أصل الإعراب

أكبَّ النحاة على درس الإعراب وقواعده فوق ألف عام، لا يعدلون به شيئًا، ولا يرون من خصائص العربية ما ينبغي أن يشغلهم دونه، وأَلَّفوا فيه الأسفار الطوال، وأكثروا من الجدل والمناقشة في تعليله وفلسفته، حتى تركوا نحو العربية أوسع الأنحاء أسفارًا وتأليفًا وفلسفة وجدلًا، فماذا بلغوا من كشف سر الإعراب وبيان حقيقته؟

أساس كل بحثهم فيه أن «الإعراب أثر يجلبه العامل»، فكل حركة من حركاته، وكل علامة من علاماته، إنما تجيء تبعًا لعامل في الجملة — إن لم يكن مذكورًا ملفوظًا، فهو مقدَّر ملحوظ — ويطيلون في شرح العامل وشرطه ووجه عمله، حتى تكاد تكون نظرية العامل عندهم هي النحو كله.

أليس النحو هو الإعراب، والإعراب أثر العامل؟! فلم يبقَ إذن للنحو إلا أن يتتبع هذه العوامل، يستقرئها ويبيِّن مواضع عملها، وشرطَ هذا العمل؛ فذلك كل النحو.

وعلى هذا أُلِّفت كتب تجمع قواعد النحو بعنوان «العوامل»؛ فألَّف الإمام أبو علي الفارسي المتوفى سنة ٣٧٧ كتاب العوامل ومختصره؛ وألَّف الشيخ عبد القادر الجرجاني المتوفى سنة ٤٧١ كتاب «العوامل المائة»، وهو باقٍ بأيدينا، محيط بقواعد النحو، جُعِل منهاجًا للتعليم زمنًا، وتوفَّر الناس على درسه وشرحه، كما جُعِلت ألفية ابن مالك إلى هذا العهد.

ودوَّنوا للعامل شروطًا وأحكامًا هي عندهم فلسفة النحو، وسرُّ العربية، سنجمع هنا من كلامهم ومن ثنايا أدلَّتهم وحججهم ما يشرح لك أصول نظرياتهم في العامل. قالوا:
  • (١)
    كل علامة من علامات الإعراب فهي أثر لعامل، إن لم تجده في الجملة وجب تقديره، وقد يكون هذا العامل واجب الحذف لا يصح أن يُنطَق به في كلام، ولكنه من المحتوم أن يُقدَّر، وقد يُقدَّر في الجملة عاملان مختلفان كما في: إيَّاكَ والأسدَ.١ وسَقْيًا٢ لك.
  • (٢)

    لا يجتمع عاملان على معمول واحد، فإذا وُجد ما ظاهره أنه سُلِّط عاملان على معمول، جعلوا لأحد العاملين التأثير في اللفظ وللآخر التأثير في الموضع، كما في «بحسبك هذا» و«ربَّ رجل لا يحمل قلب رجل»؛ فلِرُبَّ والباء العملُ في اللفظ، والكلمتان بعدهما مرفوعتان محلًّا للابتداء.

    ولرفضهم أن يعمل عاملان في معمول واحد خلقوا باب التنازع في العمل وما فيه من قواعد وأحكام ليس يخفى ما بها من اعتساف وتعقيد.

  • (٣)

    الأصل في العمل للأفعال، وهي تعمل في الأسماء فقط، فترفعها وتنصبها، ولكنها لا تُجَر، ولا تُرفَع إلا اسمًا واحدًا، وتُنصَب اسمًا أو أكثر، وتعمل الرفع والنصب معًا.

  • (٤)

    كلما كان الفعل أمكن في باب الفعلية كان أوفر من العمل حظًّا، فالفعل الجامد عامل ضعيف، لا يعمل فيما يتقدمه، وقد لا يعمل إلا بشروط تَحُدُّ عمله، كفعل التعجب، ونعم وبئس؛ لا يرفع الأول إلا ضميرًا مستترًا واجب الاستتار. ولمرفوع نعم وبئس من الشروط ما هو مبين في بابه، كذلك الفعل الناقص محدود العمل لا يعمل إلا في المبتدأ والخبر، وقد يُشترَط لعمله شروط، كسبق النفي أو غيره.

