزول من القلعة، ويقول: لا أنزل حتى يأتيني أمر من السلطان الذي ولَّاني.

وأرسل تذكرة إلى القاضي يذكر فيها أن العسكر الذين عنده بالقلعة لهم جامكية منكسرة في المدة الماضية، وأنهم كانوا محولين على مال الجهات ورفع المظالم سنة تاريخه معجلًا، فتقبضونها وترسلونها وتعينوا لنا ولهم خرجًا ومصاريف إلى حين حضور جواب من الدولة، وليس في إقامتنا بالقلعة ضرر أو خراب على الرعية فإننا لا نريد ضرارهم، فأجابه القاضي بقوله: أما ما كان من الجامكية المحولة، فإنها لازمة عليكم من إيراد المدة التي قبضتموها في المدة السابقة، ومن قبيل ما ذكرتموه من عدم ضرر الرعية، فإن إقامتكم بالقلعة هو عين الضرر؛ فإنه حضر يوم تاريخه نحو الأربعين ألف نفس بالمحكمة وطالبون نزولكم أو محاربتكم، فلا يمكننا دفع قيام هذا الجمهور، وهذا آخر المراسلات بيننا وبينكم والسلام، فأجابوه بمعنى الجواب الأول.

واجتهد السيد عمر أفندي النقيب وحرض الناس على الاجتماع والاستعداد، وركب هو والمشايخ إلى بيت محمد علي باشا ومعهم الكثير من المشايخ والعامة والوجاقلية، والكل بالأسلحة والعِصِيِّ والنبابيت، ولازموا السهر بالليل في الشوارع والحارات ويسرحون أحزابًا وطوايف ومعهم المشاعل، ويطوفون بالجهات والنواحي وجهات السور.

ثم اتفقوا على محاصرة القلعة، فأرسل محمد علي باشا عساكره في جهات الرملية والحطابة والطرق النافذة مثل: باب القرافة والحصرية وطريق الصلبية وناحية بيت آقبردى، وجلسوا بالمحمودية والسلطان حسن، وعملوا متاريس في تلك الجهات، وذلك في تاسع عشره، ومنعوا من يطلع ومن ينزل من القلعة، وأغلق أهل القلعة الأبواب ووقفوا على الأسوار يبكت بعضهم بعضًا بالكلام ويترامون بالبنادق، وصعدوا على منارة السلطان حسن يرمون منها إلى القلعة.

وفي يوم الأربع تاني عشرينه ركب السيد عمر أفندي والمشايخ، ومعهم جمع كثير من الناس إلى الأزبكية، وبعد ركوبهم حضر الجمع الكثير من العامة والعصب والقرافة والرملية والحطابة والصليبة وجميع الجهات، ومعهم الطبول والبيارق حتى غصت بهم الأزقة، فحضروا إلى جهات الجامع الأزهر، ثم رجعوا إلى الأزبكية ولحقوا بالمشايخ، وخرج المشايخ من عند محمد علي باشا وذهبوا إلى حسن بك أخي طاهر باشا.

ثم رجعوا واستمر الحال على ذلك إلى ليلة الجمعة، فنزل بين المغرب والعشا عدة من العسكر كبيرة وفتحوا باب القلعة بالرملية، وأرادوا الهجوم على المتاريس فتتابعوا عليهم بالرمي، فلم يزالوا يترامون إلى بعد العشا الأخيرة ثم رجعوا، وعندما سمع الناس صوت الرمي ذهبوا أرسالًا إلى جهات المتاريس، ثم عادوا بعد رجوع المذكورين إلى القلعة.

كل ذلك وحسن باشا طاهر ومن معه من الأرنؤد يراعون من بالقلعة من أجناسهم؛ لأن غالبهم منهم.

فلما كان يوم الجمعة رابع عشرينه طلع عابدي بك أخو حسن باشا إلى القلعة، ونزل عمر بك وأمروا برفع المتاريس وتفرق من بها وأُشيع نزول الباشا من الغد، وبات الناس على ذلك ليلة السبت وهم على ما هم عليه من التجمع والسروح والحيرة.

وفي صبح يوم السبت (٢٥ صفر) مر ثلاثة من العسكر السجمان بناحية مرجوش، فصادفوا غلامًا حماميًّا من اللاونجية خرج ليشتري قهوة، فأرادوا أخذه ففر منهم فضربوه برصاصة وقتلوه، وذلك في مصلاة الحنفي، فتبعهم الناس فوصلوا إلى النحاسين وعطفوا على خان الخليلي، وأرادوا الخلوص إلى جهة المشهد الحسيني، فأغلقوا في وجوههم البوابة فضربوا على المتبعين لهم فقتلوا شخصًا وجرحوا آخر، وخرجوا من القبو إلى ناحية الصنادقية، وفرغ ما معهم من البارود فطلعوا إلى ربع وكالة الشبراوي، فاجتمع الناس وكسروا باب الربع، فنزلوا يريدون الهروب فقتلهم الناس وذهبت أرواحهم إلى النار.

وفي ذلك اليوم ركب السيد عمر أفندي في قلة من الناس، وذهب إلى بيت حسن بك أخي طاهر باشا، وكان هناك عمر بك الذي نزل من القلعة، فوقع بينه وبين السيد عمر مناقشة في الكلام طويلة، ومن جملة ما قال: كيف تعزلون من ولَّاه السلطان عليكم؟ وقد قال الله تعالى: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ، فقال له: أولو الأمر العلما وحملة الشريعة والسلطان العادل، وهذا رجل ظالم، وجرت العادة من قديم الزمان أن أهل البلد يعزلون الولاة، وهذا شي من زمان، حتى الخليفة والسلطان إذا سار فيهم بالجور فإنهم يعزلونه ويخلعونه، ثم قال: وكيف تحصروننا وتمنعون عنا الماء والأكل وتقاتلوننا، نحن كفرة حتى تفعلوا معنا ذلك؟ قال: نعم، قد أفتى العُلما والقاضي بجواز قتالكم ومحاربتكم؛ لأنكم عصاة، فقال: إن القاضي هذا كافر، فقال: إذا كان قاضيكم كافرًا، فكيف بكم؟! وحاشاه الله من ذلك، إنه رجل شرعي لا يميل عن الحق.

وانفصل المجلس على ذلك وخاطبه الشيخ السادات في مثل ذلك، فلم يتحوَّل عن الخلاف والعناد، هذا والأمر مستمر من اجتماع الناس وسهرهم وطوافهم بالليل، واتخاذهم الأسلحة والنبابيت، حتى أن الفقير من العامة كان يبيع ملبوسه أو يستدين ويشتري به سلاحًا، وحضرت عربان كثيرة من نواحي الشرق وغيره.

وفي يوم الاتنين ركب السيد عمر وصحبته الوجاقلية، وأمامه الناس بالأسلحة والعدد والأجناد، وأهل خان الخليلي والمغاربة شي كثير جدًّا، ومعهم بيارق ولهم جلبة وازدحام؛ بحيث كان أولهم بالموسكي وآخرهم جهة الأزهر، وانفصل الأمر على رجوع عمر بك إلى القلعة ونزول عابدي بعد أن قضوا أشغالهم، وعبوا ذخيرتهم واحتياجهم من الماء والزاد والغنم ليلًا ونهارًا في مدة الثلاثة أيام المذكورة، وقد كانوا أشرفوا على طلب الأمان، وتبيَّن أنهم إنما فعلوا ذلك من باب المكر والخديعة.

واتفق الحال على إعادة المحاصرة، وصعد المغرضون إلى القلعة، ونزل أشخاص من المغرضين لأهل البلد إليهم، ورجع السيد عمر إلى منزله وأخذ في أسباب الإحاطة بالقلعة كالأول، وذلك بعد العشا ليلة التلات ووقع الاهتمام في صبحها بذلك، وجمعوا الفعلة والعربجية وشرعوا في طلوع طايفة من العسكر والعرب وغيرهم إلى الجبل، وأصعدوا مدافع ورتبوا عدة جِمال لنقل الاحتياجات والخبز وروايا الماء تطلع وتنزل في كل يوم مرتين، وطلع إليهم الكثير من باعة الخبز والكعك والقهاوي وغير ذلك.

شهر ربيع الأول استهل بيوم الخميس (سنة ١٢٢٠)

والأمر على ذلك مستمر من تجمع الناس وسهرهم بالليل في ساير الأخطاط، وفي ليلة التلات سادسه تحرك العسكر وطلبوا العلوفة من محمد علي، فقال لهم: ليس لكم عندي علوفة حتى ينزل أحمد باشا من القلعة ونحاسبه، وتأخذوا علايفكم منه، فلم يمتثلوا وتركوا المتاريس التي حوالي القلعة فتفرقوا وذهبوا، فذهب جماعة من الرعية وتترسوا في مواضعهم.

وفي ليلة الخميس تامنه حضرت طايفة من العسكر الساكنين بناحية المظفر وقت الغروب، وضربوا على من بالمتاريس من الأجناد والرعية على حين غفلة، وخطفوا عمايم وأسلحة وأجلوهم عن المتراس، وجلسوا به فتسامع أهل الرملية فاجتمعوا وحضروا إليهم وكبيرهم حجاج الخضري وإسماعيل جودة، وهجموا عليهم وقتلوا منهم أنفارًا، وانحاز باقيهم إلى الوكالة فأغلقوها عليهم، فحضر ذو الفقار كتخدا ودافع عنهم وأخرجهم، ثم أرسل إلى محمد علي وأمرهم بالهروب من تلك الجهة.

وفي يوم الجمعة قتل العسكر شخصًا بناحية المظفر، وآخر بناحية قنطرة الأمير حسين.

وفي يوم السبت عاشره حصل من بعض أفراد العسكر قبايح، وقتلوا بعض أنفار وحِمَارين وبغلين، وقبض العامة أيضًا على أشخاص منهم وقتلوا منهم أيضًا.

وحضر طايفة من الأرنؤد وملكوا سبيل إسكندر بباب الخرق وحضر أيضًا طايفة ببيت السيد عمر أفندي النقيب، فقام فيهم الحرس الواقفون عند باب البيت فهرب منهم طايفة خيالة، ودخل منهم البعض فحجزوهم ووقع في الناس هوزعات وكرشات، ثم أحضر حسن أغا نجاتي المحتسب وأمر الأفندي بالمناداة، فمر وأمامه المنادي يقول: حسبما رسم السيد عمر الأفندي والعُلما لجميع الرعايا بأن يأخذوا حذرهم وأسلحتهم، ويحترسوا في أماكنهم وأخطاطهم وإذا تعرض لهم عسكري بأذية قابلوه بمثلها، وإلا فلا يتعرضوا له، وأخذ الناس يعملون متاريس في روس الأخطاط ثم تركوا ذلك.

وحضر أيضًا شخص من طرف محمد علي ونادى بمثل ذلك، ومعه أيضًا شخص ينادي بالتركي بمعنى ذلك.

وفي الليلة الماضية حضر كتخدا محمد علي ليلًا ومعه فرمان أرسله أحمد باشا المخلوع إلى الدلاة يطلبهم للحضور، ويذكر لهم أنه يجب عليهم معاونته صيانة لعرض السلطنة، وإقامة لناموسها وناموس الدين، وأن الفلاحين محاصرونه ومانعون عنه الأكل والشرب.

فلما وصل ذلك الفرمان إليهم بقليوب أرسلوه إلى محمد علي، وأرسله محمد علي إلى السيد عمر مكرم أفندي النقيب.

وفي الأحد حادي عشره وقعت أيضًا مناوشات، وتعدى بعض العسكر ودخلوا باب زويلة ووصلوا إلى العقادين، فخرجت عليهم طايفة المغاربة وغيرهم فتترس منهم جماعة بجامع الفكهاني، فحصروهم به وقبضوا على نحو العشرة أنفار، فأخذهم السيد المحروقي، ودافع عنهم العامة وقُتل من الفريقين بعض أنفار، وحضر عابدي بك وطلبهم فسلموهم إليه ورجع.

وفي تلك الليلة أيضًا ذهب جماعة من العسكر إلى جهة الرملية يطلبون أنفارًا منهم ساكنين بتلك الناحية، فأخذ أهل الرملية سلاحهم وحبسوهم عندهم، فذهبت امرأة من المتزوجات بهم فأخبرتهم، فحضر منهم طايفة أواخر النهار وطلبوهم فلم يسلموا فيهم وحاربوهم وهزموهم إلى جهة الصليبة، وقُتل بينهم أنفار ورجع العسكر.

واختلطت القضية واشتبه أمرها على أهل البلد، فلا يعرف كلا الفريقين الصاحب من العدو، فتارة يتشابك العسكر مع أهل البلد، وكذلك أهل البلد معهم، وتارة يتشابك فرقة منهم مع الكاينين بالقلعة، وتارة الفريقان يساعد بعضهم بعضًا، وإذا وقع بين الكاينين بنواحي الرميلة مع العسكر فرح من بالقلعة، وأغروا أولاد البلد بهم، ومنهم من يُغري العسكر على أولاد البلد، ويقولون لهم بلسانهم وبالعربي: اضربوا الفلاحين، ونحو ذلك، وبالجملة فهي قضية مشكلة بين أوباش مختلفة وطباع معوجة منحرفة.

ومضت ليالي المولد الشريف ولم يشعر بها أحد.

وفيه حضر كبار الدلاة فخلع عليهم محمد علي باشا خلعًا وكساوي، وسافروا ثم ارتحلوا من قليوب يريدون الذهاب إلى محاربة الألفي وأتباعه ومن معهم من العرب؛ فإنهم أفحشوا في نهب البلاد ونهب الأموال ما لم يُسمع بمثله ولم يتقدم نظيره، فساروا على البلاد والقرى يأخذون الكلف وينهبون ويقتلون ويفسقون في النسا والأولاد، ولم يذهبوا إلى ما وجهوا إليه.

وفي ليلة الأربع رابع عشره حضر كتخدا محمد علي وجرجس الجوهري إلى بيت السيد عمر، وحضر أيضًا الشيخ الشرقاوي والشيخ الأمير والقاضي، وتشاوروا على أمر ورأي رآه محمد علي باشا، وأما علي باشا السلحدار الذي جهة مصر القديمة، فإنه أخذ في استمالة العسكر وفتنتهم، وانضم إليه كثير منهم، ووعدهم بعلايفهم وصار يراسل إليه الخبز واللحم والسكر والذخيرة على الجِمال من باب صغير فتحوه من عرب اليسار من داخل.

