لماذا تتطور الأحياء؟

الأحياء كلها في تطور مستمر؛ فالأبناء تخالف الآباء، وهذا الاختلاف الصغير يتراكم جيلًا بعد جيل حتى يعود اختلافًا كبيرًا، بحيث يتميز الفرد عن سلفه القديم تميزًا ظاهرًا قد يجعله من نوع آخر.

ولسنا نعرف سبب اختلاف الأبناء عن الآباء على وجه الضبط والتحقيق، ولكن هذا هو الواقع المشاهد؛ ففسيل النخلة لا يشبه أمه شبهًا تامًّا، وأولاد الكلبة تختلف عن أبويها، ومحال أن تجد محارتين تتشابهان تمام التشابه، وإن كانتا قد باضتهما أم واحدة، وكذلك الحال في الإنسان؛ لا يشبه الأبناء الآباء شبهًا تامًّا، بل التوائم أنفسهم على الرغم من الاشتراك في أشياء كثيرة يختلفون في عدة أشياء غير صغيرة.

والبحث عن علة هذا الاختلاف يكاد يكون بحثًا عن سر الحياة نفسها، وكل ما نقوله مما تهدينا إليه بصيرتنا، إن الحياة تختلف عن المادة من حيث محاولتها التعبير عن نفسها بأشكال مختلفة؛ فهي غير قانعة بالبقاء في شكل واحد، فكل حي يولد في هذا الكون له شخصية مستقلة يريد أن يحققها ويؤكدها، ولو خرج بذلك على ما رسمه له أبواه قيد قوانين الوراثة.

فانفراد كل حي بشكل خاص وهيئة خاصة وكفايات خاصة هو الذي يدعوه إلى التطور؛ وسبب ذلك أن انفراده بشكل خاص، أو اختلافه عن غيره من أقرانه، إما أن يكون نقيصة تؤدي إلى هزيمته في الحياة، بحيث يموت هو أو يقل نسله وينقرض بالتدريج، وإما أن يكون ميزة له تؤاتيه النصر فيكثر نسله وتنتشر سلالته.

فالأحياء كلها تتنازع البقاء؛ فالأسد يزداد قوة وقدرة على الوثوب، ومكرًا في الترصد والكمون، والغزال يزداد قوة وقدرة على العَدْو والخفة في الحركة، فكل منهما ينازع الآخر في البقاء؛ الغزلان تزداد خفة وقدرة على العَدْو، وجلدها يزداد مشابهة للرمال أو الصحراء التي تعيش فيها، وحوافرها توافق التربة التي تمشي عليها، وسيقانها تنفتل وتضمر وتقوى، والأسد يزداد قوة على الوثوب، وجلده يماثل الوسط الذي يعيش فيه، ويداه تزدادان قدرة على البطش، وهلم جرًّا.

وهذا الكفاح يزيد كفايات الأسد والغزال معًا، وإذا لم يكافح الحيوان وسطًا انحط، وهو يعيش ما دام الوسط لا يتغير، ولكن إذا تغير فجأة لم يطق هذا التغير فينقرض، كما حدث لطائر الدؤدؤ في جزيرة موريتيوس.

وأصل وجود هذه الصفات في كل من الأسد والغزال أن كل فرد منهما يولد مختلفًا عن بني نوعه بعض الاختلافات؛ لأن هذه صفة الحي اللازمة له، وهذا الاختلاف إما أنه يفيده وإما أنه يضره، فإذا أفاده أورث صفاته أبناءه، وإذا أضره مات أو انقرضت سلالته التي حصلت على صفاته.
figure
(كان الدؤدؤ يعيش في جزيرة موريتيوس، ولم تكن له أعداء تطالبه بالكفاح، فسمن وعجز عن الطيران، وكان في الأصل قريبًا إلى الحمام، فلما كشف الإنسان الأبيض هذه الجزيرة سطا عليه صيدًا حتى أباده منذ أقل من ١٠٠ سنة، وهذا يدلنا على قيمة الكفاح للوسط)

ومن ذلك نستنتج أن عددًا كبيرًا من الأسود مات وانقرض لخَوَرٍ في نفسه، أو ضعف في سيقانه، أو بطء في وثوبه، أو لأن جلده كان ظاهرًا فصارت الفريسة تراه على بعد وتحذره، ومات كذلك من الغزلان جميع تلك الأفراد التي كانت ثقيلة الحركة غير متيقظة للعدو، أو كانت حوافرها لا توافق تربة الصحراء، أو كان لون جلدها ظاهرًا.

أي إن الحيوان يكافح الوسط، ويقاتل ويناضل، فتنشأ فيه كفايات تساعده على البقاء، وإذا لم يحتج الحيوان إلى مكافحة وسطه انحط ونقصت كفاياته، فإذا تغير الوسط عجز عن المقاومة فانقرض.

وليس من الضروري أن ترى عوامل البقاء ظاهرة، فقد تكون خفية دقيقة لا تعرف مأتاها؛ فقد يمتاز غزال على آخر بأن معدته تهضم الأعشاب الجافة أكثر منه، أو لأن بعض الحشرات الناقلة للأمراض لا تستطيع أن تخرق جلده، أو لأنه يقدر على الإمساك عن ورود الماء وقت الخطر وغيره لا يقدر، أو لأنه يشم رائحة ضواري الوحش بينما غيره لا يستروحها أو لا يبالي بها، بل قد تكون دقة السمع عامل بقاء في حيوان، بينما يكون الصمم الخفيف سببًا في انقراض آخر.

