الفصل السادس

بعد أن قضى المعتضد على حياة «حبيب» وزير أبيه ومشاوره في الحكم، وأصبح منفردًا وحده لا منازع له ولا مشاور، وجه عسكره إلى البربر، وبدأ بجيرانه بربر قرمونة وكانت تعتاده هواجس نفسية، ويجسم عنده الوهم أنه إذا لم يكن على قدم الاستعداد والأهبة لمباغتة أعدائه والقضاء عليهم، فإنهم — بلا شك — قد عقدوا النية، ووطنوا أنفسهم على الإيقاع به، وانتزاع المملكة منه ومن عقبه، وكان بعض المنجمين قد تنبأ بأن جيلًا من الناس سيولد خارج مملكته يكون على يده انتزاعها من أيدي بني عباد، وهذه الظنون التي كانت تذهب به كل مذهب ما برحت تجعله يحاول أن يوقع بالبربر كلما أمكنته الفرصة ليبيد خضراءهم، ويستأصل جرثومتهم، وقد استمرت هذه الوقائع والحروب مدة طويلة قتل خلالها محمد أمير قرمونة، حيث خدع واجتذب إلى كمين وقع فيه (١٠٤٢–١٠٤٣) وكان من نتائجها اتساع المملكة في الجهة الغربية.

وفي سنة (١٠٤٤) قهر ابن طيفور١ واستولى على «مرتولة»٢ ثم هاجم بعده ابن يحيى أمير «لبلة» ولم يكن هذا الأخير من البربر بل كان عربيًّا، وما دام المعتضد يريد أن تتسع رقعة مملكته، فليس يقفه عن قصده أي شيء، ولما ضيق الخناق على ابن يحيى٣ استنجد بالمظفر صاحب بطليوس فتقدم لمعونته فصده المعتضد فلجأ إلى بربر غرناطة وأنشأ يؤلف ضد المعتضد حلفًا قويًّا انضم إليه باديس ومحمد أمير مالقة ومحمد أمير الجزيرة الخضراء، وحدث على أثر ذلك أن أبا الوليد بن جهور الذي خلف أباه كرئيس لجمهورية قرطبة سنة (١٠٤٣) بذل كل ما في وسعه للتوفيق والصلح بين الفريقين فلم يفلح، وذهب سعيه عبثًا، ولم يستمع لرسله الذين أرسلهم لإصلاح ذات البين أحد.

وأعد الحلفاء من البربر خطة الزحف على إشبيلية ريثما يجمعون شتات جيوشهم ويتصل بعضهم ببعض، وعرف المعتضد ذلك فانتهز فرصة وجود المظفر في منطقة نفوذه بعيدًا عن حلفائه بحيث لا يستطيع الدفاع عن نفسه وبلاده، فعمد — أول الأمر — إلى تخريب كورة بطليوس ثم سار مخالفًا عادته على رأس جيشه، وزحف على «لبلة» وهجم أعداءه في مضيق على مقربة من أبواب المدينة، ورد فريقًا منهم إلى «الأحمر»، ولكن المظفر وفق لجمع رجاله، وحمل بهم حملة صادقة اضطرت المعتضد أن يتقهقر نحو إشبيلية، وتمكن المظفر حينئذ أن ينضم إلى حلفائه.

