الفصل العاشر

كان المعتمد ووزيره مفتونين بالشعر، فأصبح قصر إشبيلية ملتقى الشعراء الفحول، ولم يكن للمتشاعرين مجال في هذا الميدان، ولا حَظَّ لهم في رفد الخليفة أو مكافأته، فقد كان الخليفة نقَّادًا بارع الملاحظة دقيق الحس، خصب الشاعرية، وكان يتذوق الأسلوب تذوق الشاعر الصادق الشعور، وكان رأيه فيصلًا في الحكم على الشعراء وتعرف موقع كل لفظ في قصيدهم، فإذا ظفر الخليفة بشاعر موهوب أقبل عليه وأدناه من مجلسه وأغرقه بكرمه إغراقًا.

ولقد سمع — ذات يوم — هذين البيتين:

قلَّ الوفاء فما تلفيه في أحد
ولا يمر لإنسان على بال
كأنه عندهم عنقاء مغربة
أو مثل ما حدثوا عن ألف مثقال

فسأل المعتمد: «لمن هذان البيتان؟»

فأجابوه: «هما لعبد الجليل بن وهبون.»١

فصاح المعتمد: كيف أن شاعرًا من الشعراء المبرزين ممن يقوم لنا بواجب الولاء والخدمة، يعد أن منحة ألف مثقال حديث خرافة، وبادر في الحال بإعطاء عبد الجليل مئة مثقال. وحدث مرة أخرى أن أحد الظرفاء من الصقالبة، وفد على قصره بعد أن غلب على البلاد «روچيه» النورمندي وصادف أن جيء لديه بقطع ذهبية من مسكوكات دار الضرب، فنفح منها الصقلبي بدرتين، ويظهر أن هذه المنحة على ضخامتها لم تكفه، فحفزته الرغبة وحركه الطمع أن يمد عينيه إلى تمثال نادر مصنوع من الرخام على صورة جمل صغير مطعوم بالجواهر الثمينة، وأراد ذلك الصقلي أن ينفذ رغبته الملحة فقال: «إنك أيها الملك، قد نفحتني بهذه المنحة العظيمة التي أعجز عن شكرها، ولا أقوى على حملها، وأجدني لعظمها في حاجة إلى جمل يحملها إلى داري.»

فقال له المعتمد وقد أعجبته هذه المحاولة الطريفة: «دونك الجمل، وشأنك به وما تريد.»

ومن المحقق الذي لا يرتاب المرء فيه أن المعتمد يهتز أريحية، ويفيض إعجابًا بكل حاضر البديهة ذكي الفؤاد شاعرًا كان أو غيره، ولو كان لصًّا من قطاع الطريق، وممَّا يقوم دليلًا على صحة ذلك حكاية البازي السنجابي، والبازي السنجابي — وقد حدثوني عنه بهذا اللقب — ما برح مدة طويلة أكبر لص في عصره، وكان بلاء عظيمًا قد أوقع الرعب والرهبة في سكان البوادي إلى أن أوقعه القدر المتاح في قبضة العدالة، فقضى عليه المعتمد أن يصلب على مرأى من الفلاحين في الطريق الأعظم، ليشهدوا ما حلَّ به من خزي ونكال، ولما كان اليوم الذي حكم عليه فيه بالصلب قائظًا، والحرارة خانقة، فقد قل مرور الناس بالطريق، وكان قد وقف بأسفل الخشبة التي صلب عليها اللص زوجته وبناته يبكينه بدموع حارة ويقلن صارخات: «يا أبتاه على من تتركنا إذا نفذ فيك سهم القضاء، إننا بلا شك سنموت بعدك جوعًا.» وكان البازي السنجابي — على وحشيته وفظاعته — غاية في الشفقة والحنو على أسرته، فتوزعت نفسه فكرة مصيرها إلى الشقاء، وصيرورتها إلى الفاقة والمتربة.

ومر عليه في هذه اللحظة تاجر غريب الدار يحمل على بغل عدلين من القماش وبعض بضائع أخرى جاء ليبيعها في القرية القريبة فاستوقفه، وقال له: «إني أيها السيد، كما ترى في موقف من أسوأ المواقف، وفي حالة يرثى لها، وفي وسعك أن تقوم لي بخدمة جليلة تعود عليك قبل غيرك بأجدى الفوائد، وأجزل العوائد.»

فسأله التاجر: «وما عسى أن تكون تلك الخدمة التي أقوم لك بها؟»

– «هل تعرف ذلك الجب البعيد هناك؟»

– «نعم أعرفه.»