وفي ليلة السبت (١٧ ربيع أول) أجمع رأي علي باشا السلحدار على مكيدة يصنعها، وهو أنه يركب فيمن معه ويهجم على المتاريس من جهة الصليبة، وأرسل إلى مخدومه يُعلمه بذلك وأنه إذا هجم من تلك الناحية يساعده هو من القلعة برمي المدافع والقنابر على البلد والمتاريس، فتنزعج الناس ويتم لهم ما مكروه، وكتب رجب أغا وسليمان أغا — وهما كبيرا عسكر علي باشا المذكور — تذكرة من عندهما خطابًا للسيد عمر أفندي النقيب وباقي المشايخ، مضمونها أنهما يريدان الحضور إلى جهة القلعة، ويسعيان في أمر يكون فيه الراحة للفريقين وتسكين الفتنة، ويلتمسان من المخاطبين أنهم يرسلون إلى من بالمتاريس من العامة بأن يخلوا لهما طريقًا ولا يتعرضون لهما.

فحضر إلى السيد عمر أفندي النقيب مَن أخبره بذلك الاتفاق بعد الفجر قبل حضور التذكرة، فأرسل إلى من بالنواحي والجهات وأيقظهم وحذرهم فاستعدوا، وانتظروا وراقبوا النواحي، فنظروا إلى ناحية القرافة فرأوا الجِمال التي تحمل الذخيرة الواصلة من علي باشا إلى القلعة، ومعها أنفار من الخدم والعسكر وعدتهم ستون جَملًا، فخرج عليهم حجاج الخضري ومن معه من أهالي الرميلة، فضربوهم وحاربوهم وأخذوا منهم تلك الجِمال وقتلوا شخصين من العسكر، وقبضوا على ثلاثة وحضروا بهم وبروس المقتولين إلى بيت السيد عمر، فأرسلهم إلى محمد علي باشا فأمر بقتل الآخرين.

فلما رأى من بالقلعة ذلك، فعندها رموا بالمدافع والقنابر على البلد، وبيت محمد علي وحسن باشا وجهة الأزهر، ولم يزالوا يراسلون الرمي من أول النهار إلى بعد الظهر، فلم ينزعج أهل البلد من ذلك لما ألفوه من أيام الفرنسيس وحروبهم السابقة، ثم رموا كذلك من العشا إلى سادس ساعة من الليل، فلم يُجِبْهم أحد ولم يرموا عليهم شيًّا من الجبل مع استعدادهم لذلك.

وأصبحوا يوم الأحد فراسلوا الرمي بطول النهار وكذلك ليلة الاتنين ويوم الاتنين.

وهذا وفي كل ليلة يطلع إلى الجبل أربعة عشر جَملًا تحمل قرب الماء، على كل بعير أربع قِرب، وستة أقفاص خبز على ثلاثة جمال، نقلتين في كل يوم، وأصعدوا جبخانة وجللًا وقنابر وضربوا عليهم في ذلك اليوم ضربًا قليلًا، واستمر ذلك ليلة التلات ويوم التلات، فأكثروا الرمي وسقطت قنابر وجلل في عدة أماكن مع الضرر القليل، وباتوا على ذلك ليلة الأربع ويومه وليلة الخميس ويومه إلى آخر النهار، وبطل الرمي تلك الليلة فقال الناس: إنهم تركوا ذلك احترامًا لليلة الجمعة.

وفي تلك الليلة حضر جماعة من أهل الأطارف ليلًا وحرقوا باب الجبل وأوقدوا فيه النار، فظن أهل الجبل أن أهل القلعة يريدون الخروج فضربوا عليهم مدافع، فتنبه من بالقلعة وأسرعوا إلى جهة باب الجبل، وضربوا الرصاص، فلما تحقق من بالجبل القضية رموا عليهم أيضًا، وتسامع الناس كثرة ضرب الرصاص فلم يعلموا الحقيقة، ورجع من أتى إلى الباب من غير طايل، فلما طلع النهار ظهر الأمر.

وفي اليوم التاني بعد الظهر تسلق جماعة من العسكر القلعاوية على سلالم صنعوها من حبال، ونزلوا إلى جهة المحجر لأخذ شي من الأكل والشرب، وهم نحو العشرين، فتنبه الناس لهم واجتمعوا بالخطة، وأخذوا ما أخذوه من أهل الدور من الخبز والدقيق وقِرب الماء، وصعدوا من حيث أتوا.

وأعادوا الرمي بالمدافع والقنابر من عصر يوم الجمعة وليلة السبت، واستمروا على ذلك، وسقط بسبب ذلك حيطان وبعضٌ من أبنية الدور، وخرج كثير من الناس وبعدوا عن جهات الضرب — وخصوصًا جهة الأزهر — وذهبوا إلى ناحية الحسينية والأطارف، وخرجت النسا هاربات إلى تلك النواحي وبولاق، وانزعجوا من أوطانهم.

وفي يوم الأحد أرسل كتخدا محمد علي باشا إلى السيد عمر، وأشار عليه بإرسال العتالين والشيالين إلى ناحية قلعة الفرنساوية التي بقنطرة الليمون لرفع المدفع الكبير الذي هناك، وأرسلوا أشخاصًا من الإنكليز يتقيدون بذلك، فجمعوا الرجال والأبقار وذهبوا إلى هناك وأحضروه وأخرجوه من باب البرقية، يريدون وضعه عند باب الوزير حيث مجرى السيل؛ ليرموا به على برج القلعة، واستمروا في جره يومين.

وفي ذلك اليوم نزل أيضًا ستة أشخاص يريدون أخذ الماء من صهريج جهة الحطابة، فضرب عليهم مَن هناك مِن المتترسين فهربوا وطلعوا من حيث نزلوا.

وفي ليلة التلات نصبوا المدفع المذكور وضربوا به، وضربوا أيضًا من أعلى الجبل، ومَن بالقلعة يضربون على البلد يواصلون الضرب بالمدافع والقنابر والبنبات الكبار والآلات المحرقة، واستمروا على ذلك إلى ليلة الجمعة الأخرى فسكن الرمي تلك الليلة، وأصيب كثير من الدور والحيطان والأبنية، وأصابت أشخاصًا قتلتهم، ووزن بعض البنبات فبلغ وزنها بما فيها قنطارين.

شهر ربيع الثاني (سنة ١٢٢٠)

استهل بيوم الجمعة (أول يوليو ١٨٠٥)، فيه وردت أخبار من ثغر إسكندرية بورود قابجي، وهو صالح أغا الذي كان سابقًا بمصر ببيت رضوان كتخدا إبراهيم بك، وعلى يده جوابات بالراحة، فحصلت ضجة في الناس، وفرحوا ورمحوا بطول ذلك اليوم، وعملوا شنكًا تلك الليلة التي هي ليلة السبت، ورموا سواريخ في ساير النواحي، وضربوا بنادق وقرابين بالأزبكية وخارج باب الفتوح وباب النصر، والمدافع التي على أبراج الأبواب.

ولما سمع من بالقلعة ومن بمصر القديمة ظنوا أن العساكر الذين في قلوبهم مرض تحاربوا مع أهل البلد، فرموا من القلعة بالمدافع والبنب، وحضر علي باشا ومن معه من جهة مصر القديمة، ونزل من القلعة طايفة من العسكر جهة عرب اليسار وتترسوا هناك، فاجتمع عليهم حجاج وأهل الرملية ومن معهم من عسكر محمد علي، وتحاربوا مع المتترسين والواصلين وضربوا من القلعة على محاربيهم وعلى أهل البلد، وكذلك من بالجبل ومن بالذنجرية يضربون على القلعة المدافع والسواريخ.

ونزل أيضًا طايفة وهجموا على الذنجرية، وأرادوا سد فوهة المدفع الكبير فضربوا عليهم وقُتل كبيرهم ومعه آخر، وأخذوا سلاحهما وروسهما وأحضروهما إلى السيد عمر، وحصل بالبلدة تلك الليلة من ضرب النار من كل ناحية ما هو عجيب من المستغربات، واختلط الشنك بالحرب وصار الضرب من الجبل على القلعة بالبنب والمدافع والسواريخ، وكذلك من القلعة على البلد وعلى الذنجرية ومنها على القلعة والمحاربين مع بعضهم البعض والشنك من كل جهة، واجتماع الناس والعامة بالأخطاط والنواحي، وضربوا طبولًا ومزامير ونقرزانات وكانت ليلة من الغرايب، وأصبحوا على الحال الذي هم عليه من الرمي بالمدافع والبنب.

وفي يوم الأحد سافرت أنفار من الوجاقلية وغيرهم لملاقاة صالح أغا، وصحبتهم طايفة من العسكر أرسلها محمد علي باشا في مركب لخفارته، وقد كانوا اتفقوا على سفر بعض المتعممين ثم بطل ذلك، وأرسل السيد عمر أفندي باشجاويش والسيد عثمان البكري وسلحدار محمد علي والخواجه عمر المطيلي وبكباش وأحمد أودة باشا.

وفي ليلة التلات أُشيع وصول القابجي إلى بولاق ليلًا، فخرج كثير من العامة لملاقاته أفواجًا، واصطفُّوا في الأسواق للفرجة عليه، واستمروا على ذلك الرج بطول النهار ولم يصل أحد، ثم تبيَّن عدم وصوله وأنه وصل إلى ثغر رشيد، وفي ذلك اليوم وقت الشروق حصلت زلزلة عظيمة، وارتجَّت الأرض نحو أربع درجات.

وفي يوم الأربع سافر جماعة من المتعممين، وهم: السيد محمد الدواخلي، وابن الشيخ الأمير، والشيخ بدوي الهيثمي، وابن الشيخ العروسي، واستمر الحال على ذلك اليوم ويوم الخميس والجمعة، ولم يبطل رمي المدافع والبنب ليلًا ونهارًا في غالب الأوقات ما عدا ليلة الجمعة ويومها إلى العصر.

وفي ليلة الاتنين وصل الخبر بوصول القابجي إلى قليوب، وأنه طلع إلى بر فوَّة وسار من هناك، وحضر في ذلك اليوم المشايخ الذين كانوا ذهبوا لملاقاته، فلما أشيع ذلك اجتمع الناس وطوايف العامة وخرجوا من آخر الليل وهم بالأسلحة والعدد والطبول إلى خارج باب النصر، ووقفوا بالشوارع والسقايف للفرجة، وكذلك النسا والصبيان وازدحموا ازدحامًا زايدًا، ووصل الأغا المذكور وصحبته سلحدار الوزير إلى زاوية دمرداش ونزلا هناك، وعمل لهما إسماعيل الطبجي الفطور فأكلاه وشربا القهوة وركبا.

وانجرت الطوايف والغوغاء من العامة وهم يضربون بالبنادق والقرابين والمدافع من أعلى سور باب النصر والفتوح، واستمر مرورهم نحو ثلاث ساعات.

وخرج كتخدا محمد علي وأكابر الأرنؤد وطايفة من العسكر كبيرة والوجاقلية، وكثير من الفُقها العاملين ريسا العصب وأهالي بولاق ومصر القديمة والنواحي والجهات، مثل: أهل باب الشعرية والحسينية والعطوف وخط الخليفة والقرافتين والرميلة والحطابة والحبالة، وكبيرهم حجاج الخضري وبيده سيف مسلول، وكذلك ابن شمعة شيخ الجزارين وخلافه، ومعهم طبول وزمور والمدافع والقنابر والبنبات نازلة من القلعة، فلم يزالوا سايرين إلى أن وصلوا إلى الأزبكية، فنزلوا ببيت محمد علي باشا وحضر المشايخ والأعيان وقروا المرسوم الذي معه، ومضمونه الخطاب لمحمد علي باشا والي جدة سابقًا ووالي مصر حالًا من ابتدا عشرين ربيع أول، حيث رضي بذلك العُلما والرعية وأن أحمد باشا معزول عن مصر، وأن يتوجه إلى إسكندرية بالإعزاز والإكرام حتى يأتيه الأمر بالتوجه إلى بعض الولايات.

وسكن صالح أغا القابجي المذكور ببيت الخواجا محمود حسن بالأزبكية، وسكن السلحدار عند السيد محمد بن المحروقي.

وفي يوم التلات ركب السيد عمر في جمع كثير من العسكر من أولاد البلد والمغاربة والصعايدة والأتراك، والكل بالأسلحة، وذهب إلى عند محمد علي باشا وجلس عنده حصة، وذهب إلى القابجي وسلم عليه، وذهب إلى السلحدار أيضًا وسلم عليه ورجع.

وفيه بطل الرمي من القلعة وكذلك أبطلوا الرمي عليها من الجبل والذنجرية، مع بقا المحاصرة والمتاريس حول القلعة من الجهات، ومنع الواصل إليهم واستمرار مَن بالجبل، ويطلع إليهم في كل يوم الجِمال الحاملة للخبز، وقِرب الماء واللوازم. وأما الدلاة فاستقروا بمحلة أبي علي وطلبوا الفِرد والكلف من البلاد، ووصل محمد بك الألفي إلى دمنهور البحيرة فتمنعوا عليه، فحاصر البلد وضرب عليها وضربوا عليه أيامًا كثيرة.

وفيه وقع بباب الشعرية مناوشة بين العسكر وأولاد البلد بسبب سكن البيوت، وكذلك جهة باب اللوق وبولاق ومصر القديمة، وقُتل بينهم أنفار وقُتل أيضًا المتكلم بمصر القديمة وحصلت زعجات في الناس.

وفي يوم الأربع مر بعض أولاد البلد بجهة الخرنفش، فضربه بعض عسكر حجو أغا الساكن ببيت شاهين كاشف فقتله، فثارت أهل الناحية وتضاربوا بالرصاص، واجتمع العسكر بتلك الناحية ودخلوا من حارة النصارى النافذة من بين السورين، وصعدوا إلى البيوت ونقبوا نقوبًا وصاروا يضربون على الناس من الطيقان، واجتمع الناس وانزعجوا وبنوا متاريس عند راس الخرنفش ومرجوش وناحية الباطنية برأس الدرب، وتحاربوا وقُتل بينهم أشخاص من الفريقين، ونهب العسكر عدة دور، وتسلقوا على بيت حسن بك مملوك عثمان الحمامي الحكيم وذبحوه ونهبوا بيته برأس الخرنفش، وكذلك رجل زيات وعبد صالح أغا الجلفي وحسن ابن كاتب الخردة، وكانت واقعة شنيعة استمرت إلى العصر وحضر الأغا وكتخدا محمد علي فلم تسكن الفتنة، وحضر أيضًا إسماعيل الطبجي ثم سكن الحال بعد اضطراب شديد، وبات الناس على ذلك.

وسبب هذه الحادثة أن رجلًا عسكريًّا اشترى من رجل خردجي ملاعق ثم ردها من الغد فلم يرضَ، وتسابَّا فضربه العسكري فصاح الخردجي وقال: ما يحل من الله يضرب النصراني الشريف، فاجتمع عليه الناس وقبضوا عليه وسحبوه إلى بيت النقيب فلما قربوا من البيت ضربوه وقتلوه وأخرجوه إلى تل البرقية ورموه هناك فحصل بسبب ذلك ما ذكر.

