الفصل الثالث

الحجة المعارضة لوجود الإله

رَكَّزَ الفصل السابق على حجج مؤيدة لوجود الإله، وفي هذا الفصل، سنعرض لحجة معارضة لوجود الإله.

(١) إشكاليَّتَا الشر

يتمتَّع الإله، كما ترى المعتقداتُ التقليديةُ للأديان التوحيدية الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام، بثلاث خصائص مهمة على الأقل؛ أولاها: أن الإله كليُّ القدرة أو قَويٌّ قوةً مطلقة؛ فالإله يمتلك القدرة على خلق الكون وتدميره. وإذ إنه خالق قوانين الطبيعة وصائنها، فله حرية خرقها بإحياء الموتى أو شق البحر الأحمر، على سبيل المثال. وثانيتها: أن الإله كليُّ العلم؛ فمعرفته لا محدودة، ويعلم حتى بواطن أفكارنا. وثالثتها: أنه من المفترض أن الإلهَ خَيِّرٌ خيرًا ساميًا. وفي الحقيقة، كثيرًا ما يتم وصف الإله بأنه يحمينا كأبٍ مُحِبٍّ يسهر على رعاية أطفاله، فيقولون إن الإله محبة.

أود الإشارة إلى أنني سأستخدم كلمة «الإله» للإشارة إلى مفهوم الإله حسب المعتقد التقليدي للأديان التوحيدية الثلاثة؛ ومن ثَمَّ، سأستخدم كلمة «توحيد» للإشارة إلى الإيمان بهذا المفهوم للإله، أما كلمة «تأليه» فستشير للإيمان بوجود إله أو عدة آلهة، سواء كان الإله أم لا.

إن كان الإله يتمتع بالخصائص الثلاث السابقة، فهذا يُمثِّل تحديًا واضحًا ومألوفًا للمعتقد التوحيدي؛ تحديًا معروفًا بإشكالية الشر. وفي الواقع، ثمة إشكاليتا شرٍّ على الأقل: الإشكالية المنطقية، والإشكالية الإثباتية.

(٢) إشكالية الشر المنطقية

تبدأ إشكالية الشر المنطقية بفكرة أن الزعم القائل بأن:
  • (١)

    هناك إله كلي القدرة، كلي العلم، وسامي الخير.

لا تتسق منطقيًّا مع الزعم بأن:
  • (٢)

    الشر موجود.

وبالشر نقصد هنا كلًّا من المعاناة والأفعال الخاطئة أخلاقيًّا. والجدل يكون على هذا النحو: الزعم الثاني صحيح؛ ولذا فالزعم الأول خاطئ. لِم؟ لأن الإله الكليَّ القدرة سيتمتع بالقوة لمنع الشر، والإله الكلي العلم سيعرف بوجوده، والإله الواسع الخير سيرغب في منعه.

لاحظ أن مقدار الشر الموجود لا علاقةَ له بالحجة أعلاه؛ فهي تقتضي وجود «بعض» الشر فحسب، مهما كان صِغَر مقداره.

كثير من التوحيديين يقولون بأن إشكالية الشر المنطقية لا تُمثِّل تحديًا لا يمكن تجاوزه للإيمان بالإله. وفي ردِّهم عليها، يحاولون توضيح أن الإله الكلي القدرة، الكلي العلم، الواسع الخير؛ قد يسمح بقدر من الشر من أجل مصلحة أعلى.

فعلى سبيل المثال، كثير من هؤلاء يؤمنون أن الإله وَهَبنا إرادةً حرة؛ أي القدرة على الاختيار بِحُرية بين فعل الخير أو الشر. ونتيجة لتصرفنا بِحُرية، يوجد الشر. إلا أن هذا الشر تفوقه بكثير مظاهر خير أخرى تجلبها الإرادة الحرة، مثل القدرة على إتيان أعمال خيرة بمحض اختيارنا الواعي. ورغم أن ذلك قد يبدو متناقضًا، فهذا عالَم أفضل من عالم آخر يفتقر للإرادة الحرة، رغم وجود الحرب والقتل، على سبيل المثال، نتيجة للإرادة الحرة.

لاحِظ أن دفاع الإرادة الحرة لا يتناول (عادةً) إشكاليةَ الشر الطبيعي؛ أي المعاناة التي تنشأ بمعزل عن أفعال البشر، مثل المعاناة التي تنتج عن الأمراض والكوارث التي تحدث لأسباب طبيعية. لِم يوجد مثل هذا الشر؟ كما سنرى لاحقًا، غالبًا ما يجيب التوحيديون بإجابة مشابهة، وتحديدًا أن الشر الطبيعي ضروري من أجل مصلحة أعلى، مثل الاتساق في قوانين الطبيعة أو إتاحة الفرصة للبشر كي يُبدوا فضائل مثل الصبر والبسالة أمام النوازل.

(٣) إشكالية الشر الإثباتية

إلا أنه ثمة إشكالية شرٍّ أخرى تواجه المعتقد التوحيدي، أرى أنها أشد خطورة؛ وهي إشكالية الشر الإثباتية. تقوم إشكالية الشر الإثباتية لا على فكرة أن صحة الزعم الثاني تستتبع منطقيًّا زيف الزعم الأول، بل على فكرة أن الزعم الثاني يقدم لنا «دليلًا وجيهًا» يدحض الزعم الأول.

وهنا يصبح مقدار الشر مهمًّا للحجة. وفي حين أننا قد نقرُّ بأن الإلهَ قد يسمح ببعض الشر (من أجل مصلحة أعلى)، فهل يوجد أيُّ سببٍ وجيه لسماحه بوجود هذا القدر الكبير من الشر؟ وبإمكاننا أن نُذكي جذوة الإشكالية الإثباتية بالإشارة إلى أن الإله من المفترض أنه لن يسمح بوجود معاناة بلا سبب. وإذا كان الإله موجودًا، فمن المفترض أن لديه سببًا وجيهًا للسماح بكل هذا الكم من المعاناة.

في نهاية حلقة عُرضت مؤخرًا من برنامج «الحياة» التليفزيوني، أُجري لقاء مع أحد المصورين. وقد ذكر أنه بعد بضعة أسابيع من العمل ضمن طاقم البرنامج، أخذ يفكر في اعتزال تصوير الحياة البرية؛ لأنه وجد التجربة بالغة الإزعاج لدرجة لا يطيقها؛ فقد كان يعاني من أجل التكيف مع المعاناة الاستثنائية التي تقاسيها الحيوانات التي كان يراقبها. وكان هذا النوع من المعاناة — المعاناة المروعة، على مستوًى عالمي شاسع — بالطبع مستمرًّا، ليس لبضعة أسابيع فحسب، بل لمئات الملايين من السنين، قبل ظهور الإنسان الحديث جدًّا بوقت طويل.

