تمهيد

(١) من أصعب الأمور على الكاتب أن يحدِّث قارئه — الذي ينتمي مثله إلى حضارة هذه المنطقة من العالم — عن درة ساطعة في تاج هذه الحضارة، ودرَّة الدرر التي أعنيها هي ملحمة جلجاميش، والحضارة التي أقصدها هي حضارة وادي الرافدين القديمة، ومع أن الفجوة الزمنية التي تفصلنا عنها منذ اكتمال نسختها الأخيرة في العصر الآشوري الحديث (على عهد آخر الملوك الآشوريين العظام وهو آشور بانيبال من ٦٦٨ إلى ٦٢٧ق.م) تزيد عن ألفين وخمسمائة عام، ولا تقل منذ بداية تدوين أجزاء منها في العصر البابلي القديم (من ١٩٨٤–١٥٩٥ق.م) عما يقرب من أربعة آلاف سنة، بالإضافة إلى ما تراكم على الوعي بعد غروب شمس هذه الحضارة بانهيار الدولة الآشورية (٦٠٩ق.م) والدولة البابلية مع انتهاء السلالة الكلدانية (٥٣٩ق.م) من طبقات كونتها شعوب ونظم ودول أخرى مختلفة تعاقَبَ حكمها على أرض النهرين حتى الفتح الإسلامي (من الفرس الأخيمينيين ٥٣٨–٣٣١ق.م، إلى المقدونيين والسلوقيين ٣٣٠–١٢٥ق.م، إلى الأزراسيين أو الفرثيين من حوالي ٢٥٠ق.م إلى حوالي ٢٢٨ب.م، إلى الساسانيين من ٢٢٤ب.م إلى ٦٥١ب.م) فإن ذلك كله لم يمنع تلك الملحمة من التأثير على ثقافات الشرق الأدنى القديم والانتشار وراء حدوده، ولم يمنع كذلك — بعد اكتشاف نصها السابق الذكر في منتصف القرن الماضي — من أن تصبح جزءًا لا يتجزأ من الأدب العالمي، وعنصرًا من أهم العناصر المكونة للوعي المثقف، ومادة للبحث والدراسة والترجمة إلى كل اللغات، ومنبعًا لا ينضب لإلهام المبدعين في الأدب والفن …١

والعمل الذي بين يديك محاولة لترجمة هذه الملحمة الجليلة الجميلة ترجمة يتذوقها القارئ العصري المتطلع لاستيعاب كنوز التراث الإنساني والاغتراف من منابع تراثه الحضاري والأدبي، ولا بُدَّ قبل الكلام عنه من نبذة مختصرة بقدر الإمكان عن النص الأصلي العريق من جوانبه المختلفة: قصة تدوينه ونسخه، وشذرات ألواحه المسمارية المشتتة في متاحف العالم، وملحمة اكتشافه وترجمته إلى اللغات القديمة والحديثة، وأصوله السومرية التي يحتمل أن يكون الكاتب أو الكُتَّاب البابليون قد اعتمدوا عليها — بجانب التراث الشفاهي القديم — في نسج ملحمتهم الخالدة، ثم مكانة جلجاميش من الأدب العالمي وأهميتها للوعي والوجدان العربي الحاضر الذي لم تصل إليه ولم يتواصل معها بالقدر الكافي …

(٢) لم يكن القصيد الشعري الكبير الذي اشتهر باسم «ملحمة جلجاميش» أو باسم أوَّل بيت فيه وهو: «هو الذي رأى كل شيء» هو التشكيل الوحيد للأساطير وقصص المغامرات والحكايات الشعبية التي دارت حول شخصية جلجاميش، وتناقلتها الأفواه قبل تدوينها بمئات السنين؛ ذلك أنَّ جذور هذه الملحمة البابلية الأصيلة ممتدة في عروق الثقافة السومرية،٢ ولها تاريخ سابق يقوم على عدد من القصص السومرية التي تمكن العلماء من جمع شذراتها وحل معظم ألفاظها خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين، وسوف نعرض لهذه القصص بعد الحديث عن حياة جلجاميش الذي يتفق العلماء اليوم على أنه قد عاش في الحقيقة والواقع، على الرغم من تأليه الكهنوت السومري له في زمن مبكر — شأنه في ذلك شأن ملوك سومر الذين جمعوا بين السلطة الدينية والسلطة الدنيوية — ومن رفعه إلى مصاف الآلهة بعد موته وتنصيبه قاضيًا لأرواح الموتى في العالم السفلي …
كان جلجاميش ملكًا لدولة مدينة هي «أوروك» في جنوب بابل.٣ ويذكر ثَبَتُ الملوك السومريين — المدوَّن في بداية الألف الثانية قبل الميلاد — أنه الملك الخامس في ترتيب حكام هذه المدينة التي كانت من أهم المدن السومرية التي «نزلت عليها نظم الملكية من السماء» بعد الطوفان، وآلت إليها السيادة على سائر المدن السومرية بعد انتصارها على مدينة «كيش»، وإن لم يتوقف الصراع بعد ذلك بينهما … وقد نُسِبَ إليه بناء سورها العظيم الذي أشادت بذكره الملحمة في بدايتها وخاتمتها بوصفه أحد أمجاده التي كفلت له نوعًا من الخلود المتاح للبشر الفانين بعد إخفاقه المأسوي في التوصل للخلود الذي تمناه وسعى إليه، واقتناعه في النهاية بأن الآلهة قد استأثرت به دون البشر … وقد رجح العلماء — بعد فحص الأطلال الباقية من هذا السور والاطلاع على المأثور الغني عن شخصية جلجاميش — أنه قد عاش بين سنتي ٢٧٥٠ و٢٦٠٠ق.م وأنه كان من أقوى الملوك السومريين في فترة حافلة بالصراعات الدامية بين دول المدينة التي أسسوها، وبالصراع بعد ذلك مع الأكديين الساميين الذين كانوا قد استقروا في شمال وادي النهرين قبل أن يتمكنوا بقيادة سرجون العظيم (من حوالي ٢٣٣٤ إلى حوالي ٢٢٧٩ق.م) وحفيده نارام سين (٢٢٥٤–٢٢١٨ق.م) من توحيد البلاد بأسرها تحت حكمهم.
تراكم حول شخصية جلجاميش مأثور ضخم من القصص والحكايات العجيبة عن طغيانه واستبداده بشعبه، وصداقته النادرة المؤثرة ﻟ «وحش البرية» أنكيدو، ومغامراته معه وأسفاره التي انطلق إليها بعد موته بحثًا عن سر الحياة والموت والخلود، ثم رجوعه إلى موطنه ومسقط رأسه بعد أن أضاع «نبتة» الخلود الشائكة «فتطهر» واقتنع بالحدود التي لا يجوز لإنسان أن يتخطاها، مهما صورت له نفسه أو صور له الكهنوت أن «ثلثيه إلهي والثلث الباقي بشري فانٍ» … ويبدو أنَّ هذا المأثور الذي اختلطت فيه العناصر الأسطورية بالتاريخية قد نشأ في عصر مبكر، وربما سبق اكتشاف السومريين للكتابة بالخط المسماري على الألواح الطينية بزمن طويل؛ ولذلك يحتمل أن يكون الناس قد تناقلوه شفاهًا وعمل على صياغة وجدانهم قبل البدء في تدوينه في العصر البابلي القديم خلال القرون الأولى من الألف الثانية قبل الميلاد. ولما كانت الشواهد القليلة المتبقية من الأدب السومري قبل سنة ٢١٠٠ق.م شديدة الغموض والتشوه، فلا نكاد نعرف شيئًا عن المأثور السابق على هذا التاريخ الأخير، غير أنَّ هنالك ما يدل على نهضة متأخرة للثقافة السومرية في حدود هذا التاريخ؛ أي في عهد ملوك سلالة أور الثالثة (من حوالي ٢١١٢ إلى حوالي ٢٠٠٤ق.م)، كما يدل على نوع من الرخاء الاقتصادي الذي شجَّع على نمو هذه النهضة التي أثمرت معظم الأشكال الشعرية والأسطورية التي وصلتنا من أدب السومريين، وبدأ نسخها وتدوينها بلغتها الأصلية أو في ترجمتها الأكدية البابلية قبل سنة ١٧٠٠ قبل الميلاد وبعدها، وقد كانت «جلجاميش» أشبه بواسطة العقد في هذا المأثور المجهول المؤلف، شأنها في ذلك شأن معظم ما وصلنا من التراث السومري والبابلي، والذي يهمنا من هذا المأثور هي القصص السومرية الخمس التي تدور حول شخصية جلجاميش،٤ واستطاع عالم السومريات صمويل كريمر — بمساعدة عدد من زملائه وتلاميذه مثل فلكنشتين وجاكوبسين — أن يجلو غوامضها ويترجم معظم شذراتها التي وضع لها هذه العناوين: جلجاميش وأرض الأحياء، جلجاميش وثور السماء، جلجاميش و«أجا» حاكم كيش، جلجاميش وأنكيدو والعالم السفلي، ثم موت جلجاميش، ومع أن العبقرية البابلية قد نسجت من هذه القصص المتفرقة ومن مأثورات أخرى عملًا مبدعًا متكاملًا كما سبق القول، فإن هذا لا يقلل من تأثيرها على كاتب الملحمة الشهيرة أو كُتَّابها الذين أفادوا بغير شك من بعضها (وبخاصة القصص الأولى والثانية والرابعة) وأغفلوا الثالثة والخامسة إغفالًا تامًّا، ولا بُدَّ أنهم قد أخذوا أيضًا من مأثورات سومرية أخرى لا نكاد نعرف عنها شيئًا أو من مأثورات وصلتنا في صورة مشوهة، كما فعلوا مع قصة الطوفان التي تؤلف اللوح الحادي عشر وأقحموها على الملحمة، ومع اللوح الثاني عشر الذي لا يخرج عن كونه ترجمة حرفية لجزء من إحدى القصص التي ذكرناها، وهي قصة جلجاميش وأنكيدو والعالم السفلي … وأيًّا كان الأمر فقد حان وقت التعريف القصير بمضمون القصص الثلاث التي تعد من الأصول الهامة التي تقوم عليها الملحمة …

(٣) تبدأ القصة الأولى — وهي جلجاميش وأرض الأحياء — بالقرار الذي اتخذه بطلنا المغامر بالسفر إلى أرض الخالدين أو أرض الأحياء «ليصنع له اسمًا عظيمًا» ويحدث «خادمه» أنكيدو — الذي أصبح في الملحمة البابلية رفيق دربه وأعز أصدقائه بل صديقه الأوحد! — برغبته التي صمم عليها، فينصحه بأن يتوجه بالصلاة والدعاء لإله تلك الأرض وهو إله الشمس أوتو (الذي سيصبح إله الشمس والعدل البابلي شمش)، ويقدم جلجاميش التضحية للإله ويتضرع إليه أن يعينه في سفره ويشد أزره في الصراع المقبل عليه، ويبتهل إليه أن يساعده على أن يصنع لنفسه اسمًا يخلد ذكره وينتشله من الفناء المحتوم على البشر، ويوافق «أوتو» ويعده بحبس «الأبطال السبعة» الذين يحرسون تلك البلاد النائية في الكهوف، ويختار جلجاميش خمسين رجلًا من شباب مدينته المتطوعين لمرافقته في رحلته، بعد أن يشترط عليهم ألا يكونوا قد كونوا أسرًا بعد …

ويبدأ البطل مغامرته بعد التزود من الحداد بالسلاح الضروري، وبعد اجتياز سبعة جبال وعرة يطوقه النوم العميق فلا يوقظه أنكيدو إلا بعد جهد جهيد، ويقسم جلجاميش بأمه «نينسون» وبأبيه «لوجال بندا» أنه لن يرجع أدراجه قبل قتل «الرجل»، ويحذره أنكيدو من سحر ذلك الرَّجل وقوته الشَّيطانيَّة، ويلح عليه أن يرجع إلى وطنه، لكن جلجاميش يصر على القرار الذي صمم عليه، ولا يلبث حواوا (وهو نفسه المارد خمبابا الموكل بحراسة غابة الأرز في الملحمة) أن يلمح المتطفلين على أرض الأحياء، غير أنه لا يتخذ أي خطوة جادة لمنعهم من قطع أشجاره … ويفرغ الرجال الخمسون من قطع أشجار الأرز وإعدادها للنقل، ثم يصل جلجاميش إلى «حجرة» حواوا أو مأواه الذي يختبئ فيه ويطلق منه تضرعاته لجلجاميش بأن يبقي على حياته، ويبدي هذا استعداده — كما في الملحمة تمامًا — للاستجابة شفقة عليه، غير أن أنكيدو يحذره من شر «نمتار» — وهو شيطان أو إله من العالم السفلي مختص بالأوبئة — الذي يمكن أن يصيبهم أذاه، عندئذٍ يسب حواوا «الخادم» أنكيدو ويصفه بأنه مرتزق أجير، وأنه قد تكلم ضده بالشر: «وعندما قال هذا قطعا رأسه، وحملا جثته للإله «إنليل» الذي أقامه حارسًا على أرضه ولزوجته ننليل.» (وإنليل هو إله العواصف الغضوب ورب مدينة نيبور أو نفر السومرية القديمة التي عُثِرَ فيها على بعض ألواح الملحمة …)

هنا يتوقف النص الأصلي لهذه القصة التي عبث الزمن بالألواح التي نُقِشَت عليها وملأها بالثغرات والفجوات، والملاحظ على سبيل المقارنة أن الملحمة البابلية تروي قصة الحملة على أرض الأحياء وغابة الأرز بمزيد من التفصيل في الثالث والرابع والخامس من ألواحها التي لم يرحمها الزمن كذلك من التشوه!