وفيه أرسلوا صورة المكاتبة الواردة مع صالح أغا إلى الباشا، فلم يمتثل وامتنع من النزول وقال: أنا متولٍّ بخطوط شريفة وأوامر منيفة ولا أنعزل بورقة مثل هذه، وطلب الاجتماع بصالح أغا والسلحدار، ويخاطبهم مشافهة وينظر في كلامهم وكيفية مجيهم، فلم يرضوا بطلوع المذكورين إليه.

وفي يوم الخميس وقع بين حجاج الخضري والعسكر مقاتلة جهة طيلون، وقُتل بينهم أشخاص.

وفيه تواترت الأخبار بقدوم الأُمرا المصريين القبليين إلى جهة مصر.

وفيه اجتمع الشيخ الشرقاوي والشيخ الأمير وغالب المتعممين وقالوا: إيش هذا الحال وما تداخلنا في هذا الأمر والفتن؟ واتفقوا أنهم يتباعدون عن الفتنة وينادون بالأمان وأن الناس يفتحون حوانيتهم ويجلسون بها، وكذلك يفتحون أبواب الجامع الأزهر ويتقيدون بقراية الدروس وحضور الطلبة.

وركبوا إلى محمد علي وقالوا له: أنت صرت حاكم البلدة، والرعية ليس لهم مقارشة في عزل الباشا ونزوله من القلعة، وقد أتاك الأمر فنفذه كيف شئت، وأخبروه برأيهم فأجابهم إلى ذلك وركب الأغا وصحبته بعض المتعممين، ونادوا في المدينة بالأمن والأمان والبيع والشرا، وأن الناس يتركون حمل الأسلحة بالنهار، وإذا وقع من بعض العسكر قباحة رفعوا أمره إلى محمد علي، وإن كان من الرعية رفعوه إلى بيت السيد عمر النقيب، وإذا دخل الليل حملوا الأسلحة وسهروا في أخطاطهم على العادة وتحفظوا على أماكنهم.

فلما سمع الناس ذلك أنكروه وقالوا: إيش هذا الكلام؟ حينئذٍ نصير طعمة للعسكر بالنهار وغفرًا بالليل، والله لا نترك حمل أسلحتنا، ولا نمتثل لهذا الكلام ولا هذه المناداة.

ومر الأغا ببعض العامة المتسلحين فقبض عليهم وأخذ سلاحهم فازدادوا قهرًا وباتوا على ذلك، واجتمعوا عند السيد عمر النقيب وراجعوه في ذلك فاعتذر، وأخبر بأن هذا الأمر على خلاف مراده.

وفي ليلة الجمعة المذكورة حصل خسوف قمر كلي، وكان ابتداه من بعد العشا الأخيرة بنصف ساعة، وانجلى في سابع ساعة، وأصبح يوم الجمعة فحضر عند السيد عمر كتخدا بك وعابدي بك في جمع من العسكر، وجلسوا عنده ساعة وذكروا له أن في عصرها يرسلون إلى الباشا الكاين بالقلعة ويجتمعون عليه بالنزول، فإن أبى جدوا في قتاله ومحاربته، وذكروا أنه ممالي الأُمرا القبالي، وهو الذي أرسل بحضورهم وطمَّعهم في المملكة، فلزم الاجتهاد في إنزاله من القلعة، ثم يتفرغون لمحاربة القادمين ويخرجون إليهم بالعساكر.

ثم قاموا من عنده وذهبوا إلى بيت القاضي، وحضر حجو أغا الذي كان يحارب بالخرنفش، فرجع صحبته كتخدا بك عند السيد عمر ليأخذ بخاطره وصحبته طايفة من العسكر فوقفوا متفرقين، ودخل منهم طايفة إلى بيت الشيخ الشرقاوي وباقيهم بالشارع، وتجمع حولهم أهالي البلد بالأسلحة فاتفق بينهم انطلاق بندقية، إما خطأً أو قصدًا فهاجت الناس وماجت واجتمعوا من كل ناحية، وخرج جاويشية النقابة إلى نواحي الدايرة ينادون في الناس ويقولون: عليكم ببيت السيد عمر النقيب يا مسلمين أنجدوا إخوانكم، وحصلت من تلك البندقية التي انطلقت فزعة عظيمة وصاح السيد عمر على الناس من الشباك يأمرهم بالسكون والهجوع فلم يسمعوا له، ونزل إلى أسفل ووقف بباب داره يصيح بالناس فلا يزدادون إلا خباطًا، وأقبلوا طوايف من كل جهة فصار يأمرهم بالمرور والخروج إلى جهة باب البرقية، ولم يزالوا على ذلك إلى بعد صلاة الجمعة حتى سكن الحال.

وقام حجو أغا والكتخدا حتى تغذيا مع السيد عمر وركبا وذهبا، ونودي في عصر ذلك اليوم بالأمان وفتح الحوانيت والبيع والشرا ولا يرفعون معهم السلاح، بل يجعلونه معهم في حوانيتهم تحذرًا من غدر العسكر، وفتحوا أبواب الأزهر.

وفي يوم السبت فتح الناس بعض الحوانيت، ونزل المشايخ إلى الجامع الأزهر وقروا بعض الدروس؛ ففترت همم الناس ورموا الأسلحة، وأخذوا يسبون المشايخ ويشتمونهم لتخذيلهم إياهم، وشمخ عليهم العسكر وشرعوا في أذيتهم وتعرضوا لقتلهم وإضرارهم.

وفي يوم الأحد قتلوا أشخاصًا في جهات متفرقة وضج الناس، وأغلقوا الدكاكين وكثرت شكاويهم وأقلقوا السيد عمر النقيب، وهو يعتذر إليهم ويقول لهم: اذهبوا إلى الشيخ الشرقاوي والشيخ الأمير، فهما اللذان أمرا الناس برمي السلاح، فلما زادت الشكوى نادوا في الناس بالعود إلى حمل السلاح والتحذر.

وفيه وصل الأُمرا القبليون إلى قرب الجيزة، وعدى منهم طايفة إلى البر الشرقي جهة دير الطين والبساتين، وهم: عباس بك، ومحمد بك المنفوخ، ورشوان كاشف، وهدموا قلاع طرا وساووها بالأرض.

وفي يوم الاتنين ركب محمد علي وخرج إلى جهة مصر القديمة، وصحبته حسن باشا وأخوه عابدي بك فنزل بقصر بلفيه، وأقاموا إلى العصر وخرج كثير من العسكر إلى ناحية مصر القديمة، ثم ركب محمد علي وحسن باشا وأخوه إلى آخر النهار، وساقوا إلى جهة البساتين ومعهم العساكر أفواجًا، فلما قربوا من الأُمرا المصريين تقهقروا إلى خلف ورجعوا إلى جهة قبلي، وقيل: عدوا إلى بر الجيزة وانضم إليهم علي باشا الذي بالجيزة، واستمر محمد علي ومن معه بمصر القديمة وتراموا بالمدافع.

وفي يوم التلات حضر أيضًا جماعة من القبليين إلى الجيزة، وتراموا بالمدافع والبنب من البرين ذلك اليوم وليلة الأربع، وفيه عدى طايفة الدلاة الكاينين بالبر الغربي، وانضم إليهم المقيمون بجزيرة بدران وحضروا إلى بولاق، وهجموا على البيوت وأخرجوا سكانها قهرًا عنهم وأزعجوهم من أوطانهم، وسكنوها وربطوا خيولهم بخانات التجار ووكالة الزيت، فحضر الكثير من أهالي بولاق إلى بيت السيد عمر وتظلموا وتشكوا، فأرسل إلى كتخدا بك يمنعهم من ذلك فلم يمتنعوا، واستمروا على فعلهم وقبايحهم.

وفيه طلب محمد علي باشا دراهم سلفة من النصارى والتجار، وقرروا فردة على البلاد والبنادر وهي أول طلبة طلبها بعد رياسته.

وفيه أرسلوا بناين وخمسماية فاعل لبنا ما تهدم من حصون طرا.

وفي يوم الخميس حادي عشرينه وردت أخبار بوصول قبطان باشا إلى ثغر إسكندرية وأبي قير، وصحبته مراكب كثيرة لا يعلم المراسلون أخبار من بها، فاجتمع المشايخ واتفقوا على كتابة عرضحال يرسلونه مع بعض المتعممين، ثم اختلفت آراؤهم في ذلك، فلما كان يوم الاتنين ورد الخبر بورود سلحدار قبطان المذكور إلى شلقان فأعرضوا عن ذلك.

وفيه وقع بين طايفة من العسكر الكاينين ببولاق وأهل البلد مناوشة بسبب نقب البيوت، وقُتل بينهم أنفار واستظهر عليهم أهل بولاق.

وفي يوم التلات وصل السلحدار إلى بولاق، وركب من هناك إلى المكان الذي أعد له وصحبته مكاتبة إلى أحمد باشا المخلوع، ومضمونها الأمر بالنزول من القلعة ساعة وصول الجواب إليه من غير تأخير وحضوره إلى الإسكندرية، وجواب آخر إلى محمد علي بإبقايه في القايمقامية حيث ارتضاه الكافة والعُلما، والوصية بالسلوك والرفق بالرعية والكلام المحفوظ المعتاد الذي لا أصل له، وأن يقلد من قِبله باشا على عسكر يعين إرساله إلى البلاد الحجازية، ويشهل له جميع احتياجاته من الجبخانة وساير الاحتياجات واللوازم، فأرسلوا إلى أحمد باشا المخلوع بجوابه فقال: حتى يطلع إلى السلحدار الواصل ويخاطبني مشافهة.

وفي صبح يوم الأربع قبض المحافظون على خيَّال مُقبِل من جهة مصر القديمة يريد الطلوع إلى القلعة من آخر النهار، ووجدوا معه أوراقًا فأخذوه إلى محمد علي باشا، فوجدوا في ضمنها خطابًا إلى الباشا المخلوع من علي باشا وياسين بك الكاينين بالجيزة، مضمونها أنه في صبح يوم الجمعة نطلق من الجيزة سبعة سواريخ تكون إشارة بيننا وبينكم، فعندما ترونها تضربون بالمدافع والبنب على بيت محمد علي، ونحن نعدي إلى مصر القديمة ويصل البرديسي من خلف الجبل إلى جهة العادلية، ويأتي باقي المصريين من ناحية طرا ويقوم من بالبلدة على من فيها فيشغلون الجهات، ويتم المرام بذلك؛ فلما اطَّلع محمد علي على ذلك وكان القاضي حاضرًا عنده اشتد غيظه على ذلك الرجل، ووجده من الأكراد فاستجار بالقاضي فلم يُجرْه، وأمر به فأخذوه وقتلوه ورموه ببركة الأزبكية.

وفي يوم الخميس أحضروا سبعة روس وعلقوها على السبيل المواجهه لباب زويلة، ذكروا أنها من ناحية دمنهور، وعلى أحدها ورقة مكتوبة أنها رأس بك الألفي وأخرى سلحداره، وهي متغيرة جدًّا ومحشوة تبنًا ولا يظهر لها خلق، ولم يكن لذلك صحة.

وفيه أخبر الإخباريون بأن الألفي ارتحل من دمنهور ولم ينل منها غرضه، وأنه كبس على سليمان كاشف البواب ونهب ما معه، وقيل: إنه قُتل، وفي رواية: وقع إلى البحر وهرب باقي أتباعه إلى جهة المنوات في أسوأ حال، وأخذ منه شيًّا كثيرًا، وهو ما جمعه في العام الماضي عندما كان كاشفًا بمنوف، ومن ذلك أنه لما قتل موسى خالدًا أخذ منه مالًا كثيرًا، وذلك خلاف ما دل عليه من خباياه.

وفي تلك الليلة طلع السلحدار المذكور وصحبته صالح أغا الذي وصل قبله إلى القلعة، واجتمع بأحمد باشا المخلوع وتكلما معه، فقال: أنا لست بعاصٍ ولا مخالف للأوامر، وإنما لصالح أغا وعمر علايف نحو خمسماية كيس باقية، ولم يبقَ عندي شي سوى ما على جسدي من الثياب، وقد أخذ العسكر المحاربون موجوداتي جميعًا، فإذا طيبتم خواطرهما نزلت في الحال، فنزلا بذلك الجواب ثم ترددوا في الكلام والعقد والإبرام، ولم يحسن السكوت على شي.

وفيه وصل الأُمرا القبالي إلى حلوان، وعلي بك أيوب دخل إلى الجيزة صحبة من بها، وسليمان بك خارجها.

وفي يوم الجمعة عدى ياسين بك من الجيزة إلى متاريس الروضة ولم يكن بها سوى الطبجية، فطلعوا إليهم وقبضوا على بعضهم وأخذوا منهم ثلاثة مدافع وسدوا غالبية المدفع الكبير، وآخَر رموه إلى البحر فثارت رجة بمصر القديمة والروضة، وضربوا بالمدافع والرصاص، ورجع الواصلون من الجيزة إلى أماكنهم، وحضر الألفي إلى جهة الطرانة.

وفيه حضر صالح أغا القابجي إلى السيد عمر النقيب، وأخبره أنهم تواعدوا مع أحمد باشا في عصر غد من يوم السبت، إما أن ينزل أو يستمر على عصيانه، فلما كان السبت في الميعاد أفرجوا عن ضُعفا الرعية الكاينين بالقلعة، وكذلك النسا بعدما أخذوا ما معهم من الأمتعة والثياب، وأبقوا عندهم الشبان والأقويا للمعاونة في الأشغال، وأظهروا المخالفة وامتنعوا من النزول وباتوا على ذلك، وكثر اللغط في الناس وانقضى شهر ربيع الثاني على ذلك.

شهر جمادى الأولى (سنة ١٢٢٠)

استهل بيوم الأحد، فيه ضربوا ثلاثة مدافع من القلعة وقت الشروق، وكأنها إشارة وعلامة لأصحابهم.

وفي يوم الاتنين سبح جماعة من الجيزة إلى جهة إنبابة، وكان ببولاق طايفة من العسكر يترامحون بجهة ديوان العشور فضربوا عليهم مدافع فحصل ببولاق ضجة، وركب محمد علي باشا أواخر النهار وذهب إلى بولاق، ونزل ببيت عمر بك الأرنؤدي ووضب جملة من العسكر، وعدوا ليلًا وطلعوا ناحية بشتيل وحضروا إلى جهة إنبابة يوم التلات، وتحاربوا مع من بها حتى أجلوهم عنها، وعملوا هناك متاريس في مقابلتهم واستمروا على ذلك يتضاربون بالمدافع.

