بغداد

عروس الأقطار الإسلامية

عظمة بغداد

هذا النظام الإداري والاجتماعي الذي ذكرناه كان له مركز خاص هو بغداد، وعلى منواله تسير سائر الأقطار الإسلامية. وبغداد هذه مدينةٌ خطَّها المنصورُ مدورة، وجعَل لها أربعة أبواب، سمَّاها بأسماء المدن التي تتجه نحوها، وهي أبواب: البصرة، والكوفة، والشام، وخراسان، وحفَر حولها خندقًا، وبنى على كل باب قُبة عالية تسمح بدخول الفارس وهو شاهر رمحه، وسوَّرَها بثلاثة أسوار، وبنى في الوسط قصرًا ذهبيًّا يُعرف بقصر الذهب.

figure

وبنى على مقربةٍ من هذا القصر المسجدَ الجامعَ، وقصورَ الأمراء والأشراف، ودواوينَ الحكومة، وكانت ضواحي المدينة مليئة بالحدائق والمتنزهات، والأسوار العامرة، والحمامات الجميلة، والجوامع الفخمة على جانبي النهر، وقد بلغ سُكَّانها في أوْج عظمتها نحو مليونين، وتخترق المدينةَ على جوانب النهر شوارعُ فسيحةٌ تبلغ أحيانًا أربعين ذراعًا، وقد قُسِّمَتْ إلى مربعات، ويقوم على حراستها ليلَ نهار حُرَّاس يقفون في الأبراج المشيدة، والماء يصل إلى الدُّور في جداول، وتُكنس الشوارع، وتُنظف على نظام مُعَيَّن، فكان يعلو قصرَ الذهب قبةٌ خضراء، ويبلغ ارتفاعها ثمانين ذراعًا، وعلى القبة تمثالُ فارسٍ، وبيده رمح طويل، ويُعدُّ هذا القصرُ بزينته رمزَ العباسيِّين.

•••

وكانت بغدادُ مدينة زاخرة بكل العلوم والفنون، بناها المنصور، وما لبِثَت أن ازدهرت واحتوت على كل أسباب الترف والنعيم، وبعد مدة قصيرة من بنائها، كانت عروسَ الأقطار الإسلامية والأوروبية، فلم يكُنْ على وجه الأرض أزهر منها، وليست تقاس عاصمة البيزنطيين، ولا عاصمة شارلمان بها في الصناعة أو في العلم، ولم تساوها الشام ولا فارس في عهد الدولتين الرومانية والفارسية، ويحدثنا مؤرخو بغداد بعظمة هذه الحضارة، حتى إذا قرأناها فكأنما نقرأ وصْفًا للحضارة العصرية.

وكثرت الرحلات منها إلى البلاد الأخرى: كالبلقان، والصين، وسيبيريا؛ يدعوهم إلى هذه الرحلات حب التجارة، والتبشير بالإسلام، وكانوا إذا وصلوا إليها احتقروها بالنسبة لمدينتهم مستسهلين الصعاب والمخاطرة بالنفس، فإذا قورنت هذه المدنيات بمدنية المسلمين — وخاصة في بغداد — سادت المدنية الإسلامية، وكانت هي موضعَ التقليد للغربيين حتى إنهم كانوا يستمدون في تشريعهم من التشريع الإسلامي، وكان العالم الأوروبي وقتئذ في جهل كبير.

ويقول الخطيب البغدادي: إنه أحصى السميريات — وهي نوْع من القوارب بدجلة — فكانت ثلاثين ألْفًا، تُدِرُّ على مَلَّاحيها في كل يوم تسعين ألف درهم، وكان عدد الحمامات ستين ألف حمام، وبإزاء كل حمام خمسة مساجد.

•••

وكانت بغداد تنقسم إلى مَحَلَّات، كل مَحَلَّة بقعة من الأرض بها مبان وقصور وشوارع ومساجد وأسواق وجوامع، وكل مَحَلَّة عليها باب كبير يقف عليه الحراس يمنعون دخول المَحَلَّة ليلًا إلا بإذن، كما كان هناك أسواق متعددة … فَسوق القطن، وسوق السلاح، وسوق الثلاثاء، إلى آخره … كما أقيمت فيها القصور الضخمة العالية، ويتبعها بيوت صغيرة للحاشية، وكل قصر فيه بستان، وقد يكون فيه مسجد لأهله … واشتهر في بغداد أسماء قصور كثيرة، منها قصر الخلد، وقصر زبيدة، وقصر التاج، وقصور البرامكة، وقصر الخصيب، وقصر المهدي.