عندما بدأنا التفكير في مقادير المعاناة الضخمة الموجودة — وفيها مئات ملايين السنين من معاناة الحيوانات التي حدثت قبل ظهور البشر — ألا يتضح سريعًا أنه لا يمكن تفسير كل ذلك بأنه يخدم مصلحةً أعلى؟

إذن، الزعم القائل بأن الإلهَ في المعتقد التوحيدي التقليدي موجودٌ، يبدو خاطئًا على نحو واضح على المستوى التجريبي.

(٤) نظريات العدالة الإلهية

يردُّ المؤمنون بالإله على إشكالية الشر الإثباتية بعدة طرق مختلفة؛ فالبعض يؤكد على وجود أسس وجيهة لافتراض أنه لا يوجد إله وحسب، بل وأن هذا الكيان يتمتع بالصفات التي يعزوها إليه المعتقد التوحيدي التقليدي. ومن ثَمَّ، في حين قد توجد أدلةٌ تُعارض وجود الإله، فثمة حجج مؤيدة لوجوده مقابلة لها على الأقل، وسأعود إلى هذا الطرح في وقت لاحق في هذا الفصل. وقد يصر التوحيديون كذلك على أنه بالإمكان دحض إشكالية الشر الإثباتية إلى حدٍّ بعيد، وجرى تقديم كثير من التفسيرات للشر من قِبل هؤلاء، وفيها الأمثلة الثلاثة التالية:

«حل الإرادة الحرة البسيط». خلقَنا الإلهُ فاعلين أحرارًا متمتعين بالقدرة على اختيار كيفية تصرفنا. والمعاناة تَنتج عن اختيارنا القيامَ بأشياء خاطئة. إلا أن الإرادة الحرة أيضًا تتيح صورَ خيرٍ معينةً؛ مثل القدرة على إتيان الخير بمحض اختيارنا الواعي. فالمخلوقات الأشبه بالعرائس المتحركة التي دائمًا ما تفعل كما يأمرها الإله لن ترتكب شرًّا، إلا أنها تفتقر إلى المسئولية الأخلاقية؛ ومن ثَمَّ فهي غير قادرة على التصرف على نحو فاضل بصورة صادقة وحقيقية. والإله بفك القيود عنا وإعطائنا حريةَ الإرادة الكاملة، سمح حتمًا ببعض الشر (كالذي أقدم عليه هتلر). إلا أن الإرادةَ الحرة الخيِّرة تسمح بما يفوق تلك الشرور.

«أعمال الخير من الدرجة الثانية تقتضي شرورًا من الدرجة الأولى». لم يكن مفر من أن يُقدِّر الإله كمًّا محددًا من المعاناة بحيث يمكن أن تتحقق أعمال خير مهمة معينة. خُذِ العملَ الخيري مثالًا؛ فكي أقوم بعمل من الأعمال الخيرية، يجب أن أفترض وجود آخرين محتاجين، قد يستفيدون من عطائي؛ فالعمل الخيري يُعتبر من «أعمال الخير من الدرجة الثانية» التي تقتضي وجودَ «شرور من الدرجة الأولى» مثل العوز والمعاناة (أو مظهرهما على الأقل). ولأن أعمال الخير من الدرجة الثانية تفوق الشرور من الدرجة الأولى، فإن الإله يسمح بها.

«حل «بناء الشخصية»». طبقًا لعالِم اللاهوت جون هيك، هذا العالَم عبارة عن «أرض بناء الأرواح». جميعنا نألف فكرة أن المعاناة يمكن أن تصنع منا أشخاصًا أفضل وأقوى. على سبيل المثال، الشخص الذي أصيب بمرض مؤلم وخطير سيقول أحيانًا إنه لا يشعر بالحسرة حيال ذلك؛ لأنه تعلَّم الكثير من التجربة. وبإنزال الألم والمعاناة علينا، يعطينا الإله فرصًا مهمة، وفيها فرصة التعلم والنمو والتطور أخلاقيًّا وروحيًّا؛ فمن خلال تلك المعاناة وحدها نستطيع أن نبني الأرواح النبيلة التي يريد الإله أن نمتلكها.

عندما تُقدَّم تلك التفسيرات كردٍّ على إشكالية الشر الإثباتية، أحيانًا يُطلَق عليها «نظريات العدالة الإلهية»، وقد وُضع الكثير منها. يعتقد بعض التوحيديين أنه حتى إن لم تَحلَّ تلك النظرياتُ إشكاليةَ الشر الإثباتية بالكامل؛ فهي مجتمعةً تقلص من الإشكالية على الأقل إلى حجم يمكن التعامل معه، بحيث يمكننا التوقف عن قول إن المعتقد التوحيدي مزيف خاطئ على نحو واضح على المستوى التجريبي.

مع ذلك، كثيرًا ما سيُقرُّ المؤمنون بالإله أنه ليس من السهل بالتأكيد شرح السبب وراء إنزال الإله هذا الكم الضخم من الألم والمعاناة على سكان هذا الكوكب الواعين. لذا، يدعم بعضهم هذه التفسيرات المتنوعة باحتكام آخر إلى عنصر «الغموض»، فيؤكدون على أن الإله يعمل على نحو غامض، فعلم الإله وذكاؤه لا حدود لهما بالتأكيد، ومن المرجح أن مخططه «خارج نطاق معرفتنا» في الأغلب. وبذلك، إن كان سبب كثير من الشر الموجود يفوق نطاق فهمنا، فهذا ليس سببًا وجيهًا لعدم وجود الإله.

(٥) فرضية الإله الشرير

بالطبع يَعتبر أغلب الملحدين هذه التفسيرات المتنوعة للنوازل الأخلاقية والكوارث الطبيعية لا طائلَ منها مطلقًا، ويبدو لكثيرين أن المقدار الضخم من المعاناة والانحلال الأخلاقي الموجود في عالمنا يشكِّل دليلًا قويًّا على أن الإله كما يصفه المؤمنون به غير موجود. وفي الواقع يبدو جليًّا إلى حد كبير لكثيرين أنه لا يوجد إله.

هل يمكن أن يتَّضح بجلاء عدم وجود الإله، حتى مع الاحتكام إلى الغموض ومختلف نظريات العدالة الإلهية وغيرها من الاستراتيجيات التي استحدثها التوحيديون للدفاع عن معتقدهم؟ من وجهة نظري، نعم يمكن ذلك.

فكِّر في اعتقادٍ مختلفٍ بعضَ الشيء، وهو أن الكون صُمم وخُلق على يد كيان كلي القدرة وكلي العلم، إلا أن هذا الكيان ليس كلي الخير، بل إنه مستطير الشر، فلا تعرف قسوتُه ولا أذاه حدودًا.