وفي يوم السبت سابعه طلع بشير أغا القابجي وصالح أغا السلحدار إلى القلعة، وتكلموا مع أحمد باشا ومن معه، وقد كانت وردت مكاتبات من قبطان باشا في أمر أحمد باشا، ثم نزلوا وصحبتهم كتخدا أحمد باشا إلى بيت سعيد أغا الوكيل، وركبوا معه إلى بيت محمد علي باشا، واختلطوا مع بعضهم، ثم طلع طالح أغا وأربعة من عُظماهم، ثم نزلوا ثم طلعوا وترددوا في الذهاب والإياب ومراددة الخطاب، وبات الكتخدا أسفل وطلب القلعاويون شروطًا وعلايفهم الماضية وغير ذلك، وانتهى الكلام بينهم على نزول أحمد باشا المخلوع في يوم الاتنين وتسليم القلعة والجبخانة.

وأصبح يوم الاتنين فطلبوا جِمالًا لحمل أثقالهم، فأرسلوا إلى السيد عمر فجمع لهم من جِمال الشواغرية مايتي جَمَل، فنقلوا عليها متاعهم وفرشهم، وأنزل الباشا حريمه إلى بيت مصطفى أغا الوكيل، ونزل كثير من عساكرهم وخدمهم وهم متغيرو الصور، وذهب أكثرهم بعزالهم إلى بولاق ونهبوا بيوت الرعايا التي بالقلعة، وأخذوا ما وجدوه فيها من المتاع، وطلع حسن أغا سرششمه بجملة من العسكر إلى القلعة، وانقضى ذلك اليوم ولم ينقضِ نزولهم، وحضر الوالي أيضًا وقت العشا إلى بيت السيد عمر وطلب خمسين جَمَلًا فلم يتيسر إلا بعضها.

وأصبح يوم التلات فأنزلوا باقي متاعهم ونزل الباشا المخلوع من باب الجبل في رابع ساعة من النهار على جهة باب النصر، ومر من خارجه إلى جهة الخروبي وذهب إلى بولاق وصحبته كتخدا محمد علي الباشا وعمر بك وصالح أغا قوش، ونزل صحبته مدافع تعوَّق بعضها عند الذنجرية لضعف الأكاديش، وسكن ببيت السيد عمر النقيب، وسكن صالح أغا ببيت شيخ السادات، وذلك عاشر جمادى الأولى، واطمأن الناس بعض الاطمينان مع بقا التحرز.

وأرسل السيد عمر فنادى تلك الليلة باستمرار الناس على التحرز والسهر وضبط الجهات، فإن القوم لا أمان لهم، وانحشروا في داخل المدينة والوكايل والبيوت ولا يتركون قبايحهم.

وأما الأُمرا المصرلية، فإنهم وصلوا إلى التبين، واجتمعوا هناك ما عدا علي بك أيوب وسليمان بك وعباس بك، فإنهم بالجيزة مع علي باشا وياسين بك، وأما الدلاتية الأنجاس، فإنهم مستمرون على نهب البلاد وسلب الأموال وأذية العباد.

ونهبوا كاشف الغربية، وهجموا على سمنود وهي مدينة عظيمة، فنهبوا بيوتها وأسواقها وأخذوا ما فيها من الودايع والأموال، وسبوا النسا وفعلوا فِعالًا شنيعة تقشعر منها الأبدان.

ثم انتقلوا إلى المحلة الكبيرة وهم الآن بها، وأما محمد بك الألفي فإنه حاصر دمنهور مدة مديدة، فلم يتمكن منها ثم ارتحل عنها ورجع مقبلًا ووصل إلى ناحية الطرانة، وأما قبطان باشا فإنه لم يزل مقيمًا على ساحل أبي قير.

وفي يوم الخميس وصلت الأخبار بذهاب قبطان باشا إلى إسكندرية.

وفي يوم الأحد خامس عشره نزل أحمد باشا المخلوع إلى المراكب من بولاق، وسافر إلى جهة بحري بعياله وأتباعه المختصين به، وتخلف عنه كتخداه وعمر بك وصالح قوش والدفتردار وكثير من أتباعه، ولم يسهل بهم مفارقة أرض مصر وغنايمها مع أنهم مجتهدون في خرابها.

وفيه وصل الألفي الكبير والصغير إلى بر الجيزة.

وفي يوم الاتنين اتفق جماعة من الأرنؤد، وقصدوا الذهاب إلى بر الجيزة، فوصل خبرهم إلى محمد علي باشا، فأرسل إليهم عسكرًا ومعهم حجو فلحقهم عند المعادي بحري بولاق، فقتلوا منهم نحو العشرين وهرب باقيهم وتفرقوا.

وفيه بنى حجاج الخضري حايطًا وبوابة على الرملية عند عرصات الغلة.

وفي يوم الأربع سابع عشره قبض محمد علي باشا على جرجس الجوهري، ومعه جماعة من الأقباط فحبسهم ببيت كتخداه، وطلب حسابه من ابتدا سنة خمس عشرة، وأحضر المعلم غالي الذي كان كاتب الألفي بالصعيد، وألبسه منصبه في رياسة الأقباط، وكذلك خلع على السيد محمد بن المحروقي خلع الاستمرار على ما كان عليه أبوه من أمانة الضربخانة وغيرها.

وفي تلك الليلة قتل شخص كبير بيكباشي تحت بيت الباشا بالأزبكية، وضربوا لموته مدفعًا؛ وذلك لأمر نقموه عليه.

وفيه سافر كتخدا بك إلى جهة المنوفية، وقبض على كاشفها وأخذ ما معه من الأموال التي جمعها من منهوبات البلاد، ودل على ودايعه وأخذها أيضًا، ووجد له غلالًا كثيرة ومواشي وغير ذلك.

وفي يوم الجمعة عشرينه الموافق لحادي عشر مسرى أوفى النيل المبارك أذرعه ونودي بذلك، وأُشيع في ذلك اليوم وصول فرقة من الأُمرا المصريين من خلف الجبل، وبات الناس مستعدين للفرجة على موسم الخليج على العادة، فأمر الباشا بإخراج الخيام والنظام إلى ناحية الجسر وعمل الحراقة، ثم أمر بكسر السد ليلًا، فما طلع النهار إلا والماء يجري في الخليج، ولم يذهب الباشا ولا القاضي ولا أحد من الناس، ولم يشعروا بذلك، وكان قد بلغه ورود الأُمرا فتأخر عن الخروج، وهم ظنوا خروجه مع العسكر إلى خارج المدينة.

وفي وقت الشروق من ذلك اليوم وصل طايفة من الأُمرا إلى ناحية المذبح، وكسروا بوابة الحسينية ودخلوا من باب الفتوح في كبكبة عظيمة، وخلفهم نقاقير كثيرة وجِمال وأحمال، فشقوا من بين القصرين حتى وصلوا الأشرفية، وشخص لهم الناس وضجوا بالسلام عليهم وبقولهم: نهار مبارك وسعيد والحمد لله على السلامة.

وشخص الناس وبهتوا وخمنوا التخامين، فلما وصلوا عطفة الخراطين افترقوا فرقتين، فدخل عثمان بك وحسن وشاهين بك المرادي وأحمد كاشف سليم وعباس بك وغيرهم كشاف وأجناد ومماليك وعبيد كثيرة نحو الألف، وخلف كل طايفة نقاقير وهجن وبأيديهم البنادق والسيوف والأسلحة، ومروا بالجامع الأزهر وذهبوا إلى بيت السيد عمر والشيخ الشرقاوي، فامتنع السيد عمر من مقابلتهم.

فدخلوا إلى بيت الشيخ الشرقاوي وحضر عندهم السيد عمر، فطلبوا منهم النجدة وقيام الرعية، فقالوا لهم: لا يصح ولم يكن بيننا وبينكم موعد ولا استعداد والأوْلى ذهابكم، وإلا أحاطت بنا وبكم العساكر وقتلونا معكم.

فعند ذلك ركبوا وخرجوا من باب البرقية، وبعد خروجهم حضر في أثرهم حسن بك الأرنؤدي في عدة وافرة من العسكر وهم مشاة، وخرج خلفهم فوجدهم خرجوا إلى الخلا فرجع على أثره.

وأما الفرقة الأخرى، فإنهم وصلوا إلى باب زويلة وتقدموا قليلًا إلى جهة الدرب الأحمر؛ فضرب عليهم العسكر الساكنون هناك بالرصاص، فرجعوا القهقرى إلى داخل باب زويلة، وأرادوا الدخول إلى جامع المؤيد والكرنكة بتلك الناحية، فضرب عليهم المغاربة والمرابطون هناك فأصيب منهم أشخاص، وقوي جاش العسكر الذين جهة الدرب الأحمر لما سمعوا ضرب الرصاص وتنبه غيرهم أيضًا واجتمعوا لمعاونتهم، وانصرع منهم ثلاثة أشخاص وقعوا إلى الأرض، فلما عاينوا ذلك ولوا الأدبار وتبعهم العسكر يضربون في أقفيتهم، فلم يزالوا في سيرهم إلى النحاسين.

وقد أغلق الناس بوابة الكعكيين وكذلك بوابة الخراطين وبوابة البندقانيين، وكان حجو الساكن بالخرنفش عندما سمع بدخولهم لحقه الفزع والخوف، فخرج من بيته بعسكره يريد الفرار وخرج من عطفة الخرنفش، وذهب إلى جهة باب النصر لظنه أنه لا يمكنه الخروج من باب الفتوح الذي دخلوا منه، فلما وصل إلى باب النصر وجده مغلوقًا، وامتنع المرابطون عليه من فتحه؛ فعاد على أثره وذهب إلى باب الفتوح فلم يجد به أحدًا، فاطمأن حينئذٍ وعلم سو رأيهم، فأغلقه وأجلس عنده جماعة من أتباعه ورجع على أثره إلى جهة بين القصرين، فصادف إدبار الجماعة والعسكر في أقفيتهم بالرصاص؛ فعند ذلك قوي جاشه وضرب في وجوههم هو ومن معه من العسكر فاختبل القوم وسقط في أيديهم، وعلموا أنه قد أحيط بهم فنزلوا عن خيولهم، ودخل منهم جماعة كثيرة جامع البرقوقية، وذهب منهم طايفة كبيرة بخيولهم نحو الماية إلى جهة باب النصر فوجدوه مغلوقًا، فنزلوا أيضًا عن خيولهم ودخلوا العطوف ونطوا من السور إلى الخلا وتفرق منهم جماعة اختفوا في الجهات، وبعض الوكايل والبيوت.

ولما انحصر الذين دخلوا جامع البرقوقية وأغلقوا على أنفسهم الباب احتاطت بهم العسكر، وأحرقوا الباب وتسور أيضًا عليهم جماعة من العطفة التي بظاهر البرقوقية، وقبضوا عليهم وعروهم ثيابهم وأخذوا ما معهم من الذهب والنقود والأسلحة المثمنة، وذبحوا منهم نحو الخمسين مثل الأغنام، وسحبوا نحو ذلك العدد بالحياة وهم عرايا مكشوفو الروس حفاة الأقدام موثوقو الأيدي يضربونهم ويصفعونهم على أقفيتهم ووجوههم، ويسبونهم ويشتمونهم ويسحبونهم على وجوههم حتى ذهبوا بهم وبروس القتلى إلى بيت الباشا بالأزبكية، وكان قد استعد للفرار، وتحير في أمره ونزل إلى أسفل يريد الركوب وإذا بالعسكر داخلون عليه ومعهم الروس والأسرى في أيديهم فعند ذلك سكن جاشه وامتلا فرحًا.

ولما مثل بين يديه أحمد بك تابع البرديسي الذي كان بدمياط وحسن شبكة ومن معهما، قال لأحمد بك: يا أحمد بك وقعت في الشَّرَك، فطلب ماءً فحلوا كتافه وأتوه بماء يشرب فنظر لمن حوله وخطف يطقانًا من وسط بعض الواقفين وهاج فيهم، وأراد قتْل محمد علي باشا وقَتل أنفارًا، فقام الباشا وهرب إلى فوق وتكاثروا عليه وقتلوه، ووضعوا باقي الجماعة في جنازير وفي أرجلهم القيود، وربطوهم بالحوش وهم على الحالة التي حضروا فيها من العري والحقارة والذلة.

وفي تاني يوم أحضروا الجزارين وأمروهم بسلخ الروس بين يدي المعتقلين وهم ينظرون إلى ذلك، وأحضروا جماعة من الإسكافية فحشوها تبنًا وخيطوها.

وفي ليلة الاتنين خرج عابدي بك بعساكر الأرنؤد برًّا وبحرًا إلى جهة طرا، فالتقى مع من بها من المصريين وكان بها إبراهيم بك الكبير وابنه مرزوق بك وأمراهم فقتل من عسكر الأرنؤد عدة كبيرة، وولوا منهزمين، وحضروا إلى مصر وغرق من مراكبهم مركبان في ليلة التلات، وفي تلك الليلة قتلوا المعتقلين ما عدا حسن شبكة ومعه اثنان، قيل: إنهم عملوا على أنفسهم تلتماية كيس فأبقوهم وقتلوا الباقي قتلًا شنيعًا، وعذبوهم في القتل من أول الليل إلى آخره، ثم قطعوا روسهم وحشوها تبنًا ووسقوها في مركب وأرسلوها إلى إسكندرية، وعدتهم تلاتة وتمانين راس، وفيهم من غير جنسهم وأناس جربجية ملتزمون واختيارية التجوا إليهم ورافقوهم في الحضور، وبعتوا من يوصلهم إلى إسلامبول، وكتبوا في المراسلة أنهم حاربوهم وقاتلوهم وحاصروهم حتى أفنوهم، واستأصلوهم ولم يُبقوا منهم باقية، وهذه الروس روس أعيانهم وأكابرهم، فكان عدة قتْل هذه الحادثة من المعروفين المنصبين مراد بك تابع عثمان بك حسن، وقبطان بك تابع البرديسي، وسليم بك الغريبة، وأحمد بك الدمياطي، وعلي بك تابع خليل بك، ونحو الخمسة والعشرين من مماليكهم وأتباعهم، ونجا حسن بك شبكة واثنان معه دون أتباعه، وباقيهم أشخاص مجهولة وفيهم فرنساوية وأرنؤدية، ولم يتفق للأُمرا المصرية أقبح ولا أشنع من هذه الحادثة، وربط الله على قلوبهم وأعمى أبصارهم وغل أيديهم.

وفي يوم الأربع حضر طايفة الدلاة إلى ناحية الخانكة بعدما طافوا إقليم الغربية والمنوفية والشرقية والدقهلية، وفعلوا أفعالًا شنيعة من النهب والسلب والقتل والأسر والفسق، وما لا يُسطر ولا يُذكر ولا يمكن الإحاطة ببعضه. وفيه أفرجوا عن جرجس الجوهري ومن معه على أربعة آلاف وثمانماية كيس وأن يبقى على حاله، فشرع في توزيعها على باقي الأقباط وعلى نفسه وعلى كُبراهم وصيارفهم ما عدا فلتيوس وغالي، وحولت عليه التحاويل وحصل لهم كرب شديد وضج فُقراهم واستغاثوا.

