خاتمة

ونحن إذا أحصينا عمر الخلفاء الأمويين والعباسيين، وجدنا متوسط حياتهم بين الخمسة والأربعين والخمسين، وبعبارة أدق حول ٤٨ سنة، وإنما قَصُرَ عمرهم لشدة مشاغلهم، وإفراط أكثرهم في الشهوات، وتحملهم أكبر المسئوليات، وتناسلهم من أصل قَصُرَ عمره.

وذكر المسعودي عن محمد بن علي العبدي العباسي الخراساني الأخباري أن الخليفة القاهر — وكان شديدًا متقلِّبًا متلوِّنًا يهابه الناس، ويخشون صَوْلَتَهُ — قال للعبدي هذا: «أخبِرْني عن بني العباس أخلاقِهِم وشيَعِهِم مِن أبي العباس إلى مَن دُونَه» فقال العبدي: «على أنَّ لي الأمان يا أمير المؤمنين» قال: «ذلك لك»، قلتُ: «أما أبو العباس عبد الله فكان سريعًا إلى سفْك الدماء، واتَّبَعه عُمَّاله في الشرق والغرب، واستنُّوا بسيرته، أما المنصور فكان — والله — أوَّل من أوقع الفُرقة بيْن ولدِ العباس بن عبد المطلب، وبيْن آل أبي طالب، وقد كان أمرهم قبل ذلك واحدًا، وكان أوَّلَ خليفة قَرَّب المُنَجِّمِين، وعمِل بأحكام النجوم، وكان معه نوبخت المجوسي المُنَجِّم، وأسلَم على يديه، وإبراهيم الفزاري المُنَجِّم، وعلي بن عيس الإسطرلابي المُنَجِّم، وهو أوَّل خليفة تُرجمت له الكتب من اللغات الأعجمية إلى العربية؛ منها كتاب كليلة ودمنة، وكتاب السند هند، وتُرجمت له كتب أرسططاليس من المنطقيات وغيْرها، وتُرجم له كتاب المجسطي لبطليموس، وكتاب الأرثماطيقي، وكتاب إقليدس، وسائر الكتب القديمة من اليونانية والرومية والفهلوية والفارسية والسريانية، وخَرَجَت إلى الناس فَنَظَرُوا منها، وتَطَلَّعوا إلى عِلْمِها، وفي أيامه وضَع محمد بن اسحاق كتاب المغازي والسِّيَر وأخبار المبتدأ، ولم تكُنْ قَبْل ذلك مجموعة ولا معروفة ولا مصَنَّفة، وكان أول خليفة استعمل مواليه وغلمانه وصرفهم في مهماته، وقدمهم على العرب، فاتخذ ذلك الخلفاء مِنْ بَعْدِه من ولده، فسقط العرب وزال بأسهم، وذهبت مراتبهم.

ولما أَفْضَت الخلافة إلى المنصور نظر في العلوم، وقرأ المذاهب، وارتاض في الآراء، ووقف على النِّحَل، فكَثُرت في أيامه روايات الناس، واتَّسعت عليهم علومهم، وجاء بعده المهدي فكان سمحًا سخيًّا كريمًا جوادًا، فسَلَك الناس في عصره سبيله، وذهبوا في أَمْرِهم مَذْهَبه، واتَّبعوه في مساعيهم.

وكان مِنْ فِعْله في ركوبه أَنْ يَحْمِلَ معه بِدرِّ الدراهم والدنانير، فلا يسأله أحد إلا أعطاه، وأَمْعَن في قتل الملحدين والمُداهنين لظهورهم في أيامه، وإعلانهم اعتقاداتهم في خلافته؛ لما انتشر من كتب ماني وديصان، مما نقله عبد الله بن المقفع وغيره.

وتُرجمت في أيامه كتب من الفارسية والفهلوية إلى العربية، فَكَثُرَ بذلك الزنادقة، وظهرت آراؤهم في الناس، وكان المهدي أوَّل مَن أمَرَ الجدليِّين مِنْ أَهْل البحث من المتكلمِين بتصنيف الكتب للرد على الملحدين وإقامة البراهين على المعاندين، وشَرَعَ في بناء المسجد الحرام، ومسجد النبي — عليه السلام — وَبَنَى بيت المقدس، وقد كانت هدمته الزلازل.

وجاء بعده الهادي، فكان جبارًا عظيمًا، وكان أول مَن مشَت الرجال بين يديه بالسيوف المرهفة، والأعمدة المشهورة، والقسي الموتورة، فسلكت عماله طريقته، وَيَمَّمُوا منهجه، وكثر السلاح في عصْره.

