جالينوس العرب أو أبو بكر الرازي

ألا لفتة منا إلى الزمن الخالي
فنغبِط من أسلافنا كل مفضالِ!
تَلونا أناسًا في الزمان تقدمُوا
وكم عِبرَةٍ فيمن تقدَّم للتالي!
ألا فاذكروا يا قوم أربع مجدكم
فقد درست إلا بقية أطلالِ
تطلبتمُ صفوَ الحياة وأنتمُ
بجهلٍ، وهل تصفو الحياةُ لجُهَّالِ
وما أنتمُ إلا كسكرانَ طافحٍ
تحسَّى من الصهباءِ عشرة أرطال١
مشى بارتعاشٍ في الطريق فتارةً
يقوم وأخرى ينهوي فوق أوحال
يمدُّ إلى الجدران كفَّ استنادةٍ
فتقذفه الجدران قذفة عذال

•••

رمى الدهر قومي بالخمول فلمتهم
وأوسعتهم عذلًا فلم يُجْدِ تَعذالي٢
فهاج البكا يأسي فلمَّا بكيتهم
بدمعيَ حتى بَلَّ دمعيَ سِربالي
نظرت إلى الماضي وفي العين حُمرةٌ
كأنّ على آماقها نضحَ جرْيال٣
فشمتُ بروق الأولين منيرةً
على أفقٍ من ذلك الزمن الخالي٤
«تنوَّرتها من أذْرِعاتَ وأهلها
بيثربَ أدنى دارها نظرٌ عال»٥
وقلَّبتُ طرفي في سماءِ رجالها
وهم فوق عرش للجلالة محلال٦
فآنست آثارًا وهم سِلك درِّها
وأبصرْتُ أعمالًا وهم جيدها الحالي
ولما طَويتُ الدهر بيني وبينهم
على بعد أزمان هناك وأجيال
قعدت بأوساط القرون فجاءني
«أبو بكرٍ الرازي» فقمت لإجلال
فتًى عاشَ أعمالًا جسامًا وإنما
تقدر أعمار الرجال بأعمال
حكيمٌ رياضي طبيبٌ منجِّمٌ
أديب وفي الكيمْياءِ حلَّال إشكال
أتى فيلسوفًا للنفوس مهذبًا
بأفضل أفعالٍ وأحسن أقوال
لقد طبَّب الأرواح من داءِ جهلها
كما طبَّب الأجسام من كل إعلال

مولده

تولد عامَ الأربعينَ الذي انقضى
لثالث قرنٍ ذي مآثر أزوال٧
إلى زكريا ينتمي، إنه له
أبٌ تاجرٌ في الريِّ صاحب أموال٨
على حينَ كانت بلدةُ الريِّ عادة
إلى العلم تعطو جيدَها غيرَ مِعطال٩
مدارسُ بالشُّبان تزهو ودونها
كتاتيب للتعليم تزهو بأطفال
بها جُلُّ درس القوم طبٌّ وحكمةٌ
وفلسفةٌ فيها لهم أيُّ إيغال
وكانت نفيسات الصنائع عندَهمْ
يحاولها ذو الفقر منهم وذو المال
وما كان هذا الحال في الرَّيِّ وحدها
بل الحال في البُلدان طُرًّا كذا الحال
فإنَّ هُدَى الإسلام أنهى فتوحهُ
وآصلها للحد أحسن إيصال
وبدَّلَ أبطال الحروب من الورَى
بأبطالِ علم للجهَالة قُتَّال١٠
فدارت رحى تلك العلوم وقطبُها
ببغداد مركوزٌ بربوة إجلال
وكانت يد المأمون في ذاك أخجلتْ
لسانَ العُلا في شكره أيَّ إخجال

منشؤه

تدرَّج في تلك المدارس ناشئًا
مُترْجمُنا يسعى بجدٍ وإقبال١١
تعلم فنَّ الصوت بادئ بدئه
ومارس تفصيلًا به بعد إجمال
فكانت بموسيقى اللحون دروسُهُ
تغَنَّى بإهزاج وتشدو بإرمال١٢
وقد جاوز العشرين سنًّا ولم يكن
لشيءٍ سوى فنِّ الغناء بميال
فرام أبوه منه تحويل عزمه
بجذب إلى شغل التِّجار وإدخال
فقال له: دعني مع العلم إنني
إذا ما أمَتُّ الجهل أحييتُ آمالي
وهل يستطيع المرءُ شغلًا إذا غدا
له شاغل بالعلم عن كل أشغال؟!
هناك استقى الرازي من العلم شربَهُ
فجاد بإعلالٍ له بعد إنهال١٣
ثنى سعيه نحو التعلم بادئًا
بعلمٍ لدى أهل التفلسف ذي بال
وقد كان مفتاح العلوم تَفلْسُفٌ
تُفكُّ به من جهلهم كلُّ أغلال
فزاول أنواع العلوم تنقُّلًا
بأبين أوضاح لها غيرِ أغفال١٤
نضا همَّةً في العلم مشحوذة الشَّبا
جلت ما لحرب الجهل من ليل قسْطال١٥
وقد أكمل الطب المفيدَ قراءةً
على الطبريِّ الحبر أحسنَ إكمال١٦