ولا شكَّ أن كاتب الملحمة قد تأثر بهذه القصة وبغيرها، وطوَّر عناصرها في بناء مُحْكَم، وأبرز أهم هذه العناصر — وهو حرص جلجاميش على الشهرة وخلود الاسم — في أكثر من موضع، وذلك قبل أن ينتقل من الدوران حول الأنا إلى الاهتمام بالنحن، وقبل العثور على «نبتة» الخلود التي عبر عن رغبته في أن يشاركه شعب مدينته أوروك وشيوخها في الأكل منها لتجديد الشباب والحياة، حتى إذا اختطفتها منه الحية وجددت بها جلدها، صورت لنا الملحمة بأسه وضياعه الذي تحول — بعد اقترابه من مشارف مدينته ورؤية سورها وأبراجها — إلى نوع من الفرح والتصميم على مشاركة شعبه في العمل والبناء …

(٤) وتأتي القصة السومرية الثانية التي يناظر مضمونها في خطوطه العريضة مضمون اللوح السادس من الملحمة البابلية، ومن المؤسف أن النص الأصلي قد وصلنا في حالة تشوه شديد، بحيث لا نملك إلا الحدس بمضمون البقية الباقية التي تبدأ سطورها بعد فجوة كبيرة يبدو من سياق النص، ومن الملحمة أيضًا أنها كانت تدور حول العرض الذي تقدمت به ربة الحب والحرب إلى جلجاميش ليكون زوجها وزينة بيتها وعربتها المزدانة بالذهب واللازورد … وما إن تشرع إينانا (وهي نفسها ربة الحب السومرية التي سماها البابليون عشتار) في وصف المنح والهدايا التي تعرضها على جلجاميش مقابل الزواج منها حتى ينقطع النص مرة أخرى ويمتلئ بالثغرات، ولا نجد شيئًا يدل دلالة واضحة على رفض جلجاميش للعرض المغري، ولذلك تتجه إلى أبيها آنو إله السماء لتشكو إليه وتلح عليه أن يسلمها الثور السماوي لتنتقم من جلجاميش، ونفهم من النص أن الأب يرفض طلبها، وأنها ستلجأ لكبار الآلهة في مجمعهم الخالد إن لم يستجب لدعائها، عندئذٍ ينتابه الخوف (ولا نعرف من النص إن كان قد أشفق على مصير سكان أوروك من الثور الهائل كما نجد في الملحمة أم على مصير الكون كله …) ويسمح لها بتسلم الثور والهبوط به إلى الأرض، فترسله إلى أوروك التي يلحق بها أفظع الكوارث (كالموت والقحط والجفاف التي اقترنت باسمه في تفسير بعض الباحثين) …

وقد بقيت من النص أجزاء شحيحة، من أهمها قطعة تسجل جانبًا من حديث أنكيدو مع جلجاميش، ولا شك أن القصة الأصلية قد روت مصرع الثور على يد البطلين، ولكننا لا نعلم إن كانت قد انتهت بهذا الخبر أو استمرت في رواية الأحداث التي نعرفها، والمرجح أن القصة لم تذكر الشتائم المهينة التي صبَّها كاتب الملحمة — على لسان جلجاميش — على رأس الربة الجميلة، كما أنها — فيما يبدو — لم تتطرق لغضب الألهة — بخاصة إنليل — على أنكيدو لتجديفه في حقهم، ولا لجرحه المهلك الذي تسبب في موته، وعبَّر بذلك عن عقدة الحبكة الدرامية التي أطلقت مأساة البطل المفزوع من «حظ البشر المحتوم»، ودفعته للبحث عن الخلود لنفسه ثم للبشر المساكين …

(٥) ونصل إلى القصة الرابعة التي أثرت تأثيرًا واضحًا على اللوح الثاني عشر الذي يُجْمِع العلماء على أنه مقحم على الملحمة ولا ينتمي إليها انتماءً عضويًّا كما نقول اليوم، وعنوان هذه القصة هو «جلجاميش وأنكيدو والعالم السفلي» وهي تبدأ — شأنها شأن كثير من القصص الشعرية والأساطير السومرية القديمة — بالتذكير بأسطورة الخلق أو التكوين السومرية، إذ نجدها تتحدث في البداية عن فصل السماء عن الأرض بقوة إله السماء آنو وإله الرياح إنليل، كما تتطرق باختصار للصراع بين إله المياه العذبة «إنكي» وإله العالم السفلي أو وحشه المخيف كور، ثم تحكي بعد ذلك عن شجرة ضخمة هي شجرة الخولويبو، ولعلها كانت شجرة صفصاف على شاطئ الفرات، وكيف أوشك الطوفان والعواصف أن يقتلعاها من جذورها، ويتصادف مرور إلهة الحب إينانا بهذا المكان، فتشفق على الشجرة وتحملها معها لكي تغرسها في بستانها المقدس في مدينة أوروك، وتُعْنَى الإلهة العطوف بالشجرة وتتعهدها بالرعاية، على أمل أن تصنع منها في المستقبل سريرًا تنام عليه وكرسيًّا يليق بها. أن الأيام لم تشأ أن تحقق حلمها الجميل، إذ نمت الشجرة وصارت جذوعها مأوى لحية عظيمة لم ينفع السحر في إخراجها منه، كما أصبحت أطراف فروعها مسكنًا لطائر العاصفة الإلهي «بدزو» الذي بنى عُشَّه فوقها، وغدت ساقها القوية بيتًا للشيطانة أو الروح الشريرة ليليت، تعذر إذن على إلهة الحب الرقيقة أن تقطع الشجرة فراحت تبكي بكاءً مرًّا وتبث شقيقها إله الشمس أوتو حزنها وتروي له المصير الذي آلت إليه شجرتها، ويبدو أن جلجاميش سمع شكاتها وقرَّر أن يمد لها يد العون، فأمر بتجهيز درع زنته خمسون رطلًا، وبلطة زنتها أربعمائة رطلًا، وهجم على الحية الجبارة التي تربض في جذع الشجرة فقتلها، وكان أن طار طير العاصفة وهربت الشيطانة مذعورين، وتمكن جلجاميش وأتباعه من قطع الشجرة وتسليمها لإينانا لتصنع من خشبها الكرسي والسرير، وأرادت الإلهة المحبة أن تكافئ جلجاميش على صنيعه، فأعدت له طبلة وعصا أو عودًا يدق بها عليها، (ويبدو أن البطل قد أساء استعمالهما — كما يعلمنا الكاتب البابلي — في استغلال شعب أوروك في أعمال السخرة وتأكيد سطوته عليهم، كما نرى في اللوح الثاني من ألواح الملحمة سطر ١٤٣ وبعده، وفي بداية اللوح الثاني عشر من سطر ١–٢٠)، ثم تأتي هذه العبارة الدالة التي لا نشك في أن الشاعر البابلي قد اعتمد عليها في تصوير طغيان جلجاميش قبل أن «يتحول» بعد موت صديقه ذلك التحول الذي أدى به كما قلنا إلى «التطهر» في نهاية الملحمة: «وبسبب صراخ البنات الصغيرات سقطت الطبلة والعصا إلى العالم السفلي»، والبنات الصغيرات هن اللائي دأب جلجاميش على اختطافهن من آبائهن والدخول عليهن قبل أزواجهن …

يتفق العلماء الذين درسوا الملحمة على أن كاتبها قد ترجم القسم الثاني من هذه القصة عن السومرية ترجمة شبه حرفية وألحقها بالنسخة الأخيرة للملحمة لتكون هي اللوح الثاني عشر فيها (وهي المعروفة بنسخة نينوى — العاصمة الآشورية الثانية — ووُجِدَت كما سبق القول في مكتبة قصر الملك آشور بانيبال)، ويبدأ هذا القسم في نصه الأصلي بشكوى جلجاميش من ضياع الطبلة والعصا (أو البوكو والموكو …) ومحاولته استدعاء روح أنكيدو الذي كان قد هبط إلى العالم السفلي استجابة لأمر سيده بإحضارهما له فأطلقت عليه «صرخة الأرض» أو ذلك العالم، وتخرج الروح من ثغرة في هذا العالم لتحدثه عن أهواله وظلماته وعن مصير أرواح الموتى فيه … والمهم أن نهاية القصة السومرية لم تصل إلينا، ولم يخبرنا كاتبها بشيء عن نجاح جلجاميش أو فشله في استرداد آداتي جبروته واستبداده العزيزتين على قلبه … لهذا لا أستبعد كما قلت من قبل أن يكون قد رجع إلى مسقط رأسه وقد تطهر من أوهام مجده وأنانيته الفردية، وعقد العزم على مشاركة شعبه في صنع الخلود الوحيد المتاح للبشر على هذه الأرض، ألا وهو بناء الحضارة وتأسيس ما ينفع الناس ويمكث في الأرض …

(٦) وأخيرًا فلا بُدَّ من كلمة قصيرة عن بقية القصص التي أغفلها الكاتب البابلي، فالقصة الثالثة «جلجاميش وأجا حاكم كيش»٥ تدور حول النزاع الذي ثار بين هذه المدينة وبين مدينة أوروك وأوشك أن يؤدي إلى اشتعال الحرب بينهما، وخلاصتها أن «أجا ابن أنميباراجاسي» بعث برسله إلى أوروك طالبًا منها الاستسلام، وناقش جلجاميش هذا الطلب مع «مجلس» شيوخ المدينة وختم كلامه بقوله: «لا نريد الخضوع لبيت كيش، بل سنسحقه بقوة السلاح»، ولكن الشيوخ لم يوافقوه على رأيه، وأعلنوا أنهم يفضلون الإذعان للحاكم المستفز على اللجوء للحرب … ولم يقتنع جلجاميش برأي «مجلس الشيوخ»، فاتجه إلى مجلس الشباب القادر على حمل السلاح (مما يدل على وجود نوع من الديموقراطية يستحق منا اليوم أن نتحسر عليه ونتمناه!) قائلًا لهم: «لا تخضعوا لبيت كيش، فنحن نريد أن نسحقه بالسلاح»، وأقره الشباب على عزمه ففرح قلبه، وأمر أنكيدو أن يقلده أسلحته، مؤكدًا أنه (أي أجا)، سيفزع منه بمجرد رؤيته، بحيث يضطرب فعله ويذهب عقله! ولم تمر عشرة أيام حتى زحف أجا بجيشه نحو أوروك التي اضطربت أمورها، فأخذ جلجاميش يبحث عن محارب يتطوع لقتال «أجا» أمام أسوار المدينة، مما يرجح أن الحروب في تلك العهود كانت تبدأ بالمبارزة بين الملوك والحكام أو من ينوب عنهم، وأعلن رجل اسمه «بيرشور نوري» عن استعداده لمواجهة «أجا» ومضى في طريقه واثقًا من النصر، ولم يكد يغادر بوابة المدينة حتى أحاط به جنود العدو وأوسعوه ضربًا وساقوه إلى قائدهم، وشاهد محارب آخر من فوق السور ما جرى لزميله، وسمع الكلمات التي قالها لأجا وأدت إلى تكرار ضربه ضربًا مبرحًا … ويبدو أن الخبر انتشر بين جنود جلجاميش فأصابهم الذعر، مما اضطره للصعود بنفسه فوق السور، كما يبدو أن أجا قرر رفع الحصار عن المدينة إذا اعترف له جلجاميش بالتفوق والسيادة والرئاسة … ويلهج جلجاميش بشكر المعتدي على صنيعه، وتختتم القصة بالثناء على ملك أوروك المسالم وفارسها الحكيم …
والواضح من النص أنه يصور واقعة تاريخية مجردة من كل ثوب أسطوري، فشخصية جلجاميش فيها شخصية ملك «إنساني» عاقل، كما أنَّ الآلهة لا تقوم فيها بأي دور، ولعل كاتب القصة أو ناسخها الذي سجل اعتراف جلجاميش بسيادة كيش قد حرص على تصوير هذه الواقعة المهينة في صورة لا تقلل من شهرة بطل أوروك ولا من مجد مدينته ذات الأسوار المنيعة … والحقيقة أن القتال بين المدن السومرية كان أمرًا معروفًا، كما أن بكاء شعرائها على مدنهم المخربة بأيدي أبناء المدن المجاورة أو غيرهم من الشعوب والقبائل الغازية يعد من أهم الأنواع الأدبية في التراث السومري،٦ ومن أعمقها تأثيرًا على قلب القارئ العربي المعاصر الذي يشهد خراب مدنه بأيدي العرب أنفسهم …

(٧) أما القصة الخامسة — وهي «موت جلجاميش» — فقد وصلت إلينا في حالة من التشوه يرثى لها، ويبدو من بقايا النص المبتور أنه يبدأ بالكلام عن سعي جلجاميش إلى الحياة الخالدة، ثم يبيِّن له إله لم يذكر اسمه أن إله الرياح إنليل لم يقدَّر له الخلود، وربما فعل ذلك تفسيرًا لأحد الأحلام الكثيرة التي ظلت تعاود جلجاميش وتتدخل في تحريك الأحداث، ومع ذلك يطمئنه الإله المجهول — كما سيفعل أنكيدو في مواضع عديدة من الملحمة — أن ذلك ليس مدعاة للحزن أو اليأس، إذ ضمن له الإله الملك والمجد والانتصار على عدوه مدى الحياة، ثم لا نلبث أن نرى جلجاميش على فراش المرض الذي لن يقوم منه، ويموت الملك وترتفع أصوات النواح عليه، ثم تفغر فاها الواسع فجوة كبيرة في النص فنجد أنفسنا في العالم السفلي، كما نفهم أن جلجاميش رُفِعَ إلى صفوف الملوك الذين يحكمون ذلك العالم، وأصبح واحدًا من آلهته الذين يسمون «الآنوناكي» ويقضون قضاءهم في أرواح الموتى، وأخيرًا يذكر النص أسماء أتباع جلجاميش وأفراد عائلته، والهدايا التي يقدمها باسمهم لآلهة العالم السفلي، ثم يختتم النص بترتيلة تتردد فيها أصوات البكاء على جلجاميش والثناء عليه، ويبدو من الحفائر التي قام بها «ليونارد وولي» في «أور» وكشفت عن كنوز مقبرتها الشهيرة أن معظم الملوك السومريين في تلك الفترة من منتصف الألف الثالثة قبل الميلاد كانوا يصطحبون حاشيتهم معهم إلى مقرهم الأخير، ولا يستبعد أن يكون أتباعهم قد تطوعوا في بعض الأحوال على الأقل بدفن أنفسهم معهم أحياءً وفقًا لطقوس الموت، ومع ذلك فربما تأتي الأيام بالشواهد الأثرية واللغوية التي تؤيد هذا الاحتمال المخيف — الذي لا أفتي فيه عن غير علم! — أو تنفيه …

(٨) أما عن قصة الطوفان السومرية التي يستند إليها اللوح الحادي عشر من الملحمة فقد وصلت إلينا في حالة لا تسمح حتى الآن بفهم سياقها المتكامل، كما أن صيغة القصة نفسها من العهد البابلي القديم لا تساعد أيضًا على ذلك، وتبدأ القطع الخمس المتبقية من النص بحديث أحد الآلهة عن الخدمات المفروضة على البشر تجاه الآلهة، ثم تستطرد إلى الكلام عن خلق البشر بواسطة الآلهة الكبار «آنو وإنليل وإنكي والإلهة الأم ننخور ساج»، وإلى نزول الملكية من السماء وتأسيس أقدم المدن في وادي الرافدين (مثل أريدو، أبو شهرين، ولاراك وسيبار بجانب مدينة الطوفان شوروباك التي تُعْرَف باسم فارة).