– «حسن جدًّا، فاعلم أني في اللحظة التي استولت عليَّ فيها الغفلة وتركت نفسي أقع في قبضة أولئك الشرطة الملعونين، ألقيت مئة مثقال من الذهب في ذلك الجب، فإذا سمحت نفسك ورضيت أن تنطلق، وتبذل كل ما في وسعك في استخراجها، فإني أهبك نصفها متى ظفرت بها، وها هي زوجتي وبناتي يقمن على حراسة بغلك حتى تفرغ من هذا العمل الذي فيه إنقاذ أسرة من مخالب الجوع.»

واستهوت التاجر شهوة الحصول على الربح، فمضى سريعًا، وربط عند حافة الجب حبلًا، ودلى نفسه فيه حتى وصل إلى قاعه، ولما اختفى في البئر أسرع البازي السنجابي وقال لزوجته: «أسرعي واقطعي الحبل، وخذي البغل وخفي مسرعة أنت والبنات، واهربن جميعًا واختفين عن الأنظار.»

وتمَّ كل هذا في أقل من لمح البصر، وطلع التاجر من البئر بخفي حنين فوجد بضاعته قد استقلت المرأة وبناتها معها، وأدرك أنه لا يستطيع اللحاق بهن، فجعل يصيح كالمأخوذ، ولكون صيحاته ذهبت هباء في ذلك الجب العميق، وفي بسيط من الأرض لا أنيس به ولا مغيث، فقد مضى وقت طويل دون أن يجد أحدًا يتقدم لإنقاذه، وبعد لأي خرج من سجنه، وتلاحق الناس لإنقاذه من ذلك القرار البعيد الغور في طبقات الجب السفلية وهم يسألونه في دهشة عن سبب تدليه في ذلك الجب، وهو يشكو سوء الطالع، ويندب حظه المشئوم، ويرسل في إثر بضاعته الضائعة دموعه الغزيرة الحارة، ويصب جام غضبه ولعناته المتتابعة على ذلك اللص المصلوب البالغ النهاية في الخبث والدناءة والمكر والخديعة، وسرعان ما ذاع الخبر وتناقله الناس في المدينة حتى بلغ أسماع المعتمد نفسه الذي أصدر أمره في الحال بإنزال البازي السنجابي من فوق خشبة الصلب، والإتيان به في حضرته.

ولما مثل بين يدي المعتمد صوب فيه بنظره وصعد ثم قال: «من المحقق الذي لا ريب فيه أنك أكبر محتال، وأدهى ماكر خبيث عرف حتى الآن، إذ إن ترقب الموت الذي لا محالة واقع بك، لم يصدك على الالتجاء في هذا الوقت الرهيب إلى المكر السيئ، والإيقاع بذلك التاجر المسكين في حبالتك.»

فأجابه اللص: «عفوًا يا مولاي الملك! إنك لو علمت أية لذة تلك التي يشعر بها الإنسان عندما يكون لصًّا، لوضعت هذا التاج عن رأسك، وألقيت معطفك هذا الملكي عن منكبيك، ولما كنت إلا لصًّا مثلي.»

فأغرب الملك في الضحك، وقال: «ألا لعنة الله عليك من لص داهٍ خبيث، ولكن أَصِخْ إليَّ بسمعك لأتحدث إليك مليًّا، وسأكون في حديثي معك جادًّا لا هازلًا، هب أني وهبتك الحياة، ورددت إليك حريتك السليبة، وهيأت لزوجك وبناتك أسباب العيش من طريق شريف، وأجريت عليك راتبًا يكون لك ولعيالك سدادًا من عوز أكنت تصلح من نفسك، وتثوب إلى عقلك ورشدك، وتعدل عن هذه المهنة الخطرة الحقيرة الممقوتة؟»

فقال: «إن الإنسان — في سبيل إنقاذ حياته — يفعل كل ما في استطاعته فعله، وإذا كان إنقاذ حياتي — وهي أثمن شيء عندي — متوقفًا على استقامتي وصلاحي وابتعادي عن الشرور والمفاسد، فإني أعدك أيها الملك، وعدًا صادقًا أن أكون عند ظنك بي، فهل يسرك مني هذا؟»

وقد بر البازي السنجابي بوعده حين عينه المعتمد رئيس شرطته، وأوقع الرهبة والرعب في نفوس أولئك اللصوص الذين كانوا زملاءه بالأمس، وبدل الخوف الذي كان ينتاب الفلاحين من قبلُ أمنًا.