المذاهب الدينية

وانتشرت في بغداد المذاهب الدينية والفِرَق، قال المقدسي: قَلَّما رأيت في بغداد من فقهاء أبي حنيفة إلا رأيت أربعةً: الرياسة مع لباقة فيها، والحفظ، والخشية، والورع. وفي أصحاب مالك أربعًا: الثقل، والبلادة، والديانة، والسُّنَّة. وفي أصحاب الشافعي: النظر، والشغب، والمروءة، والحمق.

وفي أصحاب داود: الكِبْر، والحدة، والكلام، واليسار.

وفي أصحاب المعتزلة: اللطافة، والدراية، والفسق، والسخرية.

وفي الشيعة: البغضة، والفتنة، واليسار، والصيت.

بساتين بغداد

كما انتشرت فيها البساتين … استجلبوا أشجارها من كل الأقطار، واختاروا منها ما يصلح لجو بغداد، وعرفوا موسم كل نبت وكل شجرة، وانتشرت بينهم الزهور، وأُعجبوا بها أَيَّما إعجاب، وكان بعضهم يهيم بالورد، وبعضهم يهيم بالنرجس، حتى كان بعضهم يغلق دكانه في موسم الورد، وبعضهم يهيم بالورد الأبيض الخالص أو الأحمر الخالص فتعددت أنواع الورد، وكثر عُشاقه، وبعضهم يميل إلى الورد الملون نصفه أحمر ونصفه أصفر، وسمَّوه الورد الموجه.

وكانت في بغداد حدائق للورد خاصة، وحدائق خاصة للأزهار الأخرى، وعُرفت لديهم لغات الورد، فلكل نوع منه لغةٌ خاصة للعشيق أو العشيقة، كما اشتهرت بغداد في تلك الأيام برِقة أهلها وظُرْفهم، كما تشتهر باريس في فرنسا اليوم، وأصبح للظرف عندهم قوانين، وأصيب أهل بغداد بالغرور والإدلال ببلدتهم، حتى قالوا: فلان تبغْدَدَ أي تلطَّف وترقَّق، وشاعت هذه الكلمة إلى عصرنا هذا، قال المقدسي: «ولا أحسن حسانًا من أهل بغداد»، وقال أيضًا: «هي مِصرٌ للإسلام»، ولهم خصائص من ظرافة وقرائح ولطافة … هواء رقيق، وعِلم دقيق، وكل صَيْد بها، وكل حسن فيها، وكل حاذق منها، وكل قلب إليها، وكل حرب عليها، وقال غيره في وصف أهلها: ندماء ظرفاء نِظاف يتناشدون الأشعار، ويتجاذبون أهداب الآداب، ويقولون على من ليس بغداديًّا إذا كان ظريفًا: «فلان ليس من الرقعة، ويتظرف بظرفهم.»

•••

وجاء في وصف عريب — المغنية البغدادية — قول بعضهم فيها: «وكانت عريب مغنيةً محسنةً، وشاعرةً صالحةً للشِّعر، وكانت مليحة الحفظ والمذهب في الكلام والظرف، وحُسن الصورة، والرواية للشعر والأدب، والملاحة والمُماجنة مما لم يتعلق به أحد من نظرائها، ولا رُئِي في النساء نظير لها»، وهذا وصف يكاد يكون المَثَلَ الأعلى للبغداديات، وكان يكثر فيهم لثغة الراء بالغين كلثغة الباريسيِّين اليوم، وصارت لثغتهم لغةً مِن بعدهم، ويعدون هذه اللثغة علامة الرقة.

وقال الجاحظ في وصف البغداديين: «إنهم يستملحون اللَّثْغاء إذا كانت حديثة السن، ومقدودة مجدولة»، وقد رُوِيت لهم الأمثال الكثيرة الظريفة، يقولون: فلان كبش من كبش، مجلس بلا ريحان، كشجرة بلا أغصان، مواعيد الفتيان الآل في الفيافي، كلام يكتب بالغالية على خدود الغانية، من كلام النساء ما يقوم مقام الماء … إلخ.