ويبدو أن القصة الأصلية ذكرت قرار الآلهة بإفناء البشر بسبب إزعاجهم لهم، إذ نفهم من بعض سطورها الباقية أن بعض الآلهة قد أسفوا على اتخاذ هذا القرار، وراحوا يدبرون الحيل للوقوف بجانب البشر … ثم يَرِد ذكر بطل الطوفان السومري، وهو زيوسودرا — أي الذي رأى الحياة — ملك مدينة شوروباك الذي يسر إليه أحد الآلهة (ولعله أن يكون هو إله الماء والحكمة إينكي الذي أصبح اسمه أيا عند البابليين، كما قام بنفس الدور في الملحمة) بخطة الآلهة في خطابه الهامس للجدار، ولا بد أن الفجوات الكثيرة في النص قد سردت قصة بناء الفلك وانهمار الأمطار من السماء، إذ توحي السطور التي جاءت بعدها بهبوب الأعاصير المدمرة وإغراق الطوفان للأرض سبعة أيامٍ وسبع ليالٍ «ثم طلع إله الشمس أوتو وغمر بنوره السماء والأرض، وفتح زيوسودرا نافذة — أو كوَّة — في السفينة الجبارة التي أضاءها البطل أوتو، وركع الملك زيوسودرا أمام أوتو، وذبح ثورًا وخروفًا» … وبعد فجوة أخرى كبيرة نفاجأ بأن الإلهين آنو وإنليل قد ندما على ما فعلا، وأشفقا على البشر فأرسلا عليهم ريحًا سماوية وأخرى أرضية بعثتا الحياة في مملكة النبات، ويلقي بطل الطوفان بنفسه أمام الإلهين اللذين يمنحانه الحياة الخالدة، ويقرران له العيش في جزيرة الخلود ديلمون (أو تيلمون)٧ التي تصوَّر السومريون أنها تقع شرقي وادي النهرين وربما كانت هي «البحرين» الحالية، وينتهي نص القصة عند هذا الحد، وهو يكفي على كلِّ حال لبيان مدى استفادة الشاعر البابلي منه ومن النص البابلي القديم الذي لم يكن أحسن حالًا.

ولا شك أن هذا الشاعر الموهوب قد أضاف تفصيلات أخرى من خياله الخلَّاق أو من مأثورات شفاهية لم تبلغ إلى عالمنا حتى الآن في صورةٍ مدونة، وربما تكشف عنها الحفائر في مستقبل الأيام، ثم صنع من هذه الخيوط كلها نسيجًا عبقريًّا أصيلًا هو الذي يُعْرَف اليوم باسم ملحمة جلجاميش أو باسم أول سطر في أول لوح فيها وهو «هو الذي رأى» …

(٩) لم تكن هذه القصص السومرية هي المصدر الوحيد الذي غزل منه البابليون ملحمتهم الفريدة، فمنذ أن تولى الأكاديون الساميون زمام السلطة في بلاد الرافدين ووحدوها تحت قيادتهم واختلطوا بالسومريين، أخذوا عنهم معظم تراثهم الثقافي، وشرعوا في العصر البابلي القديم٨ (أي منذ حوالي سنة ١٨٠٠ق.م) في نسخه وترجمة بعض أجزائه إلى الأكدية قبل أن يصوغوه بعد ذلك في أشكال جديدة ناضجة، ولا بُد أنهم عرفوا الكثير من القصص والأساطير التي دارت حول حياة جلجاميش ومغامراته مما لا نعرفه اليوم، وإن كانت المعلومات القليلة التي لدينا عن الأدب البابلي في تلك الفترة — وبخاصة من القرن الثامن عشر إلى القرن السادس عشر قبل الميلاد — لا تسمح بالقول بأنهم تمكنوا في ذلك الوقت من صياغة الملحمة في بناءٍ موحِّد متكامل، ومع ذلك فقد عُثِرَ على كسر ألواح مختلفة ترجع للعهد البابلي القديم وعليها أجزاء متفرقة مما سُمِّيَ بعد ذلك بقصيدة جلجاميش أو ملحمته، وهي ألواح عُثِرَ عليها في أماكن مختلفة، وأصابها التلف الذي شوَّه الكثير من سطورها، وإن لم يمنع هذا معظم مترجمي الملحمة من الاستعانة بشذراتها لتكملة نواقص أحدث النصوص عهدًا وأكملها، وهو النص الآشوري الذي عُثِرَ عليه في نينوى كما سبق القول.٩

مهما يكن الأمر فقد استطاع شاعر موهوب عاش حوالي سنة ١٢٠٠ق.م أن يبدع هذا العمل الأدبي الرائع الذي نسميه جلجاميش، معتمدًا على ما سبق أن ذكرناه من التراث السومري والبابلي القديم ومتحررًا منه في آنٍ واحدٍ … وقد حفظ لنا أحد المأثورات المتأخرة التي لم تتأكد صحتها اسم هذا الشاعر، وهو «سين-ليكي-أونيني»، ولا نكاد نعرف عنه إلا أن إحدى الأسر التي كانت تشتغل بالكهنوت في وقت متأخر في مدينة أوروك قد ذكرت اسمه كأحد أسلافها، ومع ذلك يظل الاسم أمرًا غير ذي بال؛ لأن الشعراء والكُتَّاب السومريين لم يحرصوا أبدًا على ذكر أسمائهم، ولم يهتموا بأنفسهم كما نفعل اليوم للأسف إلى حد مرضي فظيع؛ لأن موهبة هذا الشاعر أَقْدَر على التعريف به وتخليده من كل الأسماء (التي لا تعدو أن تكون ضجيجًا ودخانًا يحجب وهج السماء، على حد تعبير «جوتة» على لسان فاوست).

وجملة القول: أنَّ جميع النسخ المتسقة أو المجتزأة التي وصلتنا من الملحمة ترجع إلى ما بعد القرن الثاني عشر قبل الميلاد، ولكن القدر الأكبر من النص يرجع إلى القرن السابع قبل الميلاد، وقد عُثِرَ عليه كما ذكرت أكثر من مرة بين الألوف المؤلفة من الألواح الطينية التي اكتُشِفَت في مكتبة الملك الآشوري آشور بانيبال، هذا الملك العجيب الذي نهب مصر وخرَّب سوسة (عاصمة مملكة عيلام القديمة في الجنوب الغربي من إيران)، وجسَّد التناقض الصارخ بين حرص العالم المثقف على جمع تراث أجداده، وقسوة الوحش الفظيع على أعدائه (إذ كان يتسلى بتقطيع أطرافهم وصلم آذانهم وسمل عيونهم أثناء استمتاعه بالأكل والرقص والغناء والموسيقى! …) ومن حسن حظ الأدب والمعرفة والتاريخ أنه أرسل رسله إلى كل مراكز الثقافة القديمة في وادي الرافدين (مثل أوروك وبابل ونيبور وسييار)؛ لينسخوا القصائد والتراتيل والوثائق التاريخية والمدونات «العلمية» والقواميس … إلخ، ويترجموا كل ما استطاعوا ترجمته من السومرية إلى الأكدية السامية، ويحفظوا الألوف من ألواحها في مكتبة قصره في العاصمة الآشورية المتأخرة نينوى١٠ … وقد كان من بينها الألواح التي تضم هذا القصيد الملحمي الذي دُوِّنَ وفق الأصل وجُمِعَ في قصر آشور بانيبال، «ملك العالم، وملك آشور»، وهو القصيد الذي نسميه اليوم ملحمة جلجاميش، والذي ما زال العلماء من مختلف بلاد العالم يتبارون في دراسته وملء فجواته وتفسير إشاراته ولمحاته ودلالاته من كل الجوانب والأبعاد، وترجمة ما يجدُّ اكتشافه من ألواح أو كسر تتصل به، كما يتنافس الأدباء في استلهامه وصياغته في أشكال أدبية وفنية متنوعة …

(١٠) انتشر تأثير الملحمة منذ العصور القديمة وما يزال حيًّا وفعالًا إلى يومنا الحاضر، ولا يرجع هذا فحسب إلى القيم الجمالية والدينية والتاريخية والاجتماعية … إلخ التي تنطوي عليها، وإنما يرجع إلى أنها تخاطب «الإنسان» فينا قبل كلِّ شيء، وتذكي نيران أسئلته الكبرى التي لا يجد عنها إجابة شافية ولا يملك مع ذلك — على حد تعبير كانط (١٧٢٤–١٨٠٤م) في مقدمته لنقد العقل الخالص — أن يسكت عنها أو يتوقف عن طرحها، ولا نريد أن ندخل في تفصيلات التأثير والتأثر — التي لم تزل موضع التخمين والجدل والخلاف الشديد بين العلماء المجتهدين — إذ يكفي أن نشير إلى بعض مظاهر الاهتمام بترجمتها إلى اللغات القديمة والحديثة، ومحاولات صياغتها واستلهامها، واحتمالات التشابه بين بعض «ثيماتها» أو موضوعاتها الأساسية وشخصياتها وبين نظائرها في الأدب القديم والوسيط، بشرط أن تتذكر أن مكتبة جلجاميش والأدبيات التي أُلِّفَت عنه قد أصبحت تفوق الحصر وفجرت أمواجها المتلاحقة كل الحدود …

فقد تُرْجِمَت أجزاء من النص — كما ذكرنا في هامش سابق — إلى أربع لغات كانت تُكْتَب بالخط المسماري في الفترة الزمنية الواقعة بين القرنين الواحد والعشرين والقرن السادس قبل الميلاد، وفي حدود المنطقة الواقعة بين جنوب بابل في أرض النهرين وبين عاصمة الحيثيين في آسيا الصغرى، وتغلغل المأثور الشفاهي عن جلجاميش إلى ما وراء تلك الحدود، فانتشرت بعض موضوعاته وتشكلت على صور مختلفة في أساطير وحكايات شعبية، وقصص عجائب وخوارق أثرت من العصور القديمة حتى العصر الحديث على شعوب وثقافات أخرى عديدة، وأصبح بعضها جزءًا من الأدب العالمي (ويرجح بعض الباحثين أن تكون بعض «موتيفات» جلجاميش قد تسربت إلى عدد من الحكايات الشعبية الفارسية، مثلما حدث الشيء نفسه مع بعض الحكايات الخرافية البابلية على لسان الحيوان والنبات، وثبت أنها أثرت تأثيرًا واضحًا على بعض الحكايات الخرافية الفارسية وبعض حكايات أيزوب، وربما يعود أحد أسباب ذلك إلى أن الفُرْسَ ظلوا يستعملون الخط المسماري في كتابتهم لفترة طويلة بعد إهماله في بلاده نفسها).

وما برحت الآراء متأرجحة بين مؤيد ومعارض لتأثير اللوح الحادي عشر من الملحمة (الذي تروي فيه قصة الطوفان) على سِفْر التكوين في العهد القديم بجانب تأثير بعض نصوص أدب الحكمة البابلي على سفر الجامعة أو سفر أيوب والمزامير، وتأثر شاعر الإلياذة والأوديسة١١ أو شعرائها بالتراث الشفهي المأثور عن جلجاميش، وانعكاسه بصورة غير مباشرة على تصوير شخصياتهما التي تتشابه صفاتها من بعض الوجوه مع بعض شخصيات الملحمة البابلية (ففي أخيل وهيكتور وأوديسيوس ملامح من جلجاميش، وفي الساحرة كيريكه في الأوديسة قسمات من وجه عشتار وعنف حبها وغضبها، وربما أمكن التقريب بين مينيلاوس الذي أُرْسِلَ إلى جنات الإليزيوم ليعيش مع أبطال الإغريق العظام وبين أوتنابشتيم البعيد الخالد في جزيرة الأحياء، وكذلك بين بعض أبطال الأساطير اليونانية المشهورين بمغامراتهم وانتصاراتهم على القوى الخارقة — مثل هرقل وبرسيوس وثيسيوس — وبين جلجاميش في صراعه مع الأسود والمردة والثور السماوي)، وإذا كان جلجاميش قد ذكر عند بعض الكُتَّاب الإغريق المتأخرين (مثل إليانوس من أواخر القرن الثاني بعد الميلاد وأوائل الثالث في كتابه عن طبائع الحيوان وحكاياته، الكتاب الثاني عشر، الفصل الحادي والعشرين) فيحتمل كذلك أن تكون قصته (أي جلجاميش) قد تسرَّبت إلى شعوب البحر الأبيض المتوسط مثلها مثل العديد من عناصر السحر والتنجيم والفلك البابلي (وبخاصة الكلداني) والآشوري التي دخلت في مذاهب الغنوص الروحانية وفي الأفلاطونية الجديدة أو المحدثة (نسبة إلى أفلوطين المصري السكندري آخر فلاسفة اليونان العظام ومجدد الأفلاطونية (عاش من سنة ٢٠٥ بعد الميلاد إلى سنة ٢٧٠م)).

وهنالك احتمالات أخرى — تحتاج إلى دراسات مقارنة مستفيضة لم يبلغ إلى علمي شيء منها — عن تأثير شخصية جلجاميش على الروايات الشعبية العربية عن النمرود وذي القرنين — كما وردت في كتاب التيجان وأخبار ملوك اليمن لعبيد بن شريه الجرهمي — وحكايات العجائب والخوارق التي اقترنت بمولد الإسكندر الأكبر، وعلى شخصيات كثيرة من الملاحم الأوروبية في العصور الوسطى وروايات الفرسان في أواخرها، وربما تستحق مسألة تأثيره الممكن على بعض أبطال السير الشعبية العربية أو على بعض حكايات ألف ليلة وليلة شيئًا من عناية الباحثين في الأدب الشعبي العربي وعلاقته بالآداب السامية القديمة … أضف إلى هذا أن مؤرخي الفن لم يغفلوا عن النقوش التي صورت جلجاميش في صراعه مع الثيران والأسود والوحوش الكاسرة على الأختام الأسطوانية، ولا عن مجسماته بالنحت البارز في قصور الملوك الآشوريين وبخاصة قصر خورساباد …