ثم مضى المعتمد في حياة الترف والمرح والسرور، لا يصرف في مهام الدولة إلا القليل من وقته، وقد كان يقول — في بعض شعره — ما معناه: «إن الإنسان إذا غالط نفسه، وأراد أن يكون عاقلًا فلن يكونه.»

وكان السماط الممدود، والولائم الكثيرة تستنفدان كثيرًا من وقته وماله، وكان يصرف ما بقي من وقته داخل قصره مع القيان، والغيد الحسان، وهذا ما كان يجعله دائمًا يظهر بمظهر أهل الظرف والخلاعة والعشق، وليس معنى هذا أنه زهد في حب اعتماد فقد كان على العكس من ذلك مفتونًا بها مدلهًا بحبها.

ولكن تبعًا للقانون الغريب الذي يخضع له الحب في البيئات الإسلامية يستطيع الرجل — إذا أراد ألَّا يُرمى بالخيانة عند حظيته — أن يغضي لهذا الغرض عن بعض ميوله الغرامية، وأن يتصل بعشيقاته الفينة بعد الفينة، دون أن تجد ما تقوله أو توجه إليه فيه لومًا، وهي مع هذا موقنة بأنها وحدها الحظية عند زوجها المهيمنة على قلبه.

وقد كانت زوجه الرومية المحبوبة الحسناء فاتنة بديعة، وكان إذا شرب معها وجد للنبيذ رائحة ونكهة لذيذة لم تجرِ العادة بها مع غيرها.

وكانت «لونان» تجلس إليه إذا فرغ من مجالس لهوه، وتفرَّغ لمطالعة أشعار المتقدمين أو أراد أن يقرض هو شعرًا، فإذا أرسلت الشمس أشعتها من النافذة، قامت لتحول بينه وبين الشمس لعلمها — كما يقول الملك — «إنه لا يكسف الشمس من بين الكواكب غير القمر.»

ولما كانت هذه اللؤلؤة الثمينة، والحسناء الفريدة، صعبة المراس، شرسة الطبع، فقد كانت كثيرًا ما تغضب ويتحمل المعتمد كل عناء في تسكين غضبها بتحقيق ما يوافق هواها، ويتفق مع مرامها، ومن ذلك أنها غضبت عليه مرة، فكتب يعتذر إليها، فردت عليه ردًّا حسنًا ولكنها لم تضع اسمها في صدر الكتاب، كما يقضي به رسم الكتابة، فأسف المعتمد لذلك، وحكم بأنها لم تصفح بعد، وإلا لكانت بدأت الكتاب باسمها، طبقًا لما هو معروف في العادة، وقال: إنها تعرف أنني أعبد اسمها، وأتعشق كل حرف من حروفه، فما بالها لم تصدر به جوابها إليَّ؟ إنها إذن لا تزال غاضبة عليَّ، وقد قدرت في نفسها أنه سيقبل الاسم بمجرد رؤيته على الطرس، فاستحسنت ألا يراه؛ لأن في تقبيله شفاءه من سقم أَلَمَّ به، وما أظرف أن تكون هذه الشيطانة الساحرة والغادة المحبوبة هي سبب الداء والدواء معًا، فقد توجه الملك إلى مولاه بالدعاء، يرجوه أن يتفضل عليه بنعمة يعدها من أسبغ النعم، وهي أن يطيل سقمه، حتى يرى دائمًا عند سريره هذه الظبية الموردة الخدين، الأرجوانية الشفتين.

(وبعد) فقد يكون مخدوعًا من يخيل إليه أن المعتمد قد أغمض عينيه عن إتمام أعمال أبيه وجده؛ لأنه وإن لم يكن عنده من الأطماع ما عندهما، فقد عمل هو على الأقل ما حاولا عبثًا أن يعملاه ففشلا، فمن ذلك أنه في السنة الثانية من حكمه، ضم قرطبة إلى مملكته، ولا ننكر أن والده هو الذي مهد له الطريق، وأن الظروف قد ساعدته كثيرًا، ففي سنة (١٠٦٤) أي فيما قبل ذلك بست سنوات تنازل رئيس الجمهورية أبو الوليد بن جهور — لشيخوخته — عن الرياسة لولديه عبد الرحمن وعبد الملك وعهد لولده الأكبر بكل ما يتعلق بالشئون المالية والإدارية، وعهد إلى ولده الثاني — الذي كان يعده ضعيفًا — بالقيادة العامة، وقد نهج كل شيء منهجًا حسنًا طوال وزارة الوزير الماهر ابن السقا، فقد كان هذا الوزير رجل المملكة لهذا العهد، وكانت شخصيته تبعث الرهبة والاحترام في نفوس جميع أعداء الجمهورية الألداء، سواء أكانوا ظاهرين أم كانوا يعملون في الخفاء، وفي مقدمتهم المعتمد نفسه، الذي أدرك أنه لكي يصل إلى تحقيق غرضه يجب أولًا أن يبدأ بإسقاط هذا الوزير.

