همسة

ليس المسرح بهوًا سُمِّرت نوافذه، ثم نُقِلت إليه نقلًا حركات الناس فهزلت حتى التلف. هو قنطرة مسحورة تهفُّ فوقها هبَّات الكون فتنحرف من إقليم إلى إقليم، من سطح المظهر تنساب في غور المخبر، تخلص من مضيق الخاص إلى رحب العام. للخَلق — على تباينهم في الطباع — دخيلةٌ واحدة؛ وإن ترددت بين انقباض وانشراح وَفقًا للشوط المقطوع في مطالع الرهافة، فكيف يقوم جوهر المسرح إذا عُلِّق سرُّه بأشباح جيلٍ من الناس أو بأعراض رُقعةٍ من الأرض، لا تتم معهما حقيقة الإنسان، هذا الذي يلفُّ تفاريقَه مدارُ الأزمنة والأمكنة؟

المسرح — كالشعر، كالنحت والتصوير، كالموسيقى والرقص — خِصْبه من شحنة البشرية كافةً، هو لها، ذلك أصل بقاء المسرح اليوناني الأول والمسرح الشكسبيري، وقدر المسرح الذي ابتدعه نفرٌ من المتأخرين مثل بيراندلو وتاجور، وسواء فزَّ النضال بين آلهة وعبَّاد، أو بين الغرائز والرَّوادع، أو بين بيئة وأهلها تُجري الخوالج على وعي مرةً وفي غفوٍ مرَّات، أو تلابس حنايا الضمير فلا تبرز إلى مشهد الحس، أو تُحجم فلا تدور إطلاقًا بإشارة ولا على لسان ولا في خاطر؛ إذ هاجرت إلى غيابة الوجدان فتاهت فأورثت الحرج الذي يفوت همة الظن.

وهذه التَّوائِه إذا ضممتَ إليها ما يجري غفوًا وما يُلابس الحنايا حصلتْ لك مادة أدب المسرح الأصيل، لا يبين أثرُها للعين الفاحصة تنظر المعالم دون المغامض. مادة صالحة لسرداب التجارب النفسانية، وهذا الأدب — بعد شكسبير وراسين — تفكك أسُّه وتخلَّف مغزاه في أكثر الحال، فصار على الغالب إما إلى لعب وإما إلى محاكاة الواقع المبذول.

كثيرًا ما نُحسُّ شوارد الشعور ولوامع الإدراك، ولكنَّ تقريبها إلى الأذهان من حظِّ مَن حباه ربُّ الكلمة بتلوين المبهَم وتشكيل السانح. تلك رسالة الشاعر — والمسرحي الحقُّ شاعر — فهو يهمس بما استعجم على عامة الناس. إنه الغواص على دقائق البشر لخيرٍ كانت أو لشر. هنا معقِد غايته، ولعل قوله لم يرفَّ على سمعٍ في الحياة الجارية؛ لأنه تناثر من تحليق الوحي، على أنَّ السامع ينفعل له وينزعج به، وقد حدثه حدْسه أنَّ القول يصور شيئًا خامر فؤاده أو هو مخامره يومًا.

هيهات أن يكون المسرح مصنع ترديد: ألفاظ كلُّها محدودة قاصرة، مطروقة ناحلة، يلوكها الناس على قدر ما تمرَّسوا به من التعبير. المسرح منبت توليد: كلماتٌ تحوم على نجوى الشاعر وهو يتقصَّى مسارب الكون ويتقرَّى مصاعبها رجاء أن يعرف، والعرفان يلوح في لحظة القول، لا في صورة هيِّنة دارجة، بعيدٌ وادي الحقيقة: دورانٌ، موران؛ هل يقربها المتلطف إلا إذا تموَّر ودار؟ من هنا مأتى الرموز والخطفات.

وإذا كان أشخاص المسرح لا يُفصحون في مجرى العيش على نحو ما ينطقون، وهم بين أيدي الممثلين يُلهمهم الشاعر، فذلك أنهم في ذلك المجرى دمًى بشرية مقذوفة في لجب العواطف، شأنها شأن الغريق تلاطمه الأمواج فيزيغ صوابه، وأما الناظر على الشاطئ — الشاعر — فيُحس عن الغريق بذكاء بصيرته ثم يعبِّر: الإحساس حقٌّ؛ لأنه للبشرية جمعاء، والتعبير حق كذلك، وإن كان خاصًّا بصاحبه: اقتراحٌ ولَّده التقاطٌ لمَّاح إلى ما وراء القريب، هنالك، حيث البديهة الثاقبة رفعت دولة البيان النافذ.

الدنيا حقل النضال، النضال اضطرامٌ جوُّه اضطراب، فالمسرح الذي لا يخفق فيه نضال الأبطال فعلًا وقولًا إنما هو مسرح كاذب، فاتر، إذا أعطى لا يُغني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