وأما عن الترجمات والاستلهامات الأدبية فأكتفي بذكر ما اطلعت عليه منها أو قرأت أجزاء منه فيما قرأت من دراسات، وهو قليل من كثير، فمن الترجمات ما حافظ على روح الملحمة وهيكلها دون التقيد بالترجمة الحرفية التي تشوبها كثرة الثغرات والفجوات بما يتعذر معه متابعة السياق، مثل ترجمة فيلهيلم قندلانت (برلين ١٩٢٧م) وجورج بورخارت (فرانكفورت ١٩٥٨م) والأستاذة ن. ك. ساندرز (سلسلة بنجوين ١٩٧٢م، ولها ترجمة عربية للأستاذين؛ محمد نبيل نوفل وفاروق حافظ القاضي، القاهرة دار المعارف ١٩٧٠م)، ومنها ما التزم بالترجمة الدقيقة مع استكمال الفجوات الأصلية من الشذرات البابلية القديمة أو الترجمات الحيثية، مثل ترجمة ألبيرت شوت التي اعتمدت عليها، وترجمات ألكزندر هايديل، شيكاغو ١٩٦٣م، وأ. ا. شيايزر ضمن كتاب بريتشارد المعروف نصوص من الشرق الأدنى القديم في ارتباطها بالعهد القديم، برينستون ١٩٥٥، ١٩٧٥م والترجمتين العربيتين عن الأكدية للمرحوم الأستاذ طه باقر، بغداد ١٩٨٠م، والدكتور سامي سعيد الأحمد، بيروت وبغداد ١٩٨٤م، وترجمة الأستاذ فراس السواح التي وفقت بين ترجمات إنجليزية مختلفة، دمشق ١٩٨٧م، والترجمة الشعرية للشاعر والباحث العراقي المعروف عبد الحق فاضل بعنوان «هو الذي رأى» بيروت ١٩٧٢م، وكل ذلك بجانب نصوص من الملحمة وردت في دراسات قيِّمة من أهمها في العربية كتاب هنري فرانكفورت وزملائه «ما قبل الفلسفة، الإنسان في مغامرته الفكرية الأولى» من ترجمة الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا، بيروت ١٩٨٠م، والأسطورة والتاريخ في التراث الشرقي القديم، دراسة في ملحمة جلجاميش، للدكتور محمد خليفة حسن أحمد، بغداد ١٩٨٨م؛ حتى إذا تركت حقل الدراسات العلمية والأكاديمية وبحوث علماء الآشوريات في كتبهم ومقالاتهم في مجلة «سومر» وغيرها من الدوريات المتخصصة؛ أحزنك ألا تجد في العربية عملًا روائيًّا أو مسرحيًّا واحدًا استوحى هذا الأثر الخالد باستثناء مسرحية شعرية متواضعة للشاعر العراقي يوسف أمين قصير، بعنوان «جلجاميش في العالم السفلي»، بغداد ١٩٧٣م، ومعالجة مسرحية شائقة من نوع «المونودراما» للعرائس التي يحركها وينطقها ممثل واحد هو الفنان العراقي سعدي يونس (وقد أسعدني الحظ بمشاهدتها ولم يسعدني بالاطلاع على نصها)، ولا شك أن هذا دليل كافٍ على أن الملحمة لم تصل بعدُ إلى الوعي العام، ولم تحرك بصورة كافية وجدان المبدع العربي، وهو أولى الناس بالاهتمام بإرثه وامتلاك ميراثه، لعله أن يتصرف فيه تصرف الحر، ويدرك مدى تغلغل «نموذجه الأصلي» في شعوره ولا شعوره الفردي والجمعي عبر العصور والأجيال …١٢

•••

(١١) كانت هذه المقدمة ضرورة لا غنى عنها للتعريف بأثر خالد من آثار تراثنا الثقافي والحضاري من ناحية، وجزء لا يتجزأ من الأدب العالمي لا تزال الدراسات العلمية والأدبية تتوالى عنه من مختلف أبعاده من ناحية أخرى، مع الحرص على عدم الدخول فيما لا نهاية له من التفصيلات والتفسيرات التي لا يحتملها هذا التقديم، والواقع أن دوري في هذه الترجمة هو دور «ساعي البريد الأمين» الذي أخذ على عاتقه توصيل «رسالة» سحيقة القدم إلى القارئ، أي «ترجمتها» بالمعنى الأعمق والأشمل لهذه الكلمة، بحيث ينصهر فيها أفق الكتاب الأصلي مع أفق مترجمه وقارئه المعاصر، ويتم بينهما التقارب والتجاوب والتعاطف، مع توخي الدقة التامة في النقل، وإدراك أوجه التباين بين الرؤى والأزمنة والتراكيب والسياقات التاريخية والحضارية والاجتماعية واللغوية والدلالية (كما يفيض في ذلك أصحاب فلسفة التفسير أو التأويل للنصوص المختلفة — الهيرمينويطيقا — وبخاصة الفيلسوف هانز جورج جادامر)، وسوف أؤجل الحديث عن هذا الدور قليلًا لأقدم بعض الملاحظات التي أرجو أن تلقي الضوء على مكانة «جلجاميش» من التراث الإنساني ومن تراثنا القديم، دون أدنى رغبة في التفاخر أو الزهو (وإن كان الزهو بعيون التراث حقًّا مشروعًا لأبنائه، كما هو سند نفسي لهم في أوقات المحن والشدائد التي يشعرون فيها بالحاجة الملحَّة لسماع صوت «رسالته» الموجهة لهم)، ولعلي ألخص هذه الملاحظات في النقاط التالية:
  • (أ)

    إذا لم يكن جلجاميش هو أول بطل إنساني، فهو على التحقيق أول بطل مأساوي في تاريخ الأدب العالمي، وإذا كانت مأساته تكمن في فشله النهائي في التوصل للخلود الذي شقي شقاءً لا يوصف في السعي إليه، فإن هذا الفشل نفسه هو سر بطولته وإنسانيته التي تجعله أقرب إلينا من كثير من أبطال المآسي القديمة والحديثة، ومع أن شاعر الملحمة قد جارى الكهنوت والتقاليد الدينية والأسطورية القديمة في تصوير جماله وقوته في صورة خارقة للمقاييس البشرية، وصرَّح أكثر من مرة بأن ثلثيه إلهي والثلث الباقي بشري فانٍ، فقد حرص — في تصوري على الأقل — على تأكيد إنسانيته وفرديته، وإبراز ضعفه وتردده في كثير من مواقفه وهواجس رؤاه وأحلامه، وعلى تتبع «تطهره» التدريجي من تألهه وتجبره وتسلطه على شعبه، بل من تمرده المؤلم والعقيم على قوانين الموت والفراق المحتوم، حتى وصوله إلى مرحلة الوعي بالوضع البشري وقانون اللحظة العابرة والواقع هنا والآن، والاقتناع بأن الخلود الوحيد المتاح للبشر إنما يكون في إنجاز أعمال حضارية من نوع السور الذي يثني عليه ثناءً حارًّا وهو في الطريق إلى موطنه ومسقط رأسه، والحق أن بنية الملحمة نفسها توحي بأنها نوع من القص الإنساني أو «العلماني» كما نقول اليوم، فلم يثبت للعلماء أنها كانت تُتْلَى مع الطقوس الدينية، كما كان الحال مع قصيدة الخلق البابلية «إينوما ايليش» (عندما في الأعالي)، وبقيت قصة إنسانية على الرغم من إطارها الأسطوري وتدخل الآلهة — وبخاصة إله الشمس والعدل شمش — في كثير من أحداثها، أضف إلى هذا أن موت صديقه أنكيدو كان ضربة ساحقة لألوهيته المزعومة، فجَّرت فيه بشريته المذعورة من «حظ البشر»، وأطلقت بحثه اللاهث وسؤاله المحموم عن الخلود لنفسه أولًا ثم لشعبه بعد ذلك، ولا ننسى أخيرًا أن مأساويته ترجع في جانب منها إلى التشاؤم القاتم الذي طبع منذ القدم وجود الإنسان في أرض النهرين، بسبب قلقه الدائم من قوى الطبيعة المدمرة، وهجمات المدن والشعوب المجاورة، وغزوات القبائل البدوية وغاراتها المفاجئة، وخوفه المقيم من مصيره التعس بعد الموت في عالم لا عودة منه، عالم سفلي خال من النور والأمل، كُتِبَ فيه على أرواح الموتى أن تعيش كالطيور الصامتة على التراب، وأن تقتات من الطين، وتتعذب خلف الأبواب السبعة المغلقة في قبضة الملكة المخيفة أريشكيجال وزوجها نيرجال وحراسهما وزبانيتهما الأشداء …

  • (ب)

    وإذا كان الغربيون يؤكدون أن «أوديب» هو أول فرد حاول أن يخرج من حصار الأسطورة والملحمة، ويستقل بنفسه عن روح الجماعة ويحررها من نسيج تقاليدها وأساطيرها وكهنوتها، وإذا كانوا يفتخرون بأن سقراط هو أول من طبق حكمة معبد دلفي والحكماء السبعة «اعرف نفسك» بصورة أخلاقية عقلية، وأول من تمثَّلت فيه «الذاتية» الوجودية الحقة بكل تمزقها بين النهائي واللانهائي، وبين المحدود والمطلق (على نحو ما صورها كيركجارد في رسالته المبكرة عن مفهوم الدعابة مع التركيز المستمر على سقراط)، فمن حق أبناء حضارة هذه المنطقة من العالم أن يردوا عليهم بأن «جلجاميش» قد سبق «أوديب» في إصراره على فرديته مهما كلَّفه ذلك من الاغتراب عن وطنه وشعبه، والمغامرة في اقتحام المخاطر والمهالك، وأنه لا يقل عن سقراط في «الذاتية» الفردية التي قادته على الطريق الوعر، طريق معرفة النفس وحدودها ومكانها من العالم وعلاقتها بالآلهة والبشر، وطريق البحث الشائك عن معنى الحياة والموت والخلود … والدليل على هذا أن ملحمته التي ترجع إلى الألف الثالث قبل الميلاد ما زالت تحرك عقولنا وقلوبنا في أواخر القرن العشرين، وما فتئت تثيرنا ببساطتها وعفويتها، دون أن يقلل من استمتاعنا بها أسلوب الاستطراد والتكرار والتقرير والارتجال الذي يطبع الأدب الشعبي والقصص الشعبي بوجه عام …

  • (جـ)
    انتقد بعض فلاسفة الغرب (مثل فيلسوفي مدرسة فرانكفورت ومؤسسي النظرية النقدية الجدلية وهما: ماكس هوركهيمر وتيودور أدورنو في كتابهما المشترك عن جدل التنوير الذي صدر عام ١٩٤٧م)،١٣ انتقدا حركة التنوير العقلي الأوروبي، وأكدا أن التنوير ظل طوال تاريخه الطويل متداخلًا مع الأسطورة التي كان ينتزع نفسه منها لكي يرتد إليها من جديد بصورة أبشع (كما حدث للعقل الذي سقط في اللاعقلانية المروعة مع كارثة قيام الأسطورة النازية وتحطمها …) والمعروف أن التنوير الأوروبي قد بلغ ذروته في القرنين: السابع عشر والثامن عشر، وأن أقطابه قد أكدوا سلطة العقل النقدي الذي تقاس عليه كل سلطة أخرى، بما في ذلك سلطة التراث الديني، وعرَّفه كانط — رأس المثالية الألمانية الحديثة — بأنه هو خروج الإنسان من الوصاية وبلوغه مرحلة الرشد؛ أي مرحلة معرفة الذات والتحرر من الخرافة والإقطاع والتعصب، والاتجاه — على هدي النزعة الإنسانية والفلسفة العقلانية وتطور العلوم الطبيعية — إلى توحيد البشرية العاقلة تحت لواء التسامح والتقدم والاستنارة … والذي يهمنا في هذا المقام أن الفيلسوفين السابقي الذكر قد أرجعا التنوير إلى جذوره الأولى في التاريخ الغربي، وزعما أن «أوديسيوس» — بطل ملحمة الأوديسة لهوميروس — هو أول «مستنير» أوروبي استطاع بخبثه وذكائه التخلص من سحر الأسطورة ومن كيد بعض الآلهة والعمالقة له ولرفاقه في رحلته الخطرة، وبصرف النظر عن مدى صحة هذا الرأي، وعن تأرجح التنوير الغربي منذ ذلك الحين بين التقدم والتراجع، ففي تقديري أن جلجاميش كان أسبق إلى التنور أو الاستنارة من أوديسيوس بألف وخمسمائة عام على الأقل … فقد كانت مغامراته تحديًا مستمرًّا للأساطير المسئولة إلى حد كبير عن تألهه وجبروته واستعباده لشعبه ولهاثه المضني وراء حلم الخلود المستحيل، وظل يخرج من أساطيره وأحلامه بالتدريج ويتحول عنها خطوة بعد خطوة، حتى يئس منها بعد ضياع نبتة الخلود من يديه وانخراطه في البكاء على تعاسته وانهياره وانكساره، ثم تطهر من تلك الأساطير والأحلام — أو هذا على الأقل هو تفسيري لخاتمة الملحمة! — مع عودته إلى مسقط رأسه في أوروك، وعزمه — الذي نستشفه من فرحته الغامرة برؤية سورها وأبراجها من بعيد! — على وضع يده في يد شعبه لتحقيق الخلود الوحيد المتاح للبشر أثناء حياتهم المتناهية على الأرض، وهو — كما قلت — بناء الحضارة وإيثار ما ينفع الناس ويمكث في الأرض على الشهر الكاذبة والتسلط الأناني والمجد الشخصي الزائف، ومع ذلك فربما ينظر إليَّ القارئ نظرة المتشكك الساخر وهو يسأل: إلى أين أوصلهم التنوير الذي بدأ مع أوديسيوس؟ وإلى أين وصلنا بالتنوير الذي بدأه جلجاميش بطل أوديسة الرافدين القديم؟! وله وحده أترك الإجابة على هذا السؤال على ضوء محنتنا الراهنة أو بالأحرى في غياهب ظلماتها …
(١٢) ليس القدم وحده هو الذي يضفي على جلجاميش وملحمته هالة الجلال والصدق والجمال؛ لأن أشعة هذه القيم الباقية تنبعث من تكوينها الفني ومضمونها الفكري، والدلالات التي يوحي بها شعرها وأحداثها وشخصياتها على مأساة الإنسان في وجوده القلق، وبحثه عن المعنى والمعرفة، وسؤاله عن سر الحياة والموت، بجانب دلالتها على النموذج الأصلي أو النمط الأولي — على حد تعبير عالم النفس السويسري كارل جوستاف يونج — للشخصية الشرقية المستبدة في بعدها الأسطوري والتاريخي، ومدى ما بقي منها من رواسب فاعلة في لاوعينا الجمعي (وإن كان جلجاميش — في تفسير بعض الباحثين والتفسير الذي ارتضيته — يقدم مثلًا نادرًا في تاريخ القهر والقمع الطويل لهذه المنطقة من العالم على الحاكم الذي تطهر من طغيانه وتسلطه واستبداده)؛١٤ ولذلك فإن جلجاميش وعاء أثري وفني يحتوي على مزيج مأسوي مدهش من مغامرة الإنسان بحثًا عن نفسه وصراعه الأخلاقي مع الشر، ورؤاه ومواقفه الوجودية التي تتذبذب بين الاستغراق في نبع اللحظة الراهنة واغتراف كل ممكناتها، والتصميم على تحقيق أمل «يوتوبي» يبدو في حكم المستحيل، أضف إلى هذا أهم ما اشتهر به جلجاميش وضمن له الشمول والحضور وراء حدود المكان والزمان، وهو سعيه الدائب إلى الخلود الذي يمكنه من الإفلات من «حظ البشر»، ويعينه على مواجهة الموت القابع في مخدعه، وتخطي أسوار الفناء الذي يشل خطاه ويحاصر حياته في كل لحظة، ويلتهم كل أعماله وأتعابه وما بَنَتْ يداه … ثم إنها تخاطبنا اليوم أيضًا — كغيرها من أمهات النصوص في تراثنا الأدبي والحضاري — في سعينا الدائب لمعرفة هويتنا وتحقيقها، وتطلعنا لإرساء الأساس الأول المفتقد لوجودنا وتقدمنا على درب التحضر والتنور والتطور، ألا وهو الحرية، وهل ثمة سبيل يقربنا من هويتنا مثل تفهم نصوص تراثنا، وتتبع مسار تحولاتها التاريخية في مختلف السياقات والأبنية الاجتماعية والسياسية والثقافية … إلخ وتجديد حضورها في وعينا، وجعلها معاصرة لنفسها ولنا في وقتٍ واحدٍ (على حد التعبير الجميل الذي يوجه بحوث المفكر العربي محمد عابد الجابري في التراث العربي والإسلامي وتجده في مقدمة كتابه نحن والتراث)؟!