الغزل والزينة

ونَشَر بشار فيما بينهم الغزل المتهتك، ونَشَر أبو نواس الغزل بالمذكر، وقيدوا قوانين الظرف بوصفهم الظريف بأنه: لا يتدخل في حديثٍ بين اثنين، ولا يتكلم فيما لا يفهمه، ولا يتثاءب، ولا يستنثر، ولا يتجشأ، ولا يتمطى في المجالس، ولا يمد رجليه، ولا يمس أنفه، ولا يسرع في المشي، ولا يجلس إلا حيث يجلس أمثاله، ولا يأكل مما يُتَّخَذُ في الأسواق، ولا يأخذ شَعره في دكان حلاق، ولا يماكس في الشراء، ولا يشارط صانعًا، ولا يصاحب وضيعًا، وأن يكون طيب الرائحة نظيف البدن، ولا يطول له ظفر، ولا يسيل له أنف. ومن أثر بغداد ما وُصف به ابن جرير الطبري فقيل: كان إذا جلس لا يكاد يُسمع له تنخيم أو تبصق، وإذا أراد أن يمسح ريقه أخذ ذؤابة منديله، ومسح جانب فيه، ومن قولهم:

لا خير في حشو الكلا
م إذا اهتدَيْت إلى عيونِهْ
والصمت أجمل بالفتى
مِنْ مَنْطِقٍ في غَيْر حِينِهْ

ويساوي ابن بغداد ما يسمي عندنا اليوم بابن البلد، وهم يكثرون من التزين: زينة الشَّعر، وقد تفننوا فيه، وكان للجواري تفنُّنٌ في شَعرهن: فمنهن من يجعلنه فوق رأسهن كالتاج، ومنهن من يجعلنه كالعناقيد، ومنهن من تسدل شعرها على أذنها، وتقطع ما بينها وبين وجنتيها، ومنهن من يستعمل الطرة الهلالية: وهي أن يُسدل جميعُ الشعر فوق الجبهة ثم يُقطع منه مثال نصف دائرة فتكون كأنها الهلال.

واستكثَروا من الدهن للشَّعر، قال الجاحظ في أيامه: «ذهبت الفتيان، فما ترى فتى يفرق الشعر بالدهن»، وغلف النساء شعورهن بعد غسلها بالمسك، والعنبر، واستعملن الحناء والخضاب، وكتبن على الأكف والأيدي بالحناء، قال الماوردي: قرأت على راحة قائد جارية لبعض جواري المأمون على اليمنى بالحناء:

فَدَيْتُك قد جُبِلْت على هواكَا
فقلبي ما ينازعني سواكَا

وعلى اليسرى:

أُحِبُّكَ لا بِبَعضي بَلْ بِكُلِّي
وإنْ لَمْ يُبْق حُبُّك من جَوَاكَا

وكَتَبَتْ سَيِّدَة على كَفِّ جاريتها بالحناء:

أبى الحُب إلا أن أكون معذَّبَا
ونيرانه في الصدر إلا تلهُّبَا
فواكبدا حتى متى أنا واقفٌ
بباب الهوى ألقى الهوان وأنصبَا

واستكثروا من التعطر والطيب … فاستعملوا المسك الممزوج بماء الورد المحلول، والعود المعنبر بالقرنفل، والعنبر البحراني … إلخ، كما استعملوا بخار العود، وخشب الصندل، وكذا البخور المندلي، وهو خليط من العود والمسك واللبان، واشترطوا لجودته أن يكون فحْمه الذي يُحرق فحمًا خشبيًّا من شجر الغضا؛ لأنه عديم الدخان، والمتأنقون منهم يستعملون فحمًا يسمى فحم بختيشوع الطبيب؛ وهو الذي اخترع تركيبه.