وفي يوم الجمعة خرج عدة كبيرة من العسكر إلى ناحية الشرق لمحاربة الدلاة وأميرهم عمر بك تابع عثمان بك الأشقر، ومحمد بك المبدول، وكثير من الأجناد المصرية، وحسن باشا الأرنؤدي.

وفي يوم السبت رجع القرابة المشاة، وذهب الخيالة خلفهم متباعدين عنهم بمرحلة، فكان شأنهم أن الدلاة المذكورين إذا وردوا قرية نهبوها، وأخذوا ما وجدوه فيها وأخذوا الأولاد والبنات وارتحلوا، فيأتي خلفهم العرب التابعون خلفهم فيطلبون الكلف والعليق، وينهبون أيضًا ما أمكنهم ثم يرتحلون أيضًا خلفهم، فتنزل بعدهم التجريدة فيفعلون أقبح من الفريقين من النهب والسلب حتى ثياب النسا، وأخذ الدلاة من عرب العايد خمسماية جَمَل وذهبوا على طريق راس الوادي.

وفيه ورد الخبر بوصول كتخدا بك إلى منوف، وقبض على كاشفها وأخذ منه ما جمعه، ثم إنه فرد على البلاد التي وجد بها بعض العمار أموالًا من ألف ريال فأزيد، وحصر ذلك في قايمة وهي نحو الستين بلدًا، وأرسل يستأذن في ذلك ويطلب عدم الرفع عن شي منها ليُحصل قدرًا يستعان على علايف العسكر وجماكيهم، وليكمل خراب الإقليم. وانقضى شهر جمادى الأولى.

شهر جمادى الثانية (سنة ١٢٢٠)

استهل بيوم الاتنين، في تانيه وصل ولدا محمد علي باشا إلى ساحل بولاق، فركب أغوات الباشا واستقبلوهما وأحضروهما إلى الأزبكية وعملوا لهما شنكًا تلك الليلة، وفي تالته طلع محمد علي باشا إلى القلعة، وأجلس ابنه الكبير بها وضربوا له في ذلك الوقت مدافع.

وفي رابعه رجع عابدي بك ومن بصحبته من المصرلية من جهة الشرق، وقد وصلوا خلف الدلاة إلى حد العايد، ثم رجعوا وذهب الدلاة إلى جهة الشام بما معهم من المال والغنايم والجِمال والأحمال، وعدتها أكثر من أربعة آلاف جَمَل، وما نهبوه من البلاد وأسروه من النسا والصبيان وغير ذلك، وكانوا من نقمة الله على خلقه، ولم يحصل من مجيهم وذهابهم إلا زيادة الضرر، ولم يحصل للباشا المخلوع الذي استدعاهم لنصرته إلا الخذلان، وكان في عزمه وظنه أنهم يصيرون أعوانه وأنصاره ويستعين بهم وبطايفة الينكجرية على إزالة الطايفة الأخرى، فانتحس بقدومهم وأورثه الله ذلهم وتخلوا عنه وخذلوه، وضاع عليه ما صرفه عليهم في استدعاهم وملاقاتهم وخِلعهم، وتقدماتهم ومصارفهم وعلايفهم وخرجهم، ولم ينفعوه بنافعة بل كانوا من الضرر والصرف عليه وعلى الإقليم، وكان كلما خوطب أو عوتب في أمر أو فِعل يقول: اصبروا حتى تأتي الدلاتية ويحصل بعد ذلك النظام، فلم يحصل بوصولهم إلا الفساد العام، وانقضت دولته وانعكست قضيته.

وفيه شرعوا في عمل دفتر فِردة على البلاد التي بقي فيها بعض الرمق.

وفي خامسه حضر كتخدا بك ليلًا وأشار بإبطال ذلك الدفتر لما فيه من الإشاعة والشناعة، واتفق مع الباشا والمتكلمين أنه يفعل ذلك باجتهاده ورايه، ورجع في تلك الليلة وشرع في التحصيل مع الجور والعسف الزائد كما هو شأنهم.

وفيه سافر أيضًا جانم أفندي الدفتردار، وسافر صحبته قابجي باشا الأسود المسمَّى بشير أغا.

وفيه سافر بعض كبرايهم إلى جهة السويس ليأتي بالمحمل.

وفي يوم الجمعة ورد أحمد أفندي من إسكندرية، وهو الذي كان بالدفتردارية في العام السابق ومنعه أحمد خورشيد من الورود، وكتبوا في شانه عرضحال من المشايخ والوجاقلية بمنعه، وإبقا جانم أفندي واستمر بإسكندرية إلى هذا الوقت، وحضر الآن بمراسلة من قبطان باشا وأحضر صحبته تقرير السعيد أغا على الوكالة وإبقاه على ما هو عليه ونظر الخاصكية لسليمان أغا حافظ.

وفي يوم الأحد رابع عشره تغيب جرجس الجوهري، فيقال: إنه هرب ولم يظهر خبره، وطلب محمد علي فلتيوس وغالي وجرجس الطويل.

وفي يوم الاتنين حضر محمد كتخدا الألفي بجواب من مخدومه، وقابل محمد علي باشا وذهب إلى بيته لقضا أشغاله.

وفيه وصلت القافلة والمحمل وأراد الباشا نهب قافلة التجار، فصالحوا على أحمالهم بألف كيس، ودخل المحمل في ذلك اليوم صحبة المسفر.

وفيه طلب الباشا حسن أغا نجاتي المحتسب والأمير إبراهيم الرزاز، وطلب أن يقلد حسن أغا كتخدا الحج والأمير إبراهيم دويدار بشرط أن يكلفا أنفسهما من مالهما، فاعتذرا بعدم قدرتهما على ذلك؛ فحبسهما وطلب من كل واحد منهما خمسماية كيس، وعزل حسن أغا وقلد عوضه آخر يسمى عبد الله قاضي أوغلي على الحسبة.

وفي يوم التلات ظهر الخبر عن جرجس الجوهري بأنه ركب من دير مصر العتيقة، وذهب إلى الأُمرا المصرلية بناحية التبين.

وفي يوم الأربع سابع عشره تُوُفِّيَ الشيخ محمد الحريري مفتي الحنفية.

وفي يوم الجمعة تاسع عشره تُوُفِّيَ حسن أفندي ابن عثمان الأماحي الخطاط.

وفيه قلدوا علي جلبي بن أحمد كتخدا على كشوفية القليوبية، ولبس القفطان وركب بالملازمين.

وفيه سافر محمد كتخدا الألفي عايدًا إلى مخدومه، وذهب صحبته السلحدار وموسى البارودي.

وفي عشرينه تقلد الحسبة شخص يقال له: عبد الله قاضي أوغلي، وكذلك تقلد قبله بأيام إبراهيم الحسيني الزعامة وهو حليق اللحية، وتقلد محمد من مماليك إسماعيل بك ويُعرف بالألفي، وهو زوج هانم ابنة بنت إسماعيل بك أغا مستحفظان.

وفيه أفرجوا عن حسن أغا المحتسب وإبراهيم الرزاز، وقرروا على الأول خمسة وستين كيسًا، وعلى التاني خمسة عشر كيسًا يقومان بدفعها.

وفيه أنزلوا قوايم على البلاد والحصص التي كانت تحت التزام جرجس الجوهري إلى المزاد، فاشتراها القادرون والراغبون.

وفي حادي عشرينه قلدوا ياسين بك كشوفية بني سويف والفيوم، وكذلك لبسوا كاشفًا على منفلوط وغيرها.

وفي أواخره حضر محمد كتخدا الألفي والسلحدار وذكرا مطلوبات الألفي، وهو أنه يطلب كشوفية الفيوم وبني سويف والجيزة والبحيرة ومايتي بلد التزام، وأنه يأتي إلى الجيزة ويقيم بها ويكون تحت طاعة محمد علي باشا، وتشاوروا في ذلك أيامًا، وأما باقي الأُمرا المصرليين فإنهم انتقلوا من مكانهم وترفعوا إلى جهة قبلي بناحية بياضة، ثم اتفق الرأي على أن يعطوهم من فوق جرجا، وينزل بها الحاكم المولى عليها من العثمانية، وأن المصريين القبالي اقتسموا بينهم البلاد ويقومون بدفع المال والغلال الميرية، وكل ذلك لا أصل له ولا حقيقة من الطرفين، وكتبوا للألفي مكاتبات بذلك وأن يكون في ضمنهم.

وفي أواخره أيضًا احتاج محمد علي باشا إلى باقي علوفة العسكر، فتكلم مع المشايخ في ذلك وأخبرهم بأن العسكر باقٍ لهم ثلاثة آلاف كيس ولا نعرف لتحصيلها طريقة، فانظروا رأيكم في ذلك، وكيف يكون العمل ولم يبقَ إلا هذه النوبة، ومن هذا الوقت إذا قبض العسكر باقي علايفهم سافروا إلى بلادهم، ولم يبقَ منهم إلا المحتاج إليهم وأرباب المناصب، ولا يأخذون بعد ذلك علايف، فكثر التروِّي في ذلك ولغط الناس بالفردة وتقرير أموال على أهل البلد.

وانحط الأمر بعد ذلك على قبض ثلث الفايظ من الحصص والالتزام، فضج الناس وقالوا: هذه تصير عادة ولم يبقَ للناس معايش، فقال: نكتب فرمانًا ونلتزم بعدم عود ذلك ثانيًا، ونرقم فيه لعن الله من يفعلها مرة أخرى، ونحو ذلك من التمويهات الكاذبة، إلى أن رضي الناس واستقر أمرها وشرعوا في تحريرها وطلبها.

شهر رجب الفرد (سنة ١٢٢٠)

استهل بيوم الأربع وفي حادي عشره سافر محمد كتخدا الألفي بالجواب المتقدم إلى مخدومه بعد أن قضى أشغاله واحتياجاته من أمتعة وخيام وسروج وغير ذلك، وخرج ياسين بك وباقي الكشاف المسافرون إلى الجيزة، وطلبوا المراكب حتى عز وجودها، وامتنع ورودها من الجهة البحرية.

وفي تالت عشره سافر المذكورون بعساكرهم، وسافر أيضًا علي باشا سلحدار أحمد باشا خورشيد المنفصل إلى إسكندرية، وأما قبطان باشا فإنه لم يزل بثغر إسكندرية.

وفي منتصفه برز طاهر باشا الذاهب إلى البلاد الحجازية بعساكره إلى خارج باب النصر.

وفيه وردت الأخبار بأن الوهابيين استولوا على المدينة المنورة — على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم — بعد حصارها نحو سنة ونصف من غير حرب، بل تحلقوا حولها وقطعوا عنها الوارد، وبلغ الأردب الحنطة بها ماية ريال فرانسة، فلما اشتد بهم الضيق سلموها ودخلها الوهابيون ولم يحدثوا بها حدثًا غير منع المنكرات، وشرب التنباك في الأسواق وهدم القباب ما عدا قبة الرسول .

وفي تاسع عشره وقع بالأزبكية معركة بين العسكر وقُتل بها واحد من أعيانهم، واثنان آخران ورجل سايس وبغل وفرس وحمار.

وفي خامس عشرينه ورد الخبر بسفر القبطان وأحمد باشا خورشيد من ثغر إسكندرية.

وفيه حضر أهل رشيد يتشكون إلى السيد عمر النقيب والمشايخ، ويذكرون أن محمد علي باشا أرسل يطلب منهم أربعين ألف ريال فرانسة على ثلاثة عشر نفرًا من التجار بقايمة.

وفيه حضر محمود بك الذي كان بالمنية، وتواترت الأخبار بوصول الغز المصريين إلى أسيوط وملكوها، وأما الألفي فإنه جهة الفيوم ووقع بينه وبين جماعة ياسين بك محاربة، وظهر عليهم وأرسل ياسين بك يطلب عسكرًا وذخيرة.

وفي خامس عشرينه ركب المشايخ والسيد عمر النقيب إلى محمد علي، وترجوا عنده في أهل رشيد فاستقرت غرامتهم على عشرين ألف فرانسة، وسافروا على ذلك وأخذوا في تحصيلها.

وفيه طلب بترك الدير، واحتجوا عليه بهروب جرجس الجوهري، وانحط الأمر على المصالحة بماية وأربعين كيسًا وزعها النصارى على بعضهم ودفعوها.

شهر شعبان (سنة ١٢٢٠)

استهل بيوم الجمعة، فيه أمر محمد علي باشا برفع حصص الالتزام التي على النسا، وكتبوا قوايم مزادها، وانحط الأمر على المصالحات بقدر حالهن، وغير ذلك أمور كثيرة وجزئيات وتحيلات على استنضاح الأموال لا يمكن ضبطها.

وفي أواخره زوج محمد علي حسن الشماشرجي تابعه ببنت سليم كاشف الأسيوطي، وهي بنت بنت عبد الرحمن بك تابع عثمان بك الجرجاوي، وهي ربيبة أحمد كاشف تابع سليم كاشف المذكور، فعقدوا عقدها وعملوا لها مهمًا ببيت أمها هانم بحارة عابدين، واحتفل بذلك محمد علي وأمر بأن يعمل لها زفة مثل زفف الأُمرا المتقدمين، ونبهوا على أرباب الحرف فعملوا لهم عربات وملاعيب وسخريات، قاموا بكلفها من مالهم الموزع على أفرادهم، وداروا بالزفة يوم الخميس غاية شعبان.

وحضر محمد علي إلى مدرسة الغورية مع أولاده ليرى ذلك، وعمل له السيد محمد المحروقي ضيافة في ذلك اليوم، وأحضر إليه الغدا بالمدرسة، ولما انقضى أمر الزفة شرعوا في عمل موكب المحتسب ومشايخ الحرف لرؤية رمضان، وحضروا إلى بيت القاضي ولم يثبت الهلال تلك الليلة وانقضى شهر شعبان.

واستهل شهر رمضان بيوم السبت (سنة ١٢٢٠)

وفي هذا اليوم شح وجود اللحم وغلا سعره؛ لعدم المواشي وتوالي الظلم والعسف والفِرد والكلف على القرى والبلاد، حتى بلغ الرطل اللحم الجفيط الهزيل خمسة وعشرين نصفًا إن وُجد، والجاموسي اثني عشر نصفًا، وامتنع وجود الضاني بالأسواق بالكلية راسًا، ولما استهل رمضان انكب الناس على من يوجد من جزاري اللحم الخشن، وكذلك شح وجود السمن وعُدِم بالكلية، وإذا وجد منه شي خطفه العسكر.