سياحته

ومذ جاوز الرازي الثلاثين واغتدى
مُدلًا على أقرانه أيَّ إدلال١٧
رأى من تمام العلم للمرء أنه
يسيح بضرْب في البلاد وتجوال
وما العلم إلا بالسياحة إنها
لمن عملوا في علمهم درسُ أعمال
فقام وشدَّ الرحل والغرزَ وامتطى
لقطع الفيافي متنَ هَوْجاء شملال١٨
فجاء بلادَ الشام توًّا وجازها
إلى مصر في وخْدٍ حثيثٍ وإرقال١٩
وخاض عُباب البحر للغرب قاصدًا
مواطنَ للإسلام لم يَسْلها السالي
ففيها احتلاهُ العز مذ لاح طالعًا
لها كهلالٍ يُجتلى عند إهلال
وحلَّ حلولَ البدر في السعد نائلًا
بقُرطبةٍ آماله ناعم البال
وهبَّ هبوبَ الرِّيح ثمَّةَ ذكرُه
يطيرُ على صِيتٍ من العلم جَوَّال
وودَّعها من بعد ذلك راجعًا
إلى مِصْرَ لا توديعَ مُستكرهٍ قال٢٠
ومنها إلى بغدادَ سافر قاطعًا
إليها الفلا ما بين حَلٍّ وترحال
فألقى عصا التَّسيار من عَرصاتها
بمغرس عرْفان ومَنبِتِ إفضال
وبغدادُ كانت وهي إذا ذاك جنة
بها العلم أجرى منه أنهارَ سَلسال
كأن رجالَ العلم في غُرُفاتها
بَلابلُ تشدو غُدوة بين أدغال
فكم مَحفل للكتْب فيه خِزانة
وكم مَرصد دانٍ وكم مَرقب عال٢١
ولما غدا الرازي ببغدادَ باسطًا
من العلم أبواعًا له ذات أطوال٢٢
أقيمَ لمارستانها عن كفاية
رئيسًا بتطبيبٍ وتدبير أحوال
فرتب مرضاه وأصلح شأنه
بما كان لم يخطر لسابق أجيال٢٣
وظل به يسعى طبيبًا مُمرِّضًا
ويبذل جُهدًا لم يكن فيه بالآلي٢٤
ويُلقي السريريَّات وَهْي مسائلٌ
لدى سُرُر المرضى تقرِّر في الحال
فقد كان يلقيها على القوم ناطقًا
بأوضح تبيانٍ وأحسن إملال٢٥

مآثره العلمية

لقد أشغل الرازي ببغدادَ شغلهُ
عدا الطب في الكِمْياء أعظم إشغال
فَقضَّى بها أيَّامه في تجاربٍ
وواصل أبكارًا لهنَّ بآصَالِ٢٦
فَلُقب فيها بالمجرِّب حرمة
تفرَّدَ مخصوصًا بها بين أمثال
وأصبح مشهورًا بأسنى مآثرٍ
من العلم لم يُسْبَق إليها وأعمال
فإن أبا بكرٍ لأولُ مفصح
إلى الناس بالدرس السريريِّ مقوال
وأولُ من أبدى لهم كيف يُبتنى
ويُفرش مارستانُهم قصد إبلال٢٧
وألَّف في المستشفيات مُؤلفًا
تقصى به في وصفها دون إغفال
ولا تنسَ للرازي الكحول فإنه
يجدِّد طول الدهر ذكراه في البال
ومن عمل الرازي انعقاد لسكَّرٍ
وما كان في محصوله غيرَ سيَّال

أخلاقه

أرى العلم كالمرآةِ يَصدأ وَجهُهُ
وليس سوى حُسن الخلائق من جالِ
أخو العلم لا يغلو على سوء خُلقهِ
وذو الجهل إن أخلاقُه حسنت غال
ولو وازنَ العلمُ الجبال ولم يكن
له حسنُ خُلق لم يَزن وزْن مثقالِ
وإن المَساوي وَهْي في خُلق عالم
لأقبح منها وهي في خُلق جُهال
ولكنَّما الرازي قد ازدان علمه
بأحسن أخلاق وأشرف أفعال
خلائق غُرٍّ إن أردت بيانها
بدأتُ بحرف الحاء والميم والدال
فتى كان مملوء الجوانح رحمة
بكل هَزيل الجسم من سُقم إقلال
يزور بيوتَ البائسين بنفسه
ويفتقد المرضى بفحص وتسآل
ويأتيهمُ بالمال والعلم مُسعدًا
لتطبيب أوجاع وتأمين أوجال٢٨
وما كان يقنو المال إلا لبذله
لتعليم علم أو لإعطاء سُؤَّال
وكان حليفَ الجد لم يألُ جهده
بدحض خصوم العلم من كل هَزال
فكم راح مخذولًا به متطببٌ
سعى كاذبًا في طِبِّه سَعْيَ إضلال
وكان سليمًا في العقيدة قلبه
بعيدًا عن الإلحاد ليس بخَتَّال
وخلِّ تفاصيل الأُلى ينسبونه
لزيغٍ فقد أغناك عنهن إجمالي