وجاء بعده الرشيد، فكان مواظبًا على الغزو والحج، واتخاذ المصانع والآبار والبرك والقصور في طريق مكة، ومنها عرفات ومدينة النبي فَعَمَّ الناسَ إحسانه مع ما قلده به مَن حوله، ثم بنى الثغور، ومدَّن المُدن، وحصَّن الحصون مثل طرسوس وأذنة، وعمَّرَ المصيصة ومرعش، وأَحْكَم بناء الحرمين وغيْر ذلك من دور السبيل، والمواضع للمرابطين، واتَّبَعه عماله، وسلكوا طريقته، وَقَفَتْهُ رَعِيَّته مقتديةً بعمله مسْتَنَّةً بإمامته، فغَمَطَ الباطل، وأظْهَرَ الحق، وأنار الإسلام، وبرَزَ على سائر الأمم، وكان أحْسَنَ الناس في أيَّامه أم جعفر زبيدة بنت المنصور؛ لِمَا أحدثَتْه مِن دُور السبيل بمكة، واتخاذ المصانع والبرك والآبار بها، وطريقها المعروف إلى هذه الغاية، وما أحدثته من الدور للتسبيل بالثغر الشامي وطرسوس، وما وَقَفَتْ على ذلك من الوقوف، وما ظَهَرَ في أيامها مِن فِعْل البرامكة وَجودهم، وأفضالهم، وما اشتهر عنهم من اتصالهم.

وكان الرشيد أول خليفة لعب بالصولجان في الميدان، ورمى بالنشاب في البرجاس، ولعب بالكرة والقبقاب، وقرَّب الحُذَّاق في ذلك، فعمَّ النَّاس ذلك، وقلَّدوه في فِعْله، وكان أول من لعب بالشطرنج والنرد من خلفاء بني العباس، وقدم اللعاب، وأجرى عليهم الرزق، فسمَّى الناس أيامه لنضارتها وكثرة خيرها وخصبها أيام العروس، إلى كثير مما يجاوز النعت، ويفاوت الوصف.»

قال القاهر: «أراك قد قصرت في تفصيل أعمال زبيدة أم جعفر»، قلتُ: «يا أمير المؤمنين مَيْلًا إلى الاختصار، وطلبًا للإيجاز» قال: «زدني فيها»، قُلتُ: «نَعَم يا أمير المؤمنين، كان من فعلها وحُسْن سِيرتها في الجدِّ والهزل ما برزت فيه على غيرها، فأما الجدُّ: فالآثار الجميلة التي لم يكُن في الإسلام مثلها، مثل حفْر العَين المعروفة بِعَين المشاش بالحجاز، وإنفاقها الألوف على ذلك عدا ما كان في وقتها من البذل، وما عمَّ أهل الفاقة من المعروف والخصب، وأما الوجه الثاني: فمما تتباهى به الملوك في أعمالها، وينعمون به في أيامهم، فهي أنها أول مَن اتخَذَ الآلات من الذهب والفضة المكللة بالجواهر، وصُنِع لها الرفيع من الوشي، حتى بلغ الثوب الذي اتُّخِذ لها خمسين ألف دينار، وهي أول مَن اتخَذَ الشاكرية من الخدم والجواري يختلفون على الدواب في جهاتها ويذهبون في حوائجها برسائلها وكُتُبها، وأول مَن اتخَذَ القباب من الفضة والأبنوس والصندل وكلاليبها من الذهب والفضة، ملبسة بالوشي والسمور والديباج، وأنواع الحرير من الأحمر والأصفر والأخضر، واتَّخَذَت الخفاف المرصعة بالجوهر وشمع العنبر، ولَمَّا أفضى الأمر إلى ولدها الأمين، ورأت شِدَّة شَغَفِهِ بالخدم واشتغاله بهم، اتخذت الجواري المقدودات الحسان الوجوه، وعمَّمَت رؤوسهن، وجعلت لهن الطرر والأصداغ والأقفية، وألبستْهُنَّ الأقبية والقراطق والمناطق فبانت خدودهن وبرزت أردافهن، وبعثت بهن إليه، فاختلفن في يديه، واستحْسَنَهُنَّ واجْتَذَبْن قلبه إليهن، وأبْرَزَهُنَّ للناس، واتَّخَذَ الناس من الخاصة والعامة الجواري المطمومات، وألبسوهن الأقبية والمناطق وسموهن الغلاميات.»

الخلاصة

ونحن إذا لخصنا أوصاف الرشيد مِن كل ما رأينا، عَرَفْنَا أنه كان في جسمه: أبيض جميلًا، جعد الشَّعر، قد وخطه الشيب، وفي عقله: مثقفًا، واسع الثقافة في العربية والفارسية، وفي أخلاقه: حاد العاطفة؛ قد يَغْضب لأتفه سبب، ويَقْتُل لأتفه سبب، ويعفو لأتفه سبب، يَجِدُّ لأبعد حد؛ فيحارب حروب الأبطال، ويتغلب على كل الثورات، ويصلي ويحج، ويقود الصائفة أحيانًا، والشاتية أحيانًا، ويتباهى فيأتي بالعَجَب العجاب أمام الوفود والزائرين، ويتخاشع فيبكي بكاءً مُرًّا، ويلهو فتكون له المجالس الرائعة في الغناء والرقص، وما إلى ذلك …

وهذه كلها نتيجة العاطفة الحادة، وله إلى جانب ذلك ضمير حي؛ يقتل البرامكة أحيانًا، ثم يَحْزَن لفقدهم، ويقتل الطالبي ويحْزَن لِقَتْله، ويَحْبِس ثم يندم فيُطْلِق، ويقول فيُحْسن القول، ويشرف على أولاده فيُحْسن تربيتهم، ويَسْمع الشِّعر فيتذوقه.

