مسألة الدماغ البشري

نستطيع أن نلخص نظرية التطور فيما يلي:
  • (١)

    أننا البشر، وكافة أنواع الحيوان مما هو دون الإسفنج وما يعلو عليه؛ كالحشرات والسمك والثعابين والطيور والسباع والبهائم، نشترك في أصل واحد، وبيننا وبين هذه الحيوانات قرابة بعيدة.

  • (٢)

    أننا البشر خاصة ننتمي إلى أسرة متعددة الأنواع؛ منها الزباب والطرسيوس والليمور والقرد، وهذه هي الأسرة الكبرى، أما العائلة الصغرى التي ننتمي إليها فهي القردة العليا، وليس معنى هذا أن القردة العليا الحاضرة هي الأصل الذي نرجع إليه، وإنما المعنى أننا نحن وهذه القردة من أصل واحد، وبيننا وبينها قرابة وثيقة؛ نحن أبناء عمومة.

  • (٣)

    أن التطور لم ينقطع أو يقف؛ فإن جميع الأحياء — حيوانًا كانت أم نباتًا — لا تزال في تغيُّر جيلًا بعد جيل، والتغير يتراكم حتى ينقلب من الكم إلى الكيف فيصير تطورًا.

وأعظم عقبة يصطدم بها المبتدئ في درس التطور هي الفرق العظيم الذي يتراءى له بيننا وبين القردة العليا من حيث القدرة على التفكير، هذا التفكير الذي انتهى بين البشر إلى إيجاد حكومات ومجتمعات ومؤسسات ثقافية عديدة، والواقع أن الفرق بين الدماغ البشري والدماغ القردي كبير جدًّا؛ فإن وزن الأول ٤٨ أوقية إنجليزية في المتوسط، ووزن الثاني (في الغوريلا) ٢٠ أوقية إنجليزية. وبكلمة أخرى يبلغ تجويف الجمجمة البشرية ١٣٥٠ سنتيجرام مكعب، وتجويف الجمجمة القردية ٧٠٠ أو ٨٠٠ سنتيجرام مكعب.

وهذا الفرق كبير جدًّا إذا اعتبرنا المقارنة بين الإنسان والقرد وحدهما، ولكنه ليس كذلك إذا اعتبرنا سائر الحيوان؛ فإن هذا القرد الذي لا يزيد وزن دماغه على ٢٠ أوقية قد لا يزيد وزن جسمه على ١٥٠ رطلًا، ومع ذلك قد تبلغ السمكة ١٥٠٠ رطل في الوزن ولا يبلغ دماغها أوقية واحدة.

ونحن نستعمل كلمة دماغ هنا كي تعني كل ما في تجويف الرأس؛ أي الدماغ الأمامي والدميغ الخلفي.

وامتيازنا على القردة ليس من ناحية ضخامة الدماغ فقط، فإن جسم الدماغ أبيض يكسوه لون أغبر، وهو مكان الإحساس والإرادة والتفكير؛ أي مكان الوجدان أو الوعي، والخلايا التي بالدماغ كثيرة جدًّا عندنا؛ لوفرة التلافيف في دماغنا، وقلتها في دماغ الفرد؛ فإن التلافيف تُحدِث غُئورًا في جسم الدماغ فتنزل الخلايا فيه وتتخلله، فتزيد قدرتنا على الوجدان (= التفكير)، ويبدو أنه عندما كبر الرأس وصار ثقيلًا على الجسم، وأحيط بطبقة من العظم الجامد، تحوَّل التطور إلى الداخل، فزيدت مساحة السطح بطي أجزائه هنا وهناك وإيجاد أخاديد فيه تتسع للخلايا التي نعتمد عليها في الوجدان، ونحن في هذا كالفلاح الذي يزيد أرضه للقطن بإيجاد أخاديد فيها تجعل مساحة السطح المعرَّض للشمس أكبر من تلك الأرض التي لم تُخدَّد.
figure
(أجنة ثلاثة من الحيوانات في أطوراها الأولى وهي في الرحم: السحلية (والعظاية) والأرنب والإنسان، وكل عمود يمثل حيوانًا في الأسابيع الأولى بالرحم، وهو يتدرج من تحت إلى أعلى، وترى الخياشيم والأذناب فيها جميعًا)

فدماغنا في الحجم كبير، ووفرة تلافيفه تزيد قدرتنا على التفكير، ولكن كل هذا ما كان ليكفي للامتياز العظيم الذي يمتاز به نوع البشر على أنواع القردة، إنما امتيازنا يعود أيضًا إلى اللغة واليد؛ لأن اللغة ربطت تفكيرنا وجعلت لنا تراثًا ثقافيًّا، ولأن اليد (التي امتازت بإبهام) جعلت الحضارة مستطاعة باختراع الأدوات والآلات.

وكي يعرف القارئ قيمة اللغة في الارتقاء البشري يجب عليه أن يقرأ كتابي «البلاغة العصرية واللغة العربية»؛ فإن في هذا الكتاب فصلًا عن فتاة خطفتها ذئبة وأرضعتها وربَّتها، فصارت بعد ذلك خرساء في كل شيء؛ تعوي، وتسعى على أربع، وتأكل الرمم، وتسهر في الليل وتنام في النهار.