  • (٥)

    يكون الاسم عاملًا — ويُحمَل في ذلك على الفعل — فيجب أن يتحقق له شَبَهٌ بالفعل يُقرِّبه منه ويؤهله لحكمه، كما ترى في اسم الفاعل واسم المفعول والمصدر. ويُناط نصيبه من العمل بحظه من شبه الفعل، فيكون أقوى عملًا إذا اتصل به ما يقرِّبه من الفعل ويُتمِّم شبهه به، كاعتماد اسم الفاعل على نفي أو استفهام، أو وقوعه صلةً لأل، ويكون أضعف إذا طرأ له ما يبعده عن الفعل؛ كاسم التفضيل. فإنه لما قُرِن بِمنْ كان بمنزلة المضاف فضُعف شبهه بالفعل وقَلَّ عمله، واقتصر على رفع الضمير وامتنع أن يرفع الظاهر، وكالمصدر إذا صغر أبعده التصغير عن شبه الفعل فحُرِم العمل. والاسم يعمل في الاسم وفي الفعل، فيرفع الاسم وينصبه، ويجزم الفعل ولكن لا ينصبه.

  • (٦)
    وللحرف طريقتان في العمل:
    • الأولى: أن يكون أصلًا فيه غير محمول على الفعل.
    • الثانية: أن يَعْمل حملًا على الفعل؛ وهو أبعد في العمل مسلكًا، يعمل في الاسم وفي الفعل، فيرفع الاسم وينصبه ويجره، ويجزم الفعل وينصبه، ويعمل الجزمين معًا كما في أدوات الشرط، ولا يعمل الرفع إلا إذا عمل النصب معه. يقول النحاة: «ليس لنا حرف يعمل الرفع إلا وهو يعمل النصب معًا.»

      وإذا عمل الحرف حملًا على الفعل كان نصيبه من العمل بمقدار ما فيه من مشابهة الفعل معنى ولفظًا؛ فإنْ تعمل لأنها تدلُّ على التأكيد فأشبهت الفعل معنًى، ولأنها ثلاثية فأشبهته صورة؛ فإذا خفَّفت ضعف شبهها فقَلَّ عملها. قال ابن مالك:

      وخفِّفت إنَّ فقلَّ العمل

      قال الشرَّاح: وذلك لبعدها عن شبه الفعل في اللفظ بتخفيفها.

  • (٧)

    إن الحرف لا يعمل في نوع من الكلمات حتى يكون مختصًّا به؛ «فلم ولن» عاملتان في المضارع لاختصاصهما به، و«قد» لم تعمل لدخولها على الماضي والمضارع، و«هل» الاستفهامية حُرمت العمل؛ لأنها قد تدخل على الاسم كما تدخل على الفعل.

  • (٨)

    يعمل الحرف في موضعٍ عملًا وفي غيره عملًا آخر، مثل «لا» تُحمَل على «ليس» فتعمل عملها، وعلى «إنَّ» فتكون مثلها.

  • (٩)

    مرتبة العامل التقدم، وإذا كان العامل قويًّا أمكن أن يعمل متقدمًا ومتأخرًا، فإذا كان ضعيفًا لم يعمل إلا متقدمًا.

  • (١٠)

    الأصل أَلَّا يُفْصَلَ العامل من معموله، ويمكن تجاوزُ هذا في الفعل لقوته، وفي الاسم حملًا عليه، أما الحرف فلا يجوز الفصل بينه وبين معموله.

  • (١١)

    العوامل في الأفعال أضعف من العوامل في الأسماء، فعوامل الأسماء متى توفَّرت شروطها وجب إعمالها، أما عوامل الأفعال فقد تُلغَى وكل شروطها مستوفاة؛ كأدوات الشرط، وواو المعية، وفاء السببية.