كثرة الدعابة

وكَثُرَت فيهم الدعابة، ورُويَ لهم فيها الشيء الكثير في أخبار الجاحظ وغيره، وكان في بغداد كثير من المضحكين، وحفاظ النوادر كأبي العبر، وابن المغازي، من ذلك ما حُكي أن ابن المغازي هذا وقف على باب دار الخلافة يومًا يُضحك الناس ويتنادر، وأخذ يومًا في نوادر الخدم حتى ضحك الخادم، ودخل على الخليفة وهو يضحك، فأنكر الخليفة ذلك، وقال: «ويلك ما بك؟» فقال: «على الباب رجل يتكلم بحكايات ونوادر مضحكة» فأمر الخادمَ بإحضاره، فاشترط الخادم أن يكون له نصف الجائزة، فقال الخليفة: بلَغني أنك مليح الفكاهة، وعندك نوادر مُجونية مضحكة، فقال: «يا أمير المؤمنين الحاجة تفتق الحيلة» قال الخليفة: «هات ما عندك! فإنْ أَضْحَكْتَنِي أعطيتُك ألفَيْ درهم، وإن لم تضحكْني فما لي عليك؟» قال: «افعل بي ما أردتَ»، قال الخليفة: «أنصفْتَ، أصفعك بهذا الجراب خمس صفعات»، وكان هذا الجراب من أديم لين، فظن المضحك أنه منفوخ، وليس فيه إلا هواء.

فقال: «قَبِلْتُ» ثم أَخَذَ في النوادر والحكايات، فما ترك حكاية إلا أتى بها، ولم يَتْرُكْ حكاية لعربي ولا نحوي ولا نبطي ولا زنجي ولا شاطر إلا قصها، والخدم يكادون يهلكون من الضحك، والخليفة مقطب لا يبتسم فقال المضحك: «قد نفد ما عندي» فقال: «أهذا كل ما عندك؟»

قال: «نعم … بقيت نادرة واحدة، وهي أن تجعل الصفعات عشْرًا بدلًا من خمس» فأراد الخليفة أن يضحك فأمسك، فمد المضحك قفاه فصُفع صفعةً كادت أن تقطع أنفاسه؛ إذ كان الجراب مملوءًا بالحصى، فصاح المضحك: «يا سيدي نصيحة» قال الخليفة: «ما هي؟» قال: «ليس أحسن من الأمانة، ولا أقبح من الخيانة، إن لي شريكًا في الجائزة قد ضمنت له نصفها، أرغب أن يحضره أمير المؤمنين.»

قال: «من هو شريكك؟» قال: «الخادم الذي أحضرني، وقد أخذت حقي فأعطوه حقه» … فضحك الخليفة حتى استلقى على قفاه!

انتشار الزندقة

وانتشرت في هذا العصر الزندقة … اشتدت في عهْد المهدي، واشتهر بقتله للزنادقة، واستمرت إلى عهد الرشيد، وكانت كلمة الزندقة — ككلمة الشيوعية اليوم — غير محدودة المعنى عند العامة، وهي تهمة يَتَّهم بها الشخصُ عدوَّه لينال السلطان منه، فكانوا يطلقونها على معان كثيرة:
  • (١)

    كانوا يطلقونها على المَجَّان كحماد عجرد، وآدم بن عبد العزيز لإمعانهما في اللهو.

  • (٢)

    وكانوا يطلقونها على المرشحين للخلافة حتى يكرههم الناس، وحتى يسهل للخليفة عزلهم، وتولية أولاده بدلهم، أو على الشخص العظيم الذي يريد الخلفاء أن يتخلصوا منه كما أطلقوها على أبي مسلم الخرساني، وعلى البرامكة.

  • (٣)

    وكانوا يطلقونها أيضًا بحق على الذين يلحدون في أقوالهم كقول أبي نواس:

    فدعي الكلام لقد أطعت رواية
    وَصَرفْتُ مَعْرفتي إلى الإنكارِ
    ورأيت إتياني اللذاذة والهوى
    وتعجلًا من طيب هذي الدارِ
    أحرى وأحزم مِنْ تَنَظُّرِ آجل
    علمي به رَجْم من الأخبارِ
    ما جاءنا أحد يُخَبِّر أنه
    في جنةٍ مَن مات أو في نارِ

    وقوله:

    يا ناظرًا في الدين ما الأمرُ
    لا قدر صح ولا جبرُ
    ما صح عندي من جميع الذي
    تذكره إلا الموت والقبرُ

    وقوله:

    قلت والكأس على كفي تهوى الالتثام
    أنا لا أعرف ذاك اليوم في ذاك الزحام

    وقول ابن سيابه:

    قل لمن يلحاك فيها
    من فقيه أو نبيلِ
    أنت دعها وارج أخرى
    من رحيق السلسبيلِ

    ونحو ذلك … ومَن كانوا يسمعون مثل هذا القول كانوا طائفتين: طائفة متزمتة تسخط على قائل مثل هذا القول، وترميه بالإلحاد وبالزندقة، وطائفة متسامحة ترى أن هذه الأقوال قيلت على سبيل الفكاهة والتملح.

