الفصل الثامن

المناسبات الإنسانوية

ثمة خدمة مهمة يقدمها العديد من المنظمات الإنسانوية لمجتمعاتهم؛ وهي إقامة الاحتفالات والمراسم الإنسانوية، ولا سيما الجنازات، وكذلك حفلات تسمية الأطفال وحفلات الزفاف واحتفالات البلوغ. وتنشر الرابطة البريطانية الإنسانية كُتيبات إرشادية لمن يفكرون في إقامة احتفالات إنسانوية، وتوفر منظمي احتفالات مدربين من الإنسانويين. والجنازات الإنسانوية شهيرة على نحو خاص؛ ففي عام ٢٠٠٩، أقام مُنظِّمو الاحتفالات المعتمَدون من قِبل الرابطة البريطانية الإنسانية أكثر من ٧ آلاف جنازة من تلك الجنازات. وأكثر من ٧٠٪ من الزيجات التي تُعقد اليوم في إنجلترا وويلز زيجات لا دينية.

ما السبب في الشعبية المتزايدة للاحتفالات والمناسبات الإنسانوية؟

(١) أهمية الطقوس والاحتفالات

ذهب السير جيمس فريزر، عالم الميثولوجيا وصاحب كتاب «الغصن الذهبي»، إلى أن الشعوب البدائية تمارس طقوسًا لأنها تؤمن بنظرية ساذجة حول الكيفية التي يسير بها الكون. خذ على سبيل المثال الرجل القَبَليَّ الذي يغمد سكينًا في دمية تمثل عَدوَّه، لِم يفعل ذلك؟ يرى فريزر أن هذا يرجع إلى أن الرجل القَبَلي يفترض أنه قد يكون لهذا تأثير فعليٌّ على عَدوِّه؛ فيعتقد أن طعنه الدميةَ في إطار هذا الطقس الذي يمارسه، قد يؤدي بِعَدوِّه إلى الموت. ويمارس الناس مثل هذه الطقوس لأنهم يعتقدون فيما يسميه فريزر «قانون التشابه»؛ المبدأ القائل بأن «الشيء يسفر عن مثيله». طبقًا لفريزر، لأن كثيرًا من الثقافات البدائية تعتقد في هذا القانون فإنها تنثر الماء على الأرض لإنزال المطر، وتقوم بتمثيل عمليات صيد ناجحة قبل الخروج للصيد الفعلي. وبالطبع، نحن سكان العالم المعاصر لدينا فهم علمي ومتطور للكيفية التي يسير بها العالم؛ فنحن نعلم أن نثر الماء لن يُنزل المطر، وأن طعن الدمية لن يقتل العدو.

يرفض الفيلسوف لودفيج فتجنشتاين تفسيرَ فريزر للسبب وراء أن الشعوب المفترض أنها «بدائية» تمارس مثل هذه الطقوس، ويذهب فتجنشتاين إلى أن الرجل القَبَليَّ لا يطعن الدمية لأنه يعتقد في قانون التشابه؛ فيقول:

الشخص البدائي نفسه الذي نظن أنه يطعن دمية خصمه كي يقتله، يبني كوخه من الخشب ويشذب سهامه بمهارة.

بالتأكيد، لو كان الرجل القَبَلي يؤمن حقًّا بقانون التشابه، لاعتقد إذن أنه ببنائه نموذجًا صغيرًا لكوخ، يمكنه أن يتسبب في ظهور كوخ حقيقي من العدم. إلا أنه بالطبع لا يتوقع حدوث هذا؛ فالرجل القَبَلي لا يطعن الدمية لأنه يعتقد أنْ سيكون لذلك أثر حقيقي، بل يقوم بذلك لسبب آخر. لكن ما هو؟

وفقًا لفتجنشتاين، هذا النوع من ممارسة الطقوس ليس بدائيًّا، وإنما هو جزء من طبيعتنا البشرية. إنه شيء نمارسه جميعًا، إلى حدٍّ ما؛ فنحن، مثلًا، نقبِّل صُوَر مَن نُحب، أو نمزق بغضب صورَ مَن نَكْرَه، نلمس الخشب من أجل جلب الحظ، وحتى لاعبو كرة القدم من الملحدين ينظرون إلى السماء ويرفعون أيديهم لأعلى في رجاء عندما يهدرون ركلة جزاء؛ فلم هذا إذن؟ يقول فتجنشتاين:

حرق الدمية وتقبيل صورة مَن نُحب وغيرها أمور لا تستند كما هو واضح إلى اعتقاد أنه سيكون لهذا تأثير فعلي على صاحب الصورة أو الشخص الذي تمثله الدمية، بل يهدف إلى الشعور بالرضا على نحو ما وهذا يحققه، أو إنه لا يهدف إلى أي شيء؛ نحن نتصرف على هذا النحو ثم نشعر بالرضا.

السبب الذي يجعلنا نرشق السهام في صور مَن نَكْرَه ليس أننا نؤمن بمبدأ التشابه ونفترض أننا بقيامنا بذلك سيكون تأثير مقابل على الأشخاص المعنيين (إن نجحت هذه الطقوس، لكانت مارجريت ثاتشر الآن — التي انتشرت طباعة صورتها على لوحات السهام في ثمانينيات القرن العشرين — مغطاة بالعديد من الثقوب الدقيقة). في الواقع، إن هذه الطقوس تتيح لنا التعبير عما يموج في أعماقنا من مشاعر، وبإمكانها أن تعزينا وتلهمنا وتساعدنا كي نكون أكثر ثباتًا.

أعتقد أن فتجنشتاين محق على الأقل في جزء مما قاله؛ فمَن يمارسون هذه الطقوس لا حاجة بهم إلى افتراض أن مثل هذا النشاط سيكون له، أو ربما يكون له، نتيجة سحرية أو خارقة للطبيعة. (لكن على عكس فتجنشتاين، أعتقد أن بعضًا منهم يفترضون ذلك؛ فبالتأكيد بعض ممن يصلُّون يؤمنون بوجود كيان في الأعلى يستجيب لصلواتهم، كيان قد يتدخل بالنيابة عنهم على نحو خارق للطبيعة!) وهذه الطقوس ليست بالضرورة دينية؛ فالناس يمارسونها طيلة الوقت، داخل السياقات الدينية وكذلك خارجها.

وبالطبع، وفَّر الدين الإطار الرئيسي الذي أُقيمت فيه الطقوس المنظمة. وقد لعبت الطبيعة الرسمية لهذه المراسم والاحتفالات دورًا مهمًّا في لمِّ شمل أفراد الأسر المُهجرة — مثلًا — وتعزيز الإحساس بالقرابة والانتماء، والسماح للناس جميعًا بالتعبير عن عميق التزاماتهم ورغباتهم.

ومع أفول نجم الدين في كثير من أرجاء الغرب، ضاعت الفرصة للاشتراك في مثل هذه الطقوس المنظمة. لكن بالطبع الحاجات التي تشبعها مثل هذه الطقوس لا تزال موجودة، ونشعر بهذه الحاجات على نحو قوي، خصوصًا مع المراحل المهمة في الحياة؛ مثل الميلاد والزواج والوفاة. فلا عجب إذن أن اللادينيين يبحثون عن طقوس واحتفالات بديلة في مثل هذه الأوقات.

وفي إطار إقامة المنظمات الإنسانوية لمثل هذه الطقوس، هل تُنصِّب تلك المنظمات نفسها باعتبارها أديانًا بديلة؟ لا! فاشتراك أحدهم في مثل هذه الطقوس معناه عدم الاعتقاد بوجود الإله، أو كيانات أو قوًى سحرية، أو أي شكل من الواقع الخارق للطبيعة. فالمنظمات الإنسانوية لا تقوم إلا بإشباع الحاجات العاطفية العميقة، الحاجات التي تشكل جزءًا لا يتجزأ من طبيعتنا البشرية.