  • (١٢)

    يمكن أن تكون الكلمة عاملة ومعمولة معًا، ولكن الكلمتين لا تتبادلان العمل فتكون كل منهما عاملة في الأخرى معمولة لها.

  • (١٣)

    جزء الكلمة لا يكون عاملًا فيها.

  • (١٤)

    قد يعترض العامل ما يلغي عمله أو يكفه عنه، وقد يعترضه ما يعلِّقه عن العمل فيكون عاملًا في المحل وليس له من أثر في اللفظ، فللعامل ثلاث حالات: الإعمال، والتعليق، والإلغاء. ولكل موضع.

  • (١٥)

    كل جماعة من العوامل تشابهت في العمل تكوِّن أسرة واحدة، كباب إنَّ، وباب كان، وتكون أداة من هذه الأدوات أوسع عملًا فتُسَمَّى «أُمَّ الباب»، ولها من الحقوق في العمل والتصرف في الباب ما ليس لغيرها من أدواته. فكان أُمُّ الأفعال الناقصة، وإِنَّ أُمُّ الأدوات التي تنصب الأول وترفع الثاني، وإِنْ تَبَاعَدَ ما بينها في المعنى؛ لأن اتفاق العمل وحده هو الأصل في تقسيم هذه الأسر، وتحديد أبوابها.

ولما تكوَّنت للنحاة هذه الفلسفة حكَّموها في اللغة، وجعلوها ميزان ما بينهم من جدَل في المذاهب، ومناقشة في الآراء والبصريون أحرص على هذه الفلسفة وأمهر فيها؛ على أن الكوفيين لا يغفلونها ولا يأبون الاحتجاج بها، فهي دستور النحاة جميعًا:
  • (١)

    يؤيدون بها مذهبًا على مذهب. فإذا قال الكسائي: إن عامل الرفع في الفعل المضارع حرف المضارعة، قالوا: إن حرف المضارعة صار كالجزء من الفعل، وإن جزء الكلمة لا يعمل فيها، ويرفضون بذلك مذهبه. ويقول الكوفيون: إن المبتدأ رُفِع بالخبر، والخبر رُفِع بالمبتدأ. فيقول البصريون: إن الكلمتين لا تتبادلان العمل حتى يكون كل منهما عاملًا معمولًا. فذلك مَثَل من حوارهم واحتكامهم إلى فلسفتهم في العامل.

  • (٢)
    بل هم يتجاوزون ذلك إلى تفضيل لغة من لغات العرب على أخرى بأصول فلسفتهم هذه؛ فيفضلون لغة تميم على لغة أهل الحجاز في «ما»؛ وذلك أن الحجازيين يُعمِلون «ما» عمل «ليس» كما تعلم، ومنه في القرآن الكريم مَا هَٰذَا بَشَرًا، وبنو تميم يهملونها ويرفعون جزءي الجملة بعدها؛ فيقول النحاة: إن لغة تميم أقيس؛ لأن «ما» لا تختص بالدخول على الاسم، فليس من قياسها أن تكون عاملة فيه. ويرون أن هذه الفلسفة جعلتهم أفقه بالعربية من العرب.
  • (٣)

    ويرفضون بهذه القواعد بعض الأساليب العربية؛ يسمعون من العرب «رُبَّ والله رجل.» فيردونه على قائله، محتجين بأن حرف الجر عامل ضعيف لا يُفصَل بينه وبين معموله. وكذلك يرفضون الفصل بين المضاف والمضاف إليه، ثم يُروَى هذا الفصل كثيرًا في الشعر، ويقرأ به قارئ من السبعة آيةً من القرآن الكريم، فيصرُّ النحاة على الإخلاص لفلسفتهم النحوية، وقبول حكمها، ورفض ما ورد من هذا الفصل في الشعر، وتضعيف رواية القارئ في القرآن.