  • (٤)

    وكانوا يستعملون كلمة زنديق أحيانًا للدلالة على الظرف والتملح كالذي يقول:

    تزندق مُعلنًا لِيقول قَوْمٌ
    إذا ذكروه زنديقٌ ظريفُ
    فقد بَقِيَ التزندقُ فيه وَسْمًا
    وما قيل الظريفُ ولا اللطيفُ
  • (٥)

    وأحيانًا يطلقونها بحقٍّ على طائفة من الفُرس كانوا يُظهرون الإسلام، ويُبطنون أديانهم الأولى من مانية وغيرها، وكان هذا الصنف كثيرًا في هذا العصر، يَرْمُون إلى إعادة الدولة الفارسية، كما كانت في العصور الأولى قبل الفتح الإسلامي.

وأيًّا كانت فقد طُبِّقَت الكلمة ظُلمًا على قوم عُرفوا بأصالة الفكر وحُرية القول، ولكن خُشيَ بَأسُهم فاتُّهموا بالزندقة، وقُتلوا كالذي حدث مع عبْد الله بْن المقفع.

عناصر متعددة

وكان السكان في ذلك العهد يتكونون من عناصر مختلفة تختلف في دمها وفي عقليتها وعاداتها وتقاليدها ومنهج تفكيرها … وامتزجت كلها في أتون واحد؛ ذلك لأنها كانت تتكون من أمم مختلفة على أثر الفتوح الأموية، فكان منها العنصر البربري الوارد من بلاد المغرب، والعنصر الفارسي الوارد من بلاد فارس، والعنصر العربي الوافد من جزيرة العرب، واليمنيون الآتون من اليمن، والنبطيون، والروم الذين كانت تسوقهم الحرب بين المسلمين والبيزنطيين، وغيرهم من العناصر والأجناس الأخرى.

وكان لكل من هذه العناصر عقلية خاصة، ودم خاص، وأخلاق خاصة، ولكل عنصر مزاياه، وقد عَدَّدَ الجاحظ مزايا العناصر في عصره فقال: «ميزات أهل الصين: الصناعة فهم أصحاب السبق، والصياغة، والإفراغ، والإذابة، والأصباغ العجيبة، وأصحاب الخرط، والنحت، والتصاوير، والنسيج، واليونانيون يعرفون العلل، ولا يباشرون العمل، وميزتهم الحِكَم والآداب، والعرب لم يكونوا تُجارًا، ولا صُنَّاعًا، ولا أطباء، ولا حسابًا، ولا أصحاب فِلاحة … فيكونون مهنة، ولا أصحاب زَرْع؛ لخوفهم من صَغار الجزية، ولا طلبوا المعاش من ألسنة المكاييل ورؤوس الموازين، ولا عرفوا الدوانيق والقراريط، وإنما ميزَتُهُم قول الشعر، وبلاغة المنطق، وحفظ النسب، والاهتداء بالنجوم، والاستدلال بالآثار، وتعرف الأنواء، والبصر بالخيل والسلاح وآيات الحروب، والحفظ لكل مسموع، والاعتبار بكل محسوس، وميزة الأتراك في الحروب، والزنج أطبع الخلق على الرقص، والضرب بالطبل، وعلى الإيقاع الموزون من غير تأديب ولا تعليم، وليس في الأرض أحسن حُلوقًا منهم، وليس كل يوناني حكيمًا، ولا كل صينيِّ في غاية من الحذق، ولا كل أعرابي شاعرًا فائقًا، ولكن هذه الأمور في هؤلاء أعم وأتم، وفيهم أظهر وأكثر.»

كذلك كانت هذه العناصر تختلف في الأهواء والسياسة، ولذلك قالوا: اشتهرت الكوفة بالتشيع لعلي وأولاده، والبصرة بالتشيع لعثمان وأهل بيته، واشتهرت الجزيرة بأنها تضم الخوارج، وأهل الشام لا يعرفون إلا آل أبي سفيان، وطاعة بني مروان، واشتهر أهل مكة والمدينة بالميل إلى أبي بكر وعمر، لا يعدلون عنهما.

كما كان في هذه البلاد نصارى حافظوا على شعائر دينهم، ويهود كذلك، ومجوس يوقدون نيرانهم.