(٢) حفلات الزفاف الإنسانوية

في الوقت الراهن، ليس للزيجات الإنسانوية أي صفة قانونية في إنجلترا وويلز، على عكس بلدان مثل النرويج واسكتلندا. من ثَمَّ، ومن أجل عقد الزواج بصورة قانونية، فعلى الشريكين ترتيب زفاف مدني بأحد مكاتب السجل المدني. إلا أن أغلب الأزواج الذين يتزوجون على هذا النحو يعتبرون الحفل الإنسانوي هو الزفاف «الحقيقي»، وأن الزفاف بالسجل المدني مجرد إجراء قانوني.

توجد ميزة واضحة في إقامة حفلِ زفافٍ إنسانوي مستقلٍّ عن حفل الزفاف القانوني؛ ففي إنجلترا وويلز، لا تُقام حفلات الزفاف القانونية إلا في أماكن محددة، مثل مكتب السجل المدني والكنيسة والمسجد والمعبد. أما حفلات الزفاف الإنسانوية، فيمكن إقامتها في أي مكان مناسب. اقترنتُ بزوجتي على يد منظِّم احتفالات إنسانوي في الهواء الطلق على رابية قلعة متهدمة في نورثمبرلاند، وسط صحبة كبيرة من الأصدقاء والأسرة. بالطبع أنا لست محايدًا، لكني أرى أن زفافي كان مناسبة سعيدة ومحرِّكة للمشاعر على نحو بديع، على الأقل على القدر نفسه من الرونق والمدلول كأي مراسم زفاف ديني حضرته.

fig16
شكل ٨-١: حفل زفاف إنسانوي.

(٣) الجنازات الإنسانوية

تُقام الجنازات الإنسانوية دون أي إشارة إلى أن المتوفى قد «انتقل» إلى العالم الآخر، فهي تمثل نهاية حياة شخص، وليست عملية انتقالٍ ما إلى شكل آخر من الوجود. وتقدِّم الجنازات الإنسانوية للأصدقاء والأهل فرصةً للاحتفاء بحياة من الحيوات بأمانة وكرامة وحزن وفرح معًا، لكن دون أي وعود مشكوك فيها بالالتقاء مرة أخرى بعد النزول للقبر.

لعل أحد الأسباب وراء أن الجنازات الإنسانوية، خصوصًا، أصبحت أكثر شهرة، هو أنه في حين أن كثيرًا من غير المؤمنين، كي يحظوا بجنازة تقليدية، مستعدون للقبول بإقامة مراسم خاصة بمعتقدات لا يؤمنون بها حقيقةً، فثمة رغبة مفهومة بعدم إقامة جنازة بدافع المحافظة على معتقدات المتوفى ومَن يتركهم خلفه. وتعلِّق تانا وولين، رئيسة المراسم بالرابطة البريطانية الإنسانية قائلةً:

إلزام المتوفَّى بإلهٍ أو آلهة لا تُؤمِن أنتَ بوجودها أو توديعه إلى حياة أخرى تَعتقد أنها خيالية، حتى بصحبة الطقوس الدينية المهيبة، لا يبدو صحيحًا.

قد يكون من الأسباب الأخرى لتنامي شعبية الجنازات الإنسانوية أن الأشكال الدينية المختلفة من الجنازات عادة ما تركز على تعظيم الإله، وأحيانًا ما لا يُذكر المتوفى إلا نادرًا. أما الجنازات الإنسانوية، فهي في الأساس احتفاء بحياة الشخص الذي تُوفي، وهي بالمقارنة بالطقوس الدينية التقليدية توفر فرصة أكبر للأصدقاء والأقرباء للتعبير عن مشاعرهم والإعراب عن تقديرهم للإنسان الذي انتهت حياته.

قيل لي مؤخرًا، وأعتقد لأسباب وجيهة، إن ازدياد شعبية الجنازات الإنسانوية كان له تأثير غير مباشر على الكيفية التي تُباشَر بها الجنازات الدينية اليوم. ففي بريطانيا اليوم، تميل الجنازات الدينية إلى التركيز على الاحتفاء بحياة المتوفى أكثر مما اعتادت أن يكون عليه الحال، وكثيرًا ما تمنح الأصدقاء والأهل فرصةً أكبر بكثير للإعراب عن تقديرهم للشخص المتوفى والاحتفاء بحياته، بل وربما اختيار موسيقا وقراءات غير دينية إن استشعروا أنها ستلائم المناسبة أكثر. والحقيقة أن بعض الجنازات الدينية اليوم لا يمكن تفريقها عن نظيراتها من الجنازات الإنسانوية، اللهم إلا أن مَن يباشرها شخص يرتدي ملابس دينية.