•••

فسعى بينه وبين عبد الملك بن جهور بأن جعله موضع ريبة يحول حوله كثير من التهم والشكوك، وقد نجح في هذه السعاية التي أفضت في النهاية بالقضاء على ابن السقا بالموت، وقد كان لهذا الحادث أسوأ الأثر، وأوخم العواقب على الجمهورية، حيث انفرط عقدها بخروج الموالين لابن السقا، من القواد والجند من الجيش، وأصبح عبد الملك ممقوتًا عند الرعية، بغيضًا إليهم لفظاعته وقسوته وتهاونه، وبقي يحتفظ بما بقي من نظم الجمهورية قائمًا على قديمه، إلى أن تزعزعت أركان سلطته فجاء المأمون صاحب طليطلة وحاصر قرطبة في خريف سنة (١٠٧٠).

ولمَّا لم يجد عبد الملك ما يدافع به عن نفسه لأنه أصبح بلا جيش، ولم يبقَ عنده سوى مئتي فارس في حالة سيئة للغاية، عمد إلى المعتمد يطلب نجدته، فحقق رغبته، وأرسل إليه نجدات كبيرة، اضطر معها جيش طليطلة للانسحاب، ولم يكن انسحاب عدوه فوزًا، بل بالعكس كان خذلانًا، فان رؤساء جند إشبيلية أخذوا يعملون في الخفاء على تنفيذ الخطط السرية التي أفضى المعتمد بها إليهم، وتم الاتفاق فيما بينهم وبين القرطبيين على خلع عبد الملك والاعتراف بسيادة ملك إشبيلية، واستمرت المؤامرة في طي الكتمان، وعبد الملك لا يدري ما بيَّته الجند له إلى أن حدث في صبيحة اليوم السابع من ارتداد المأمون بعسكره، وإعلان عسكر إشبيلية أنهم عائدون إلى بلادهم، أن تصاعدت صيحات الجنود وهم على أهبة الرحيل منذرة بالعصيان، وطرقت أذنيه لأول وهلة بوادر الشر، ونظر فإذا الجند الذين جاءوا لنجدته، قد أحاطوا هم وعامة الشعب بقصره، وفي أسرع من ارتداد الطرف قبضوا عليه وعلى أبيه، وسائر أفراد أسرته، ونادوا بالمعتمد ملكًا على قرطبة وأخذ آل جهور أسرى، واعتقلوا في جزيرة «شلطيش» ولم يبقَ أبو الوليد الشيخ على قيد الحياة بعد هذه النكبة سوى أربعين يومًا.

وقد تحدَّث الملك الشاعر عن هذا الفتح بحديث ملك شأي الملوك الصيد، وخطب قرطبة الحسناء بالبيض والأسل فلم تمتنع عليه كما امتنعت على غيره، وذلك حيث يقول:

من للملوك بشأوِ الأصيد البطل
هيهات جاءتكمُ مهدية الدول
خطبتُ قرطبة الحسناء — إذا منعت
من جاء يخطبها — بالبيض والأسل
وكم غدت عاطلًا حتى عرضت لها
فأصبحت في سريِّ الحلي والحلل
عرس الملوك لنا في قصرها عرس
كل الملوك به في مأتم الوجل
فراقبوا عن قريب لا أبا لكم
هجوم ليث بدرع البأس مشتمل
ولم ير المأمون أن ما وقع يعد هزيمة، وذلك لأنه كان مصممًا على الاستيلاء على قرطبة في فرصة أخرى مهما كلفه ذلك من ثمن.٢

•••

ولم يمض قليل من الزمن حتى جاء برفقة حليفه الأذفونش السادس فخرب بسيط المدينة وما حولها، ولكنَّ عبادًا حاكم المدينة الشاب أحد أبناء المعتمد من حظيته الرومية الحسناء كان غافلًا عمَّا يدبر من الدسائس للاستيلاء عليها، فقد أخذ ابن عكاشة على عهدته أن يضمن للمأمون أخذ المدينة التي ينشدها، وابن عكاشة هذا رجل فظيع فاتك سفاح، وكان قبل ذلك من اللصوص المتحرمين بالوعر والجبل، وهو مع هذا فارس ذكي حديد القلب، نابه الشأن وفوق ذلك فإنه قد خبر قرطبة وعرفها معرفة جيدة؛ لأنه لعب فيها دورًا هامًّا فيما سبق.