ولكلٍ من هؤلاء جميعًا أدبٌ وعلم، وهؤلاء كلهم يتزاوجون، فيخرج منهم مولدون يحملون جزءًا من طبائع آبائهم، وجزءًا من طبائع أمهاتهم، وجزءًا من شخصياتهم، وخير مثل على ذلك قصور الخلفاء؛ فالمنصور كان له أَمَةٌ كردية، ولدت له جعفرًا الأصغر، وأمةٌ رومية، ولدت له ابنًا يسمى صالحًا المسكين، وامرأة أموية، أولدها بنتًا تسمى العالية، وهكذا.

وكان للرشيد زهاء ألفي جارية غير الحرائر … فله جارية فارسية، أولدها المأمون، وأخرى أولدها المعتصم، ويقال: إنه كان للمتوكل أربعة آلاف سُرِّية … إلخ.

•••

وكما كان هناك توالُد بيْن الأجسام كان هنالك توالُد مثله بيْن العقول … فعقل عربي مع عقل يوناني يكون منه نتاج خاص، وكذلك العقل المتولد بيْن فارسي وعربية، أو بيْن عربي وهندية، أو بيْن مسلم ونصرانية، أو بيْن مسلم ويهودية.

ومع هذا الاختلاف في العناصر والأديان والعرف والتقاليد، كانت كلها تصُب في قالب واحد نتيجة للبيئة الطبيعية والاجتماعية، كالذي تراه إذا ذهبْتَ إلى أوروبا فنظرْتَ إلى وجهٍ حَكَمْتَ بأنه مصري، ولا عبرة في ذلك بيْن أبيض وأسمر وجعْد الشَّعر ومُرْسَلِه؛ لأن لكل أُمَّة وحْدة يتساوى فيها الأفراد مع اختلافهم في الدم والدِّين، وغير ذلك، وكان العنصر المتميز في عصر الخلفاء الراشدين والأمويِّين هو العنصر العربي، وسائر الأجناس كانت تبَعًا لهم، رَوَوْا أن رَجلًا من الموالي خطب بنتًا من أعراب بني سليم وتزوجها، فركب محمد بْن بشير الخارجي إلى المدينة، وقابل الوالي فأرسل الوالي إلى المولى، وفرَّقَ بينه وبيْن زوْجته، وضرَبَه مائتي سوط، وحلق رأسه ولحيته وحاجبه عِقابًا له على أنه تزوج أعرابية، فقال محمد بْن بشير للوالي:

قَضَيْتَ بِسُنَّةٍ وحَكَمْتَ عَدْلًا
ولم تَرِثِ الحكومة مِنْ بَعِيدِ
وفي المئتين للمولى نَكَالٌ
وفي سَلْبِ الحواجب والخدودِ
إذا كافأْتَهُمْ ببنات كسرى
فَهَلْ يَجِدِ الموالي من مَزِيدِ
فَأَيُّ الحق أَنْصَفُ للموالي
مِنَ اصْهَارِ الْعَبِيد إلى العبيدِ

ولَمَّا نَزَل الحَجَّاج واسطًا نفى النبط منه، ووسم أيديَهم بالمشرط، وكتب إلى عامِلِه بالبصرة: إذا قرأْتَ كتابي فَانْفِ مَنْ قِبَلَكَ من النبط، فإنهم مَفْسَدة للدِّين والدنيا، وأَمَر الحَجاجُ أَلَّا يَؤمَ الناسَ في الكوفة إلا عربي، وكان العرب في الدولة الأموية إذا أقبل العربي من السُّوق، ومعه شيء ثقيل فرأى مولى دَفَعَه إليه ليَحْمِله عنه، ولو كان العربي راكبًا والمولى ماشيًا، فلما جاء الفُرس انتقموا من العرب، وخلقوا فكرة الشعوبية يطلبون فيها المساواة، وَيَدَّعون أن في كُل أُمَّة مزايا وعيوبًا، وأَلَّفُوا في ذلك الكتب يُحَقِّرون من شأن العرب، ويذكرون مثالِبَهُم، كالذي يقوله أبو نواس:

ومَنْ تَمِيمٌ ومَنْ قَيْسُ وغَيْرُهُمَا
ليْس الأعاريبُ عند الله مِنْ أَحَدِ

الشعوبية

ولم يستسلم العرب — أَوَّلَ الأمر — لهذه الدعوة الشعوبية بل قاوموا، وكانت المقاومة بالحرب أحيانًا، وبالدس أحيانًا، وربما كانت نكبة البرامكة نتيجةً لهذه الخصومة الشديدة بين الفُرْس والعرب في السر والعلن، قال ابن خلدون: كان بنو قحطبة أخوال جعفر، وهم عرب مِنْ أَعْظَم الساعين عليهم، وأخيرًا انتصر الفرس على العرب بهزيمة الأمين، وذهب ريحهم كما ذهب ريح الفرس على يد الأتراك فيما بَعْد.

