إيقاظ الرقود

إلى كم أنتَ تهتف بالنشيدِ
وقد أعياك إيقاظ الرقودِ؟!
فلستَ وإن شددت عرى القصيد
بمُجدٍ في نشيدك أو مفيد
لأن القوم في غيٍّ بعيدِ
إذا أيقظتَهم زادوا رقادا
وإن أنهضتهم قعدوا وثادا
فسبحان الذي خلق العبادا
كأن القوم قد خُلقوا جَمادا!
وهل يخلو الجماد عن الجمود
أطلْت وكاد يُعييني الكلامُ
مَلامًا دون وقعته الحسامُ
فما انتبهوا ولا نفع الملام
كأنَّ القومَ أطفال نيام
تُهزُّ من الجهالة في مهود
إليكِ إليكِ يا بغدادُ عنِّي
فإني لستُ منكِ ولستِ منِّي
ولكنِّي وإن كَبُر التجني
يعِزُّ عليَّ يا بغداد أني
أراك على شَفا هولٍ شديد
تتابعتِ الخطوبُ عليكِ تتْرى
وبُدِّل منكِ حُلْو العيش مُرَّا
فهلَّا تُنجِبين فتًى أغرَّا؟
أراكِ عقمتِ لا تلدين حُرا
وكنتِ لمثله أزكى ولودِ
أقام الجهل فيكِ له شهودا
وسامكِ بالهوان له السُّجودا
متى تُبدين منك له جحودا
فهلَّا عدتِ ذاكرةً عهودا
بهن رَشدْت أيام الرشيدِ؟
زمانَ نفوذُ حكمك مستمرُّ
زمانَ سحابُ فيضكِ مستدرُّ
زمانَ العلمُ أنت له مقرُّ
زمانَ بناءُ عزك مُشْمَخِرُّ
وبدرُ علاك في سعدِ السعودِ
برَحتِ الأوجَ ميلًا للحضيضِ
وضقت وكنت ذات عُلًا عريضِ
وقد أصبحت في جسم مريضِ
وكنتِ بأوجه للعزِّ بيضِ
فصرت بأوجهٍ للذلِّ سُودِ
ترقَّى العالَمون وقد هبطنا
وفي دَرَك الهوان قد انحططنا
وعن سَنَنِ الحضارة قد شَحَطْنا
فقَطْنا يا بني بغداد قَطْنا!١
إلى كم نحنُ في عيش القُرودِ؟!
ألم تكُ قبلنا الأجدادُ تبني
بناءً للعلوم بكل فنِّ؟
لماذا نحن يا أسرى التأنِّي
أخذنا بالتقهقرِ والتدنِّي؟!
وصرنا عاجزين عن الصعودِ
كأنْ زُحَلٌ يشاهدُ ما لدينا
لذاك احمرَّ من حَنَقٍ علينا
فقال موجِّهًا لومًا إلينا:
لوَ انِّي مثلكم أمسيتُ هيْنا
إذن لنضوتُ جلبابَ الوجود
رَكدتُم في الجهالة وهي تمشي
وعِشتم كالوحوش أخسَّ عيش
أما فيكم فتًى للعز يمشي؟!
تباركَ مَنْ أدار بناتِ نَعش!٢
وصفَّدكم بأصفاد الركودِ
حكيتم في توقُّفكم جُدَيَّا
فصرتم كالسها شَعبًا خفيَّا٣
ألا تجرون في مجرَى الثريَّا
تؤمُّ بدَورها فلَكًا قصيَّا؟
فتبرزَ منه في وضع جديدِ