ولكن بينما هو يوقع التخريب في البلاد التابعة لإشبيلية خرج ابن يحيى من حلف هؤلاء، وانضم إلى المعتضد ودخل في حلفه — على كره منه — وقد عاقبه المظفر بالاستيلاء على أمواله التي كانت مودعة عنده، وأعمل السلب والنهب في كورة «لبلة»٤ فاستصرخ ابن يحيى بالمعتضد إشفاقًا على بلاده من التخريب والتدمير، فعمد هذا إلى إرسال جنوده لمقاتلة جند بطليوس، فاستدرجوهم إلى كمين وتمت الهزيمة على عسكر بطليوس، فاضطروا إلى التقهقر، ولم يقتنع بهذا الانتصار بل عمد إلى تخريب جهات «يابره» بواسطة ابنه إسماعيل، ولكن أمير بطليوس أمر أن يتقلد السلاح كل من يستطيع القتال من الرعية، وبذلك تمكن من صد هجمات جيوش إشبيلية، ولما اتصلت به الإمدادات من إسحاق أمير قرمونة سير رجاله لمنازلة العدو، وعبثًا حاول بربر قرمونة أن يقنعوه بالعدول عن عزمه الذي صمم عليه بدافع الغرور والجهل بقوة عدوه، ومما قالوه له: «إنك — بلا شك — لا تقدر جيش إشبيلية قدره، وتجهل وفرة عدده، ونحن أعرف منك بذلك، فقد وصلت إلينا أنباؤه فضلًا عن أننا رأيناه رأي العين، ووقفنا على ما فيه من عدد وعدة.» ولكن تحمس المظفر وحدة طبعه أبيا عليه أن يعمل بمشورة ناصحيه، أو يصدق لهم قولًا، ومضى في سبيله بدافع الجرأة التي كلفته ثمنًا باهظًا، فقد حلَّت به الهزيمة وتقهقر تاركًا ثلاثة آلاف قتيل على أقل تقدير، وكان من بين من قتل في هذه المعركة ابن أمير قرمونة الذي كان يتولى قيادة جيش أبيه، وقد حملت رأسه إلى المعتضد، فوضعها في صندوق مع رأس جد هذا الأمير الشاب.

•••

بعد هذه المعركة المشئومة ظهرت بطليوس مدة طويلة في مظهر مزعج، ومنظر مخيف، تستوحش منه النفس، وينقبض له الصدر، إذ دامت حوانيتها مقفلة، وأسواقها مقفرة، بعد أن قتل في هذه المعركة المستأصلة صفوة أهلها، ومما زاد الحالة سوءًا وبلاء أن الإشبيليين إبان المعركة أتلفوا المزارع ودمروا الحصاد، فأناخت المجاعة بكلكلها على أنحاء المملكة، ولم يستطع المظفر عمل شيء بإزاء هذه الكارثة المجتاحة، وتخلى عنه حلفاؤه بعد أن حاول عبثًا أن يستعين بهم على تخفيف هذه النازلة التي حلت ببلاده، وظل ساكنًا ببطليوس يحرق الأرم، وتتآكل نفسه غيظًا وندمًا.

ومع ما هو واقع فيه من سوء الحالة وتحرجها لم يشأ أن ينزل عن عزة نفسه وإبائها، ويقبل صلحًا شريفًا بواسطة ابن جهور، بينا عدوه الظافر قد أظهر تمام الاستعداد لقبول هذا الصلح.

ولم يكتف بهذا بل تظاهر أنه غير مكترث لما أصابه من خسارة، ولحق ببلاده من أزمة ومجاعة، وبدافع هذا التظاهر الكاذب أرسل إلى قرطبة في طلب قينات — وكن في ذلك الحين نادرات — وبعد عناء البحث اشتريت له اثنتان لم تكونا على جانب من الحسن والبراعة في الغناء. ودهش الناس لركون المظفر إلى اللهو والخلاعة، وهو المعروف بالجد والوقار، والبعد عن العبث وسماع القينات، ولم يدرك القوم كيف أنه يركن إلى اللهو في هذا الوقت الذي تظهر فيه بلاده بمظهر الخراب والاضمحلال، ولكنهم أدركوا السر في هذا السلوك الغامض حين علموا أن المظفر يريد أن يظهر لخصمه أنه في الوقت الذي يستطيع فيه أن يبيع أشياء مملوكة له، كذلك يستطيع — وهو مرتاح الخاطر — أن يشتري مغنيات يلهو بهن.

وبالرغم من هذا كله فقد واصل ابن جهور جهوده للتوفيق بين الخصمين وإبرام صلح شريف عاجل بينهما، وفي شهر يوليو سنة ١٠٥١ كللت جهوده بالنجاح، وتم بوساطته — بعد مفاوضات طويلة — عقد صلح بين المظفر والمعتضد.

وحينئذ وجه المعتضد جميع قواته إلى ابن يحيى أمير «لبلة» الذي انفصل عن حلفائه وعاد وحيدًا دونهم، ولم تكن هذه الحملة حربًا، بل كانت بمثابة نزهة حربية، ولم يحاول «ابن يحيى» — لضعفه عن المقاومة — أن يدافع حتى عن نفسه، بل تحول إلى قرطبة، وعول على أن يقضي بها سائر أيام حياته، وقد عطف عليه المعتضد وأرسل ثلة من فرسانه كحرس له في الطريق.