وزاد الشعوبيةَ انتصارًا أنَّ الخلفاء تعصَّبوا للإسلام، ولم يتعصبوا للعرب، وظَهَرَ على لسان أبي نواس، والخريمي، ومهيار الديلمي، وبشار الاعتزاز بالنسب الفارسي، يقول بعضهم:

وَلَسْتُ بِتَارِكٍ إِيوَانَ كِسْرَى
لتوضح أَوْ لِحَوْمَلَ فَالدخولِ
وَضَبٍّ فِي الفلا سَاعٍ وذئبٍ
بها يعوي وليثٍ وَسْطَ غِيلِ

ويقول الخريمي:

إِنِّي امْرؤ مِنْ سُرَاة الصُّغْدِ أَلْبَسَنِي
عِرْقُ الْأَعاجم عِرْقًا طَيِّب الخَبَرِ

ويقول:

أَبِالصُّغْدِ بَأْسٌ إذْ تَعَيَّرَنِي جَمْلُ
سفاهًا وَمِنْ أخلاق جارتها الْجَهْلُ
فَإِنْ تفخري يا جَمْل، أو تَتَجَمَّلي
فلا فَخْرَ إِلَّا فوْقَه الدِّينُ والعقلُ
أرى الناسَ شرعًا في الحياة ولا يُرى
لِقَبْرٍ على قَبْرٍ عَلَاءٌ ولا فَضْلُ
إذا أنت لَمْ تَحْمِ القديمَ بِحَادِثٍ
مِنَ المجد لَمْ يَنْفَعْكَ ما كان مِنْ قَبْلُ

ويقول المتوكل:

أنا ابن المكارم مِنْ نَسْلِ جَمْ
وحائزُ إِرْثِ مُلُوكِ العَجَمْ
مَعِي عَلَمُ الكَابِيَانِ الذي
به أَرْتَجِي أَنْ أَسُودَ الأُمَمْ
فَقُلْ لِبَنِي هاشم أَجْمَعِينْ
هَلُمُّوا إِلَى الخلع قَبْلَ النَّدَمْ
مَلَكْنَاكُمُ عَنْوَةً بالرما
حِ طَعْنًا وَضَرْبًا بسيف حذمْ

وعلى العموم حارب الفُرْس العرب بالشعوبية من طرق مختلفة: من طريقة وضْع شأن العرب بما ألَّفوا من الكتب، ومن عيبهم آلاتهم في الحرب، ووضعهم الكتب في مناقب العجم، ومثالب العرب، وكثرت في هذه الآونة الكتب المعروفة بكتب المثالب، ووضع القصص الشنيعة في مثالب العرب، ومفاخر الفرس … إلخ.

المدن الزاهرة

وإلى جانب بغداد كانت مدن أخرى عامرةً زاهرةً — وإن كانت أقل منها — وهي أيضًا يتدفق المال فيها، وإن كان تَدَفُّقًا أقل من تدفقها في بغداد، فقد جرت العادة أن تصرف المدينة على نفسها، وعلى ما يتبعها، وعلى عمارة ما خرب منها، ثم يُرسَل الباقي إلى الخليفة في بغداد، فمن أهم المدن في عصر الرشيد: البصرة، عني العرب بتخطيطها فجعلوا شارعها الأعظم ستين ذراعًا، وجعلوا عرض كل زقاق سبعة أذرع، وجعلوا أوسط كل خط ميدانًا فسيحًا لمَرَابط خيولهم، وقبور موتاهم، وقد اشتهرت بالتجارة الواسعة بيْن الهند والصين والمغرب والحبشة.