لا يستحسن الجميع هذا الاتجاه. أعرب مؤخرًا أحد القساوسة بمقاطعة كِنت — القَس إد توملينسون — عن توجسه من عدد الجنازات التي يباشرها دون محتوًى مسيحي أو قدر بسيط منه، وهو يرى أن الجنازة المسيحية تؤدي وظيفتين:

أولًا: أن تتيح الفرصة لتوديع المتوفى، وثانيًا: أن نعهد بأحبائنا إلى الإله الحي راجين أن يغفر ذنوبهم وأن يهبهم حياة أبدية … وما أتحسر عليه كثيرًا هو أن النقطة الثانية تغيب عن المشهد، وتطغى عليه كليًّا النقطة الأولى.

وقد شكَّكَ القَس توملينسون في طبيعة الجنازات الإنسانوية، مشيرًا إلى أن أفضل ما يمكنها تقديمه هو:

قصيدة تُلقيها الجدة مع رسالة عذبة الكلمات من أحد نجوم البوب قبل أن يوضع المتوفى بالمحرقة دون أي أمل معقود على نشوره.

مما لا شك فيه أن الجنازات الإنسانوية «يمكن» أن تكون سطحية وغير مُرضية، إلا أن الأمر نفسه ينطبق على الجنازات الدينية. فبالنسبة إلى اللَّادينيين، يمكن أن تبدو الطقوس الدينية عديمة الفائدة وغير مرضية إن كان هدفها الرئيسي تعظيم الإله، ولا يُقال سوى القليل، إن قيل أي شيء من الأساس، حول شكل وطبيعة الحياة التي عاشها الشخص المتوفى. وغالبًا ما تكون الجنازات الإنسانوية مبهجة ومحركة للمشاعر، بل يمكنني القول إنها تكون مناسبات روحية، رغم غياب الوعود المشكوك فيها بالنعيم في السماء عندما نموت. وأرى أنها تقدم نسخة أكثر نضجًا من القيم الروحية.

(٤) ماذا تكشف المناسبات الإنسانوية عن الإنسانوية؟

النحو الذي تطورت به المناسبات والاحتفالات الإنسانوية ويجري مباشرتها به يكشف قدرًا كبيرًا مما يعتبره الإنسانويون الأَوْلى بالأهمية؛ فجنازات الإنسانويين — بوجود الإنسان في محور تركيزها وطابعها المخصص — هي احتفاء بهذه الحياة، لا حياة مستقبلية خرافية. وينصبُّ تركيز حفلات زفاف الإنسانويين على التعبير عن حب الشريكين أحدهما الآخر والتزام كلٍّ منهما تجاه الآخر، وليس إبرامهما عقدًا من نوعٍ ما تفرضه عليهما الدولة أو السماء. والاحتفالات الإنسانوية لإطلاق الأسماء على الأطفال لا تركِّز على إلزام الطفل بإلهٍ أو دين معين لبقية حياته الطبيعية وما بعدها، بل على السماح للأبوين وغيرهما من الأصدقاء المقربين والأهل بالتعبير عن التزامهما بمساعدة الإنسان الجديد القادم للحياة على النمو على نحو طبيعي؛ الأمر الذي يتضمن عند الإنسانويين مساعدته على اكتساب النضج والمهارات الضرورية لتحمل مسئولية تكوين معتقداته الخاصة وإصدار أحكامه الأخلاقية بنفسه.

وأحد أسباب ذيوع شهرة الاحتفالات الإنسانوية هو ازدياد إدراك الناس أن الرؤية الإنسانوية لما هو أولى بالأهمية حقًّا في الحياة هي نفس رؤيتهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