عودة إلى الريِّ

ولما قضى الرازي ببغداد بُرهة
مضى قافلًا للريِّ شوقًا إلى الآل
فلما أتى تلك البلاد غدا بها
طبيبًا لدى المنصور صاحبها الوالي
وألف للمنصور إذ ذاك باسمه
كتابًا حوى في الطب أحسن أقوال
ولم تصفُ للرازي أواخرُ عمره
وعاد أخا هَمٍّ شديدٍ وبَلبال
فقد عمِيت عيناه من بعَدُ واغتدى
يجول من الفقر الشديد بأسمال
وإن عِداءَ الدهر شِنشنةٌ له
يصول بها قهرًا على كل مفضال٢٩
ولما انتهى نحو الثمانين عمرُه
قضى نحبه من غير مالٍ وأنسال
ولكنه في الناس خَلَّف بعده
من العلم آثارًا قليلة أمثال
فكم كتبٍ أبقى بها الذكر في الورى
وألفها نسجًا على خير منوال
وما ضرَّ من أحيا له العلمُ بعده
على الدهر ذكرًا أنه مَيِّتٌ بال
وإني وإن طنَّبت في بحر علمه
لمقتصر منه على بعض أوشالِ٣٠
وها أنا أنهي القول لا لتمامهِ
ولكن بعجزي عن نهوضٍ بأجيال
وأجعل هذا الشعر مسكًا ختامه
بما قال في بيتين معناهما حال:
«لعمري وما أدري وقد آذن البلى
بعاجل ترحالٍ إلى أين ترحالي»
«وأين محل الروح بعد خروجها
من الهيكل المنحلِّ والجسَدِ البالي»
١  تحسى: شرب. الصهباء: الخمر.
٢  العذل والتعذال: اللوم.
٣  الآماق: جمع مؤق، وهو طرف العين مما يلي الأنف، وهو مجرى الدمع من العين. النضح: رشاش الماء ونحوه. الجرْيال: صبغ أحمر.
٤  شمت: نظرت، والوشيم: هو النظر إلى البرق خاصة.
٥  تنورتها: تبصرتها. أذرعات: بلد بالشام. يثرب: اسم المدينة المنورة.
٦  المحلال: المكان الذي يحل كثيرًا، وهو صفة لعرش.
٧  أزوال: جمع زول، وهو العجب.
٨  الري: مدينة مشهورة من أمهات البلاد وأعلام المدن.
٩  تعطو: ترفع، المعطال: التي ليس في جيدها حلي.
١٠  قتال: جمع قاتل.
١١  مترجمنا: يعني أبا بكر الرازي.
١٢  الإهزاج: مصدر أهزج المغني إذا أتى بالهزج. الإرمال: مصدر أرمل المغني إذا أتى بالرمل، وهو لحن من ألحان الموسيقى.
١٣  الإعلال: السقي بعد السقي. الإنهال: السقي الأول.
١٤  الأوضاح: جمع وضح، وهو الضوء، وبياض الصبح. الأغفال: جمع غفل، وهو ما لا علامة فيه توضحه وتبينه، طريقًا كان أو غيره.
١٥  نضا: جرَّد. مشحوذة: مسنونة. الشبا: جمع شباة، وهي حد السيف. القسطال: الغبار، أو هو خاص بغبار الحرب.
١٦  الحبر: العالم.
١٧  أدلَّ على أقرانه إدلالًا، فهو مدل: بمعنى تاه عليهم وتعالى.
١٨  الرحل: مركب للبعير. الغرز: ركاب الرحل من جلد، فإذا كان من خشب أو حديد فهو ركاب. امتطى: ركب. الفيافي: الأراضي المقفرة. المتن: الظهر. الهوجاء: الناقة السريعة السير. الشملال: الناقة السريعة الخفيفة.
١٩  الوخد: سير البعير السريع، حثيث: سريع. الإرقال: الإسراع، أو هو نوع من سير الخبب.
٢٠  قالٍ: مبغض.
٢١  المراد بالمرصد والمرقب هنا: المكان الذي ترصد فيه النجوم وترقب.
٢٢  الأبواع: جمع باع، وهو قدر مد الذراعين، ويكنى به عن الشرف والفضل، كما هنا. ذات أطوال: ذات أفضال، وهو جمع طول.
٢٣  إن أبا بكر الرازي هو أول من وضع نظامًا لترتيب المستشفيات وبنائها.
٢٤  الآلي: المقصر.
٢٥  الإملال: الإملاء.
٢٦  الإبكار: هو من طلوع الشمس إلى الضحى.
٢٧  مصدر أبل المريض بمعنى شفي من مرضه.
٢٨  الأوجال: جمع وجل، وهو الخوف.
٢٩  الشنشنة: العادة.
٣٠  الأوشال: جمع وشل، وهو في الأصل: الماء القليل يتحلب من جبل أو صخرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