وذهبوا إلى سوق إنبابة يوم السبت أول رمضان، ونهبوا ما وجدوه مع الفلاحين من الزبد والجبن وغير ذلك، وزاد فحشهم وقبحهم وتسلطهم على إيذا الناس، وكثروا بالبلد وانحشروا من كل جهة، وتسلطوا على تزوج النسا قهرًا اللاتي مات أزواجهن من الأُمرا المصرلية، ومن أبت عليهم أخذوا ما بيدها من الالتزام والإيراد، وأخرجوها من دارها ونهبوا متاعها فما يسعها إلا الإجابة والرضى بالقضا.

وتزوج بعضهم بزوجة حسن بك الجداوي وهي بنت أحمد بك شنن وأمثالها، ولم ينفعهن الهروب ولا الاختفاء ولا الالتجا.

وتزيوا بزي المصريين في ملابسهم، وركبوا الخيول المسومة بالسروج المذهبة والقلاعيات والرخوت المكفتة، وأحدق بهم الخدم والأتباع والقواسة والسواس والمقدمون، ووصل كل صعلوك منهم لما لا يخطر على باله أو يتوهمه أو يتخيله، ولا في عالم الرؤيا مع انحراف الطبع والجهل المركب وعمى البصيرة والفظاظة والقساوة والتجاري وعدم الدين والحيا والخشية والمُروة، ومنهم من تزوج الاثنتين والثلاث وصار له عدة دور.

وفيه تواترت الأخبار بما حصل لياسين بك، وأنه بعد انهزامه هرب بجماعة قليلة وذهب عند سليمان بك المرادي وانضم إليه.

وفي تالت عشره نهبوا بيت ياسين بك المذكور وأخذوا ما فيه ونفوا محمد أفندي أباه، وأنزلوه في مركب وذهبوا به إلى بحري، وقيل: إنهم قتلوه.

وفيه وردت الأخبار بأنه غرق بمينا إسكندرية أحد عشر غليونًا من الكبار؛ وذلك أنه في أواخر شعبان هبت رياح غربية عاصفة ليلًا، فقطعت مراسي المراكب ودفعتها الرياح إلى البر؛ فانكسرت وتلف ما فيها من الأموال والأنفس، ولم ينجُ منها إلا القليل وكذلك تلف ثماني وأربعون مركبًا واصلة من بلاد الشام إلى دمياط ببضايع التجار.

وفيه حضر جماعة من الألفية إلى بر الجيزة، وطلبوا كلفًا من إقليم الجيزة وقبضوها ورجعوا إلى الفيوم، ومضى في أثرهم عربان أولاد علي من ناحية البحيرة، وعاثوا بأراضي الجيزة، فعينوا لهم طاهر باشا الذي كان مسافرًا إلى بلاد الحجاز، وخرج بعساكره وخيامه وموكبه إلى خارج باب النصر ونصب وطاقه، وصار يضرب في كل ليلة مدافعه وطبله ونوبته.

واستمر مقيمًا على ذلك نحو ثلاثة شهور، وهم يجمعون له الأموال ويفردون الفرد على الأقاليم ويقولون: برسم تشهيل العسكر المسافر للخوارج واستخلاص البلاد الحجازية من أيديهم، ولم يزالوا يحتجون بعدم أخذ النفقة، وفي كل يوم يتسللون شيًّا بعد شي ويدخلون إلى المدينة، ويتفرقون إلى الجهات حتى لم يبقَ منهم إلا القليل.

ثم إنهم ارتحلوا من مخيمهم بحجة العرب وطردهم من الجيزة، فلما عدوا إلى الجيزة دخلوا إلى دورها وسكنوها غصبًا عن أهلها، واستولوا على فراشهم ومتاعهم، ولم يخرج منهم أحد للعرب، ولم يتعدوا خارج السور وبطل أمر السفرة المذكورة.

وفي تاسع عشره أرسل محمد علي من قبض على الأغا الشمعدانجي وعثمان أغا كتخدا بك سابقًا وقت المغرب، وأنزلوهما إلى بولاق في مركب وذهبوا بهما، يقال: إنهم قتلوهما ومعهما اثنان أيضًا من كبار العسكر، ولم يُعلم سبب ذلك، وأنزلوا حصصهم في المزاد.

وفيه فتحوا طلب الميري من الملتزمين عن سنة إحدى وعشرين مع أن سنة تاريخه لم يستحق منها الثلث، وكانوا فتحوها معجلة لقدر الاحتياج، وقبضوا نصفها وطلبوا النصف الآخر بعد أربعة أشهر، وأما هذه فطلبوها بالكامل قبل أوانها بسنة، وخصوصًا في شهر رمضان مع الناس فيه من ضيق المعاش، وغُلو الأسعار في كل شي، وعدم وجود الأقوات، ووقوف العسكر خارج المدينة يخطفون ما يأتي به الفلاحون من السمن والجبن والتبن والبيض وغير ذلك، ومن دونهم العرب.

ومثل ذلك في البحر والمراكب، حتى امتنع وجود المجلوبات برًّا وبحرًا، وطلبوا المراكب لسفر العساكر بالتجاريد، فتسامع القادمون فوقفوا عن القدوم خوفًا من النهب والتسخير، ولم يبقَ بسواحل البحر مركب ولا قارب.

وبطل ديوان العشور ووصل سعر العشرة أرطال السمن ستماية نصف فضة إن وُجد، والعشرة من البيض بخمسة عشر نصف فضة إن وُجد، والدجاجة بأربعين نصفًا، والرطل الصابون بستين نصفًا، ولم يزل يتزايد حتى وصل الرطل إلى ماية وعشرين، والراوية الماء بأربعين نصفًا، والرطل القشطة بستين نصفًا، والرطل السمك الطري بستة عشر نصفًا، والقديد المملوح بعشرة أنصاف، وقد كان يباع بنصفين بالعدد من غير وزن، والحوت الفسيخ بأربعين نصفًا، وقِسْ على ذلك.

وفي عشرينه رجع خازندار طاهر باشا إلى جهة العادلية ثانيًا ومعه جملة من العسكر، وصاروا يضربون في كل ليلة مدفعين، واستمر طاهر باشا بالجيزة.

وفيه كتب محمد علي باشا مكاتبة إلى الأُمرا القبالي، وأرسل بها مصطفى أغا الوكيل وعلي كاشف الصابونجي ليصطلحوا على أمر، وفيه وصل أيضًا جماعة من الألفية إلى جهة سقارة وبلاد الجيزة، وطلبوا منها كلفة ودراهم، فأمر محمد علي بخروج العساكر، فتلكَّئُوا واحتجُّوا بطلب العلوفة فعزم على الخروج بنفسه، فلما كان ليلة الأربع سادس عشرينه طلب كبار العساكر وركب معهم إلى مصر القديمة، وشرعوا في التعدية بطول الليل، وهم: محمد علي وعسكره وخواصه، وعابدي بك، وعمر بك، وصالح قوش، والدلاة وكبيرهم، وعلي كاشف الذي تزوج بنت شنن وأتباعه في تجمل، وكبير الدلاة وطايفته، وركب الجميع وقت الشروق وبرزوا إلى الفضا، وانفرد كل كبير بعسكره خمسة طوابير وستة، ونظروا على البعد منهم فرأوا خيالة من العربان وغيرهم متفرقين كل جماعة في ناحية؛ فحمل كل طابور على جماعة منهم فانهزموا أمامهم، فساقوا خلفهم، فخرج عليهم كماين من خلفهم ووقع بينهم الضراب، وحمل علي كاشف وآخر يقال له: أوزي في جماعتهم فرأوه مجملًا فظنوه محمد علي فاحتاطوا به وتكاثروا عليه، وأخذوه أسيرًا هو ومن معه، وفرَّ من نجا منهم ووقعت فيهم الهزيمة، ورجع الجميع القهقرى وعدوا إلى بر مصر من غير تأخير، وذهب من الأرنؤد طايفة إلى الأخصام وانضموا إليهم.

وفي هذه الأيام وقع بين أهل الأزهر منافسات؛ بسبب أمور وأغراض نفسانية يطول شرحها، وتحزبوا حزبين: حزب مع الشيخ عبد الله الشرقاوي، وحزب مع الشيخ محمد الأمير وهم الأكثر، وجعلوا الشيخ الأمير ناظرًا على الجامع، وكتبوا له تقريرًا بذلك من القاضي، وختم عليه المشايخ والشيخ السادات والسيد عمر أفندي النقيب.

وكانت النظارة شاغرة من أيام الفرنسيس، وكان يتقلدها أحد الأُمرا، فلما خرج الأُمرا من مصر صارت تابعة للمشيخة لوقت تاريخه، فانفعل لذلك الشيخ الشرقاوي، ولما فعلوا ذلك اجتهد الشيخ الأمير في النظر لخدمة الجامع بنفسه وبابنه، وأحضر الخدمة وكنسوا الجامع وغسلوا صحنه، ومسحوه وفرشوا المقصورة بالحصر الجدد، وعلقوا قناديل البوايك، وصار كل يوم يقف على الخدمة، ويأمرهم بالتنظيف وغسل الميضاة والمراحيض وأمر بغلق الأبواب من بعد صلاة العشا ما عدا الباب الكبير، ورتبوا له بوابًا وطردوا من يبيت به من الأغراب الذين يلتفون بالحصر، ويلوثونها ببولهم وغايطهم ونحو ذلك.

وفي غايته ليلة الأحد التي هي ليلة العيد، عدى طايفة من العسكر إلى بر الجيزة، وانضموا إلى الأخصام، وحصل في العسكر ارتجاج واختلافات، وعملوا شنكًا في تلك الليلة في الأزبكية بعدما أثبتوا هلال شوال بعد العشا الأخيرة، وقد كانوا أسرجوا المساجد وصلوا التراويح، ثم طفوا المنارات في تالت ساعة من الليل.

شهر شوال (سنة ١٢٢٠)

استهل بيوم الأحد المذكور، وجميع الأمور مرتبكة والحال على ما هو عليه من الاضطراب، ولم يحصل في شهر رمضان للناس جمع حواس ولا حظوظ ولا أمن، وانكف الناس عن المرور في الشوارع ليلًا خوفًا من أذية العسكر، وفي كل وقت يسمع الإنسان أخبارًا ونكات وقبايح من أفاعيلهم من الخطف والقتل وأذية الناس.

وفي رابعه قلدوا مناصب كشوفات الأقاليم وتهيئوا للذهاب، وعملوا قوايم فِرَد ومظالم على البلاد خلاف ما تقدَّم، وخلاف ما يأخذه الكشاف لأنفسهم وما يأخذونه قبل نزولهم؛ وذلك أنه عندما يترشح الشخص منهم لتقليد المنصب يرسل من طرفه معينين إلى الإقليم الذي سيتولى عليه بأوراق البشارات، وحق طرق باسم المعينين، إما عشرين ألفًا أو أكثر أو أقل، فإذا قبضوا ذلك أتبعوها بأوراق أخرى ويسمونها أوراق تقبيل اليد، وفيها مثل ذلك أو أكثر أو أقل، ثم كذلك أوراق لبس القفطان ونحو ذلك، وقد يتفق بعد ذلك جميعه أنه يتولى خلافه ويستأنف العمل إلى غير ذلك، هذا وكتخدا بك مستمر في سرحانه بالإقليم وجمع الأموال والعسف والجور، مرة بالمنوفية ومرة بالغربية ومرة بالشرقية، ولا يقرر إلا الأكياس من الشهريات والمغارم وحق الطرق والاستعجالات المترادفة مما لا يحيط به دفتر ولا كتاب.

وفي تامنه تُوُفِّيَ إبراهيم أفندي كاتب البهار، وترك ولدًا صغيرًا فقلدوا مملوكه حسنًا في منصبه وكيلًا عن ولده.

وفي هذه الأيام كثر العسكر والمناداة عليهم بالخروج إلى نواحي طرا والجيزة؛ وذلك بسبب أن بعض الألفية عدى إلى ناحية الشرق، وأخذوا كلفًا من البلاد، وبعضهم وصل إلى وردان بالبر الغربي.

وفي عاشره حضر جملة من الدلاتية وغيرهم من ناحية الشام، فمنهم من حضر في البحر على دمياط، ومنهم من حضر في البر، وعدى طاهر باشا الذي كان مسافرًا على جدة.

وفيه أيضًا سافرت القافلة المتوجهة إلى السويس وصحبتها نحو المايتين من العسكر وعليهم كبير من طرف طاهر باشا بدلًا عنه، وسافر صحبتهم حسن أفندي القاضي المنفصل ليكون قاضيًا بمكة حسب القانون.

وفي خامس عشره وصلت قوافل التجار من السويس، فأرسل محمد علي وفتح الحواصل وأراد أخذ بضايع التجار وفروق البن، فانزعج التجار بوكايل الجمالية وغيرها، وذلك بعد أن دفعوا عشورها ونولونها وأجرها وما جعلوه عليها من المغارم السابقة، وانحط الأمر على المصالحة عن كل فرق خمسون ريالًا ولم ينتطح في ذلك شاتان.

وفي حادي عشرينه حضر كتخدا بك إلى مصر بعدما جمع الأموال من الأقاليم، وفعل ما فعله من الفِرد والمظالم الخارجة عن الحد.

وفي يوم الأربع خامس عشرينه تُوُفِّيَ عثمان أفندي العباسي.

شهر ذي القعدة (سنة ١٢٢٠)

استهل بيوم التلات، والاجتهاد حاصل بخروج العسكر للتجريدة في كل يوم، ونصبوا عرضيهم ببر الجيزة وناحية طرا من ابتدا شعبان كما تقدَّم، وفي كل يوم يخرجون طوايف ويعودون كذلك.

وفي يوم الأربع تاسعه حضر مصطفى أغا الوكيل وعلي كاشف الصابونجي وعلي جاويش الفلاح، الذين كانوا توجهوا إلى قِبلي لأجل الصلح، وحضر صحبتهم نيف وثلاثون مركبًا من السفار والمتسببين فيها غلال وأدهان وجلود وتمر وغير ذلك، ولم يعلم حقيقة ما حصل.

وفي يوم الجمعة حادي عشره نودي على العسكر بالخروج من الغد بالتركي والعربي، والتحذير من التأخير.

وفي يوم الأحد رجع مصطفى أغا بجواب ثانيًا هجانًا من طريق البر.

وفي يوم الاتنين رابع عشره أخرجوا المحمل والكسوة، وعين للسفر بهما من القلزم مصطفى جاويش العنتبلي، ومعه صراف الصرة دفعوا له ربعها وثمنها، وهذا لم يتفق نظيره.

وفي يوم التلات خامس عشره ورد نحو السبعين ططريًّا ومعهم البشارة لمحمد علي باشا بوصول الأطواخ إلى رودس، ووصل معهم أيضًا مراسيم بمنصب الدفتردارية لأحمد أفندي الملقب بجديد، وهو الذي كان وصل في العام الأول بالدفتردارية إلى إسكندرية في أيام أحمد باشا خورشيد وجانم أفندي الدفتردار ومنعوه عنها، وكتبوا في شأنه عرضًا للدولة بعدم قبوله، وأن أهل البلد راضون على جانم أفندي.