فلما عين حاكمًا لبعض الحصون، بدأ يخلق الدسائس وينشئ المؤامرات لقرطبة، ولم يكن من الهين السهل عليه أن يغامر في مخاطرة جريئة مثل هذه، لولا أن الكثير من المواطنين كانوا مستائين من سير الأعمال، ومن الخطط الرديئة العوجاء الملتوية.

وفي الحق أن الأمير عبادًا كانت تبدو عليه مخايل البشر، ويحدوه الأمل، ولكنه في هذه السن الصغيرة لم يكن في استطاعته أن يتولى بنفسه أزِمَّةَ الحكم، ويضطلع وحده بأعباء المملكة، لذلك كانت السلطة في يد رئيس الحامية محمد بن مارتن الذي يظهر أنه من أصل مسيحي، كان هذا الرجل جنديًّا باسلًا، وفاتكًا دمويًّا قاسيًا، مما حمل القرطبيين أن يمقتوه ويبغضوه، وقد حامت الشكوك والريب حول الكثير من سكان قرطبة في أن تكون لهم علاقة بابن عكاشة، واتصال بمحاولاته الخفية.

على أن هذا الأخير لم ينجح نجاحًا تامًّا في إلقاء الستار على أعماله وتدبيراته الخفية، فقد لاحَظَ أحد حراس المدينة أن هذا الرجل الذي له سابقة في اللصوصية، كان كثيرًا ما يتردد على أبواب المدينة ليلًا ويحادث بعض جنود الحامية؛ ممَّا حمل على الريبة، وجعل الشبهة القوية تحوم حوله، وقد سارع هذا الحرسي وأبلغ عبادًا الحادث، ولكن الأمير لم يُعْنَ كثيرًا بالأمر ولم يأبه للحادث، وأحال المبلغ على رئيس الحامية محمد بن مارتن وهذا أحاله على حرسي صغير دون درجته، والنتيجة أنهم تواكلوا، فكان كل واحد يلقي المسألة على عاتق الآخر لاتخاذ الحيطة والتدبير، ولم يقم أحد بواجبه، ولم يُتخذ في المسألة تدبير حازم.

•••

ونشط ابن عكاشة للتجسس في كل ليلة، ولم يكف عن التربص وتحين الفرص إلى أن أمكنته الفرصة، في يناير سنة (١٠٧٥) من دخول المدينة هو ورجاله في ليلة شاتية حالكة الظلام، شديدة الرياح والعواصف، وبادر قصر عباد وقد غاب عنه الحراس، وكان على وشك أن يقتحم عليه باب القصر، لولا أن الحرسي الموكل بالباب أسرع إلى إيقاظ الأمير فنهض ونفر شرذمة قليلة العدد من السودان والعبيد، وخرج بنفسه على صغر سنة لملاقاة عدوه والوقوف في وجهه، ودافع دفاع الأبطال ببسالة وبأس حتى أكره المهاجمين أن يجلوا عن دهليز القصر، وأخذ يطاردهم، وهنا زلت به قدمه فابتدره أحد رجال العصابة، وانقض عليه فقتله، وبقيت جثته في الطريق العام عارية بالعراء، لأنه حين أوقظ من نومه بغتة، لم يجد من الوقت ما يكفي لارتداء ثيابه، وانفتل ابن عكاشة برجاله يقصد دار رئيس الحامية، ولم يدر في خلد هذا الرجل، ولا كان عنده كبير ظن في أنه يُعتدى عليه ويهاجم في مثل تلك اللحظة التي اقتحموا عليه فيها داره وهو بين شدو القيان، ورقص الغيد الحسان، وكان دون عباد ذلك الأمير الحدث شجاعة، فلم يكد يسمع صلصلة السيوف في فناء داره، حتى سارع إلى مخبأ اختبأ فيه، ولكنه سرعان ما عرف حين كشف فقبض عليه، وقتل في المساء.