لاحِظ أنني أسوق فرضية الإله البديلة هذه، لا لأنني أرى أنها من المحتمل أن تكون صحيحة؛ وإنما لطرح السؤال التالي: هل هذه الفرضية أقل معقولية في الواقع من فرضية الإله الخيِّر؟

بالطبع، يَعتبر الجميع تقريبًا فرضية الإله الشرير عبثية. لِم؟ بادئ ذي بدء، ثمة أدلة كثيرة جدًّا تُعارضها، وبالتأكيد فإن كيانًا كلي القدرة وكلي العلم وكلي الشر لن يسمح بوجود أشياء طيبة كثيرة بهذا القدر في خلقه؛ على سبيل المثال، لم يقوم مثل هذا الكيان الشرير بما يلي:
  • خَلْق جمالٍ طبيعيٍّ يمنحنا كل هذا القدر من البهجة؟

  • مَنحنا أطفالًا نحبهم ويحبوننا حبًّا بلا حدود؟ فالإله الشرير يزدري الحب؛ ومن ثَمَّ لا يُحتمل أن يضع دفقات من هذه البهجة في خلقه.

  • مَنحنا أجسادًا فتيَّة بحيث نستمتع بالرياضة وممارسة الجنس وما إلى ذلك؟

  • السماح لنا بمساعدة بعضنا بعضًا والتخفيف من المعاناة التي نشعر بها، وهذا بالتأكيد ليس التصرف الذي سيسمح به إله شرير، بل كان سيرغمنا على التسبب في معاناة أكبر، بدلًا من السماح لنا بالتقليل منها.

  • الإنعام على بعض الناس على الأقل بوافر الصحة وكثرة المال وجم السعادة؟

ألا تقدم لنا هذه المظاهر التي يمكن ملاحظتها في الكون أدلةً قويةً تُعارض فرضية الإله الشرير؟ بل ألا يتضح بجلاء أنه لا وجود لمثل هذا الكيان، مع وضع تلك الأدلة في الاعتبار؟ ولعلنا نطلق على هذه الإشكالية التي تواجِه فرضية الإله الشرير «إشكالية الخير الإثباتية».

لكن ربما نكون قد تعجلنا في رفض الاعتقاد بوجود إله شرير. لاحِظ أننا يمكن أن نحاول الدفاع عن فرضية الإله الشرير بتقديم تفسيرات كالتالي:

«حل الإرادة الحرة البسيط». خلقَنا الإله الشرير فاعلين أحرارًا نتمتع بالقدرة على اختيار كيف نتصرف. يَنتج كثير من الأعمال الخيرة عن اختيارنا القيامَ بالأمور الصحيحة. لِم إذن خلَق الإله الشريرُ الإرادةَ الحرة؟ لأنها تسمح بشرور مهمة معينة، مثل القدرة على إتيان الشر بمحض اختيارنا الواعي. فالمخلوقات الأشبه بالعرائس المتحركة التي دائمًا ما تتصرف حسب أوامر الإله الشرير قد تُنزل الألم والمعاناة بعضها على بعض، إلا أنها تفتقر إلى المسئولية الأخلاقية، وستكون من ثَمَّ غير قادرة على التصرف على نحو شرير أخلاقيًّا بصورة صادقة وحقيقية. والإله الشرير بفك القيود عنا وإعطائنا حرية الإرادة الكاملة، سمح حتمًا ببعض الخير، إلا أن الإرادة الحرة الشريرة تسمح بشرور تفوق تلك الأعمال الخيرة.

«الشرور من الدرجة الثانية تقتضي أعمال خير من الدرجة الأولى». ربما يذكرنا التوحيديون بأن الإلهَ كان من المحتَّم أن يخلُق قَدْرًا معقولًا من الخير كي يمكِّن وجودَ شرور مهمة معينة. خُذِ الغَيْرة مثالًا؛ فالغيرة رذيلة مهمة، لكنها لا يمكن أن توجد إلا بوجود أناس يمتلكون أشياءَ خيرة تستحق أن يشتهيها غيرهم؛ مثل الصحة والثروة والسعادة. ويُطلق على الغَيرة «شر من الدرجة الثانية» يقتضي «أعمال خير من الدرجة الأولى». ولأن الشرور من الدرجة الثانية تفوق أعمال الخير من الدرجة الأولى؛ فإن الإله يسمح بوجود أعمال الخير هذه.

«حل «تدمير الشخصية»». هذا العالَم أرض لتدمير الأرواح. لِم يُمطر إله شرير عالَمَنا بالجمال؟ كي يجعل وحشةَ الحياة اليومية وبشاعتَها أكثر فداحةً بكثير. لِم يُنعم علينا بأجساد شابَّة فتيَّة؟ حسنًا، إنه يُنعم علينا بها لوقت قصير، ثم يأخذ منا بلا رحمة صحتَنا وحيويتَنا ببطء، حتى ينتهي بنا الحال غير قادرين على التحكم في عمليات الإخراج ومصابين بالتهاب المفاصل ونتداعى جراء الشيخوخة. أنْ تعطيَ أحدَهم شيئًا رائعًا ثم تأخذه منه لهُوَ أشد قسوة من ألا تعطيَه إياه من الأساس. وبالتأكيد فإن الإله الشرير يتأكد أننا حتى عندما نتمتع بوافر الصحة، يملؤنا القلق لمعرفتنا أنها قد تُختَطف منا جراء مرض أو حادث. لِم يهبنا أطفالًا نحبهم أكثر من حبنا للحياة ذاتها؟ لأن هذا يسمح للإله الشرير بإنزال صور أشد من العذاب علينا. ولا يسعنا سوى أن نصاب بالجزع حيال أطفالنا لأننا نهتم لأمرهم. وكلما زاد اهتمامنا، زادت درجة المعاناة التي يمكن أن تصيبنا.

لاحظ أنه يمكن تعزيز هذه التفسيرات بمناورة إضافية؛ الاحتكام إلى عنصر «الغموض»، فالإله الشرير يعمل على نحو غامض. وإذ إنه يتمتع بقدرة وعلم لا حدود لهما، فمن المحتمل أن تكون خطته الشريرة «خارج نطاق علمنا» في الأغلب. وبذلك، إن كان سبب كثير من الخير الموجود يفوق نطاق فهمنا، فهذا ليس سببًا وجيهًا لعدم وجود مثل هذا الكيان الخبيث.

(٦) تحدي الإله الشرير

لعلك لاحظت بعض أوجه التشابه الواضحة بين فرضيتَي الإله الخيِّر والشرير؛ فالمؤمنون بوجود الإله الخيِّر يواجهون إشكاليةَ الشر الإثباتية، أما المؤمنون بوجود الإله الشرير فيواجهون إشكالية الخير الإثباتية. المؤمنون بوجود الإله الخيِّر قد يحاولون التعاملَ مع إشكالية الشر عن طريق وضع نظريات العدالة الإلهية، مثل حلول الإرادة الحرة وبناء الشخصية، والاحتكام إلى الغموض. وعلى نحو مشابه، المؤمنون بوجود الإله الشرير قد يضعون نظريات عدالة إلهية موازية، وكذلك قد يحتكمون إلى الغموض، من أجل التعامل مع إشكالية الخير. وفي الواقع، فإن تلك النظريات الموازية يمكن وضعها فيما يتعلَّق بأغلب نظريات العدالة الإلهية الأخرى أيضًا.