(١٣) تزخر الملحمة بشواهد عديدة على التفكير السومري والبابلي القديم وأوضاعه التاريخية والنفسية والاجتماعية والثقافية والطبقية … إلخ، ومواقفه من البيئة المحيطة به ومن العالم السفلي الذي لا رجاء فيه ولا عودة منه (بالأكدية: ايرصة لاتاري أو أشار لاتاري …)، وتقاليده وحكمته وأحلامه ورؤاه التي تتنبأ بسلوكه وتوجهه كما تكشف عن رعبه من أرض اللاعودة وأسرارها، وحياته اليومية المنغصة بالسخرة والقهر والطاعة المطلقة للحاكم الإلهي أو المتأله (الإنسي) والكهنوت ومجمع الآلهة الرهيب الذي يحكم الكون والمدن ويُعيِّن مندوبين عنه من صغار الآلهة لحكم البيوت والعائلات أيضًا … وهي تدلنا كذلك على علاقاته السياسية والاقتصادية بجيرانه (فالرحلة المحفوفة بالمخاطر إلى غابة الأرز في جبل لبنان تُبيِّن حاجته إلى الخشب والمعادن الشحيحة في بلده)، وعلى صلته بالآلهة الذين يخشى غضبهم وانتقامهم (مثل إنليل رب العواصف) والآلهة الذين يتضرع إليهم وينعم بعطفهم وتعاطفهم (مثل أيا وشمش) وتمتعه بنوع من الديموقراطية البدائية التي تجلَّت في وجود مجلسَين للشورى من الشيوخ والشباب، وبدايات زحف الحضارة (ممثلة في جلجاميش وبغي المعبد) بترفها وفسادها على البداوة (ممثلة في أنكيدو وحش البرية) بقيمها الفطرية النقية … إلى آخر الشواهد الدالة على تصور الرافدي القديم للعالم والبشر والحياة والموت، والقيم المختلفة كالشجاعة والحب والإيثار والعفو والخير وأضداها من الضعف والأنانية والتسلط والاستبداد والتهالك على الملذات الفاحشة، بجانب لمحات قليلة عن «علوم» الحكمة العملية في تلك العهود كالسحر والتنبؤ وتفسير الأحلام وطقوس التطهير من الأرواح الشريرة … إلخ.

لن يتسع المجال المحدود للخوض في هذه الموضوعات التي يمكن الرجوع فيها إلى الكتب المتخصصة؛ ولذلك أستأذن القارئ في الاكتفاء بالمعلومات الضرورية التي قدمتها، وتسجيل بعض الملاحظات عن علاقتي بالملحمة وبطلها الشهير، ومحاولتي المتواضعة في قراءتها وتفسيرها من منظور ذاتي وتاريخي، ومبررات هذه الترجمة العربية الجديدة التي أتمنى أن تصل إلى الوعي المثقف، وتفتح عيون وجدانه الفردي والجمعي على آلام الماضي الممتدة في الحاضر، لعله أن يجرب تراثه ويحاول تجاوزه …

(١٤) يرجع حبي واهتمامي بهذه الملحمة إلى سنوات الطلب، كنت قد اطلعت عليها لأول مرة في ترجمة الأديب الألماني جورج بوخارت التي سبقت الإشارة إليها، وخطر لي في ذلك الحين — أوائل الستينيات — أن أستلهمها في عمل أدبي لا أذكر معالمه على وجه التحديد (وإن كنت قد عثرت قبل شهور قليلة على مسودته المدفونة مع غيرها من المسودات والمشروعات الموئودة في توابيت الأدراج ومقبرة الذاكرة …)

ولا بُدَّ أنني استبعدت ذلك الخاطر النزق الذي ظل يتقلب كالشوكة في أغوار الوجدان مع غيره من الأشواك التي لا يتوقف وخزها المؤلم البطيء … كانت التجربة فوق طاقتي المحدودة، ولم تكن قد نضجت إلى الدرجة التي تكفي لتحريك الشوكة فيتحرك القلم! ومَنْ أنا حتى أتجاسر على الاقتراب من كنزٍ أدبيٍّ خالد، لا يسبر أغواره إلا مَنْ يقدر على الغوص في بحار عالم حضاري كامل، عالم أقف أمامه وقفة التلميذ البائس البليد، فلا أنا أعرف اللغة الأصلية التي كُتِبَ بها، ولا لديَّ فكرة عن علم الآشوريات وأسراره المحجوبة إلا عن أهل الاختصاص! ثم لمن أقدِّم هذه التجربة وجلجاميش غائب عن وعي القارئ العام، وبيننا وبينه فجوة زمنية سحيقة لا تقل عن خمسة آلاف عام؟!

وشاءت تحولات الأيام والأعمال أن أعكف طوال السنوات الثلاث الماضية على قراءة نصوص أدب الحكمة البابلية (مثل أيوب البابلي لدلول — بيل نيميقي — أو لأمتدحن رب الحكمة والمعذب والصديق وحوار السيد والعبد وغيرها من الأمثال والحكم والتراتيل والحكايات الشعبية البابلية …) لم يفارقني الوعي التام بمدى قصوري العلمي، وجهلي باللغتين: السومرية والأكدية جهلًا فات أوان تداركه وإصلاحه … لكن الانجذاب إلى حكمة هذه الحضارة، ومحاولة قراءتها وتفسيرها من «داخلها» بعيدًا عن حكمة «اللوجوس» الذي تحكم في مسيرة ذلك النسق العقلي والمنهجي المترابط الذي نسميه الفلسفة منذ الإغريق إلى اليوم، ثم طموحي أو غروري الذي صوَّر لي من خلال تلك النصوص القديمة التي تشبه اللآلئ الساطعة التي تقطر بدماء الشكوى والأنين من الظلم والتسلط واضطهاد البررة الصالحين، كما تردد أصوات الاحتجاج والتمرد المحبط على نظم القهر والطغيان الكهنوتي والاجتماعي؛ كل ذلك صور لي — بحدس الأديب لا بيقين العالم! — أنني قد لمست جذور المحن والمآسي العربية المتكررة في تراثنا التاريخي — وبخاصة في عصور التدهور والإنحطاط — بما يشبه القوانين التي تتحكم في الدورات الطبيعية والكونية … ورست رحلة القارب الصغير على الشاطئ ومعها كتاب سيئ الحظ عن «حكمة بابل» ربما يقدَّر له الظهور في وقت غير بعيد، ومسرحيتان قصيرتان هما كل الصيد من تلك الرحلة الخطرة إلى الأعماق المجهولة١٥ … وكان من الطبيعي أن أعاود قراءة جلجاميش في ترجماتها وصيغها المتاحة (وفي مقدمتها ترجمة شوت مع مراجعة فون سودن، وترجمة شبايزر في كتاب بريتشارد السابق الذكر، والترجمتين الأدبيتين للأستاذ ساندرز والأستاذ بوخارت، والترجمتين العربيتين للمرحوم طه باقر والأستاذ فراس السواح …) وتحركت الشوكة القديمة وجددت وخزاتها الأليمة … وتمخضت التجربة عن قراءة درامية للملحمة العريقة، أتاحت لي المزيد من التعمق في استكناه أحداثها ومواقفها وصورها العفوية المعجزة ببساطتها وقوة دلالتها، والتعاطف مع شخصياتها ومحاولة «إحضارها» إلى بؤرة الوعي الحاضر وتحريكها على خشبة الواقع العربي المشحون بالمآسي والهزائم والآلام، والمفعم أيضًا بالأشواق والتطلعات والأحلام … وتجسدت التجربة (أو الترجمة الدرامية بالمعنى الأصلي لكلمة الترجمة!) في مسرحية ملحمية تحمل عنوان: «هو الذي طغى … محاكمة جلجاميش» ويعلم الله وحده إن كان القُرَّاء سيحكمون لها أو عليها١٦

خرجت من هذه التجربة — التي لم تكن أقل خطرًا ومعاناة من أسفار جلجاميش ومعاناته التي نقشها على لوحٍ حجري! — بضرورة إنجاز ترجمة عربية جديدة، وبأفكار وانطباعات أخرى أعرضها على القارئ قبل الحديث عن مبررات هذه الترجمة، راجيًا أن يتذكر ما قلته من قبل من أنها انطباعات على وجدان أديب متعاطف، وليست أفكار عالم محقق؛ ولذلك تقع خارج مجال الصدق واليقين العلمي أو وراء حدوده …

(١٥) يبدو لي من قراءة الملحمة ومعايشتها — وربما أكون مخطئًا في هذا الرأي! — أن شخصية جلجاميش قد مرت بتغيرات حاسمة جعلتها تتحول من «الأنا» إلى «النحن»، ومن التسلط إلى التطهر، ومن اللهفة المحمومة على الخلود الإلهي إلى الخضوع للوضع البشري والتسليم به والاتجاه بهدوء إلى مشاركة «الناس» في أعمالهم وهمومهم، وبذلك تحررت من الذعر من الموت وآمنت بقانون اللحظة الواعية الفاعلة، لحظة العمل الخلَّاق مع الآخرين ومن أجلهم، ويكاد يتملكني حدس غلاب بأن جلجاميش قد تطهر من استبداده الأناني ولهاثه العقيم إلى الشهرة وخلود الاسم بعد تحسره على ضياع «النبتة» في جوف الأفعى وبكائه بكاءً مفجعًا على الجهد الذي ذهب سدًى، وسنوات الشباب التي تبددت في الغربة عن الوطن وعن الشعب الذي رجع إليه صفر اليدين من كلِّ أمل.

ومع ذلك فربما تكون نجمة هذا الأمل قد أرسلت شعاعًا رحيمًا إلى عقله وعينيه مع اقترابه من أسوار أوروك ورؤية شبح السور العظيم الذي اقترن باسمه إلى اليوم، وظلال الأبراج (الزقورات) والمعابد التي شيدها — قبل القيام برحلته — لإله السماء «آنو» وإلهة الحب «إينانا»، وربما يكون هذا الشعاع الرحيم قد أوحى إليه بهذا الخاطر الإنساني حقًّا: إن الخلود الوحيد المتاح للبشر الفانين على الأرض الفانية يكمن في مثل هذا «العمل»، لا في ذلك الحلم المستحيل أو ذلك «الوهم» الذي ساقه للاغتراب عن وطنه وشعبه، كما ساق غيره من الجبابرة والطغاة من بعده وراء أوهامهم الزائفة وشطحاتهم المدمرة …

ومَن يدري؟ فلعله أن يكون قد أحس في لحظات الندم والتطهر المأسوية بالذنب تجاه شعبه الذي طالما سخَّره واغتصب بناته وساق أبناءه إلى الموت أو إلى الذبح في مغامراته الفاشلة (ومن أسف أن الكاتب أو الناسخ البابلي لم يلتقط الخيط الذي قدَّمه له سلفه السومري عندما ذكر في إحدى القصص الخمسة التي لخصناها من قبل أن جلجاميش أخذ معه خمسين من خيرة شباب أوروك، واشترط فيهم أن يكونوا غير متزوجين! …) وليس أدل على هذا كله — في تقديري على الأقل — من الفرحة التي لم يستطع شاعر الملحمة أن يخفيها عندما انتقل فجأة في خاتمة الملحمة إلى ترديد هتاف جلجاميش برفيق رحلته الملَّاح أورشنابي أن انظر يا أورشنابي إلى سور أوروك، اصعد عليه وتفحص لبناته … إلخ!

ربما يساعد هذا على اعتبار جلجاميش صورة مبكرة جدًّا من صور «الرواية التربوية» والتعليمية التي ازدهرت في الأدب الغربي منذ أوائل القرن التاسع عشر، وهي روايات تتابع تطور البطل في معرفته بنفسه وبالعالم والمجتمع، وتحوله من الاغتراب عن الذات إلى الانتماء إليها، ومن التبدد والضياع إلى معرفة النفس وتحديد دورها وواجبها في العالم والواقع، فهل يمكننا القول بأن كاتب جلجاميش أو كُتَّابها قد قصدوا إلى هذه المهمة التعليمية والتربوية غير المباشرة بطبيعة الحال، فأرادوا أن يصححوا نموذج المستبد الشرقي العريق باختيار أشهر ممثليه في هذه الحضارة وإصلاح انحرافه وفساده بحيث يكون عبرة لغيره من مسوخ الطغاة المتتابعين، وأمثولة تقول لكلِّ مستبدٍّ نرجسي وانتهازي مثله: قد كنت كذلك وطغيت، لكني الآن تطهرت؟!

هل حاولوا — بالأسلوب الشعبي البسيط الهادئ الذي يكتفي بالتلميح دون التصريح — أن يعبروا كذلك عن تحول جلجاميش من أحلامه المستحيلة المشوشة إلى الحلم الواقعي بإقامة «وطن الإنسان» الدافئ بالحرية والعدل والبناء، الزاخر بالمشكلات «الحقيقية» التي تؤرق الناس في حياتهم «هنا والآن» دون التوقف عن متابعة الحلم وتدعيم أسس ذلك الوطن المأمول؟ أليس هذا أمرًا ممكنًا وجزءًا من مضمون «الرسالة» التي يبلغها هذا العمل إلينا، كما بلغها لمستمعيه وقرائه الأقدمين؟!

(١٦) يخيل إليَّ كذلك أن «جلجاميش» تعبر عن أول صورة من صور الاعتراف «باللحظة الخصبة الممتلئة» (كما أشار إليها بندار في أناشيده البيتية وكما سماها جوته ونيتشه وأفاض مؤخرًا في وصفها الفيلسوف الماركسي إرنست بلوخ في كتابه الأكبر مبدأ الأمل)، لقد شبهها القديس أوغسطين (٣٥٤–٤٣٠م) بالقوس المتوتر بين لحظة ماضية ذهبت بغير عودة وإن بقيت ذكراها في الذاكرة، ولحظة لم تأتِ بعدُ ولم يزل القوس مشرعًا عليها بكل ما فيه من طاقة الحلم والتوقع والتأهب.