  • (٤)
    يشرعون بها أساليب في العربية لم يسمعوها من العرب، يقيسونها على ما سمعوا. وآلة القياس من هذه الفلسفة، مثلًا: يختلفون في خبر «ليس» أيُقدَّم عليها؟ فيجيب قوم: لا؛ لأن «ليس» فعل غير متصرف؛ فهو عامل ضعيف لا يتقدم عليه معموله نظير نعم وبئس وعسى وفعل التعجب. ويقول آخرون: بل يصح؛ لأنه قد ورد في القرآن الكريم أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وقد تقدم في هذه الآية معمول الخبر، وهو دليل على جواز تقدم الخبر نفسه؛ لأن «المعمول لا يتقدم إلا حيث يتقدم العامل.» وهذا أصل المعارك المؤجَّجة بين النحاة، ومنشأ الجدل الذي يملأ كتب النحو، ويثور غباره عند كل باب من أبوابها.

منشأ هذه الفلسفة

والنحاة في سبيلهم هذا متأثرون كل التأثر بالفلسفة الكلامية التي كانت شائعة بينهم، غالبة على تفكيرهم، آخذة حكم الحقائق المقررة لديها.

رأوا أن الإعراب بالحركات وغيرها عوارض للكلام تتبدل بتبدل التركيب، على نظام فيه شيء من الاضطراد؛ فقالوا: عرض حادث لا بدَّ له من مُحدِث، وأثر لا بدَّ له من مُؤثِّر. ولم يقبلوا أن يكون المتكلم محدث هذا الأثر؛ لأنه ليس حرًّا فيه يحدثه متى شاء. وطلبوا لهذا الأثر عاملًا مقتضيًا، وعلَّة موجبة، وبحثوا عنها في الكلام فعدَّدوا هذه العوامل، ورسموا قوانينها.

ومن تأثُّرهم بالفلسفة الكلامية رفضهم أن يجتمع عاملان على معمول واحد، واحتجاجهم لذلك بأنه إذا اتفق العاملان في العمل لزم تحصيل الحاصل وهو محال، وإذا اختلفا لزم أن يكون الاسم مرفوعًا منصوبًا مثلًا، ولا يجتمع الضدان في محل. ومنه تحريمهم أن تتبادل الكلمتان العمل، واحتجاجهم بأن العامل حقه التقديم، والمعمول حقه التأخير، فتكون الكلمة متقدمة متأخرة، وهو محال.

فانظر كيف تصوَّروا «عوامل» الإعراب كأنَّما هي موجودات فاعلة مؤثرة، وأجروا لها أحكامها على هذا الوجه. قال الإمام الرضي: «والنحاة يجرون عوامل النحو كالمؤثرات الحقيقية.»

ولعل المناقشة الآتية تبيِّن لك كيف كانوا يتصورون العامل: اجتمع أبو عبد الله الجرمي المتوفى سنة ٢٢٥ بأبي زياد الفراء المتوفى سنة ٢٠٦، فقال الفراء: أخبرني عن «زيد منطلق» لمَ رُفِع زيد؟ فقال الجرمي: رُفِع بالابتداء. قال الفراء: فأظهره. قال: هو معنى لا يظهر. قال: فمثِّله. قال: لا يُمثَّل. قال الفراء: ما رأيت كاليوم عاملًا لا يظهر ولا يتمثل! ونعلم أن أصحاب الفراء يرفعون المبتدأ بالخبر؛ فرارًا من عامل لا يظهر ولا يتمثل.

ومثل آخر مما يبيِّن تصوَّرهم للعامل؛ يقول جمهور النحاة: إن المضارع مرفوع لتجرده من الناصب والجازم؛ فيقول المعارضون: إن التجرد عدمي والرفع وجودي، ولا يُحدِث العدمُ الوجودَ؛ فيجيب الأولون: إن التجرد عدم محدود فهو وجود مقيَّد، ولا مانع أن يعمل مثله. وأمثلة هذه المناقشات تفيض بها كتب النحاة.