وفي غلس الصبح قبل إسفار الفجر بينما كان ابن عكاشة يطوف بأنحاء المدينة على دور العظماء والنبلاء يدعوهم للانضمام إليه كان بعض الأئمة ذاهبًا لتأدية الصلاة في المسجد، فرأى جثة عباد وقد فارق الحياة ملقاة على الأرض بين الطين والوحل، فرحم مصرعه، ونزع ثيابه ورماها على جسمه العاري، ولم يكد الشيخ يمضي لسبيله حتى جاء ابن عكاشة بين صيحات الفرح والسرور على نحو ما يحدث في المدن الكبرى في إبان الثورات، وما وقف على عباد وهو بهذه الحالة حتى أمر بفصل رأسه من عنقه وأن ترفع على رمح، ويطاف بها في أنحاء المدينة، ولم ير ذلك جنود الحامية حتى ألقوا السلاح، وركنوا إلى الفرار، وجدوا في الهرب.

ثم جمع ابن عكاشة أهل قرطبة بالمسجد الجامع، وبدأ يأخذ البيعة للمأمون، وكان كثير منهم لا يزال متعلقًا بالمعتمد يكن له الإخلاص والوفاء، ولما كان الخوف عظيمًا وشاملًا لم يستطع أحد أن يتخلف عن البيعة.٣

ومرت أيام ثم جاء المأمون بنفسه ودخل قرطبة وهو يتظاهر بمنتهى الإعجاب والتقدير لابن عكاشة ويبالغ في إكرامه والحفاوة به، والثناء على حسن بلائه، حتى ليظن من رآه أنه قد أولاه ثقة لا حد لها، وهو في الواقع يمقته كل المقت، ويرى فيه اللص القديم، والقاسي المجرم الأثيم، والفاتك الذي لا يرضيه من خصمه غير سفك دمه، وأن يسقيه كأس الحمام بيده، كما فعل في ذبح عباد الحدث؛ لهذا كله أخذ المأمون يبحث عن سبب يتعلل به، أو حيلة يتذرع بها للقضاء على خصمه الخطر خلسة من غير أن يحدث في المملكة ضجة، ولكنه لم يجعل ذلك حديثًا مكتتمًا في نفسه، بل كان كثيرًا ما يكاشف بهذا الرأي خواصه وجلساءه، حتى إن ابن عكاشة انصرف من مجلسه ذات يوم، وجعل هذا يصعد الزفرات، ويتبعه بنظرات حادة من عينين يتطاير منهما الشرر، ويجمجم بكلمات أعقبت شؤمًا ونحسًا، وأراد بعض الموالين لابن عكاشة أن يدافع عنه، ويصفه بحسن الفعال، وجميل الخلال، فقال المأمون: دع عنك هذه الكلمات الجوفاء، فإن رجلًا لا يحتفظ بالجميل، ولا يرى حياة الملوك في نظره إلا رخيصة، غير خليق أن ينال ثقتهم، أو يبقى في خدمتهم.

ولم يمضِ على دخول المأمون قرطبة ستة شهور حتى قُتِلَ مسمومًا أي بعد انقضاء شهر يونيو سنة (١٠٧٥) وقد اتهم بقتله أحد المترددين على مجلسه، ولكن هل يمكن ألَّا تكون لابن عكاشة يد في هذه الجريمة؟ هذا ما لا يكاد يصدقه العقل.

ولنترك الآن حديث الاستيلاء على قرطبة وما أعقبه من الحوادث، وننتقل إلى قصر إشبيلية، ولنتصور مبلغ ما وصلت إليه حال المعتمد حين نمى إليه ذلك الخبر المشئوم المزدوج: سقوط قرطبة، وموت ابنه عباد المرزوق له من سريته الرومية الحسناء التي أولع بحبها ولعًا شديدًا، ومع أن نزعة الانتقام، والأخذ بثأر ابنه المقتول كانت تجيش بصدره، فقد كان إلى جانب هذا الشعور شعور آخر، وهو تقدير يحسه في أعماق نفسه لذلك الشيخ الفقيه الذي مر على عباد مقتولًا فنزع بدافع العاطفة النبيلة رداءه، وألقاه على جثمانه العاري، وهو يأسف إذ لم تُتَحْ له فرصة مكافأة ذلك الشيخ النبيل على حسن صنيعه، وكثيرًا ما كانت تتحرك في نفسه هذه الذكرى الأليمة فيقول:

ولم أدر من ألقى عليه رداءه
سوى أنه قد سل عن ماجدٍ محض

ومضت ثلاث سنين ضاع فيها ذلك المجهود العظيم الذي بذله ليسترد قرطبة وليثأر لولده المقتول من ابن عكاشة إلى أن قيض الله له الاستيلاء عليها عنوة في يوم الثلاثاء ٤ سبتمبر سنة (١٠٧٨)، وفي الوقت الذي دخل فيه المعتمد من باب قرطبة كان ابن عكاشة قد بارحها من الباب الآخر، ولم يتركه المعتمد يفلت من يده بل بعث في الحال خيالة في أثره تمكنوا من اللحاق به، ولما أدركه الطلب، وأيقن أنه لا مطمع له في الصفح من ملك موتور بقتل ابنه، أراد على الأقل ألَّا يبيع حياته رخيصة، فكَرَّ على أعدائه وقاتلهم قتال المستميت، إلى أن ذهب ضحية وفرة العدد، وأمر المعتمد بجثته فصلبت على خشبة وإلى جانبها كلب.

وأعقب غزو وفتح قرطبة فتح كورة طليطلة وأراضيها الممتدة بين الوادي الكبير ووادي آنه، وهذا في الحقيقة يعد نجاحًا كبيرًا باهرًا، ونحن لو حاولنا أن نقارن بين المعتمد وغيره لرأيناه أقوى ملوك الطوائف، وأكثرهم نفوذًا وامتداد سلطان، ولكنه مع هذا لم يكن أكثر منهم استقلالًا، إذ كان هو عليه أيضًا أن يؤدي الإتاوة، فأما أولًا فكان يدفعها «لغرسية» ثالث أولاد «فردينند»، وأما ثانيًا فكان يدفعها لملك غالسيا، وأما ثالثًا فكان يدفعها للأذفونش السادس، من حين أن استولى على مملكة الشقيقين «سانكو» و«غرسية» وكان الأذفونش ملكًا مزعجًا متعبًا في طلب الإتاوة، إذ هو لا يقنع بما يتقاضاه من إتاوة سنوية فحسب، بل كان في الفينة بعد الفينة يفرض ضرائب على الممالك التي يدفع لها أبناء ملوك العرب جزية، فإن لم يؤدوها، وإلا هددهم بالاستيلاء على بلادهم.

وحدث مرة أنه جمع جيشًا قويًّا، وتقدم به لغزو بلاد إشبيلية فاستولى على المسلمين الرعب، وشملهم حزن يفوق الوصف، وذلك لما كانوا عليه من الضعف البالغ الغاية، بحيث كانوا لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، وكان كبير الوزراء ابن عمار هو رجل الدهاء الوحيد الذي لا يتسرب اليأس إلى قلبه، وكان يعلم أن جمع جيش إشبيلي لملاقاة الجيوش المسيحية، وردهم عن البلاد، وهم باطل، وحلم كاذب.

ولكنه رأى أن الأذفونش يعرفه لأنه كثيرًا ما كان يتردد على خيمته، وأن من السهل عليه لما عرف عنه من الطمع والميول الخاصة أن يتغلب عليه بقوة الحيلة والدهاء، وعلى هذه الناحية عوَّل ابن عمار ولم يشأ أن يضيع الوقت في التسلح، وأخذ الأهبة للحرب والقتال، وأخذ يتردد على معسكر العدو، ومعه رقعة شطرنج غاية في الإتقان والفخامة لا يوجد لها نظير عند الملوك، وكانت صورها من الآبنوس والعود والصندل، وأرضيتها غاية في الإبداع مموهة بالذهب، وذاع خبر الشطرنج حتى وصل إلى أسماع الأذفونش على لسان نبيل من المقربين إليه، فطلب الأذفونش ابن عمار وسأله:

– هل تجيد لعب الشطرنج؟

فأجابه ابن عمار وكان طبقة فيه:

– اشتهر عني بين أصدقائي أني أجيد لعبة الشطرنج.

– قيل لي إن عندك شطرنجًا بديعًا معدوم النظير.

– نعم هو ذاك.

– هل يمكن أن أراه؟

– لا مانع من ذلك، ولكن على شريطة أن نلعب معًا، فإذا غلبتني كان الشطرنج لك، وإذا غلبتك فلي حكمي، وبعد مراجعة وحوار بينه وبين خاصته قبِل الشرط، وجيء بالشطرنج فكان موضع إعجاب الأذفونش ودهشته لجماله ودقة صنعه، وصاح من فرط دهشته وصلَّب إكبارًا له واستحسانًا لصنعه، وقال: «واللهِ ما خطر ببالي قط أن في وسع إنسان أن يبدع في صنع شطرنج بمثل هذه الدقة الفنية العجيبة.»