فلما حصل ما حصل لخورشيد باشا وعزل عن مصر، وعزل أيضًا جانم أفندي المذكور بمراسيم أخر وفيها الوكالة لسعيد أغا مجددة له، ونظر الخاصكية لحافظ سليمان، واستمر من ذلك الوقت بمصر فوصل إليه الأمر بتقليد الدفتردارية، وكان حسين أفندي الروزنامجي هو المتقلد لذلك، فلما كان يوم الخميس سابع عشره اجتمع بديوان محمد علي صالح أغا قابجي باشا وسعيد أغا ونقيب الأشراف وبعض المشايخ، ولبس أحمد أفندي خلعة الدفتردارية، وشرطوا عليه أنه لا يحدث حوادث كغيره، فإن حصل منه شي عزلوه وعرضوا في شانه وقَبِل ذلك على نفسه.

وفي يوم الجمعة تامن عشره ارتحلت القافلة، وصحبتها الكسوة والمحمل أواخر النهار من ناحية قايتباي بالصحرا، وذهبوا إلى جهة السويس ليسافروا من القلزم.

وفيه وصلت الأخبار بأن بونابارته كبير الفرنسيس ركب في جمع كبير وأغار على بلاد النمساوية وحاربهم حربًا عظيمًا، وظهر عليهم وملك تختهم وقلاعهم وطلب ملكهم بعد خروجه من حصونه، فأعاده لمملكته بعدما شرط عليه شروطه، وملك غير ذلك من القرانات والحصون، ثم سار إلى بلاد الموسقو ووقع بينه وبينهم هدنة على ثلاثة أشهر.

وفي يوم الأربع تالت عشرينه خرج حسن باشا طاهر إلى ناحية مصر القديمة.

وفي يوم السبت سادس عشرينه حضر مبشرون بحصول مقتلة عظيمة، وأنهم أخذوا من الأخصام جملة عسكر أسرى وروس؛ فضربوا مدافع لذلك وأظهروا السرور.

وفي يوم الأحد وصلت الروس والأسرى وهي إحدى وعشرون رأسًا وذراع مقطع وسبعة عشر أسيرًا، ليس فيهم من يُعرف ولا من جنس الأجناد وغالبهم فلاحون، فأعطى محمد علي لكل أسير نصف دينار، وأطلقهم ووضعوا الروس والذراع عند باب زويلة.

وفيه وصلت القافلة من السويس، ووصل أيضًا صحبتهم جنرال من الإنكليز راكب في تخت وحملته ومتاعه على نحو سبعين جَمَلًا، فذهب عند قنصلتهم، فلما كان يوم الأربع غايته ركب في التخت وذهب عند محمد علي بالأزبكية، فتلقاه وعمل له شنكًا ومدافع وقدم له هدية وتقادم ثم رجع إلى مكانه.

شهر ذي الحجة الحرام (سنة ١٢٢٠)

استهل بيوم الخميس، فيه حضر مصطفى أغا الوكيل وعلي كاشف الصابونجي من الجهة القبلية، وقد تقدَّم أنهما ذهبا وعادا ثم رجعا ثانيًا على الهجن لتقرير الصلح، ثم رجعا ولم يظهر أثر لذلك الصلح.

وحكى الناس عنهما أن المذكورَين لما ذهبا إلى أسيوط وجدا إبراهيم بك قد انتقل إلى ناحية طحطا، واجتمعا بعثمان بك حسن والبرديسي فلم يرضيا بالتوجه الذي وجها به إليهم، وهو من حدود جرجا، وقالا: لا يكفينا إلا من حدود المنية، فإن الفرنساوية كانوا أعطوا حكم البلاد القبلية من حدود المنية لمراد بك بمفرده، فكيف أنه نحن الجميع من جرجا، وشرطوا أيضًا أنه إن استقر الصلح على مطلوبهم فلا بد من إخلا الإقليم من هذه العساكر الذين لا يتحصل منهم إلا الضرر والخراب والدمار والفساد، ولا يبقى الباشا منهم إلا مقدار ألفَي عسكري، وقالوا: إنه أيضًا إذا لم يعطِنا مطلوبنا، فهو لا يستغني عن أناس من العسكر يقيمون بالبلاد التي يبخل علينا بها؛ فنحن أولى له وأحسن منهم، ونقوم بما على البلاد من المال والغلال، وعند ذلك يحصل الأمن وتسير المسافرون في المراكب، وترد المتاجر والغلال ويحصل لنا وله راحة، وأما إذا استمر الحال على هذا المنوال فإنه لم يزل متعبًا من كثرة العسكر ونفقاتهم، وكذلك ساير البلاد على أنه إن لم يرضَ بذلك فها هي البلاد بأيدينا، والأمر مستمر معنا ومعهم على التعب والنَّصَب.

وفي رابعه ورد الخبر بأن جماعة من كبار العسكر، وفيهم سليمان أغا الأرنؤدي الذي تولى كشوفية منفلوط ومعهم عدة وافرة من العسكر عدوا من المنية إلى البر الشرقي بالمطاهرة؛ بسبب ما عندهم من القحط وعدم الأقوات لإحاطة المصريين بهم، فلما دخلوا إلى بلدة المطاهرة وملكوها وصل إليهم بعض الأُمرا والأجناد، وأحاطوا بهم وحاربوهم أيامًا حتى ظهروا عليهم وقتلوا منهم، وهرب من هرب وهو القليل، وأسروا الباقي وفيهم سليمان أغا المذكور، فالتجأ إلى بعض الأجناد فحماه من القتل، وقابل به كبار الأُمرا فأنعموا عليه بكسوة ودراهم وسلاح، وأقام معهم أيامًا ثم استأذنهم للعود، وحضر إلى مصر وجلس بداره.

وفيه ورد الخبر أيضًا بموت الأمير بشتك بك المعروف بالألفي الصغير مبطونًا.

وفيه أيضًا حضر حجاج الخضري الرميلاتي إلى مصر، وقد كان خرج من مصر بعد حادثة خورشيد باشا خوفًا من العسكر، وذهب إلى بلده بالمنوات ثم ذهب عند الألفي وأقام في معسكره إلى هذا الوقت، ثم إن الألفي طرده لنكتة حصلت منه، فرجع إلى بلده وأرسل إلى السيد عمر فكتب له أمانًا من الباشا، فحضر بذلك الأمان وقابل الباشا وخلع عليه ونادوا له في خطته بأنه على ما هو عليه في حرفته وصناعته ووجاهته بين أقرانه، فصار يمشي في المدينة وصحبته عسكري ملازم له.

وفي يوم الجمعة تاسعه كان يوم الوقوف بعرفة، وفي ذلك اليوم ركب محمد علي بالأبهة الكاملة وصلى الجمعة بالمشهد الحسيني، ولم يركب من وقت ولايته بالهيئة إلا في هذا اليوم، وفي عصر تلك الليلة ضربوا عدة مدافع من القلعة إعلامًا بالعيد، وكذلك في صبحها وفي كل وقت من الأوقات الخمسة مدة أيام التشريق.

وفي رابع عشره حضر جاهين بك الألفي ومعه طوايف من العربان إلى إقليم الجيزة، وأخذوا الكلف وأغنامًا من البلاد ودراهم، وأُشيع بذلك وأمروا بخروج العساكر إليهم، وركب محمد علي باشا في يوم الخميس وخرج إلى ناحية بولاق، وأنزلوا من القلعة جبخانة ومدافع وطفقوا يخطفون الحمير من الأسواق إن وجدوها، وعدى طايفة من العساكر الخيالة إلى بر الجيزة، وعدى طاهر باشا إلى بر إنبابة وصحبته عساكر كثيرة، وأزعجوا أهل القرية وأخرجوهم من دورهم وسكنوا بها، وأطلقوا دوابهم وخيولهم على المزارع، فأكلوها بأجمعها ولم يُبقوا منها ولا عودًا أخضر في أيام قليلة.

وفيه اختفى حجاج الخضري أيضًا؛ بسبب ما داخله من الوهم والخوف من العسكر.

وفي عشرينه شرع عساكر حسن باشا في التعدية من ناحية معادي الخبيري إلى البر الآخر.

وفي يوم الأحد خامس عشرينه عدى حسن باشا أيضًا.

وفي يوم الاتنين نودي في الأسواق على العساكر الذين لم يكونوا في قوايم العسكر الذين يقال لهم القبسيز، بالسفر والخروج إلى بلادهم، ومن وُجد منهم بعد ثلاثة أيام قُتل، وكذلك كتبوا فرمانات وأرسلوها إلى البلاد بمعنى ذلك، ومن كان من أهل البلد أو المغاربة أو الأتراك بصورة العسكر ومتزييًا بزيهم فلينزع ذلك، وليرجع إلى زيه الأول.

وفيه أيضًا نودي على المعاملة الناقصة لا تقبض إلا بنقص ميزانها؛ لأن المعاملة فحش نقصها جدًّا، وخصوصًا الذهب البندقي الذي كان أحسن أصناف العملة في الوزن والعيار والجودة، فإن العسكر تسلطوا عليه بالقص فيقصون من المشخص الواحد مقدار الربع أو أكثر وأقل، ويدفعونه في المشتروات، ولا يقدر المتسبب على رده أو طلب أرش نقصه، وكذلك الصيرفي لا يقدر على رده أو وزنه، وقُتل بذلك قتلى كثيرة، وأغلق الصيارف حوانيتهم وامتنعوا من الوزن خوفًا من شرهم.

وكذلك نودي على التعامل في بيع البن بالريال المعاملة وهو تسعون نصفًا، وقد كان الاصطلاح في بيع البن بالفرانسة فقط، وبلغ صرف الفرانسة ماية وثمانين نصفًا ضعف الأول، وعز وجوده لرغبة الناس فيه لسلامته من الغش والنقص؛ لأن جميع معاملة الكفار سالمة من الغش والنقص بخلاف معاملات المسلمين، فإن الغالب على جميعها الزيف والخلط والغش والنقص.

فلما انطبعوا على ذلك ونظروا إلى معاملات الكفار وسلامتها، تسلطوا عليها بالقطع والتنقيص والتقصيص؛ تتميمًا للغش والخسران والانحراف عن جميع الأديان، وقال : «الدين المعاملة ومن غشنا فليس منا»، فيأخذون الريالات الفرانسة إلى دار الضرب ويسبكونها، ويزيدون عليها ثلاثة أرباعها نحاسًا ويضربونها قروشًا يتعاملون بها، ثم ينكشف حالها في مدة يسيرة وتصير نحاسًا أحمر من أقبح المعاملات شكلًا ووضعًا، لا فرق بينها وبين الفلوس النحاس التي كانت تصرف بالأرطال في الدول المصرية السابقة في الكَمِّ والكَيْفِ، بل تلك أجمل من هذه في الشكل، وقد شاهدنا كثيرًا منها وعليها أسما الملوك المتقدمين، ووزن الواحد منها نصف أوقية، وكان الدرهم المتعامَل به إذ ذاك من الفضة الخالصة على وزن الدرهم الشرعي ستة عشر قيراطًا، ويُصرف بثلاثة أرطال من الفلوس النحاس، فيكون صرف الدرهم الواحد اتنين وسبعين فلسًا تُستعمل في جميع المشتروات والمرتبات والمعاليم ولوازم البيوت والجزئيات والمحقرات.

فلما زالت الدولة القلوونية وظهرت دولة الجراكسة، واستقر الملك المؤيد شيخ في سلطنة مصر وبدا الاختلال، اختصر الدرهم المتعامَل به وجعله نصف درهم وهو ثمانية قراريط، وسُمي نصف مؤيدي، ولم تزل تتناقص حتى صارت في آخر الدولة الجركسية أقل من ربع الدرهم.

واختل أمر الفلوس النحاس والمرتبات والوظايف بالأوقاف المشروط فيها صرف المعاليم بالفلوس، ولم يزل الحال يختل ويضعف بسبب الجور والطمع والغش وغباوة أولي الأمر، وعمى بصايرهم عن المصالح العامة التي بها قوام النظام، حتى تلاشى أمر الدراهم جدًّا في الوزن والعيار، وصار الدرهم المعبر عنه بالنصف أقل من العشر للدرهم، وفيه من الفضة الخالصة نحو الربع، فيكون في النصف الذي هو الآن بدل الدرهم الأصلي من الفضة الخالصة أقل من ربع العشر، فيكون في النصف الواحد من معاملتنا الآن الذي وزنه خمس قمحات قيراط وربع ثلث قيراط من الفضة، وذلك بدل عن ستة عشر قيراطًا وهو الدرهم الأصلي الخالص.

فانظر إلى هذا الخسران الخفي الذي انمحقت به البَركة في كل شي، فإن الدرهم الفضة الآن صار بمنزلة الفلس النحاس القديم، فتأمل واحسب تجد الأمر كذلك، فإذا فرضنا أن إنسانًا اكتسب ألف درهم من دراهمنا هذه، فكأنه اكتسب خمسة وعشرين لا غير وهو ربع عشرها، على أنه إذا حسبنا قيمة الخمسة وعشرين في وقتنا هذا عن كل درهم ثلاثون نصفًا، فإنها تبلغ سبعماية وخمسين، ويذهب الباقي وهو مايتان وخمسون هدرًا.

وأما الذهب فإن الدينار كان وزنه في الزمن الأول مثقالًا من الذهب الخالص، ثم صار في الدولة الفاطمية وما بعدها عشرين قيراطًا، وكان يُصرف بثلاثين درهمًا من الفضة، فلما نقص الدرهم زاد صرف الدينار إلى أن استقر وزن الدينار في أوايل القرن الماضي ثلاثة عشر قيراطًا ونصفًا، ويُصرف بتسعين نصفًا وهو المعبَّر عنه بالأشرفي، والطرلي المعروف بالفندقلي يُصرف بماية وكانا جيدين في العيار، وكذلك الأنصاف العددية كانت إذ ذاك جيدة العيار والوزن، وكان الريال يصرف بخمسين نصفًا، والريال الكلب باثنين وأربعين نصفًا.

ثم صار الدينار وهو المحبوب الجنزرلي بماية وخمسين والفندقلي بماية وعشرين والفرانسة بستين، ثم حدث المحبوب الزر في أيام السلطان أحمد بدلًا عن الجنزرلي وغلا صرف الجنزرلي، وكان في وزن المشخص وعياره، ووزن الزر ثلاثة عشر قيراطًا ونصف.