وإذا شاء القارئ أن يعرف تأثير الخرس فلا ينظر إلى أخرس يعيش بين متكلمين؛ لأن هذا الأخرس يسمع الكلمات ويرى سلوك غيره بها، فيعرفها ويفهم ويعقل، ولو أنه لا يتكلم، ولكن على القارئ أن يفرض مجتمعًا مؤلفًا من أفراد خرس لا يسمعون كلامًا، وعندئذ لا يستطيع أحدهم التفكير لأنه لا يقيِّد المعاني بالكلمات، ولأنه يعيش بلا تراث ثقافي قد دوِّن بالكلمات.

وكان من المستطاع أن تنشأ بين جماعات الشمبنزي أو الغوريلا أو الأورانج أوتان حضارة لو أنها كانت قد عرفت لغة، حتى مع صغر أدمغتها وقلة التلافيف فيها، نعني حضارة بدائية تجعل الأفراد يعيشون كما لو كانوا أناسًا في درجة منحطة من الذكاء.

فاللغة هي فاصل كبير بيننا وبين القردة، وثَمَّ فاصل آخر يفصلنا نحن والقردة معًا من سائر الحيوان، هو العينان، بل إن العين قد فصلتنا بعض الشيء من القردة؛ إذ كانت هي عاملًا آخر جعلنا ننتصب في القامة انتصابًا تامًّا لا يصل إليه القرد؛ ففي حركتنا خفة، وفي قامتنا اتزان، وفي عدونا سرعة لا تبلغها القردة؛ لأن عيوننا أدق من عيونها.

والواقع أن تفكيرنا هو تفكير العين، حتى ليقول أحدنا: «أنا عرفت هذا من عينه»، أو: «ما هي نظرتك في هذا الموضوع؟»؛ لأن النظر يتصل بجميع عواطفا تقريبًا، والعين بأعضائها المختلفة وما يحيط بها تتحرك بما يكشف عن حالتنا النفسية، والتفات العين يدل على التفات الذهن، وإزاء العين تراجعت سائر الحواس البشرية إلى مكان منحط في الوجدان.

وأستميح القراء في التكرار التالي:
  • (١)

    أننا في ملايين السنين السحيقة تعلَّقنا بالأشجار وعشنا فيها بعض حياتنا، وتعلَّمنا من التسلق مبادئ انتصاب القامة والإمساك باليد وتقوية حاسة النظر.

  • (٢)

    انتصاب القامة جعلنا نستغني عن الذَنَب؛ لأن اليد الممسكة أدت عمله، واستطعنا أن نحمل رأسًا ضخمًا؛ لأنه يقع عموديًّا على قامتنا.

  • (٣)

    أن العينين صارتا في الوجه بدلًا من الصدغين، وصرنا نعتمد على النظر أكثر من أي حاسة أخرى، ونحن نجد الآن أن البومة، وهي طائر ليلي، قد جمعت عينيها في وجهها؛ لأن دقة النظر في الظلام أو الغبشة تحتاج إلى الجمع بين العينين.

    والطرسيوسي (الذي يسمى أيضًا الطرسير) أحد قرابتنا البعيدة الحية إلى الآن، حيوان ليلي قد جمع عينيه في وجهه أيضًا، ونستطيع أن نحدُس أن ظلام الغابة والحاجة إلى اليقظة في الليل هما السبب في جمع العينين في الوجه دون الصدغين، ثم إن انتصاب القامة زادهما ارتفاعًا في الوجه؛ حتى يشرفا على الفضاء، كما أنها زادتا القامة انتصابًا.

  • (٤)

    لم نلتزم المعيشة في الشجر دون الأرض؛ ولذلك احتفظنا بالأيدي حرة تليق للتسلق كما تليق للإمساك، وبقيت الإبهام تواجه الكف أو تنطوي على الأصابع وقت الإمساك، وهذا هو ما فقدته القردة العليا فلم تحسن الإمساك.

  • (٥)

    لما تركنا الشجر وعشنا على الأرض احتجنا إلى الاجتماع، وأدى اجتماعنا إلى اختراع اللغة؛ للتفاهم وقت الصيد جماعة.

  • (٦)

    بعد كل هذه الميزات، وبعد اختراع اللغة، غزونا هذا الكوكب وتسلَّطنا على جميع أفراد عائلتنا الحيوانية بما جمعته لنا اللغة من تراث ثقافي يزداد على مر السنين فتزيد معارفنا وتجاربنا وقوتنا.

  • (٧)

    إن اختراعنا اللغة زاد قدرتنا على تعديد المعاني وتنويعها، وأدى هذا إلى تكبير الدماغ الذي يختزن هذه المعاني؛ فاللغة هي أصل الدماغ الكبير، وليس الدماغ الكبير أصل اللغة.

ولذلك فإن تفوقنا على الحيوان ليس قائمًا على ضخامة الدماغ البشري وكثرة تلافيفه التي تزيد الخلايا الغبراء فقط، بل هو أيضًا قائم على تراث اجتماعي لغوي، وأذكى الرجال، حين ينشأ ويعيش في الغابة بلا ثقافة بشرية، لا يكاد يمتاز على أي قرد في تنازع البقاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