وظل ينعم النظر، وقد اشتد إعجابه بالشطرنج ثم قال لابن عمار: «أعد عليَّ ما قلت، واذكر ما اشترطته علي.» فأعاد ابن عمار عبارته الأولى فقال الأذفونش: «إني لا ألعب على شرط مجهول، إنك تستطيع أن تسألني أمرًا ليس في استطاعتي أن أجيبك إليه.»

فأجابه ابن عمار بفتور وطوى رقعة الشطرنج وأمر أن تحمل إلى خيمته وقال: «شأنك أيها الملك وما تريد، أنا لا ألعب إلا على هذا الشرط.» وانفصل الاثنان دون اتفاق ولم يدرك ابن عمار الملل، ولم يحل اليأس بينه وبين الوصول إلى إتمام هذه الحيلة السياسية، فقد عمد إلى بعض نبلاء القشتاليين، وأسَرَّ إليهم بأنه إذا ربح الدور لا يطلب مستحيلًا، ووعدهم بمبالغ طائلة إذا هونوا على الأذفونش الأمر، وكانوا في عونه، فاستهوتهم هذه الوعود البراقة، وخلب ألبابهم بريق الذهب، واستوثقوا من الوزير المسلم، وقطعوا على أنفسهم عهدًا بأن يكونوا في صفه، وكان الأذفونش شديد الميل إلى اللعب لثقته من نفسه يتحرق رغبة في الحصول على الشطرنج، فحسنوا له أن يلعب معه، وقالوا له: ماذا عسى أن يطلب هذا مهما اشتط في الطلب؟! وأنت ملك ملوك النصارى فلا ينبغي أن تظهر أمام هؤلاء بمظهر العجز، ومتى غلبته وفزت عليه ظفرت بشطرنج يحسدك عليه الملوك، وهب أنك خسرت واشتط في الطلب فإنا نرده إلى صوابه.

وما زالوا به حتى اقتنع بما أشاروا به عليه، فبعث إلى ابن عمار يبلغه أنه على استعداد لملاعبته، ولما حضر قال له: «قد قبلت شرطك فهيا نلعب»، فقال: حسن، ولكن ليحضر فلان وفلان لرجال سماهم من نبلاء القشتاليين، ليكونوا بمثابة شهود على اللعب، فقبل الملك وأخذا يلعبان إلى أن انتهى الدور بِغَلَب ابن عمار غلبًا ظاهرًا لا مطعن فيه لأحد، فالتفت ابن عمار إلى الملك وقال: «الآن لي أن أطلب حسب الشرط ما أريد.»

فأجابه الملك: «بلا شك، فماذا تطلب؟» قال: «أطلب أن تعود إلى مملكتك، وتكف عن القتال.»

فهاج هائج الأذفونش وأخذ يذهب ويجيء في خيمته، وهو يخطو خطوات واسعة، ثم جلس، ثم نهض قائمًا، وهو في أشد حالات الهياج والقلق، ثم قال لجماعة النبلاء من القشتاليين الذين غرروا به: «ها أنا ذا قد وقعت في الشرك، وأنتم كنتم السبب، وهذا أخوف ما كنت أخافه من طلبات هذا الرجل، لولا أنكم طمأنتموني، وأنا الآن أجني ثمرة مشورتكم الممقوتة.»

وبعد صمت دام لحظات قال: «وما الذي يعنيني من شرط التزمت به لهذا الرجل، أنا لا أحفل بأمر مثل هذا البتة، وسأواصل زحفي.»

فقال القشتاليون: «إن في هذا رجوعًا عمَّا قطعته من العهد على نفسك، ومساسًا بالشرف، وهل تحب أن يتحدث الناس عنك — وأنت ملك ملوك النصارى — أنك نقضت عهدك، ورجعت في قولك؟»

وبعد لأيٍ هدأت ثائرة الأذفونش وسمحت نفسه في النهاية أن يقول لهم: «سأفي بمضمون الشرط، وأنجز ما وعدت به، ولكني لا أرجع بجنودي إلا بعد أن آخذ الجزية عن هذا العام مرتين.»

فقال ابن عمار: «سيكون أيها الملك ما تريد.»

وبادر ابن عمار فحمل إليه مبلغ الجزيتين، وهكذا نجى الله المسلمين من الخوف بتدبير هذا الوزير الكبير ومهارته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