ما مدى معقولية الإيمان بوجود إله شرير، مقارنةً بالإيمان بالإله كما هو موصوف في المعتقد التوحيدي التقليدي؟ الجميع تقريبًا مقرون، حتى مع اعتبار المناورات الدفاعية المبتكرة كالتي طرحتُها أعلاه، بأن الإيمان بوجود إله مستطير الشر يظل ضربًا من العبث. وأنا أفترض أنه من «الممكن» وجود مثل هذا الكيان. لكن بالتأكيد هو احتمال بعيد كل البعد، مع اعتبار الأدلة التي نمتلكها.

لكن إن كان ذلك صحيحًا، فلِم ينبغي أن نعتبر أن الإيمان بوجود إله كلي القدرة، كلي العلم، كلي الخير أكثر معقولية بكثير؟ إن كان مقدار الخير الضخم الذي نلاحظه في العالم دليلًا قويًّا بالفعل على عدم وجود إله شرير، فلِم إذن ليس مقدار الشر الضخم دليلًا قويًّا على عدم وجود الإله الخيِّر؟

ومن ثَمَّ، فالمؤمنون بالإله حسب المعتقد التوحيدي التقليدي يواجهون تحديًا. طالَعْنا في الفصل السابق أن بعضًا من أهم وأشهر الحجج التي يفترض كثيرون أنها توفِّر درجة مقبولة على الأقل من الدعم العقلاني للإيمان بالإله، لا تقدم في الواقع أي دعم للإيمان بوجود الإله الخيِّر بالقدر نفسه الذي لا تقدم به سندًا لوجود إله شرير، على سبيل المثال. وذكرنا أن إشكالية الخير تُقدم فعليًّا دليلًا تجريبيًّا دامغًا يعارض فرضية الإله الشرير، رغم مختلف نظريات العدالة الإلهية الموازية والاحتكام إلى الغموض التي قد يتم اللجوء إليها للدفاع عنها. لكن إن كان المؤمنون بوجود الإله الخيِّر يَعتبرون معتقدهم، إن لم يكن مؤكدًا، فهو على الأقل «عقلاني»؛ فإن المسئولية الآن تقع على عاتقهم لشرح «السبب» الذي يجعلنا نعتبر معتقدَهم أكثر عقلانية بكثير من الاعتقاد بوجود إله شرير، ويمكننا أن نطلق على ذلك «تحدي الإله الشرير».

لا أدعي أنه لا يمكن التصدي لهذا التحدي، لكني لا أعرف كيفية التصدي له؛ ولهذا السبب لا أرى أن الإيمان بالإله كما هو في المعتقد التوحيدي التقليدي أكثر عقلانية من الإيمان بوجود إله شرير، وإن كان الأخير غير عقلاني على نحو كبير في واقع الأمر.

(٧) المعجزات والتجارب الدينية

لنلقي نظرةً بإيجاز على بعض الاقتراحات الخاصة بكيفية الرد على التحدي الذي يواجه عقلانية المعتقد التوحيدي. إحدى الاستراتيجيات الواضحة بجلاء ستكون محاولة عرض حجج لافتراض أنه لا يوجد إله خالق فحسب، وإنما هذا الكيان خيِّر أيضًا. وفي حين أن حجج التصميم التي جرت مناقشتها في الفصل السابق ربما لا تدعم فرضية الإله الخيِّر بقدرِ ما لا تدعم فرضية الإله الشرير، فربما تكون هناك حجج «أخرى» تدعم بوضوح فرضية الإله الخيِّر.

أبرز الحجج المرشحة، تلك المستمدة من المعجزات ومن التجارب الدينية. عادة ما يتوجَّه الناس بالدعاء كي يُشفى أحدهم من مرض عضال، ويُستجاب إلى هذه الدعوات بين الحين والحين. يتدخل الإله بشكل فوق طبيعي للقيام بمعجزة؛ أليس هذا النشاط فوق الطبيعي دليلًا وجيهًا على وجود إلهٍ خَيِّر، لا إله شرير؟ علاوة على ذلك، عندما يروي الناس تجارب دينية، فإنهم يروون بوجه عام وقائع بالغة الإيجابية، مثل المرور بشيء طيب وجميل على نحو لا محدود. مرة أخرى، ألا يقدِّم لنا ذلك بعض الأدلة على الأقل على وجود إله، بل ووجود الله؟

لست متأكدًا من ذلك بشدة. إن كنتُ إلهًا شريرًا، لَمَا كانت هناك ضرورة كي يَعْلم الناس أني إله شرير، ولا سيما إن كنتُ بتظاهري بالخير، أستطيع صنع مزيد من الشر في واقع الأمر.

على سبيل المثال، إن كنتُ إلهًا شريرًا، فقد أَظهر لمجموعتين مختلفتين من البشر في شكل إلهٍ خيِّر وأقوم بمعجزات فوق طبيعية لأقنع كلًّا منهما بأنني موجود. فإن قلتُ لإحدى المجموعتين أشياءَ تُناقض ما أقوله للمجموعة الأخرى، فإن النتيجة يمكن توقعها: صراع شرس لا نهاية له، باعتبار أن كلًّا من المجموعتين الآن تمتلك «برهانًا» على أن الإله الحق إلى جانبها، وأن خصومها ناكرون لحقيقته.

إذن، هل المعجزات والتجارب الدينية أدلة تؤيِّد وجود الإله الخيِّر أكثر من وجود إله شرير؟ بالتأكيد الإله الخيِّر، بمعرفته بالمصائب الأخلاقية المروِّعة التي ستنتج إن ظهر على هذا النحو، سيتجنب القيام بذلك. كان سيتأكد من عدم وجود مثل هذا اللبس حول من يضمن وجود الإله إلى جانبه وما ينبغي أن يؤمن الناس به. أما الإله الشرير في المقابل فسيدرك أن إظهاره نفسَه على هذا النحو الملتبس الخادع سيخلق موقفًا من المحتمل أن يزداد فيه الشر. وبذلك لا يتضح إن كانت المعجزات أو التجارب الدينية دليلًا على وجود الإله الخيِّر أفضل من كونها دليلًا على وجود إله شرير. وفي الواقع، قد نذهب إلى أن التوزيع الفعلي لهذه الظواهر يناسب فرضية الإله الشرير أكثر مما يناسب فرضية الإله الخيِّر.