وليس من عيب في أن ينتفع النحاة بما بين أيديهم من الفلسفة ومن العلوم التي يدرسونها، ولا في أن يصطنعوا في تفكيرهم النمط المألوف في زمنهم، والسبيل المرسومة للجدل في أيامهم؛ فإن للتفكير في كل زمان مناهج متبعة ومبادئ مسلَّمة قد لا يخلص منها إلَّا مَنْ تعلَّق بوحي، وإذا نحن جهلناها لم نستطع أن نقدر منشأ كل رأي وغايته، ومتسرب الخطأ إليه، أو إحاطة الصواب به.

من أجل ذلك نرى طريق النحاة في استخدام فلسفة أيامهم — أو استخدامها إياهم — أمرًا طبيعيًّا، لا مأخذ فيه، بل لا مندوحة عنه لمن أراد أن يفكر. ولكن علينا أن ننظر مبلغ توفيقهم في نظرهم، وإصابتهم للغاية التي سعوا إليها، وهي الكشف عن أحكام الإعراب وأسراره.

نقد مذهبهم

  • (١)

    لقد اضطروا في سبيل تسوية مذهبهم، وطرد قواعدهم إلى «التقدير» وأكثروا منه؛ يبحثون عن العامل في الجملة فلا يجدونه، فيمدهم التقدير بما أرادوا.

    ومن أمثلة ما يقدِّرون:
    • (أ)

      زيدًا رأيته: يقولون: هو «رأيتُ زيدًا رأيته».

    • (ب)
      وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ: وإن استجارك أحد من المشركين استجارك.
    • (جـ)
      لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي: لو تملكون تملكون خزائن رحمة ربي.
    • (د)
      وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ: وأما ثمود فهدينا هديناهم.
    • (هـ)

      إياكَ والأسدَ أُحذرك وأحْذَر الأسد.

    • (و)
      ويقطع النعت في مثل: الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فتُنصَب كلمة رَب وتُرفَع؛ فيقدرون: هو ربُّ، أو: أمدح ربَّ.

هذه أمثلة لها نظائر كثيرة متعددة تملأ أبواب النحو، ولولا طول إِلْفِنَا لها في دراسة النحو لما استسغناها ولرأيناها لغوًا وعبثًا، ولكن عليها بُنِيَ النحو، وأُقِيمت فصوله؛ إذ أُقِيمَتْ على نظرية العامل.

والمقدَّر في الكلام نوعان: ما يكون قد فُهِم من الكلام، ودلَّ عليه سياق القول، فترى المحذوف جزءًا من المعنى، كأنك نطقت به، وإنما تخففت بحذفه، وآثرت الإيجاز بتركه. وهذا أمر سائغ في كل لغة، بل هو في العربية أكثر لِمَيلها إلى الإيجاز وإلى التخفيف بحذف ما يُفهَم.

ولكن التقدير الذي نعيبه هو نظير ما قدمنا لك من الأمثلة: كلمات تُجتلَب لتصحح الإعراب، ولتكمل نظرية العامل، ويسمي النحاة هذا النوع من التقدير، بالتقدير الصناعي، وهو ما يراد به تسوية صناعة الإعراب.
  • (٢)

    بهذا التقدير والتوسع فيه أضاع النحاة حكم النحو، ولم يجعلوا له كلمة حاسمة وقولًا باتًّا، وكثَّروا من أوجه الكلام، ومن احتماله لأنواع من الإعراب، يقدِّرون العامل رافعًا فيرفعون، ويقدِّرونه ناصبًا فينصبون، لا يرون أنه يتبع ذلك اختلاف في المعنى ولا تبديل في المفهوم.

    كان الكسائي٣ يقرأ يومًا بحاشية الرشيد أبيات أفنون التغلبي، ومنها:
    أبلغ حُبيبًا وخَلِّل في سراتهم
    أنَّ الفؤاد انطوى منهم على حَزَن
    أَنَّى جزَوا عامرًا سوءى بفعلهمُ
    أم كيف يجزونني السوءى من الحَسَن؟!
    أم كيف ينفع ما تُعطَى العَلوقُ به
    رئمانَ أنف إذا ما ضُنَّ باللَّبَن؟!