وأدرك الأمير الذي كان باسطًا حكمه على «ولبة» وعلى جزيرة «سالطس»٥ الصغيرة، وهو أبو عبيد عبد العزيز البكري صاحب كتاب المسالك والممالك أنه قد حان وقته، وجاء دوره، ومع هذا فقد كان يؤمل أن ينقذ من الغرق ما يمكن إنقاذه، فكتب يهنئ المعتضد بانتصاره الجديد، ويطلب إليه أن يدخل في حلفه، ويكون تبعًا له، وأن يتنازل له عن «ولبة» في مقابل أن يترك له «سالطس» ويشرح العلاقات الودية التي كانت بين أسرته وبين أسرة آل عباد، فقبل المعتضد ما تقدم به إليه، وتظاهر بأنه يريد مقابلته، والإفضاء إليه بحديث هام فسافر إلى «ولبة»، ولكن عبد العزيز رأى من الحكمة وصواب الرأي ألا يكون في انتظاره وأن يتحول عنها إلى «سالطس»، وجاء المعتضد فوضع يده على «ولبة» وقفل عائدًا إلى إشبيلية، وترك هناك ثقة من رجاله ليحول دون أن يبرح عبد العزيز جزيرته، أو ينتقل أحد إليه.

ولما عرف عبد العزيز ما وصلت إليه حاله لاذ بالحكمة، وشرع يفاوض عامل المعتضد على «ولبة» يطلب السماح له بالسفر إلى قرطبة، وباع سفنه وذخائره الحربية للأمير الإشبيلي مقابل عشرة آلاف دوكا.

وقد أراد المعتضد أن يخونه ويستدرجه إبان سفره ليوقعه في الشرك كي يستولي على أمواله.

ولكن عبد العزيز فطن إلى قصده، وتمكن بواسطة حراس طلبهم من أمير قرمونة أن يصل إلى قرطبة دون أن يصيبه في طريقه مكروه.

ثم هاجم المعتضد بعد ذلك ولاية «شلب» الصغيرة، حيث كان يلي الحكم فيها العرب من بني مرين وهم الذين كان أجدادهم يملكون الجهات الممتدة في هذا الإقليم، وقد تولوا في عهد الأمويين المراكز المهمة، واستمات أمير «شلب» في الدفاع عن نفسه بكل إقدام وشجاعة، وقد صحت عزيمته على ألا يسلم أو يموت، ولكن جيش إشبيلية الذي كان يقوده محمد المعتمد قيادة اسمية فقط لبلوغه الثالثة عشرة من عمره بالغ في تضييق الحصار على «شلب» إلى أن استولى عليها عنوة. وكان ابن مرين اعتزم أن يفتك بأكبر رأس في الجيش، إلا أن المعتضد بعد أن تمكن منه وهب له حياته واكتفى بنفيه. وبعد أن تم الأمر بالاستيلاء على «شلب» أصدر أمره بالزحف على «شَنْتَمَرِيَّة» القريبة من الرأس الذي يسمى إلى اليوم بهذا الاسم، وهي كورة كان الخليفة سليمان أعطاها لسعيد بن هارون، وكان مجهول النسب لا يعرف أكان من العرب أم من البربر، والرجال المجهول أصلهم في العادة يكونون من الإسبانيين، سكان البلاد الأصليين. بقيت هذه الجهة مع سعيد هذا إلى أن انتقل سليمان إلى جوار ربه، فاستقل بها، ثم خلفه عليها بعد وفاته ابنه محمد، وحين دهمه عسكر إشبيلية لم تكن منه إلا مقاومة قصيرة المدى، ولما تم للمعتضد أخذ هذه الكورة، ضمها إلى «شلب» وأراد أن يلي الحكم فيها ابنه محمد (١٠٥٢).

وبهذه الانتصارات السريعة اتسعت إمارة إشبيلية في الجهة الغربية من جزيرة الأندلس، أما الجهة الجنوبية فلم تكن قد اتسعت بعد؛ لأن أمراء الجنوب من البربر كانوا — في ذلك الحين — مسالمين للمعتضد في الغالب، معترفين بسيادته أو مقرين بخلافة هشام الثاني.