•••

حكومة شعبنا جارتْ وصارتْ
علينا تستبدُّ بما أشارت
فلا أحدًا دعته ولا استشارت
وكل حكومة ظلمت وجارت
فبشِّرها بتمزيق الجدُودِ
حكومتنا تميلُ لباخسيها
مُجَانِبةً طريقَ مُؤسِّسيها
فلا يَغرُرْكَ لينُ مُلابسيها
فهم كالنار تحرِقُ لامسيها
وتحسنُ للنواظر من بعيدِ
لقد غَصَّ «القصيمُ» بكل نذلِ
وأمسى من تخاصمهم بشغل٤
فريقا خُطَّتَيْ غيٍّ وجهل
كلا الخصمين ليس له بأهلِ
ولكن مَنْ لتنكيل المريد٥
إليهم أرسلت بغدادُ جُندَا
ليهلك فيه من عبثٍ ويُفدَى
لقصدي ابن الرشيد أضاع قصدَا
فلا يا ابن الرشيدِ بلغتَ رُشدا
ولا بلغ السعودَ ابنُ السعودِ
مشوا يتحركون بعزمِ ساكنْ
ورثةُ حالهم تبكي الأماكنْ
وقد تركوا الحلائلَ في المساكنْ
جنود أَرسلت للموت لكنْ
بفتك الجوع لا فتك الحديد
قد التفعُوا بأسمالٍ بَوالِ
مُشاةٍ في السهول وفي الجبال
يُجدُّون المسيرَ بلا نِعالِ
بحالٍ للنواظر غير حالِ
وزيٍّ غيرِ ما زيِّ الجنودِ
مشوا في منهجٍ جهلوه نهجا
يجوبون الفلا فجًّا ففجَّا٦
إلى حيثُ السلامة لا ترجَّى
فيا لهفي على الشبَّان تزجى٧
على عبثٍ إلى الموت المبيدِ!
وكلٌّ مُذ غدوا للبيت أَمَّا
فودَّع أهله زوجًا وأُما٨
وضمَّ وليدَه بيدٍ وشمَّا
بكى الولد الوحيدُ عليه لمَّا
غدا يبكي على الولد الوحيدِ
تقول له الحليلةُ وهو ماشِ:
رُويدًا لا برحت أَخا انتعاش!
فبعدَك مَنْ يحصِّل لي معاشي؟!
فقال، ودمعه بادي الرشاشِ:
وكلتكمُ إلى الربِّ الودُودِ
عساكر قد قضوا عُريًا وجوعا
بحيثُ الأرضُ تبتلع الجموعا
إلى أن صار أغناهم ربُوعا
لِفرط الجوع مرتضيًا قنوعا
بِقِدٍّ لو أصاب من الجلودِ٩
هناك قضوا وما فتحوا بلادا
هناك بأسرِهم نفدُوا نفادا
هناك بحيرَةٍ عدِموا الرشادا
هناك لرَوعهم فقدُوا الرقادَا
هناك عرُوا هناكَ من البرودِ
أناديهم ولي شجنٌ مَهيجُ
وأذكرهم فينبعثُ النشيج
ودمعُ محاجري بدمٍ مزيجُ
ألا يا هالكين لكم أجيج١٠
ذكا بحشايَ محتدمَ الوقودِ
سكنَّا عن جهالتنا بقاعا
يجور بها المؤمَّر ما استطاعا
فكدنا أن نموت بها ارتياعا
وهبنا أمة هلكت ضياعا
تولى أمرها عبدُ الحميد
أيا حرية الصحف ارحمينا
فإنَّا لم نزل لك عاشقينا
متى تصلين كيما تطلقينا
عِدينا في وصالكِ وامطلينا
فإنا منك نقنعُ بالوعود
فأنت الروحُ تشفينَ الجروحا
يُحَرَّج فقدك البلد الفسيحا
وليس لبلدةٍ لم تحوِ روحا
وإن حوت القصور أو الصروحا
حياةٌ تُستفاد لمستفيد١١
أقول، وليس بعضُ القول جِدًّا
لسلطانٍ تجبَّر واستبدا
تعدَّى في الأمور وما استعدَّا
ألا يا أيها الملكُ المفدَّى
وَمَنْ لولاهُ لم نكُ في الوجود
أَنِمْ عن أن تسوسَ الملك طرفا
أقم ما تشتهي زمرًا وعزفا
أَطِلْ نكرَ الرعية، خلِّ عُرفا
سُمِ البلدان مهما شئتَ خسفا
وأرسلْ مَنْ تشاء إلى اللحود
فدَتكَ الناس من ملكٍ مُطاعِ
أبن ما شئت من طُرُق ابتداع
ولا تخشَ الإلهَ ولا تراعِ
فهل هذي البلادُ سوى ضياع
ملكت، أو العبادُ سوى عبيدِ؟
تنعَّم في قصورك غير دارِ
أعاش الناسُ أم هم في بوار؟
فإِنك لن تطالب باعتذار
وهَبْ أن الممالك في دمار
أليس بناء «يلدزَ» بالمشيد؟!
جميع ملوك هذي الأرض فُلْكُ
وأنت البحر فيك ندًى وهُلكُ
فأنَّى يبلغوك وذاك إِفكُ؟!
لئن وهبوا النقودَ فأنت ملكُ
وَهُوبٌ للبلاد وللنقودِ
١  شحطنا: بعدنا. قطنا: حاسبنا وكافينا.
٢  بنات نعش قسمان: كبرى وصغرى، وكل منهما سبعة كواكب، أربعة نعش وثلاثة بنات.
٣  الجدي: أحد البروج الاثني عشر وأصله غير مصغر. السها: نجم خفي تمتحن الأبصار برؤيته.
٤  القصيم: اسم محل.
٥  المريد: بفتح الميم، هو الخبيث المتمرد الشرير.
٦  فجًّا ففجًّا: أي طريقًا فطريقًا، وأصل الفج: الطريق الواسع بين جبلين.
٧  تزجى: تدفع.
٨  أَمَّ: قصد.
٩  القد: بكسر القاف، هو القطعة من الجلد غير المدبوغ والنعل الذي لم يجرد عن الشعر.
١٠  الأجيج: الالتهاب.
١١  حياة مرفوع بليس؛ لأنه اسمها، وخبرها الجار والمجرور «لبلدة».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