فالأحياء تولد مختلفة، وكل اختلاف إما أنه يفيدها فيكثر نسلها، وإما أن يضرها فتبيد، فإذا تراكم الاختلاف نشأت السلالات المختلفة من النوع الواحد، ثم يتراكم الاختلاف في السلالات حتى تصير السلالة نوعًا قائمًا برأسه؛ وذلك لأن التنازع على البقاء يتناول التنازع على الأنثى؛ فالحيوان القوي الجريء يتغلب على أكبر مقدار من الإناث ويلحقها دون غيره، وتنتشر صفاته التي ساعدته على التغلب.

ونحن لكوننا نعيش عيشة مدنية قد ضعفت بصيرتنا في إدراك ضروب التنازع التي يستعملها الحيوان والنبات؛ فالنبات يتنازع على نشر نوعه بعدة طرق: فمنه ما تكون بذرته كاسية بنسيج خفيف كالقطن؛ كي تحملها الريح وتلقيها في مكان بعيد عن أمه، حتى يجد بسطة في النور والغذاء، ومنه ما تكون بذرته كاسية بالزَّغَب حتى تعلَق بأي حيوان يمر، فيذهب بها إلى مكان بعيد حيث تسقط منه وتنبت، ومنه ما يكون له زهر زاهٍ يجذب الحشرات، تنزل إليه وتجرع من رحيقه، ثم تتلوث بلقاحه، وتنقله من الذكر إلى الأنثى فيتم اللقاح، ومنه ما يكون ورقه مر المذاق حتى لا يطعمه الحيوان، ومنه ما يكون سامًّا، إذا أكله الحيوان تسمم ومات، فتنشأ البذرة في سماء الجثة وتزكو، ومنه ما تكون أوراقه حافلة بالحَسَك فلا ترعاها بهيمة.

وكذلك الحال في الحيوان؛ فمثلًا: السمك يكون في طفولته دقيقًا شفافًا لا يُرى من خلال الماء، فآلته في الدفاع عن نفسه، وهو بعدُ في ضعف الصغر، هي شفوفته التي تخفيه وتواريه عن عين عدوه، فما كان منه صفيق الجسم ظاهره مات، ومنه ما يكون ظهور لونه داعيًا غيره إلى مباعدته والحذر منه؛ كالزنبور والنحلة، فلكل منهما إبرة يؤذي بها من يقترب منه من الطيور، ولونهما مشهور ظاهر حتى يقتصد الطائر في قوته، ويتجنبهما ويريحهما من عناء القتال.

ولسائل أن يسأل: كيف تطور الزنبور وصار ذا حُمَة تلسع وتَسُم؟ فجواب ذلك أنه في الزمن القديم الذي يُحسب بملايين السنين كانت الزنابير بلا حُمَة سامة، وإنما كان لها إبرة تخترق بها الورق أو غير الورق عندما تريد أن تبيض، كما هو الشأن في أكثر الحشرات، وفي أجزاء جسم بعض الحيوان سموم مختلفة؛ فبراز الإنسان — مثلًا — وبوله، وبعض عصارات جسمه، فيها بعض السموم، فإذا اتفق أن ظهر زنبور بإبرة حادة وشيء قليل جدًّا من السم، فإنه يبقى دون غيره من الزنابير التي تلتهمها الطيور لقمة سائغة، فهذا الزنبور يعيش، وتنتشر سلالته، وتقوى فيه خاصة اللسلع والسم، ويظهر له لون خاص يميزه، فتحذره الطيور، بينما هي تبيد كل الزنابير التي خلت من هذه الخاصة.

وخلاصة قولنا أننا لا نعرف لماذا يتطور الحي؛ حيوانًا كان أم نباتًا، وإنما نشاهد أدلة هذا التطور، ويمكننا أن نعرف علله الغريبة:
  • فأولًا: تختلف جميع الأحياء الواحد عن الآخر، فليس في العالم فردان يتطابقان من كل الوجوه في جميع صفاتهما.
  • وثانيًا: هذا الاختلاف لا يخرج عن أحد شيئين، فهو إما نقص وإما زيادة، فيهما نفع أو ضرر.
  • وثالثًا: أرض العالم وبحاره محدودة، ولكن نسل الحيوان والنبات غير محدود، وينتج من هذا أن يكون الطعام في العالم محدودًا، يجب على أفراد النبات والحيوان أن تتزاحم من أجل الحصول عليه.
  • ورابعًا: في هذه المزاحمة لأجل الطعام يؤدي الاختلاف إلى بقاء بعض الأفراد أو موتها؛ لأن هذا الاختلاف إما أنه يساعدها على هزيمة خصمها الذي يزاحمها، وإما أنه يساعد خصمها عليها.
  • وخامسًا: كل فرد ينتصر على خصمه يتمكن من الحصول على أنثى، فينسل وتنتشر صفاته في نسله الذي يرثها منه.
  • وسادسًا: يتراكم الاختلاف بتعاقب الأجيال، حتى يصير الفرق بين فردين من سلالة واحدة فرقًا بين سلالتين، ثم يزداد هذا الاختلاف حتى يصير فرقًا بين نوعين، وهكذا يستمر التطور.
  • وسابعًا: عندما تتغير البيئة تتغير عادات الأحياء كي تلائم الحالة الجديدة، وما تبذله هذه الأحياء من مجهود في هذا التغير ينتقل بالوراثة إلى الأبناء؛ فالعادة المكتسبة بالمجهود الفردي تعود — بتكرارها في الأجيال المتعاقبة — صفة وراثية لازمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