    ففتح نون رئمان، وكان الأصمعي حاضرًا، فقال: هي رئمانُ بضم النون، فأقبل عليه الكسائي وقال له: اسكت ما أنت وهذا؟! يجوز رئمانُ ورئمانَ ورئمانِ. قالوا: ولم يكن الأصمعي صاحب نظر في النحو ولا معرفة بالعربية. وما دام التقدير يمدهم بما شاءوا فلهم أن يوجهوا الكلام كل وجه، ثم لا تعجزهم الحجة، ولا يعوزهم التقدير.

    سأل يومًا عضد الدولة فنَّا خُسْرو البويهي الإمامَ أبا عليٍّ الفارسي: لماذا ينصب المستثنى في نحو: قام القوم إلا زيدًا؟ قال: بتقدير أَستثني زيدًا، فقال عضد الدولة — وكان فاضلًا — لِمَ قدَّرت أستثني؟ هلَّا قدرت امتنع زيد فرفعت؟! فلم يُحِر الفارسي جوابًا، وقال: هذا الذي ذكرته لك جواب ميدانيٍّ، فإذا رجعت ذكرت الجواب الصحيح.٤
  • (٣)
    إن النحاة بالتزامهم أُصول فلسفتهم أضاعوا العناية بمعاني الكلام في أوضاعه المختلفة؛ من ذلك قولهم في باب المفعول معه: إن مثل: كيف أنت وأخوك؟ يجوز فيه النصب على المفعولية، والرفع على العطف، ثم يرَون الوجه الثاني أولى، ويُضَعِّفُون الأول؛ لأن الواو لم يسبقها فعل، يكون عاملًا في المفعول معه، والحقيقة أن لكل من التركيبين معنى لا يغني عنه الآخر، تقول: كيف أنت وأخوك؟ أي كيف أنت؟ وكيف أخوك؟ فإذا قلت: كيف أنت وأخاك؟ فإنما تسأل عن صلة ما بينهما.٥

    فالعبارتان صحيحتان، ولكل منهما موضع خاص، ولكن النحاة قد نسوا المعنى بالحرص على نظرية العامل.

    ويقولون في مثل: صدَّق وآمن المسلمون. أن الصحيح: صدقوا وآمن المسلمون، أو صدق وآمنوا المسلمون؟ ولا يقبلون صدق وآمن المسلمون، وهو عربي سائغ مقبول، سُمِع من العرب في مثل:

    تَعَفَّقَ بالأرطى لها وأرادها
    رجال فيزَّت نبلُهم وكَلِيبُ٦
    ولكن جمهور النحاة لا يقبلون هذا خشية أن يجتمع مؤثران على أثر واحد، وهو محال.٧
  • (٤)
    كثر الخلاف بينهم في كل عامل يتصدون لبيانه، فلا تقرأ بابًا من أبواب النحو إلَّا وجدته قد بدئ بخصومة منكرة في عامل هذا الباب ما هو؟
    • (أ)

      فالمفعول ما عامل النصب فيه؟

      الفعل أو شبهه، وهو رأي جمهور البصريين.

      أو الفاعل وحده، وهو رأي هشام الكوفي.

      أو الفعل والفاعل، وهو رأي الفرَّاء.

      أو معنى المفعولية، وهو مذهب خلف.

    • (ب)

      وعامل المفعول معه ما هو؟

      ما تقدمه من فعل ونحوه، وهو رأي الجمهور.

      أو ناصبه الواو، وهو رأي الجرجاني.

      أو فعل مضمر بعد الواو، وهو رأي الزجاج.

      أو الخلاف، وهو رأي الكوفيين.

    • (جـ)

      واختلفوا في عامل النصب للمفعول المطلق على ثلاثة عشر قولًا؟!