(٨) نظريات العدالة الإلهية الأخرى

هل توجد نظريات أخرى للعدالة الإلهية أكثر نجاحًا في الدفاع عن المعتقد التوحيدي، نظريات ربما لا يمكن وضع نظريات موازية لها؟ من بين نظريات العدالة الإلهية القياسية الأخرى التي يمكن وضع نظريات موازية لها:

«الحل الدلالي». المقصود بمصطلحَي «الخير» و«الشر»، عندما يتعلقان بالإله، شيء مختلف عن المقصود بهما عندما يتعلقان بالبشر. فبما أن الإلهَ كيان يتجاوز الوجود المادي، فلا يمكن وصفه وصفًا مناسبًا باستخدام مصطلحات البشر. وهذا يفسر السبب وراء أن فعلًا يقوم به البشر ويُعتبر فعلًا شريرًا (مثل إنزال معاناة بالغة بشخص بريء) لا ضرورة لاعتباره شريرًا إن قام به الإله.

لن يستغرق الأمر سوى برهة من التفكير حتى تدرك أنه يمكن تقريبًا استخدام المناورة نفسها لشرح السبب وراء أن إلهًا شريرًا سيُقْدم على أشياء، إن ارتكبها بَشَر، فستُعتبر «خيِّرة».

fig5
شكل ٣-١: اختار آدم وحواء ارتكاب الخطيئة. (رغم أنهما حينها لم يكونا يعرفان بعدُ الخيرَ والشر، فكيف يمكنهما ارتكاب الخطيئة؟)

كما أنه من الممكن وضع نظريات عدالة إلهية موازية لتلك النظريات التي تفسِّر الشرورَ الطبيعية (مثل الزلازل والأمراض) على أنها ناتجة عن قوانين الطبيعة التي، بأخذ كل العوامل في الاعتبار، تُنتج خيرًا أكثر مما تُنتج شرًّا، وأيضًا لتلك التي تزعم أن أي شرور نقاسيها في هذا العالم سيتم تعويضنا عنها في الحياة الآخرة (سأدعك تكتشف تفاصيل ذلك بنفسك).

إلا أنني أعتقد أنه توجد نظرية واحدة على الأقل للعدالة الإلهية لا يمكن وضع نظرية موازية لها بسهولة؛ فقد حاول القديس أوغسطين تفسيرَ الشرور الطبيعية بافتراض أنها نتيجة خروج آدم وحواء من الجنة. قَطَنَ آدم وحواء عالمًا مثاليًّا لا تُعكِّر صفوَه الكوارثُ الطبيعية ولا الأمراضُ؛ وعندما عصيا الإلهَ وأذنبا، لم يُفسدا أنفسهما فحسب، وإنما الطبيعة أيضًا؛ فالأمراض والكوارث الطبيعية والموت هي نواتج هذا الفساد. وبذلك، فإن هذه الشرور هي في الواقع نتائج الإرادة الحرة. اختار آدم وحواء بِحُريةٍ ارتكابَ الخطيئة، وكذلك نحن نفعل؛ ونتيجةً لذلك، نعاني أشد المعاناة، ولن تتوقف هذه المعاناة حتى نكفَّ عن الخطيئة ونستسلم للإله.

لا يتضح لي إمكانية وضع نظرية موازية لنظرية أوغسطين السابقة حول العدالة الإلهية، وستكون كافة أنواع الصعوبات حائلًا أمام محاولات وضع رواية مقابلة متماسكة حتى ولو على نحو غامض حول آدم وحواء آخرَين، يتسببان بعصيانهما خالقَهما الشرير في دخولهما الجنة؛ مما يؤدي إلى أشياء جيدة في الطبيعة. وربما يمكن وضع رواية مختلفة بعض الشيء تتضمن إلهًا شريرًا قد تفسِّر وجودَ أشياء جيدة في الطبيعة، لكنه من الصعب معرفة كيف يمكنها أن تنسج رواية موازية للخروج من الجنة بالتفاصيل الكافية كي تكون نظرية عدالة إلهية مناقضة.

ولذا، ربما لا يمكن عكس كل نظريات العدالة الإلهية القياسية الموضوعة للدفاع عن الاعتقاد بوجود الإله الخيِّر من أجل إنتاج نظرية عدالة إلهية مناقضة قد تُستخدم للدفاع عن الاعتقاد بوجود إله شرير.

رغم أنه يبدو أن نظرية أوغسطين للعدالة الإلهية غير قابلة للانعكاس، فإنها ضعيفة للغاية؛ فآدم وحواء لم يوجدا من الأساس، وحتى إن كانا قد وُجدا، فلا يمكن لخطيئتهما أن تفسِّر الكوارثَ الطبيعية المعاصرة، ولا يمكن تفسير الزلازل على أنها نتيجة لخطيئتهما؛ فالزلازل تَنتج عن حركة الصفائح التكتونية التي تتسبب، مع وضع قوانين الطبيعة في الاعتبار، في إحداث زلازل على أي حال، سواء أخطأنا أم لا. وبالطبع نحن نعلم أن الزلازل وأمواج المد وثورات البراكين والأمراض وغيرها كانت تحدث لملايين السنين قبل وجود فاعلين أخلاقيين قادرين على ارتكاب الخطيئة؛ فكيف إذن يمكن أن تكون المعاناة البالغة المترتبة على تلك الأحداث نتيجةً لخطيئة أو لخروج آدم وحواء من الجنة؟

(٩) إشكالية الشر الإثباتية: خاتمة

ألقينا نظرةً على إشكالية الشر الإثباتية، التي ربما تشكِّل الحجةَ المعارِضة الأقوى للمعتقد التوحيدي التقليدي. ونسخةُ إشكالية الشر المعروضة هنا، التي تتضمن رسم صورة موازية منها في شكل إشكالية الخير، وضَعها عدد من الفلاسفة، من بينهم بيتر ميليكان، ستيفن كان، وأنا. وكان هدفي من عرضها هنا هو توضيح كيف أن هذه النسخة من إشكالية الشر الإثباتية تشكل تهديدًا خطيرًا لمعقولية المعتقد التوحيدي.

fig6
شكل ٣-٢: يقول تشارلز داروين: «لا أستطيع أن أقنع نفسي أن إلهًا خَيِّرًا، كليَّ القدرة كان سيخلق زنبورًا طفيليًّا بِنيَّة أن يتغذى داخل أجساد يرقات الفراش الحية.»

ولاحظ أن تركيزي انصبَّ على الإله بحسب المعتقد التوحيدي التقليدي. قد تُشكِّل إشكالية الشر دليلًا قويًّا يعارض وجود الإله الخيِّر، وتشكِّل إشكالية الخير دليلًا قويًّا يعارض وجود إله شرير، لكن ثمة فرضيات أخرى عن الإله ربما نأخذها بعين الاعتبار، وهي التي لا تمثل أيٌّ من هاتين الحجتين تهديدًا لها، ولم يسبق أن اعتقدت، مثلًا، في وجود إلهٍ كلي القدرة، لكنه محايد أخلاقيًّا. لكن على الأقل فرضية الإله هذه لا ترقى لتعارض الأدلة التي تتجلَّى بوضوح لتكذيب كلٍّ من فرضيتَي الإله الشرير والإله الخيِّر.