ويظهر أنه كان متدينًا شديد التدين، ولكن ليس واسع الصدر في دينه سعة ابنه المأمون؛ بَلَغَه مَرة أنَّ بشرًا المريسي يقول بخلق القرآن، فقال: «والله لئن وجدته لأقتلنه»، فإيمان الرشيد كإيمان العجائز، وكان وديعًا حتى ليصب الماء على يد ضيفه إذا كان من العلماء، وقد روى أبو معاوية قال: أكلْتُ مع الرشيد يومًا، ثم صَبَّ على يَدَيْ رجل لا أعرفه، ثم قال الرشيد: أتدري مَن يصب على يديك؟ قال: لا، قال الرشيد: أنا؛ إجلالًا للعلم!

وكان قريب الدمع مما يدل على شدة عاطفته، حتى قال منصور بن عمار: «ما رأيت أغزر دمعًا عند الذكر من ثلاثة: الفضيل بن عياض، والرشيد، وآخر.»

وكان كريمًا؛ فكم روى من عطائه مئات الألوف؛ إما لمُغَنٍّ يجيد الغناء، أو لواعظ يحسن الوعظ فيبكيه، أو لشاعر يمدحه فيعرف كيف يمدحه، أو غير ذلك.

وقد قالوا: إنه كان يقتفي أثر جده المنصور في حزمه وشدته وإحساسه بالتبعة إلا البخل … فقد عَرَف المنصور رَبَّه، وعُرِف الرشيد بالكرم، وزاد الرشيدَ قوةً وعظمةً كثرةُ النابغين حوْله في مختلف العلوم والفنون؛ فالأصمعي في اللغة، وأبو يوسف في الفقه، وإسحاق الموصلي في الغناء، والبرامكة للوزارة، مما جَعَل قصْره كعبةً يُحَجُّ إليها، وعروسًا تتباهى بجمالها.

ولم نَجِدْ له نظيرًا في الخلفاء؛ يَجِدُّ فيُحْسن الجدَّ، ويلهو فيجيد اللهو، بل هو في الأغلب الأعم إما جاد لا يلهو كجده المنصور، أو لا يجد كابنه الأمين.

والمظنون من جميع الأوصاف التي ذكروها أنه مات بالسرطان، وقد قالوا: إنه لما حضرته الوفاة غُشيَ عليه، ففتح عينيه فرأى الفضل بن الربيع فقال: يا فضْل:

أحِين دنا ما كُنْتُ أخشى دُنُوَّهُ
رمتْنِي عُيُونُ الناس مِنْ كُلِّ جانبِ
فأصبَحْتُ مرحومًا، وكُنْتُ مُحَسَّدًا
فصبرًا على مكروه أَمْنِ العَوَاقِبِ
أحِين دنا ما كُنْتُ أخشى دُنُوَّهُ
رمتْنِي عُيُونُ الناس مِنْ كُلِّ جانبِ
فأصبَحْتُ مرحومًا، وكُنْتُ مُحَسَّدًا
فصبرًا على مكروه أَمْنِ العَوَاقِبِ

فرحمة الله عليه.

جدول بأهم الأحداث التي وقعت في عهد الرشيد من سنة ١٧٣ إلى سنة ١٩٣ الهجرية.
السنة الحدث
١٧٣ موت الخيزران
١٧٥ موت الليث بن سعد
١٧٥ عهد الرشيد لابنه محمد بولاية العهد
١٧٦ هاجت الفتنة بدمشق بين اليمنية والمضرية
١٧٧ ولاية هرثمة بن أعين بلاد إفريقية
١٧٨ فتنة أهل الحوف بمصر
١٧٩ موت الإمام مالك
١٧٩ سَيرُ جعفر بن يحيى البرمكي إلى الشام لإخماد العصبية بين اليمنية والمضرية فسكنها
١٨٤ موت يزيد بن مزيد الشيباني أحد قواد الرشيد
١٨٦ حج الرشيد ومعه وليا عهده الأمين والمأمون
١٨٧ مبايعة الرشيد لابنه القاسم بولاية العهد بعد المأمون
١٨٧ نقض نقفور العهد للرشيد
١٨٧ عودة الفتنة بين المضرية واليمنية في الشام
١٨٧ نكبة البرامكة
١٨٩ سير الرشيد إلى الري لعدم اطمئنانه إلى أهل خراسان
١٩٣ موت الفضل بن يحيى
١٩٣ خروج الرشيد إلى طوس
١٩٣ موت الرشيد

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