    حتى صار أكثر الخلاف بين النحويين، وأشد جدالهم، هو في العامل ما هو؟ ولو أنهم وضعوا نظريتهم على أصل صحيح لقلَّ خلافهم وتقاربت آراؤهم.٨
  • (٥)

    إن النحاة بعد ذلك كله لم يفوا بمذهبهم، أو لم تفِ نظريتهم بكل حاجاتهم في الإعراب؛ لأنهم بعدما شرطوا أن يكون العامل متكلَّمًا به أو مقدرًا في الكلام، اضطروا إلى الاعتراف بالعامل المعنوي.

    فالبصريون يجعلون الرافع للمبتدأ هو الابتداء، وهو عامل معنوي، والكوفيون يثبتون عاملًا معنويًّا آخر يسمونه الخلاف، يجعلونه عامل النصب في الظرف إذا كان خبرًا، نحو: زيدٌ عندك، وفي الفعل المضارع بعد فاء السببية أو واو المعية، والأخفش يعد التبعية عاملًا معنويًّا. أمَّا في باب التمييز، فقالوا: إن الاسم نُصِب عن تمام الكلام، ولم يذكروا عاملًا لفظيًّا ولا معنويًّا.

فهذه الأوجه تنقض نظرية النحاة في العامل، أو تنقصها على الأقل، وهي مناقشة لكلامهم بمثل أصولهم، وبحكم قواعدهم التي التزموا.

على أن أكبر ما يعنينا في نقد نظريتهم أنهم جعلوا الإعراب حكمًا لفظيًّا خالصًا يتبع لفظ العامل وأثره، ولم يروا في علاماته إشارة إلى معنى، ولا أثرًا في تصوير المفهوم، أو إلقاء ظل على صورته، فقد رأيت الكسائي يحرك نون رئمان بالحركات الثلاث من غير أن يشير إلى ما يصير إليه المعنى عن كل حركة.

ونحن نحاول أن نبحث عن معاني هذه العلامات الإعرابية، وعن أثرها في تصوير المعنى، فإذا تمت لنا الهداية إلى هذا، وجدنا عاصمًا يقينًا من اضطراب النحاة، وحَكَمًا يفصل في خصوماتهم العديدة المتشعبة، ولم يكن لنا أن نسأل عن كل حركة ما عاملها، ولكن ماذا تشير إليه من معنى.

ومعاني هذه العلامات الإعرابية ستكون بحثنا في الفصل التالي، ولكنا من قبل أن نأخذ في شرحها، يجب أن نعرض لرأي في أُصول الإعراب رآه المستشرقون، واستعانوا فيه بدرسهم علم اللغات ومقارناتها.

١  يُقدِّرون: أحذرك وأحذر الأسد. لا يكتفون بفعل واحد.
٢  يقولون: اسقِ اللهم سقيًا دعائي لك. وانظر لهذين باب المبتدأ والمفعول المطلق، والتحذير.
٣  ص٢٤٤ من الجزء الثالث من الأشباه والنظائر للسيوطي، طبع حيدر آباد.
٤  صفحة ٣٨٨ من نزهة الألباء في طبقات الأدباء، طبع مصر.
٥  صوَّبه بعض النحاة ونقله الخضري عن الدماميني، ونقله الصبان أيضًا، وشرحناه بأوسع من هذا، وروينا شواهده في بحثنا هذا عند الكلام على ما يرى النحاة فيه وجهين من الإعراب.
٦  من قصيدة علقمة بن عبدة المشهورة التي مطلعها:
طحا بك قلب في الحسان طروب
ورواه سيبويه والنحاة من شواهدهم، وقَبِله الكسائي وتأوله البصريون.
٧  انظر باب الاشتغال من الأشموني، أو سواه من الموسعات في النحو.
٨  ترى أكثر هذه الآراء في كتاب الهمع للسيوطي، وفي كتاب الإنصاف لابن الأنباري، وإن شئت الإحاطة فارجع إلى شرح التسهيل لأبي حيان ففيه أضعاف ما أشرنا إليه من أوجه الخلاف في العامل؛ ومع كل رأي مناقشته ونقده.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