لاحظ أن تحدي الإله الشرير يشكِّل تهديدًا لا للمعتقد التوحيدي فحسب، وإنما للمعتقد اللاأدري بخصوص الإله. بالتأكيد، ليستِ اللاأدرية موقفًا عقلانيًّا بشأن وجود إلهٍ شرير. وبالنظر في الأدلة المطروحة، من الواضح أنه لا يوجد مثل هذا الكيان الفائق الخبيث. لكن إن لم يكن المعتقد اللاأدري عقلانيًّا بشأن فرضية الإله الشرير، فلِم ينبغي أن نعتبر اللاأدرية أكثر عقلانية بأي درجة فيما يتعلق بفرضية الإله الخيِّر؟

(١٠) «بالتأكيد لا يمكن أن يكون من الواضح تمامًا عدم وجود الإله!»

بالتأكيد الاعتقاد بأنه ربما كان من الواضح تمامًا أن الإله بصورته في المعتقد التوحيدي التقليدي غير موجود (ربما تمامًا مثل وضوح الاعتقاد بعدم وجود إله شرير) سيجده كثيرون — وفيهم بعض الملحدين — غريبًا. كيف يمكن أن يتضح جليًّا أنه لا وجود للإله إن كان الملايين من البشر — وكثيرٌ منهم أشخاص أذكياء ومثقفون — يؤمنون بالإله؟

لكن بالطبع للدِّين تاريخ طويل غريب مِن جعْل أُناس أذكياء لديهم قدر عالٍ من العلم والثقافة يعتقدون في أشياء زائفة بوضوح. فعلى سبيل المثال، تشير نتائج استطلاعات الرأي بانتظام إلى أن حوالي مائة مليون مواطن أمريكي حاليًّا، كثير منهم حاصل على قدر معقول من العلم وبعضهم ارتادوا الجامعة، يعتقدون أن الكون بأسره يبلغ عمره نحو ٦ آلاف عام فحسب. ينبغي بالتأكيد أن يتضح جيدًا لأي شخصٍ حصل على قدر معقول من التعليم أن الكون عمره أقدم من ذلك بكثير. وهناك أشخاص آخرون من مثل هؤلاء يؤمنون بالكثير من المعتقدات الواضحةِ العبث من كافة الأشكال؛ لأن هذا هو ما يُلقِّنه دينهم لهم (تأمَّلِ المؤمنين بالساينتولوجيا الذين يرون أن حاكمًا من الفضاء أحضر ملايين البشر إلى الأرض في سفينة فضاء على شكل طائرات من طراز دوجلاس دي سي-١٠، وجمعهم حول براكين فجرها بقنابل هيدروجينية)!

فعندما يأتي الأمر إلى الدين، فإن إيمانَ كثير من الناس الأذكياء المتعلمين بشيء ليس دليلًا وجيهًا للغاية على أن ما يؤمنون به صادق تمامًا.

(١١) «قد لا أستطيع إثبات وجود الإله، لكن لا يستطيع أحد إثبات عدم وجوده»

عندما يواجه التوحيديون تحديًا عقلانيًّا لمعتقدهم، أحيانًا ما يكون ردُّهم: «لا أستطيع إثبات وجود الإله، لكن لا يمكن إثبات عدم وجوده؛ ومن ثَمَّ فإن التوحيد والإلحاد يمثل كلٌّ منهما «موقفًا إيمانيًّا»؛ ومن ثم فالاثنان منطقيان أو غير منطقيين على نحو متساوٍ.»

لكن ما المقصود تحديدًا بكلمة «إثبات» هنا؟ هل المقصود الإثبات بما لا يدع أي مجال «ممكن» للشك؟ الحقيقة أننا لا نستطيع إثبات عدم وجود الإله بما لا يدع مجالًا ممكنًا للشك. لكننا لا نستطيع بما لا يدع مجالًا ممكنًا للشك إثبات عدم وجود جنيات أو حيوان اليونيكورن الخرافي أو بابا نويل. ومن الممكن أيضًا وجود تلك الأشياء (فربما توجد مؤامرة كبرى محكَمة تقودها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية لإخفاء الحقيقة عنا). لكن بالطبع لا يصرُّ أحد على أن الاعتقاد بعدم وجود بابا نويل «موقف إيماني»، وبالتأكيد لا يستتبع ذلك أن الإيمان بوجود بابا نويل على القدر نفسه من العقلانية والمنطقية مثل الإيمان بعدم وجوده.

ربما سيكون الاقتراح أنه لا يمكن إثبات وجود الإله أو عدم وجوده بما لا يدع مجالًا «معقولًا» للشك! لكن هذا اقتراح مثير للجدل بشدة. وفي الواقع، كثير من التوحيديين يعتقدون أنه يمكن إثبات وجود الإله بما لا يدع مجالًا معقولًا للشك. والجميع تقريبًا على قناعة بأن الأدلة التي تحت أيدينا تثبت بما لا يدع مجالًا معقولًا للشك عدم وجود إله شرير. إلا أن أي شخص يقر بذلك يجب عليه أن يقر إذن على الأقل «بإمكانية» وجود أدلة كافية تثبت بما لا يدع مجالًا معقولًا للشك عدم وجود الإله الخيِّر أيضًا.

(١٢) «إذن ما تفسير الملحدين؟»

إنْ رَفَضْنا الإيمان بالإله، فكيف إذن نردُّ على سؤال من الأسئلة التي استهللنا بها الفصل الثاني، وهو: ما سبب وجود الكون؟ فماذا سيكون جوابنا؟ على المستوى الشخصي، لست متأكدًا تمامًا من كيفية الإجابة عن هذا السؤال. إنها معضلة عميقة ومحيرة لا أثق في أنني أملك حلًّا مُرضيًا لها.

يَعتبر بعض التوحيديين هذا اعترافًا مدهشًا: «إن لم تكن لديك إجابة على هذا السؤال، فأنت لا تعلم إن كانت إجابتنا غير صحيحة! فرأيك لا يعدو كونه موقفًا إيمانيًّا مثل رأينا.»

لكن اعتراف المرء أنه لا يملك إجابة على سؤال لا يعني أنه لا يمكن إنكار إجابات معينة على نحو معقول. هبْ أن شيرلوك هولمز يمرُّ بيوم عصيب؛ فقد وقعت جريمة قتل شنيعة، وثمة مئات من المشتبه بهم، وشيرلوك هولمز لا يستطيع اكتشاف من ارتكبها، إلا أنه في حين لا يستطيع هولمز تحديد هوية الجاني، فإنه متأكد أن أناسًا بعينهم أبرياء؛ فكبير الخدم، على سبيل المثال، لديه حجة تغيُّب قوية عن موقع الجريمة؛ ومن ثَمَّ فهولمز واثق على نحو مبرر أن كبير الخدم لم يرتكب الجريمة، رغم أنه لا يعرف من ارتكبها.