إلى أن زاد الاختلال في أيام علي بك والمعلم رزق واستيلاه على دار الضرب والقروش، واستعمل ضرب القروش واستكثر منها، وزاد في غشها لكثرة المصاريف على العساكر والتجاريد والنفقات، واستقر الأشرفي المعروف بالزر بماية وعشرة، والطرلي بماية وستة وأربعين، والمشخص بمايتين، والريال الفرانسة بخمسة وثمانين مدة من أيام علي بك، وفحش وجود القروش المفردة وضعفها، وأجزاها حتى لم يبقَ بأيدي الناس من التعامل إلا هي، وعز باقي الأصناف المذكورة، وطلبت للسبك والادخار وصياغة الحلي فترقت في المصارفة والأبدال، فلما زالت دولة علي بك وتملك محمد بك أبو الدهب نادى بإبطال تلك القروش بأنواعها رأسًا، فخسر الناس خسارة عظيمة من أموالهم، وباعوها بالأرطال للسبك، واقتصروا على ضرب الأنصاف العددية والمحبوب الزر والنصفيات لا غير، ونقصوا من وزنها وعيارها ونقصت قيمتها وغلت في المصارفة، وزاد الحال بتوالي الحوادث والمحن والغلا والغرامات، وضيق المعاش وكساد البضايع، وتساهلوا في زيادة المصارفة وخصوصًا في ثمن السلع والمبايعات وخلاص الحقوق من المماطلين، واقترن بذلك تغافل الحكام وجورهم وعدم الْتِفاتهم لمصالح الرعية وطمعهم، وتركهم النظر في العواقب إلى أن تجاوزت في وقتنا هذا الحدود.

وبلغت في المصارفة أكثر من الضعف، وصار صرف المحبوب مايتين وخمسة بل وعشرة، والريال الفرانسة بماية وخمسة وسبعين بل وتمانين، والمشخص البندقي بأربعماية وأكثر، والمجر بتلتماية وستين والفندقلي بتلتماية وعشرين وهو الجديد، ويزيد القديم لجودة العيار، فإذا أبدل السليمي الموجود الآن بالمحمودي زِيد في مصارفته أربعون نصفًا وأكثر بحسب الرغبة والاحتجاج، ويتفاوت أيضًا المحمودي بمثله فيزيد أبو وردة عن الراغب، ويزيد الراغب عن الذي فيه حرف العين، ويكون المحبوبان في تحويل المعاملة بدلًا عن المشخص الواحد مع أن وزنهما سبعة وعشرون قيراطًا، ووزن المشخص تمانية عشر قيراطًا، فالتفاوت بينهما تسعة قراريط، وهي ما فيه من الخلط وغير ذلك مما يطول شرحه ويعسر تحقيقه وضبطه.

ولم يزل أمر المعاملة وزيادة صرفها وإتلاف نقودها واضطرابها مستمرًّا، وكل قليل ينادون عليها مناداة بحسب أغراضهم لا يُسمع ولا تُقبل ولا يُلتفت إليها؛ لأن أصل الكدر منبعث عنهم ومنحدر عن مجراة خبايثهم وفسادهم.

وفي آخره أذن الباشا لولده الكبير بالذهاب لزيارة سيدي أحمد البدوي — رضي الله عنه — بطندتا، وعين صحبته أتباعًا وعسكرًا وهجنًا، وقرر له دراهم على البلاد ألف ريال فما دونها خلاف الكلف، وكذلك سافر حريمات وريستهن حريم مصطفى أغا الوكيل في هيئة لم يسبق مثلها في تختروانات وعربات ومواهي وأحمال وجِمال وعسكر وخدم وفراشين، وفرضوا لهن أيضًا مقررات على البلاد وكلفًا ونحو ذلك، وأظن أن هذه المحدثات من أهوال القيامة.

وانقضت السنة وما حصل فيها من الحوادث والإنذارات.

ومات فيها الإمام العلامة والبحر الفهامة صدر المدرسين وعمدة المحققين مفتي الحنفية بالديار المصرية الشيخ محمد عبد المعطي ابن الشيخ أحمد الحريري الحنفي، وُلد سنة ثلاث وأربعين وماية وألف، ونشأ في عفة وصلاح، وحَفظ القرآن وجوَّده، وحفظ المتون، وحضر أشياخ العصر، وجوَّد الخط وكان ينسخ بالأجرة، وكتب كتبًا كثيرة وخطه في غاية الصحة والجودة، وغالبها في الأدبيات كالريحانة وخبايا الزوايا وخزانة الأدب، والتي بخطه من ذلك في غاية الحسن والقبول، وكان شافعي المذهب ثم تحنَّف، وحضر على أشياخ المذهب مثل: الشيخ محمد الدلجي والشيخ محمد العدوي، ولازم الشيخ حسن المقدسي ملازمة كلية وانتسب إليه، وعرف به وحضر عليه وتلقى عنه غالب الكتب المشهورة في المذهب، وحضر باقي العلوم على الشيخ الملوي والحفني والشيخ علي العدوي وغيرهم، وكان يكتب الأجوبة على الفتاوى عن لسانه.

ولما تُوُفِّيَ شيخه المذكور تقرر مكانه في وظيفة الخطابة والإمامة، بجامع عثمان كتخدا بالأزبكية، وسكن بالدار المشروطة له بها السكنى برحاب الجامع المذكور، وكانت خطبه في غاية الخفة والاختصار، ولوعظه وقْع في النفوس لخلُوِّه عن التصنع.

ولما مات الشيخ أحمد الدمنهوري في سنة اتنين وتسعين وماية وألف، وحصل ما حصل للشيخ عبد الرحمن العريشي — كما تقدَّم — تعين المترجم لمشيخة الحنفية والفتوى عوضًا عن المذكور قبل وفاته بأيام قليلة، وكان أهلًا لذلك وكفئًا له، وسار فيها سيرًا حسنًا بحشمة، واشتُهر ذكره وقصدتْه الناس للفتوى والإفادة، وأقبلت عليه الدنيا وسكن دارًا مشرفة على الأزبكية جارية في وقف عثمان كتخدا، واشترى أيضًا دارًا نفيسة بالجودرية وأسكنها لغيره بالأجرة وانحصرت فيه وظايف مشيخة الحنفية كالتدريس في مدرسة المحمودية والصرغتمشية والمحمدية وغيرها، فكان يباشر الإقرا بنفسه في بعضها، والبعض ولده العلامة الشيخ إبراهيم.

ولم يزل يُقري ويُملي ويُفيد حتى في حال انقطاعه؛ وذلك أنه لما مات أحمد أغا غانم وحصل بين عتقايه منازعة، ثم اتفقوا على تحكيم المترجم بينهم والتمسوا منه أن يذهب صحبتهم إلى فوة ليصلح بينهم، فلما ذهب إلى بولاق وأراد النزول في السفينة اعتمد على بعض الواقفين فعثرت رجله، فقبض ذلك الرجل على معصمه فانكسر عظمه لنحافة جسمه، فعادوا به إلى داره وأحضروا له من عالجه حتى بري بعد شهور وفرحوا بعافيته، ودعاه بعض أحبابه بناحية قناطر السباع فركب وذهب إليه، وكانت أول ركباته بعد برئه، فلما طلع إلى المجلس وأراد الصعود إلى مرتبة الجلوس زلقت رجله فانكسر عظم ساقه وتكدر الحاضرون وحملوه، وذهبوا به إلى داره وأحضروا له المعالج فلم يحسن المعالجة، وتألم كثيرًا واستمر ملازمًا للفراش نحو سبع سنوات، ثم تُوُفِّيَ يوم الأربع سابع عشر رجب من السنة عن سبع وسبعين سنة، ودُفن بتربة الأزبكية.

وتعين بعده في المشيخة والإفتا ولده المحقق العلامة المستعد الشيخ إبراهيم — أدام الله النفع بحياته، وحفظ عليه أولاده — وللمترجم مآثر وتقييدات ومنظومات وضوابط وتخميسات، فمن ذلك قوله:

مُشَبَّهٌ به مع المشبهِ
أداة تشبيهٍ ووجهُ شَبَهِ
والخامسُ المشبهُ النبيهُ
فقد حوى أركانَه التشبيهُ

وله تخميس على البيتين المشهورين:

قد قلت لمَّا وَهَى جسمي وأقلقني
ما حلَّ بي من سقام أنحلت بدني
وما رماني به دهري من المحن
يا رب إن كان تمريضي يقربني
زُلفى إليك فباب العفو أوسع لي
أو كان من أجْل عصياني الذي عظُما
وسوء ما قلته جهرًا ومكتتما
فالعفو عمَّن عصى من شيمة الكرم
أو كان من أجل تمحيص الذنوب فما
يحتاج عفوك للأسقام والعلل

وله تخميس أيضًا على المنبهجة، وتخميس على قصيدة الشيخ عبد الله الشبراوي المشهورة، وأوله:

إن نفسي وغيَّها والتمني
صيرت دأبِيَ المعاصي وفني
ثم إني ناديت من حسن ظني
ربِّ إني تعاظم الذنبُ منِّي
غير أني وجدت عفوك أعظمْ

إلى آخرها، وله غير ذلك — سامحه الله.

ومات الأجلُّ الأمثل المفوَّه المنشي النبيه الفصيح المتكلم عثمان أفندي ابن سعد العباسي الأنصاري، من ولد آخر الخلفا العباسية بمصر المتوكل على الله، ووالده يُعرف بالأنصاري من جهة النسا من بيت السيادة والخلافة، وُلد بمصر وبها نشا واشتغل بالعلم على فُضلا الوقت ومهر في الفنون بذكاه، وعانى الحساب والنجوم فأخذ منها حظًّا.

ونزل كاتب سر في ديوان بعض الأُمرا، ولامه بعض محبيه في ذلك، فاعتذر أنه إنما قدم عليه صيانة لبعض بلاده وضياعه التي استولت عليها أيدي الظلمة، فلا محيد له عن عشرتهم.

واجتمع بشيخنا الشيخ محمود الكردي وأراد السلوك في طريق الخلوتية، وترك شرب الدخان، ولازمه كثيرًا وتلقن الاسم الأول والأوراد، وأقلع عما كان عليه حتى لاحت عليه أنوار ملازمته واعتقده جدًّا.

وبعد وفاة الأستاذ رجع إلى حالته وشرب الدخان، ثم ولي خليفة على غلال الحرمين فباشرها بشهامة، ثم ولي روزنامة مصر بصرامة وقوة مراس وشدة ومخادعة، وراج أمره واتسع حاله وزادت حشمته، وذلك بعد عزل أحمد أفندي أبي كلبة وقبل وفاة السيد محمد أفندي الكماخي الروزنامجي، وثقل أمره على باقي الكتبة والناس، فأغروا عليه وعزلوه فضاق صدره وزاد قلقه.

وحدث فيه رعونة، وتردَّد لمشاهد الأوليا في الليل والنهار يبتهل ويدعو ويفرق خبزًا ودراهم، ويأوي إليه المجاذيب والذين يدَّعون الصلاح والولاية فيكرمهم برهة ويرون له مرائي ومنامات وإخباريات، فيزداد هَوَسُه، ثم لما يطول الحال ينقطع عنهم ويبدلهم بآخرين وهكذا.

وكان ينام مع بعضهم في الحريم ويترجم بعضهم بمكاشفات وشطحيات ويقول: فلان يطَّلع على خطرات القلوب، وفلان يصعد إلى السما، ومن كرامات فلان كذا، ثم يرجع عن ذلك.

ولما مات السيد محمد أعيد في كتابة الروزنامة أيضًا، واستمر بها ثمانية عشر شهرًا، وكانت إعادته في سنة ثمانٍ بعد المايتين، ثم انحرف عليه إبراهيم بك الكبير وعزله، وكان يظن أن الأمر يَئُول إليه فلم يتم له ذلك.

وأحضر إبراهيم بك السيد إبراهيم ابن أخي المُتَوَفَّى وقلده ذلك، فعندها أَيِسَ المترجم منها واختلفت الأمور بحدوث الفتن، وتقلب الدول والأحوال، ولازم شأنه وبيته بعد رجوعه من هجرته إلى الشام في حادثة الفرنسيس، واعترته الأمراض واجتمعت لديه كتب كثيرة في ساير العلوم، وبيعت بأسرها في تركته.

توفي يوم الأربع خامس عشري شوال من السنة.

ومات العمدة الإمام الصالح الناسك العلامة والبحر الفهامة الشيخ محمد بن سيرين بن محمد بن محمود بن جيش الشافعي المقدسي، وُلد في حدود الستين وقدم به والده إلى مصر فقرا القرآن واشتغل بالعلم وحضر دروس الشيخ عيسى البراوي فتفقه عليه، وحلت عليه أنظاره وحصل طرفًا جيدًا من العلوم على الشيخ عطية الأجهوري ولازمه ملازمة كلية، وبعد وفاة شيخه اشتغل بالحديث فسمع صحيح مسلم على الشيخ أحمد الراشدي، واتصل بشيخنا الشيخ محمود الكردي فلقَّنه الذكر، ولازمه وحصلت له منه الأنوار.

وانجمع عن الناس ولاحت عليه لوايح النجابة، وألبسه التاج وجعله من جملة خلفا الخلوتية، وأمره بالتوجه إلى بيت المقدس فقدمه وسكن بالحرم، وصار يذاكر الطلبة بالعلوم ويعقد حلقة الذكر، وله فهم جيد مع حدة الذهن، وأقبلت عليه الناس بالمحبة، ونُشر له القبول عند الأُمرا والوزراء، وقُبلت شفاعته مع الانجماع عنهم وعدم قبول هداياهم.

وأخبرني بعض من صحبه أنه يفهم من كلام الشيخ ابن العربي، ويقرره تقريرًا جيدًا، ويميل إلى سماعه، وحج من بيت المقدس وأصيب في العقبة بجراحة في عضده وسلب ما عليه، وتحمل تلك المشقات ورجع إلى مصر فزار شيخه الشيخ محمودًا، وجلس مدة ثم أذن له بالرجوع إلى بلده، وسمع أشيا كثيرة في مبادي عمره، واقتبس من الأشياخ فوايد جمَّة حتى قبل اشتغاله بالعلم.

وفي سنة ١١٨٢ كتب إلى شيخنا السيد مرتضى يستجيزه، فكتب له أسانيده العالية في كراسة وسماها قلنسوة التاج، وقد تقدم ذكرها في ترجمة السيد مرتضى، ولم يزل يُملي ويُفيد ويدرس ويُعيد، واشتُهر ذكره في الآفاق، وانعقد على اعتقاده وانفراده الاتفاق، وسطعت أنواره وعمت أسراره وانتشرت في الكون أخباره، وازدحمت على سُدَّته زواره إلى أن أجاب الداعي ونعتْه النواعي، وذلك سابع عشرين شهر شعبان من السنة، ولم يخلف بعده مثله، وبه ختمت دايرة المسلكين من الخلوتية ورجال السادة الصوفية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