واشتهر أهل البصرة كذلك بالأسفار البحرية حتى قالوا: «أَبْعَد الناس نجعة في الكسب بَصْرِيٌّ»، وبالغ الواصفون في كثرة أنهارها، وكثرة الزوارق فيها، ولعلهم لكثرة ما رووا من عدد الأنهار أنهم كانوا يعدون الجداول أنهارًا، واشتهرت بالنخيل الكثير المتعدد الأنواع إلى يومنا هذا، واشتهرت كذلك من مدن العراق الكوفة، وقد عُرِفَتْ بتشيعها؛ لأن الإمام عليًّا جعلها عاصمة خلافته إلى أن قُتِل، وناظرت الكوفةُ البصرةَ في المذاهب النحوية، فكان للكوفيين مذهب وللبصريين مذهب، وكان بينهما خلافات كثيرة … وكلٌّ يدْلي بحُجَّته، كذلك اشتهرت مذاهب المعتزلة البصريين، ومذاهب المعتزلة من غيرهم، وقد كان منشأ مدرسة الاعتزال هي البصرة في حلقة من حلقات الحسن البصري.

•••

واشتهرت من مدن مصر الفسطاط، وهي أول مدن المسلمين في مصر … اتخذها العرب معسكرًا لهم حين فتحوها، ثم أخذت تزدهر حتى فاقت البصرة والكوفة، وزُوِّدت في أيام العباسيِّين بكل ما تحتاج إليه المدن، وزاد من جمالها وقوعُها على النيل، ثم كانت القيروان بالمغرب، ودمشق وحمص في الشام، والموصل بالعراق، والأهواز بفارس، ومكة والمدينة في جزيرة العرب، ولا نطيل في وصفها؛ لأن ذلك يحتاج إلى كتاب وحده، وكلها كانت سببًا في ثروة الخلفاء العباسيين، وإغداقهم المالَ على الولاة والعمال والأدباء والفنانين.

وقد اختلفت مزايا كل قطر من ناحيته المادية والمعنوية، فلكل بلد حاصلاته، وما يتقنه كالكاغد، والنسيج، والتمر من البصرة، والثلج من جبال لبنان، والسكر من الفُرْس إلى غير ذلك، كما كان الشأن في العلوم؛ فحركةٌ صوفيةٌ تنشأ في مصر، وحركة اعتزاليَّة تنشأ في بغداد، وأدب يتأقلم بكل إقليم، ومما قاله المقدسي في ذلك: «إن إقليم العراق إقليم الظرفاء، ومنبع العلماء … لطيف الماء، عجيب الهواء، مختار الخلفاء، أخرج أبا حنيفة فقيه الفقهاء، وسفيان سيد القراء، وأبا عبيدة، والفراء، وبه البصرة التي قوبلت بالدنيا، وبغداد الممدوحة في الورى، وكوفة الجليلة، وسامرا، وقد لون كل أدب وعلم بلون أهله، ونبغ من كل بلد نابغون هم نتاج إقليمهم.»

ازدهار التصوف

وفي عهد الرشيد نما في العراق التصوف، والدعوة إلى الاهتمام بباطن النفس لا بظواهرها، وبحقيقة الشريعة لا مجرد أعمال الجوارح، ورياضة النفس عن طريق الزهد والعبادة، والوصول إلى المعرفة عن طريق الوحي والإلهام، وإدراك الحقيقة بالذوق والشعور لا بالمنطق والتجارب والقياس، واشتهر من المتصوفة: إبراهيم بن أدهم سنة ١٦٢، وشقيق البلخي سنة ١٩٥، ومعروف الكرخي سنة ٢٠٠، وهو القائل: «التصوف الأخذ بالحقائق، واليأس مما في أيدي الناس»، ثم بشر الحافي سنة ٢٢٢، وهو القائل للمحدِّثين: «أدوا زكاة هذا الحديث» قالوا: «ما زكاته؟» قال: «أن تعملوا بخمسة أحاديث من كل مائتين …»

وأخذ المتصوفون يضعون الكتب في التصوف كما كان يفعل الفقهاء في تأليف الفقه.

وثار الخلاف بين الفقهاء والمتصوفة؛ لاختلاف النزعتين، فالمتصوفة يعتمدون على القلب وعلى الذوق، وعلى المعرفة من طريق الإلهام، والفقهاء يعتمدون على ظاهر القرآن والسنة، وعلى الاستنباط العقلي.

وكانت الخصومة أشد ما تكون بين المتصوفة والحنابلة؛ لشدة تمسك الحنابلة بظاهر النصوص، ورميهم الصوفية بالزندقة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