وبالطريقة نفسها، يمكن أن يقرَّ الملحدون بوجود غموض يكتنف سبب وجود الكون، وبأنهم بالغو الحيرة بشأن هذا الأمر، إلا أنهم في الوقت نفسه يؤكدون على وجود أدلة دامغة، أيًّا كانت الصورة التي عليها هذه الأدلة، على أن الكون لم يخلقه الإله الكلي القدرة، الكلي العلم الواسع الخير حسب المعتقد اللاهوتي المسيحي. ربما يكونون واثقين بذلك على نحوٍ مُبرَّرٍ قَدْرَ ثقتهم بأن الكون ليس مِن خلق إله كلي القدرة، مستطير الشر، وهو الأمر الذي كلنا تقريبًا واثقون بشأنه لأسباب وجيهة.

(١٣) هل يتبنَّى الملحدون معتقدات غير مبررة؟

ألا نُضطر «جميعًا» إلى تبنِّي «معتقدات غير مبررة»؛ أي دون أن يكون لدينا دليل عليها في مرحلةٍ ما؛ وفي ذلك الملحدون؟ فالملحدون، فوق كل شيء، يعتقدون أنهم يسكنون عالمًا ماديًّا حافلًا بالأشجار والمنازل والجبال والبشر، لكنهم لا يعتقدون ذلك إلا بسبب أن هذا هو العالم الذي تكشفه لهم حواسهم؛ فكيف إذن يمكنهم معرفة أن حواسهم مرشد يمكن الاعتماد عليه إلى الحقيقة؟ كيف يمكنهم أن يعرفوا أن خبراتهم نتاج عالم حقيقي، لا كمبيوتر فائق، على سبيل المثال، يولِّد واقعًا افتراضيًّا معقَّدًا، كما في فيلم «ذا ماتريكس»؟ في كلتا الحالتين، سيبدو كل شيء في النهاية بالطريقة نفسها تمامًا؛ من ثَمَّ، لا يستطيع الملحدون تبرير اعتقادهم بأن حواسهم يمكن الاعتماد عليها إلى حدٍّ كبير؛ فاعتقادهم بأن العالَم الذي يبدو أنهم يَخْبُرونه هو عالم حقيقي اعتقاد ينطوي على معتقد غير مبرر تمامًا.

والآن يبدو لكثير من التوحيديين أنهم يتواصلون مع الإله في تجارب دينية على نحو مباشر؛ ولذا، لِم لا يثقون في تلك التجارب الإلهية على النحو نفسه الذي يثق به الملحدون في تجاربهم الإدراكية؟ لكن يبدو أن كلًّا منهما لا يستطيع تبرير معتقداته بناءً على خبراته. إلا أننا عادةً لا نعتبر ثقة الملحد في موثوقية حواسه غير عقلانية، لكن لِم ينبغي إذن أن نعتبر ثقة التوحيدي في موثوقية تجاربه الدينية أقل عقلانية على أي نحو؟

علاوة على ذلك، قد يزعم التوحيدي، بسبب أنه على وجه التحديد يثق في تجاربه الدينية التي يتواصل فيها مع الإله، أنه غير مضطر إلى الوثوق أكثر في تجاربه الإدراكية الطبيعية. إذا كان الإله خيِّرًا بالصورة التي يراه بها الشخص الموحِّد له، فإنه لن يسمح لحواس الموحد له بأن تخدعه بانتظام؛ ومن ثَمَّ، فإن ثقته في حواسه لا تقتضي تبنِّي معتقد آخر غير مبرر.

وعليه قد يخلص الموحِّد، على الأقل بالنسبة إلى شخص مَرَّ بمثل هذه التجارب الدينية، إلى أن الإيمان بالإله وإيمان الملحد بالعالم الخارجي كليهما يمثلان موقفًا إيمانيًّا.

وهذه حجة بارعة، ربما تنطوي على «بعض» الحقيقة. قد تكون حقيقية من منطلق أن الإلحاد موقف إيماني؛ لأن «أي» معتقد يؤمن به المرء حيال الكيفية التي توجد بها الأشياء خارج عقله هو في نهاية المطاف موقف إيماني (رغم أن لديَّ شكوك حيال هذا الأمر؛ فعلى سبيل المثال، يذهب بعض الفلاسفة إلى أن الرأيَّ القائلَ بوجود الأجسام المادية والأشخاص الآخرين وما إلى ذلك خارجَ عقلي هو «أفضل تفسير متاح» لديَّ لمختلف الخبرات الإدراكية التي أمرُّ بها؛ ومن ثَمَّ فهو ليس موقفًا إيمانيًّا على الإطلاق، بل فرضية مؤكدة).

إلا أنه حتى إن كان أي اعتقاد حول الكيفية التي تبدو عليها الأشياء خارج عقل المرء يستلزم تبنِّي معتقد غير مبرر، فلا يستتبع ذلك أنه من العقلاني أن يثق التوحيديون في تجاربهم مع الإله كما يثق الملحدون في تجاربهم الإدراكية الطبيعية.

وإليكم مشكلةً جليةً تتمثَّل في الاقتراح القائل بأن الثقة في التجارب الدينية المفترضة لا تتضمن تبنِّي معتقد غير مبرر أكثر من الثقة فيما تقدمه لك حواسك الأخرى.

تكشف الملاحظة أن الناس يمرون بنطاق شديد الاختلاف من التجارب الدينية؛ فمن خلال تلك التجارب، يؤمن البعض بأن هناك آلهة كثيرة، في حين يؤمن البعض الآخر بأن هناك إلهًا واحدًا، ويرى آخرون أنه لا توجد آلهة على الإطلاق (مثل بعض البوذيين). فالبعض يؤمن بالإله حسب المعتقد اليهودي والمسيحي، وآخرون يؤمنون بالإله ثور، والبعض الآخر يؤمن بالإله زيوس، وغيرهم يؤمنون بالإله ميثرا … وما إلى ذلك. لقد آمن الناس في واقع الأمر بآلاف الآلهة وغيرها من الكيانات فوق الطبيعية (مثل القديسِين، والملائكة، والأسلاف)، وهي كيانات ذات نطاق كبير ومتنوع من الخصائص. ووجود أيٍّ من هذه الآلهة عادةً ما يستبعد وجود كثير من الآلهة الأخرى، وفي بعض الحالات كلها. ومن ثَمَّ، نحن نعلم أنه على الأقل «كثير» من هذه التجارب يجب أن تكون خيالية «في أغلبها» على الأقل. لكن أليس ذلك الشخص، الذي بوضعه كل هذا في الاعتبار ورغم ذلك يصرُّ على أن خبراته الدينية مؤشر للحقيقة يمكن التعويل عليه، شخصًا ساذجًا؛ بل أكثر سذاجةً بكثير من الشخص الذي يعتبر تجاربه الحسية الطبيعية يمكن التعويل عليها إلى حدٍّ كبير (لأن حواسَّنا الطبيعية على الأقل لا تقدِّم لنا دليلًا وجيهًا على أنها هي نفسها لا يمكن التعويل عليها على نحو كبير)؟

ثمة مشكلة أخرى في الاقتراح السابق؛ وهي أنه على الرغم من أن افتراضَ التوحيديين بأنهم يمرون بتجارب دينية قد يقودهم إلى الثقة فيما تنقله لهم حواسهم الأخرى، فإن حواسهم الأخرى سرعان ما تقدِّم لهم الكثير جدًّا من الأدلة على عدم وجود مثل هذا الكيان المعطاء (انظر إشكالية الشر التي عرضنا لها فيما سبق). وهكذا، على عكس الافتراض القائل بأن حواسنا الطبيعية يمكن التعويل عليها على نحو كبير، فإن الافتراضَ التوحيدي السابق ينتهي به الحال في الواقع داحضًا لنفسه.