هذه اللحظة الممتلئة المظلومة دائمًا؛ لأنَّها زائلة ولا وجود لها في حساب الزَّمن الفلكي والموضوعي، هي في الحقيقة لحظة الوعي والفعل وحقل الإنتاج والإبداع الإنساني الوحيد، وكل «مُفارقة» الوجود الإنساني تكمن في هذه اللحظة التي نهملها عادة ونتركها تفلت من أيدينا ولا ننتبه إليها — إن فعلنا على الإطلاق! — إلا في المواقف الحاسمة في حياتنا الفردية والجماعية حين نمسك بها ونصب فيها عرقنا ودمنا، ونحرك حقلها بجهدنا وتعبنا، وبذلك نحقق معنى وجودنا و«ذواتنا» الفردية والجماعية، ونواجه هاوية الموت الحتمي و«خرونوس» الفاغر فاه لابتلاعنا ونحن نصيح به: ها نحن قد استطعنا أن نتحداك ونترك وراءنا «خلودنا الصغير» الذي حاولنا به مقاومتك! (لذلك لم يكن من قبيل الصدفة أن تصور أساطير الإغريق البديعة الذكية تلك اللحظة المواتية العابرة — «الكايروس» — في صورة ربة جميلة ينبت في قدميها جناحان وتمسك في يدها سكينًا أحد وأمضى من الريح، وتتدلى من جبهتها خصلة شعر يتحتم على من يجدها أن يقبض عليها من فوره؛ لأنها إذا فاتته فلن يستطيع أن يمسك بها أبدًا مهما جرى وراءها — إذ أن رأسها من الخلف صلعاء! — ولن تترك له إلا الحسرة والندم والخذلان …)١٧

ولعل إشراقة اليقين بمسئولية هذه اللحظة الموجودة والمعدومة في وقتٍ واحدٍ — لأن وجودها أو عدمها، وتحقيقها أو التفريط فيها رهن بمدى شعورنا بحريتنا ومدى وعينا بالواجب الذي تفرضه علينا — لعلها قد أشرقت في نفس جلجاميش — التي اغتسلت بدموع الندم — لحظة أن وقعت عيناه على السور والأبراج البعيدة، وربما يكون قد صمم في تلك اللحظة ذاتها على أن يضع يده في يد شعبه ليعاهده على المزيد من البناء والتأسيس؛ أي على الشكل الأسمى للإبداع في ذلك الزمان، والاحتمال غير مستبعد وإن لم تجد علينا يد الزمان ولا أيدي علماء الآثار والحفريات بالشواهد والأسانيد التي تعززه من خلال أعماله وتفاصيل حياته بعد رجوعه إلى مسقط رأسه.

ومع ذلك فلا بُدَّ أن نسأل أنفسنا: ألا يمكن أن يكون رفض جلجاميش لكأس اللحظة واللذة العابرة من يد ساقية الحان سيد ورى، ثم ثورته على الحياة الخاملة التي يعيشها جده «الخالد» أو تنابشتيم، نوعًا من رفض الحياة بلا خلود، والثورة على الخلود الممل بلا حياة، أي نوعًا من الاقتراب من الوعي بلحظة الخلود أو باللحظة الخالدة١٨ التي وصفناها باللحظة الخصبة الممتلئة؟!

(١٧) وأخيرًا فقد ذكرت من قبل أنني أتصور جلجاميش في صورة «النموذج الأول» أو «النمط الأصلي» الكامن في أغوار اللاوعي الجمعي للمستبد الشرقي بوجه عام والعربي السامي بوجه أخص. تغلغل هذا النموذج في أقدم طبقات الوعي كالعنكبوت أو الأخطبوط الذي يلتف حول نواته منذ أقدم العصور، استقرَّ فيه وتمكن منه وأقام عرشه المرعب، وراح يجدده بمختلف وسائل القمع والتخويف والتعذيب والإرهاب التي تجددت كذلك أشكالها ونظمها وفنونها عبر العصور.

وإذا كان كُتَّاب جلجاميش — إذا صح الفرض الذي قدمته — قد حاولوا تصحيح هذا النموذج وتقديم أمثولة المستبد المتطهر لتتعلم منها الأجيال اللاحقة معاني الثورية الصادقة، فلم يزل العنكبوت-الأخطبوط ينسج خيوطه اللعينة في ظلمات اللاوعي الفردي والجمعي وفي ضوء الوعي أيضًا، ولم يزل ينفث حمم مصائبه ولعناته وأهواله المشئومة كلما تصورنا أننا اقتربنا من تثبيت أقدامنا على درب التحرر والتقدم والاستنارة، وبعيدًا عن لغة المجاز أقول باختصار: إن هذه هي قضية القضايا في حياتنا الراهنة، وليس ثمة قضية أخرى أولى منها بالتفكير والكتابة والتحليل والعلاج، خصوصًا بعد محنة عربية لم يكتف فيها الأخطبوط-العنكبوت المتجدد بتدمير بلدين عربيين، وسَوْق عشرات الألوف إلى المذبحة، وتمريغ تراث حضاري كامل في الوحل، بل ما يزال ينسج خيوطه ويدبر لمحنٍ أخرى ربما تكون أدهى وأَمَر.

ولا بُدَّ أن يثير النموذج القديم المتجدد أسئلة من هذا النوع: إلى أي حدٍّ يمكن القول بأن تراث الماضي يؤثر على الحاضر والمستقبل، وأن بعض رواسبه من أقدم العهود ما تزال فعالة إلى يومنا الراهن (لا سيما تلك الرواسب التي تتمثل في صوره اللا إنسانية القبيحة وقيمه السلبية لا في جوانبه الحضارية والإنسانية الحية المشرقة؟) وإذا كان التراث — كما تدل التسمية نفسها — هو فعل البشر وإنجازهم في الزمان والتاريخ، فمتى ندرك أن التراث متجدد، وأنه يطالبنا دائمًا بمراجعته ونقده وتجاوزه بصنع تراث آخر له قيم أخرى، تحول القديم وتغيره، ثم لا تلبث أن تصب في النهر الكبير المتدفق الذي صنعه الموتى ويواصل الأحياء صنعه؟ متى نعلم أن «التراث» بمعناه الحقيقي هو ثورة الأقدمين الذين ذهبوا، وأن الثورة والتقدم والنهضة والاستنارة هي تراث الحاضرين والقادمين الذين لم يأتوا بعد؟ وإذا كنا قد ورثنا ركامًا ضخمًا من التقاليد — أو الرذائل الموروثة! — وأنماط التفكير والشعور والسلوك المتخلِّفة بكل المقاييس الإنسانية والعلمية، فمتى نلقي بها في متاحف التاريخ أو مزابله؟ ومتى تصح عزيمتنا على التغيير الذي أثبتت أقسى التجارب في تاريخنا — وآخرها المحنة الأخيرة — أننا عاجزون عنه أو خائفون منه أو رافضون له؟ وإذا كنا قد وصلنا إلى حضيض التناقض الرهيب الذي يتمثل — كما قلت في موضوع آخر — في التدمير الذاتي أو الانتحار الجماعي المتزامن مع التطلع المستمر للتحرر والتحضر والتقدم … إلخ، فإلى متى نصبر على تسلُّط بعضنا على بعض، وأكل الأخ منا لحم أخيه، والوقوع في شبكة تدميرنا لأنفسنا بأنفسنا كما تفعل حيوانات شرسة آن أوان انقراضها، بينما «الصيَّاد» الجشع الحقود يتلذذ بالتفرج علينا ويعمل على تصفية وجودنا المادي والمعنوي وإقامة دولته الكبرى على أشلائنا وبقايانا؟ وإذا كان التسلط والاستبداد وسائر ما يقترن بهما١٩ ويتداخل معهما من اللا قيم أمورًا ملازمة لكل تجمع بشري، ألا يكون السؤال الأسبق هو كيف تصبح ممكنة؟ وما الذي جعلها ويجعلها ممكنة؟ وفي داخل أي سياق أو أي نظام أو بالأحرى لا نظام؟ ومتى تجتمع الإرادة والوعي بالحاضر الذي هو جنين المستقبل على تحرير الشخص العربي في ظلِّ نظام عربي حر، ومن خلال تربية ديموقراطية وعلمية حرة ربما يطول دربها ولكنه هو الدرب الوحيد والمأمون والأكيد؟ وأخيرًا كيف نحقق ذلك كله بالأفعال لا بالأقوال والأصوات المرتفعة التي أصمَّت الآذان وأعمت العقول طوال نصف القرن الأخير على ألسنة عدد كبير من المعذِّبين في الأرض (بتشديد الذال وكسرها!) من أشباه المثقفين وأشباه الثوريين؟!

حسب «جلجاميش» إذن أن يثير مثل هذه الأسئلة وغيرها كثير، وإذا كان من الظلم — بطبيعة الحال — أن نحمِّل الملحمة وبطلها مسئولية تراث ثقيل ممتد من القهر والتسلط والطغيان والاستبداد، فقد أَثَرْتُ قضية «النموذج الأولى» للمستبد الشرقي كما أَثَرْتُ غيرها من القضايا والأسئلة؛ لكي أؤكد أن معايشة النص القديم (والوسيط والحديث) من داخله ومحاولة قراءته وتفسيره من وجهة نظر ذاتية–تاريخية تجعله يحتمل قراءات وتفسيرات ويثير أسئلة لا حصر لها، والمهم أن يكون التفسير مقنعًا ومتسقًا وإن عجز عن أن يكون ملزمًا من الناحية العلمية، والأهم من ذلك أن ينطلق من الحاضر — بعيدًا عن أي إسقاط فج؛ لأن رؤية الماضي في الحاضر أو الحاضر في الماضي أمر مشروع من حيث المبدأ عند من يأخذون بذلك المنحى في القراءة والتفسير، أو إن شئت في «الترجمة» بالمعنى الذي أشرت إليه، وبخاصة في الأحوال التي نتصدى فيها لفهم وترجمة نص قديم ينتمي لحضارة قديمة كادت أن تنقطع بيننا وبينها أسباب التواصل والاتصال …

وربما يكون من مآثر هذه «الترجمة» وأمثالها أن تجدد حضور هذه الحضارة في وعينا، وأن تخرجها من دائرة «الظلام» و«الموت» التي ألقاها فيها بعض كبار علمائها «الآخرين» من الباحثين الغربيين،٢٠ وأن تتيح لنا النظر في بعض مشكلاتنا وقضايانا التي تمتد جذورها المأساوية في تربة الماضي السحيق، وتفرش ظلالها وأشواكها دروب الحاضر المرتبك والمستقبل المجهول، وإذا كانت تُحفَر للعرب اليوم حفرة كبيرة، يشاركون هم أنفسهم بالدور الأكبر في تعميقها، فإن جلجاميش يشير لهم من بعيد إلى سبيل النجاة الوحيد: إلى العمل والبناء والإبداع الحضاري …

(١٨) هل بقيت ثَمَّ مبررات لهذه الترجمة الجديدة؟

أجل، فالأعمال الأدبية الكبرى تعرف ترجمات عديدة في كلِّ اللغات الحية الحديثة والقديمة (التي نصفها ظلمًا بأنها لغات ميتة!) ومن هذه الأعمال ما يجب ترجمته من حين إلى حين، تبعًا لتطور فهمه وتفسيره واكتشاف المزيد من أبعاده ودلالاته و«أسراره» على ضوء المعطيات المستجدة، وجلجاميش بالذات تستحق أن تُتَرْجَم أكثر من مرة في أي لغة من اللغات الحية، لا لأنها درة أدبية لا يسطع بريق جوهرها الأصيل إلا بلمسات عدد كبير من الصائغين، مثلها في ذلك مثل ملحمتَي: هوميروس وأوديب وهاملت وفاوست … وغيرها من الروائع الغربية والشرقية، ولكن لسببٍ آخر أهم، وهو أن الحفريات الأثرية لا تفتأ تظهر من طوايا الأرض والبلى والنسيان كسرات جديدة من ألواح الملحمة أو من ترجماتها القديمة، مما يساعد على إكمال الفجوات الناقصة وإصلاح السياق المضطرب؛ ولذلك كانت من الأعمال التي تفرض ترجمتها أو على الأقل مراجعة الترجمات المتوفرة، كلما اكتُشِفَت رقم أو لقي أثرية جديدة تحمل شواهد لغوية أو معلومات تاريخية لم تُعْرَف من قبل …

ويكفي أن نعلم أن لها في الإنجليزية مثلًا أكثر من عشر ترجمات يلتزم بعضها بالأمانة العلمية الدقيقة، ويميل بعضها الآخر إلى التصرف الأدبي الحر، مع التفاوت بينها في مستوى الرصانة والتقيد بالأصل الأكدي، أو في درجة الحساسية والمرونة وشاعرية التعبير، ويصدق هذا أيضًا على الترجمات العربية المتاحة التي سننظر فيها بعد قليل.

(١٩) والواقع أن ترجمة جلجاميش تواجه المتصدي لها بكل ما تحمله النصوص الشعرية العظيمة من مسئوليات وإشكالات يصعب حلها حتى على العارفين بلغتها الأصلية القديمة (وربما على هؤلاء أكثر من غيرهم!) إنها «ليست ترجمة لكلمات، بل لحياة نص نابض، محبة له وتفاعل واتحاد معه»؛٢١ ذلك لأن مترجم الشعر لا بُدَّ أن يكون مبدعًا لنص سبق إبداعه، وأن تكون غايته هي تحقيق نص جديد مكافئ بقدر الطاقة لروح الأصل وأنفاسه وإيقاعه وبنيته الداخلية ومناخه الثقافي العام، على الرغم مما تحتمه الترجمة — عند العبور بنظام صوتي ونحوي ودلالي إلى شاطئ نظام آخر — من ضياع الجرس الموسيقي المرتبط باللفظ الأصلي وضياع غيره من الجماليات الشكلية المرتبطة بجماليات المعنى والصورة٢٢ … إلخ، ناهيك عن ضرورة «التحام» أفق المترجم بأفق المؤلف الأصلي بكل ما يضمه من علاقات وإيحاءات ودلالات نفسية واجتماعية وثقافية وحضارية، مع الوعي المستمر بخصوصية النص الأصلي وعوامل اختلافه وجوانب أصالته التي لا يمكن نقلها وينبغي الاجتهاد في المحافظة عليها …
وإذا التفتنا إلى الترجمات العربية المتاحة لجلجاميش وجب علينا أن نُرجع الفضل في أول محاولة رائدة لترجمتها للمرحوم العلَّامة طه باقر، وقد قام بها لأول مرة مع زميله الأستاذ بشير فرنسيس ونُشِرَت في مجلة «سومر» سنة ١٩٥٠م قبل أن تُنْشَر في طبعتها الرابعة سنة ١٩٧٤م، والحق أنها هي أيسر الترجمات وأقربها للقارئ وأجدرها بأن توصف بأنها أدبية وعلمية في وقتٍ واحد، فقد اعتمد فيها على الأصل الأكدي بجانب ترجمتَي: شبايزر وألكزندر هايديل، ولم يدَّخر وسعًا في الرجوع إلى ترجمة شوت الألمانية في كثيرٍ من المواضع، وذلك بالإضافة إلى المقدمة النافعة القيِّمة والتعليقات المفيدة الرصينة، غير أنها قد عدلت عن التقسيم الأصلي للملحمة إلى ألواح متتالية، واستعاضت عنه بتقسيمها إلى أربعة فصول فأضرَّت ببنيتها الأصلية، كما عمدت في كثيرٍ من المواضع المليئة بالفجوات والتشوهات إلى التلخيص وإدماج بعض السطور في بعضها وحذف بعضها الآخر وإلغاء التكرار الذي يميز هذه الملحمة والأدب الشعبي بعامة، ولا شك أن العالم المترجم قد أراد بذلك التيسير على القارئ بتقديم سياق متصل، ولكنه أفقده قدرًا كبيرًا من تكامله ووحدته الداخلية والشكلية، كما ضيَّع جانبًا من أصالته وجلاله القديم المرتبط بنقاطه وفجواته وفراغاته الكثيرة٢٣