(١٤) اللاهوت السلبي

لن يلتفتَ بعض التوحيديين للحجج التي ناقشتُها في هذا الفصل والفصل الذي سبقه، وربما يقولون شيئًا من قبيل:

الإله الذي لا تؤمن به، أنا لا أُومِنُ به كذلك، فأنت تتعامل مع مفهوم عتيق وساذج عن الإله، فلفظ «الإله» هو الاسم الذي أُطلقه على أي إجابة عن السؤال: «لِم توجد أشياء من الأساس؟» فهذا الأمر لا سبيل إلى معرفته ولا تحديده، وهو يتجاوز فهمنا. يمكننا أن نحدد الصورة التي ليس عليها الإله؛ فالإله ليس على سبيل المثال «شيئًا» ولا «شخصًا»، لكننا لا نستطيع أن نحدد الصورة التي هو عليها.

الرأي القائل بأننا لا نستطيع أن نحدِّدَ الصورةَ التي عليها الإله، بل الصورة التي ليس عليها فقط، أحيانًا ما يُطلق عليه «اللاهوت السلبي». وللتأليه السلبي مزاياه، ربما أَوْضحها أنك إن لم تحدد أبدًا الصورة التي عليها الإله، فلن يستطيع أحد إثبات خطأ رأيك أو مخالفتك.

للوهلة الأولى، التأليه السلبي يجعل الإلحادَ غير ممكن؛ فعلى سبيل المثال، إن قلت: «لا وجود لشيء يسمَّى الإله»، فسيوافقك التأليهي السلبي الرأي قائلًا: «نعم، لا وجود في الواقع لمثل هذا «الشيء»!»

عالِم اللاهوت دينيس تيرنر من أشد مناصري هذا الشكل من التأليه؛ ففي محاضرته الأولى بوصفه أستاذًا للَّاهوت بجامعة كامبريدج (التي حملت عنوان «كيف تكون ملحدًا؟»)، خاطب الملحدَ قائلًا:

لا داعيَ أن تفترض اختلافك معي إن قلت: «لا وجود لشيء يسمى الإله»؛ لأنني وصلت لهذه النتيجة قبلك بكثير. فما أقول سوى أن العالم خُلق من العدم، وهذه هي الطريقة التي يُفهم بها الإله. أَنْكِرْ هذا، وستكون ملحدًا جديرًا حقًّا بالاحترام. لكن لاحِظِ الخلافَ الذي بيننا: إنه حول مشروعية ضَرْبٍ بعينه شديد الغرابة من الفضول الفكري، حول الحق في طرح ضرب بعينه من الأسئلة.

لاحِظْ أن اقتراح تيرنر الأخير بأن الخلاف بين الملحد والتأليهي مثله هو إن كان الفضول العميق حيال أسئلة على غرار «لِم توجد أشياء بدلًا من العدم؟» فضولًا مشروعًا. ويصف تيرنر الملحد بأنه شخص لا يلتفت إلى مثل هذه الأسئلة، شخص لا يشعر بالرهبة أو الحيرة مطلقًا إزاء حقيقة وجود أشياء من الأساس.

لكن إن كان هذا هو ما عليه الملحد، فأنا لست ملحدًا، ولا أغلب الفلاسفة (الأمر الذي سيتفاجأ به كثير جدًّا منهم).

بالتأكيد أغلب أنصار اللاهوت السلبي لا يعبِّرون عن حيرتهم ودعمهم للتأمل الفلسفي فحسب؛ بل إنهم مع اعترافهم بجهلهم، غالبًا ما يكون في جعبتهم الكثير والكثير ليقولوه عن الإله، حتى إن كان مستغرقًا ومصطبغًا بشدةٍ بلُغة القياس والمجاز. على سبيل المثال، قال تيرنر في الاقتباس السابق إن العالَم «خُلق» من العدم، وليس أنه «ظهر» فحسب من العدم أو كان العدمُ سببًا فيه. ولكن لأن فكرة أن العالم مخلوق تقود المرء على نحو طبيعي إلى فكرة أن العالَم له خالق أو سبب، فيبدو كما لو أن تيرنر هنا يلمِّح إلى شيء «مقابل» على الأقل لكيان أو سبب يتجاوز الحدود المادية. وفي هذه الحالة، هو يلمِّح إلى شيء يمكن للملحدين أن يبدءوا في تحديه.

وبالطبع، فإن كثيرًا من التأليهيين أنصار اللاهوت السلبي يعتبرون هذا الكيان الغامض المتجاوز للحدود المادية جديرًا بالعبادة والشعور بالعرفان تجاهه؛ الأمر الذي يطرح السؤال التالي: كيف يتأتَّى لهم أن يعرفوا أن العبادة والشعور بالعرفان موقفان مناسبان لنا كي نكنَّهما تجاه هذا الكيان، إن كان حقًّا كيانًا لا سبيلَ إلى معرفته؟

في الواقع، إن كان تيرنر على حق والعالَم مخلوق، أفلا يقدِّم لنا مقدارُ المعاناة الرهيبُ الذي يحويه العالم أسبابًا قوية لإضافة صفتين إضافيتين إلى قائمة الصفات التي يقول أنصار اللاهوت السلبي إن إلههم ليس عليها: فإلههم ليس جديرًا بالعبادة ولا بالشعور بالعرفان له.

خاتمة

في الفصل السابق، تأمَّلنا كيف أن عددًا من أشهَر الحجج المؤيدة لوجود الإله هي حجج ضعيفة، كما رأينا أنه لا يتضح بأي شكل من الأشكال منطقية أن الكون مِن خَلْق كيان خارق أو ذكاء فائق من نوعٍ ما متجاوِز للحدود المادية.

وفي هذا الفصل، رأينا أنه ثمة تحدٍّ قويٌّ آخر أمام الإيمان بالإله حسب المعتقد التوحيدي التقليدي؛ ألا وهو: تحدي الإله الشرير. ولأنني لا أرى سبيلًا للرد على هذا التحدي، فإني أعتقد أنه لا وجود لمثل هذا الإله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