وأما عن ترجمة الدكتور سامي سعيد الأحمد فهي جهد كبير لتحقيق ترجمة علمية شديدة الأمانة إلى حدِّ الوقوع في الحرفية وإغفال المعنى والسياق الكلي، وتقديم أعمدة بل ألواح كاملة في حالة يُرثى لها من التفكك والاضطراب بحيث لا يخرج منها القارئ بشيءٍ، ويبدو أن العالم الكبير في اللغة الأكدية والتاريخ القديم قد تصوَّر أن الترجمة «العلمية» هي الترجمة الحرفية الدقيقة، وأن هذه الدقة تتنافى مع الاجتهاد في حدس المعنى واقتراح البدائل الممكنة، والاهتداء بالمحاولات الأخرى في اللغات الحديثة؛ ولذلك تقتصر فائدة ترجمته على الدارسين للنص الأكدي، إذ تجشَّم المترجم الفاضل مشقة كتابته بالحروف العربية وشرحه شرحًا مفصلًا بالغ الدقة والاستقصاء، أما بالنسبة للقارئ العام فتُعَد هذه الترجمة — في تقديري — مأساة حقيقية … وأخيرًا فإن أحدث الترجمات للأستاذ فراس السواح قد تلافت معظم الأخطاء التي وقعت فيها الترجمتان السابقتان، كما بذلت جهدًا فائقًا في الرجوع إلى الترجمات الإنجليزية مع الاعتماد على ترجمة هايديل، وزودت القارئ بنص بالغ الحساسية والشاعرية — وذلك على حساب التركيب العربي الصحيح في بعض الأحيان! — مع مقدمة وتعليق رائعين يدلان على الاستبصار العميق والمكابدة الباطنة لروح النص وعلاقاته المتشابكة …

(٢٠) ولقد شجعني على الإقدام على هذه الترجمة أمور ثلاثة: أولها أنني وجدت أن ترجمة شوت — بمراجعة العلامة فولفرام فون سودن — هي أَكْمَل الترجمات التي تيسَّر لي الاطلاع عليها وأكثرها اتساقًا وترابطًا في ترتيب الألواح، وقد بذل المترجم والمراجع غاية جهدهما في إكمال النسخة الآشورية ومحاولة سد ثغراتها والاجتهاد في تعويض نقصها بالاستعانة بالترجمتين: الحيثية والحورية وبالأصول السومرية، مع الحرص في كل الأحوال على تقديم نص دقيق ومقروء في آنٍ واحدٍ؛ ولذلك اعتمدت عليها وتقيدت بها مع تسجيل القراءات الأخرى الممكنة التي بَدَتْ لي أكثر معقولية وأقرب إلى المعنى الكلي، ولما كنت غير مختص في الآشوريات — كما اعترفت بذلك أكثر من مرة — فقد اكتفيت بهذه الترجمة التي ثبت لي أنها قد أضافت عشرات من السطور التي لم أجد لها أثرًا في أيِّ ترجمة أخرى، واجتهدت في تكملة عدد كبير من الكلمات والجمل والسطور التي أغفلتها تلك الترجمات أو تركتها ناقصة، وتجد كل هذه الاجتهادات المؤقتة في الكلمات والجمل والسطور التي كُتِبَت بالخط الأسود المكثَّف، أما النقط الموضوعة بين قوسين منكسرين […] فتُشِير إلى كلمات أو جمل تشوَّهت تمامًا بحيث استحال إصلاحها، وأما الكلمات القليلة التي وُضِعَت بين حاصرتين أو قوسين منحنيين (…) فهي زيادات أضفتها من عندي؛ بغية التوضيح والتيسير على القارئ، علاوة على الهوامش التي شرحت فيها ما وجب شرحه من الأساطير والقصص والأحداث وأسماء الآلهة والأشخاص والأماكن، ولست أدري إن كان البحث الحديث في علوم الآشوريات قد اهتدى إلى ألواح أو كسر من ألواح جديدة تعوض بعض النقص الملحوظ في مواضع عديدة من الملحمة، ولكن الذي أدريه أن الترجمات السابقة الذِّكر كانت نعم الرفيق والدليل الهادي طوال رحلتي المتواضعة مع هذه الترجمة؛ ولذلك يطيب لي أن أوجِّه لأصحابها — باسم القُرَّاء وباسمي — أصدق آيات الشكر والعرفان والتقدير …

(٢١) والأمر الثاني الذي شجَّعني على الإقدام على المحاولة الخطرة أن صديق العمر الأستاذ الدكتور عوني عبد الرءوف العالم في فقه اللغات السامية القديمة قد أبدى استعداده لمراجعة الترجمة على الأصل الأكدي (ومبلغ علمي أنه هو العالم المصري الوحيد الذي يتقن هذه اللغة، ويقوم بتعليمها في كلية الألسن التابعة لجامعة عين شمس)، وإني لأتقدم إليه بصادق الامتنان والعرفان، كما أعبر عن سعادتي بالاشتراك معه في هذا العمل …

والأمر الثالث والأخير: إن تجربة الترجمة كانت ضرورة اقتضتها تجربة أسبق منها، وهي كتابة الملحمة في عشر لوحات درامية تضمها مسرحية ملحمية بعنوان: «هو الذي طغى: محاكمة جلجاميش»، وقد خطر لي أن القارئ الذي اطلع على هذه المسرحية ربما يشعر بالحاجة إلى الرجوع للملحمة الأصلية على سبيل الائتناس بها أو المقارنة معها …

والله أسأل أن لا أكون في الحالين قد حمَّلت «جلجاميش» أكثر مما يحتمل من شجون زماننا وهمومه، كما أتمنى أن ينبهني الإخوة والزملاء المختصون إلى الأخطاء التي وقعت فيها، وأرجو ألا تكون أخطاء جسيمة! …

أشكره سبحانه إن كنت قد وُفِّقْتُ، وأستغفره إن كنت قد قصَّرت، فمنه وحده الهدى والسداد، وإليه ألجأ وإليه المصير.

القاهرة في ١٢ أكتوبر ١٩٩١م
عبد الغفار مكاوي

هوامش

(١) تحظى دراسة جلجاميش باهتمام ملحوظ من علماء الآشوريات على اختلاف حقول تخصصهم، ويكفي القول بأنهم عقدوا لها وحدها مؤتمرهم السابع في باريس سنة ١٩٥٨، ونُشِرَت بحوثهم عنها في كتاب بعنوان: جلجاميش وحكايته الخارقة، جمعه بول جاريللي، ونُشِرَ في باريس سنة ١٩٦٠ بمناسبة اللقاء الدولي للآشوريات.
Gilgamesh et sa legende. Etudes receuillies à L’occasion de la VII Rencontre Assyriologique Intrernationale (Paris, 1958) Paris, 1960, par Garelli.
(٢) يُشكِّل السومريون والأكاديون الساميون الأرضية الحقيقية لحضارة ما بين النهرين، والسومريون شعب هاجر إلى أرض الرافدين بعد مغادرة موطنه الأصلي الذي لم يُعْرَف ولم يحدَّد موضعه حتى اليوم، والمنطقة التي استقروا فيها تعادل ثلثي المنطقة الواقعة جنوبي بغداد، والمحصورة بين مجرى نهر الفرات ودجلة، وقد سُمِّيَت سومر أو شومر. اختلط هذا الشعب الفذ بالسكان الأصليين منذ هجرته إلى أرض الرافدين حوالي منتصف الألف الرابع قبل الميلاد، وبقي تأثيره الحضاري والثقافي من حيث اللغة والدين والكتابة المسمارية (أو الأسفينية التي يرجع له الفضل في اختراعها) مستمرًّا خلال جميع العصور التاريخية حتى ساعة انطفاء الومضة الأخيرة من حضارة الكتابة المسمارية في الشرق القديم. والمهم أن السومريين قدَّموا النموذج الحضاري والثقافي الذي بقي حيًّا مؤثرًا بعد زوال دولهم وتخريب مدنهم وانقراض شعوبهم، وأن البابليين والآشوريين قد أخذوا عنهم — بجانب الكتابة المسمارية على الألواح الطينية — الكثير من نماذج التفكير والتدين والحكم والعمل، ومن أشكالهم الفنية وأجناسهم الأدبية، ثم طوروها بعد ذلك في أعمال أنضج وأكمل، وأَشْهَر الأمثلة على ذلك هي ملحمة جلجاميش نفسها التي تقوم في جزء منها على الأقل على أصول قصصية سومرية سنعرفها بعد قليل …
(٣) كانت أوروك — التي أطلق عليها العرب اسم الوركاء الذي تُعْرَف به في الوقت الحاضر — تقع على شاطئ الفرات بين خطي العرض ٣١ و٢٠ شمالًا وخطي الطول ٤٥ و٤٠ شرقًا، وتوجد أطلالها في الصحراء على بعد عشرين كيلومترًا من نهر الفرات بالقرب من بلدة الخضر، وقد كشفت عن هذه الأطلال ودرستها بعثة ألمانية من العلماء الأثريين الذين بدءوا حفائرهم وبحوثهم بين عامَي ١٩١٣ و١٩١٤م، ثم استأنفوها بين عامَي ١٩٢٨ و١٩٣٩م، وواصلوها سنة ١٩٥٣م، ونشروا تقريرهم المؤقت عن أطلالها ضمن بحوث الأكاديمية البروسية للعلوم بين سنتَيْ ١٩٣٠ و١٩٤٠م.
(٤) تجد الترجمة الإنجليزية الكاملة لهذه القصص في الكتاب المعروف: نصوص من الشرق الأدنى القديم في ارتباطها بالعهد القديم، الطبعة الثانية، برينستون ١٩٥٥م للأستاذ ج. بريتشارد وزملائه، كما تجدها كذلك للمترجم نفسه، وهو كريمر في كتابه عن الأساطير السومرية، نيويورك، ١٩٦١م، ص٣٣–٤١، وجدير بالملاحظة أن اسم جلجاميش في السومرية معناه المحارب الذي في المقدمة أو الرجل الذي سينبت شجرة أي سيكوِّن أسرة.
(٥) هي إحدى المدن السومرية القديمة، تُعْرَف في الوقت الحاضر باسم تل الأحيمر، وتقع على بُعْدِ حوالي خمسة عشر كيلومترًا إلى الشمال الشرقي من بابل …
(٦) استوحيت إحدى هذه البكائيات على المدن السومرية (وهي مدينة أور) في مسرحية قصيرة «رؤيا ننجال» أو «أبدًا لن تسقط أور» راجع [تمهيد: هامش رقم ١٥].
(٧) وصفت جنة ديلمون في أحد الألواح التي عثر عليها في مدينة نيبور — أو نفر — السومرية القديمة (التي ظلت مركزًا للنشاط الثقافي منذ العصور السومرية المبكرة حتى منتصف الألف الثانية قبل الميلاد، واشتهرت بعبادة الإله إنليل وبمعبده المعروف باسم «إيكور» أو بيت الجبل، ووُجِدَ فيها أكثر ما نعرفه من ألواح الأدب السومري) وُصِفَت بهذه العبارات الجميلة: «لا يُسْمَع فيها نعيب الغراب، ولا صرخة طائر الموت، ولا يلتهم الأسد والذئب الحمل الضعيف، ولا تنوح الحمامة، ويختفي منها الترمُّل واليتم والمرض والشيخوخة والشكوى والبكاء …» الحق أنَّ هذه الصُّور عن عالم بريء ربما وُجِدَ في أيام الخلق الأولى لا تتطابق مع صورة «جزيرة الحياة» التي يحيا فيها أو ثنابشتيم البعيد — أو نوح البابلي — وزوجته حياة أبدية خالدة، ويكفي أن نوح الملحمة البابلية رجل خامل مستلق على ظهره كأنه جثة مخدرة …
(٨) امتدَّ حكم الدولة أو السلالة الأكدية الأولى من حوالي سنة ٢٣٣٤ إلى حوالي سنة ٢١٥٤ق.م ومؤسسها هو سرجون العظيم (٢٣٣٤–٢٢٧٩) الذي سبق ذكره، واقترنت بمولده قصص خارقة تشبه تلك التي اقترنت بمولد الإسكندر الأكبر … أما الدولة أو السلالة البابلية الأولى أو القديمة فقد امتد حكمها المجيد من حوالي سنة ١٨٩٤ إلى حوالي سنة ١٥٩٥ق.م، ولمع فيها اسم أعظم ملوكها حمورابي صاحب الشريعة المشهورة (من ١٧٩٢ق.م إلى ١٧٥٠ق.م).
(٩) من أهم هذه الشذرات الباقية من العصر البابلي القديم: (١) شذرة ترجع كتابتها لحوالي سنة ١٨٠٠ق.م. وتوجد في متحف برلين، وهي معروفة باسم شذرة ميسنر، نسبة للعالم الذي نشرها لأول مرة سنة ١٩٠٢م، ويبدو أن القصة التي ترويها قد أضيفت إلى اللوح العاشر من الملحمة بعد تغيير مضمونها. (٢) شذرتان أحدث من السابقة بحوالي مائة عام، وتُعْرَفان باسم لوح بنسيلفانيا ولوح بيل نسبة إلى متحف الجامعتين الأمريكيتين اللتين تحتفظان بهما، ويظهر مضمونهما — بعد اختصاره وتغييره — في الأجزاء الأخيرة من اللوحين الأول والثاني وفي بداية اللوح الأول من الملحمة المتداولة اليوم (٣) لوح في متحف بغداد يبدو أنه كان من ألواح التدريب على الكتابة بالخط المسماري الذي كان يتمرن عليه التلاميذ، وهو يروي أحد أحلام جلجاميش التي تذكرنا بالأحلام الثلاثة الواردة في اللوح الخامس من الملحمة، وقد استعان المترجم الألماني ألبيرت شوت بنص هذه الشذرة في استكمال الخروم والفجوات التي وجدها في النص الآشوري الحديث. (٤) شذرة نشر نصها العالم ن. باور سنة ١٩٥٧م في مجلة دراسات الشرق الأدنى، وعليها قصة قتل المارد خمبايا حارس غابة الأرز، وهي تقابل الجزء الأخير من اللوح الخامس من الملحمة وإن لم تتطابق معه، وتختلف نصوص الشذرات السابقة الذكر اختلافًا كبيرًا عن نصوص القصص السومرية التي لخصناها، مما يدل على أن الصياغة البابلية للملحمة كانت قد بدأت بالفعل قبل أن تكتمل وتتوحد على الصورة المعروفة، وقد عُثِرَ بين وثائق الملوك الحيثيين التي وُجِدَت في أطلال عاصمتهم حاتتوشاش — التي كانت تقع قديمًا على نهر الهاليس (قزيل إيرخق الحالي) بالقرب من قرية «بوغاز كوى» التركية في آسيا الوسطى — على شذرات أخرى أحدث من السابقة بما يقرب من أربعة قرون، وقد كُتِبَ أحد ألواحها باللغة الأكدية، واستكمل به العلماء نواقص العمود الثاني من اللوح الخامس للملحمة، كما ضاهوا بعض أجزائه على اللوح السادس، وأما بقية الشذرات فقد كُتِبَت باللغة الحيثية ونَشَرَ معظمها العالم الألماني يوليوس فريدريش في مجلة الآشوريات؛ المجلد ٣٩ لسنة ١٩٣٠، واستعانت بها الترجمة الألمانية التي اعتمدت عليها في تكملة فجوات النص الآشوري في بداية اللوحين: الأول والسابع، والأعمدة من الثالث إلى الخامس من اللوح الخامس … وأخيرًا وُجِدَت شذرات أخرى في «سلطان تبه» بجنوب تركيا، كما وُجِدَت في بوغاز كوى بعض شذرات باللغة الحورية ولم يتمكن العلماء إلى اليوم من فك جميع رموزها، وعُثِرَ في أطلال مدينة «مجيدو» الفلسطينية القديمة على شذرة تحتوي على أجزاء من اللوح السابع عن موت أنكيدو، وربما تشير — كما تقول الأستاذة ساندرز في مقدمة ترجمتها الأدبية — إلى احتمال وجود نسخة كنعانية متأخرة من الملحمة أو أجزاء منها كانت معروفة أو على الأقل قريبة من مؤلفي الأسفار الأولى للعهد القديم، وعلى كلِّ حال فإن هذه الشذرة ترجع إلى نفس الفترة الزمنية التي دُوِّنَت فيها الشذرات السابقة على عهد الملوك الحيثيين الذين عاصروا الفرعون أمينوفيس الثالث من الأسرة الثامنة عشرة (١٤٠٥–١٣٨٠ق.م) وابنه أمينوفيس الرابع (وهو إخناتون الشهير من ١٣٧٠–١٣٥٢ق.م) وتبادلوا معها رسائل مدونة بالخط المسماري عُثِرَ عليها في تل العمارنة وسُمِّيَت باسم عاصمة الموحد العظيم، أي رسائل تل العمارنة …
وجدير بالذكر أن بعثة الآثار الألمانية قد عثرت في مدينة أوروك نفسها — وهي مدينة جلجاميش أو الوركاء حاليًّا والورقاء كما سماها العرب وتقع أطلالها اليوم قرب خضر الدراجي في محافظة المثنى — على شذرتين مدونتين باللغة الأكدية، ويرجَّح أنهما يرجعان للقرن السادس قبل الميلاد، ووُجِدَت شذرات أصغر حجمًا في أطلال العاصمة الآشورية القديمة آشور على نهر دجلة، وكذلك على تل «سلطان تبة» جنوبي تركيا بالقرب من مدينة حرَّان، وقد توفَّر بعض علماء الآشوريات — مثل فلكنشتين وايبيلنج وجورني وهايدل — على نشر هذه الشذرات، وأفاد منها مترجمو الملحمة في إصلاح وتكملة أجزاء عن بعض ألواحها (كالثاني والرابع والسابع والثامن) ومحاولة التنسيق بين مختلف أجزائها في وحدة متجانسة، وذلك على الرغم من الفروق الكثيرة التي تفصل بين الأصول الأكدية والترجمات الحيثية، كما تباعد بين الأماكن والأزمان التي وُجِدَت فيها تلك الشذرات … (راجع مقدمة ألبرت شوت لترجمته للملحمة ومراجعة العلَّامة فون سودن، اشتوتجارت، ركلام ١٩٥٨م، ص٨–١٣.)
Das Gilgamesch Epos-Neu ubersetzt und mit Anmerkungen versehen von Albert Schott. Durchgesehen und ergänzt von Wolfram von Soden Stuttgart, Reclam-veriag, 1958, s. 8–16.
(١٠) كشف الأثري الإنجليزي «أوستين هنري لايارد» سنة ١٨٣٩م عن مدينتَي: نينوى ونمرود ومكتبة القصر الملكي بألواحها الطينية التي حملها إلى المتحف البريطاني وزادت عن الخمسة والعشرين ألف لوح … ثم كشف مساعده «رسام» سنة ١٨٥٣م عن ذلك الجزء من المكتبة التي دُوِّنَت عليه أشعار الملحمة في نسختها الآشورية الأخيرة، وبدأ العالم الإنجليزي هنري رولينصون عملية فك رموز الخط المسماري، ثم قدَّم العالم جورج سميث في ديسمبر سنة ١٨٧٢م تقريرًا عن اللوح الحادي عشر الذي يروي قصة الطوفان مع مختصر لقصة جلجاميش أمام جمعية آثار الكتاب المقدس، وأخرج بول هلويت في سنة ١٨٩٤-١٨٩٥م نصوصها المسمارية لأول مرة، وتتابع اكتشاف ألواح الملحمة في نينوى ونيبور (نفر القريبة من عفك بمحافظة القادسية) بإشراف جون بينيت بيترز وبعثة جامعة بنسلفانيا في سنة ١٨٨٩م، وتوزعت هذه الألواح على متاحف العالم المختلفة في إسطنبول وفيلادلفيا ولندن وبغداد، حتى تم تجميع ألواح الملحمة وحل رموزها وتحقيق نصوصها الأكدية بالخط المسماري ونشرها نشرة علمية بين سنتي: ١٩٢٨ و١٩٣٠م بفضل العالم الإنجليزي ي. س. طومسون، ثم توالت بعد ذلك محاولات ترجمتها إلى اللغات العالمية الحديثة، وكذلك محاولات استلهامها في صور وأشكال أدبية وفنية مختلفة …
(١١) تقول الأستاذة ساندرز (ص٤٦ من صياغتها الأدبية لملحمة جلجاميش، طبعة بنجوين، ١٩٧٢): إنه ليس من المستحيل أن يكون هوميروس قد سمع عن قصة جلجاميش من أحد الملاحين الإغريق الذين كانوا يبحرون من آيونيا في آسيا الصغرى، ومن الجزر اليونانية في بحر إيجه إلى الساحل السومري ويتصلون بالآشوريين.
ولا يستبعد أن يكون آشور بانيبال قد سمع شيئًا من الإلياذة من أحد المنشدين الإغريق، إذ ليس ذلك أيضًا بمستحيل … والمهم أن الجو العام السائد من القرنين الثامن والسابع إلى القرن الخامس قبل الميلاد يرجح احتمالات التأثير أو التأثر بين الإغريق وغيرهم من شعوب الشرق الأدنى القديم في الفلسفة والعلم الطبيعي والرياضي والأدب والاقتصاد، وإن لم تتوفر الأدلة والشواهد الأثرية التي تؤكد ذلك على نحو قاطع … ومع ذلك فهناك عدد كبير من بحوث الأدب المقارن التي تقرب بعض أبطال الأوديسة والإلياذة والأساطير الإغريقية من جلجاميش، فمغامرة أوديسيوس وجلجاميش وأسفارهما تنتهي بعودتهما إلى مسقط رأسهما، وكلاهما رفض طلبًا من ربة للزواج منه، وتكلم مع صديقه الذي سبقه إلى عالم الموتى، وكما حملت الربة تيتيس أخيل ورعته فإن جلجاميش هو ابن الربة الحكيمة نينسون، والعلاقة الحميمة بين أخيل وباتروكليس في الإلياذة تشبه علاقة المحبة والوفاء النادرة بين جلجاميش وأنكيدو، وكلاهما بكى صديقه بكاءً مفجعًا … وكما كان بوزايدون إله البحر هو الإله الوحيد الذي تآمر على أوديسيوس ودبر لهلاكه، فقد كان إنليل هو الرب الوحيد في مجمع الأرباب السومريين الذي رفض إنقاذ أوتنابشتيم من الطوفان وصمَّم على موت أنكيدو … وإذا كان الأرباب هم الذين بنوا أسوار طروادة، فإن الحكماء السبعة الأسطوريين هم الذين أسسوا سور أوروك الذي يتغنى به شاعر الملحمة وبطلها في البداية والنهاية، وربما كان التشابه بين هرقل وجلجاميش أكثر وضوحًا، سواء نظرنا إلى أعمالهما البطولية وصراعهما مع الوحوش الضارية، أو إلى أصولهما الإلهية، أو صداقتهما المؤثرة لأيولوس وأنكيدو على الترتيب، أو مواقفهما من الآلهة المحبة (ديانيرا وعشتار)، أو عثورهما على عشب الخلود … (سامي سعيد الأحمد، ملحمة جلجاميش، بيروت وبغداد ١٩٨٤م، ص٢٤–٢٦.)
(١٢) علمت بعد الاطلاع على ترجمة الدكتور سامي سعيد الأحمد للملحمة عن الأكدية — بيروت وبغداد ١٩٨٤م — بوجود ثلاث ترجمات شعرية لا تزال مخطوطة للأستاذة عبد الكريم محمود الشيخ علي والمرحوم مهدي جاسم وإبراهيم نصر، بالإضافة إلى مسرحية شعرية للمرحوم حازم سعيد أحمد نُشِرَت في «الكتاب» بين سنتَي ١٩٧٤م و١٩٧٥م (ملحمة جلجاميش، ص٦) وتوحي المقاطع المقتبسة منها بأنها أراجيز أو منظومات موزونة ومقفاة، مثل منظومة الشاعر عبد الحق الفاضل، وليست إبداعات شعرية حقيقية …
(١٣) قارن للمؤلفين المذكورين: جدل التنوير، شذرات فلسفية، فرانكفورت، ١٩٨٨م فيشر، الملحق ١ (أوديسيوس أو الأسطورة والتنوير) ص٥٠–٨٧.
(١٤) انظر لكاتب هذه السطور: «جلجاميش وجذور الطغيان»، قراءة في نص قديم، وأسئلة تفرضها المحنة، المجلة العربية للعلوم الإنسانية، العدد الثاني والأربعون، شتاء ١٩٩٣م، جامعة الكويت.
(١٥) نُشِرَت هاتان المسرحيتان وهي السيد والعبد ورؤيا نينجال (أو أبدًا لن تسقط أور) ضمن كتاب «القيصر الأصفر ومسرحيات أخرى شرقية»، كتاب الهلال يونيو ١٩٨٩م، أما «حكمة بابل» فقد ظهرت تحت عنوان «جذور الاستبداد، قراءة في أدب قديم» في سلسلة عالم المعرفة، الكويت، عدد ديسمبر ١٩٩٤م.
(١٦) ظهرت المسرحية في كتاب الهلال، القاهرة، عدد شهر فبراير ١٩٩٢م، تحت عنوان: «هو الذي طغى: محاكمة جلجاميش».
(١٧) راجع صورة هذا النحت البارز من القرن الثالث قبل الميلاد، والقصيدة المعبرة عنه في كتابي: «قصيدة وصورة: الشعر والتصوير عبر العصور»، الكويت، عالم المعرفة، العدد ١١٩، تشرين الثاني ١٩٨٧م.
(١٨) أدين بهذه اللفتة إلى اللحظة الخالدة للأستاذ فراس السواح الذي نسب أبيات الشاعر الإغريقي بندار سهوًا إلى طاغور: آه يا روحي … لا تطمحي إلى الخلود، بل استنفدي حدود الممكن (انظر ترجمته للملحمة صفحة ٧ و١٥).
(١٩) لا شك في وجود فروق دقيقة بين مفاهيم التسلط والاستبداد والطغيان وما يقترن بها ويتداخل معها من مفاهيم القمع والعدوان والإرهاب والتعذيب، باختلاف مستوياتها وزوايا النظر إليها في إطار البنى والسياقات التاريخية والاجتماعية والسياسية والثقافية والنفسية المختلفة، وأعتقد أنه ليست هناك خدمة للأجيال الحاضرة والمقبلة أَجَل ولا أولى من عكوف أصحاب العقول والأقلام الجادة — من كُتَّاب وفنانين وباحثين — على هذا الموضوع الذي هو قضية القضايا في تاريخنا وحياتنا الشعورية والسلوكية والثقافية، ومبلغ علمي على كل حال أن من رواد البحث النفسي والاجتماعي والتاريخي في هذه القضية الكبرى الأساتذة والدكاترة: لويس كامل مليكة وعبد الستار إبراهيم وخلدون حسن النقيب ومحمود إسماعيل (وربما تكون قد غابت عني بعض الأسماء الجديرة بكلِّ التقدير والاحترام)، أما في الأدب والفن فلعلي لا أبالغ إذا قلت: إن أصدق الأصوات وأعمقها وأكثرها جدية وأمانة قد ارتفعت في وجه الأخطبوط العجوز الذي لم يزل يتجدد — كما قلت — بأشكال مختلفة، وكأنما يتغذى خفية على نبتة الخلود الشائكة التي حُرِمَ منها جلجاميش في النهاية … ولا ننسى أخيرًا ملايين الصابرين العاملين في صمت في مختلف ميادين الفكر والبحث العلمي والحياة العملية واليومية الذين زهدوا في أضواء المسرح وترفعوا عن الثرثرة ورفع الشعارات الملتبسة بينما الجميع في حندس يتصادم على حد تعبير شيخ المعرة …
(٢٠) يكفي أن أذكر هنا عنواني كتابين من أهم الكتب التي وضعها عالمان كبيران من علماء الآشوريات (السومريات والأكديات) وهما: توركيلد جاكوبسن في كتابه «كنوز الظلام» (مطبعة جامعية بيل، نيوهافين، ١٩٧٦م)، وأ. ليو أوينهايم في كتابه «بلاد النهرين القديمة: صورة حضارة ميتة» (شيكاغو، ١٩٦٤م).
(٢١) فراس السواح، كنوز الأعماق: قراءة في ملحمة جلجاميش، دمشق، العربي للطباعة والنشر، ١٩٨٧م، ص١٤.
(٢٢) راجع لكاتب هذه السطور: ترجمة الشعر، مع نماذج من شعرنا الجديد بالألمانية، مجلة فصول، القاهرة، المجلد الثامن، ديسمبر ١٩٨٩م، ص١٧٩–٢٠٠.
(٢٣) راجع مناقشة فراس السواح لهذه الترجمة ولترجمة الدكتور سامي سعيد الأحمد في مقدمة ترجمته السابقة الذكر (كنوز الأعماق، من ص٦٠–٦٤ ومن صفحة ٦٤–٧٢)، وهناك ترجمات عربية أخرى لم أتمكن للأسف من التوصل إليها مثل ترجمة المرحوم الدكتور نجيب ميخائيل إبراهيم في كتابه «حضارة العراق القديمة»، وترجمة الدكتور أنيس فريحة في كتابه ملاحم وأساطير من الأدب السامي القديم، وترجمة الأستاذ عزيز حداد عن النص الروسي للأستاذين: دياكونوف وبرافيموف، وترجمة الأستاذين: محمد نبيل نوفل وفاروق حافظ القاضي عن الصياغة الأدبية للعالمة الأثرية ن. ك. ساندرز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