•••

لم يقنع المعتضد بما أصاب من فتوحات اتسعت بها رقعة مملكته، وعد ما تم له من ذلك قليلًا بالنسبة لما يطمح إليه، فسرت إلى نفسه فكرة قتل أولئك الأمراء، والاستيلاء على ولاياتهم، ولكي يكون نجاح أعماله السرية محققًا رأى أن يسلك سبيل الاعتدال والحذر حتى لا يطوح بنفسه في محاولة جريئة، فذهب بعد غزوة «شلب» مع اثنين من الخدم لزيارة أميرين من أتباعه، وهما ابن نوح أمير بني مرين وابن أبي قرة أمير رندة دون أن يعلنهما أنه آت لزيارتهما، وإن مما يبعث على الدهشة أن يلقي المعتضد بنفسه بين مخالب هؤلاء، ويضع نفسه بدون تبصر تحت رحمتهم وهو يعلم ما يكنه له أولئك البربر من عداوة وحقد، والواقع أن المعتضد — في مثل هذه المواقف — لا تنقصه الجرأة والإقدام، وهو على الرغم من خيانته ومخاتلته للجميع، واثق من حسن نيات وتقدير الغير له، فقد قوبل عند بني مرين بكل حفاوة وتجلة، وأعرب له ابن نوح عن فرط سروره وغبطته بما هيأت له الظروف السعيدة من هذه الزيارة التي جاءت على غير انتظار، وأولم له وليمة فاخرة، وبالغ في إكرام وفادته، وحقق له من جديد أنه سيكون له التابع الوفي المخلص على الدوام، ولكن المعتضد لم يقدم على هذه الزيارة لسماع التحايا، وألفاظ التكريم والحب والولاء، بل كان يرمي إلى غرض آخر، وهو جس النبض ليعرف هل يستطيع أن يكسب إلى جانبه بعض أفراد من ذوي النفوذ والجاه؟ إذ قد لاحظ أن العرب يميلون من أعماق صدورهم إلى التخلص من نير البربر، وأنه لا يستطيع التعويل عليهم عند سنوح الفرصة.

وبفضل ما كان يحمله خادماه من الهدايا والتحف والأحجار الكريمة استطاع أن يرشو كثيرين من رجال البربر، دون أن يداخل ابن نوح أدنى ريب في دسائسه.

وبعد أن سر المعتضد كثيرًا من نتائج هذه الزيارة استأنف سفره إلى «رُندة» فقوبل بمثل ما قوبل به هناك من الإجلال والترحيب، ونجحت حيله السرية، وأعماله الخفية فيها كثيرًا، لأن العرب هنا كانوا أكثر تذمرًا من زملائهم بني مرين، وأشد رغبة في التحرر من حكم البربر.

والظاهر أن بني قرة كانوا أصلب عودًا وأكثر جرأة من بني نوح، فقد دبروا للمعتضد مؤامرة رهيبة يكون انفجارها بمجرد الإشارة، ومن الاتفاق الغريب أن تسلم حياته وهي معرضة للخطر في سبيل إنفاذ مشروعه الخطر الجريء، فقد حدث مرة أن تناول معهم الطعام، وأخذوا يحتسون النبيذ وأحس هو — خلال ذلك — بميله إلى الراحة والرقاد، فقال للأمير: «إني أشعر بتعب، وأحس بحاجة إلى النوم، فخذوا أنتم في حديثكم، وامضوا في شرابكم، ريثما أستريح برهة، وآخذ حظًّا قليلًا من النوم، ثم أعود فآخذ مجلسي معكم حول المائدة.» فأجيب إلى طلبه وأعدت له وسائل الراحة، وبعد لحظة كان فيها متناومًا مظهرًا أنه في سبات عميق، طلب بعض رجال البربر من الجالسين أن يصغوا لحظة إلى حديث خطير يريد أن يفضي به إليهم، فصمت الجميع، وقال الرجل بصوت خافت: «يظهر أن عندنا كبشًا سمينًا قد مد صفحته للسكين المشحوذة، وقد واتانا حظ سعيد كنا بعيدين عن إدراكه، ولو أننا بذلنا في سبيل هذه الفرصة ما في الأندلس من ذهب لم يجد ذلك شيئًا، بينما ذلك الطاغية قد حضر بنفسه وأمكنكم من مقاتله، أنتم تعلمون جميعًا أن ذلك الرجل هو الشيطان بعينه، فإذا ما قضينا على حياته لم ينازعنا أحد السلطة في هذه البلاد.»

•••

ولاذ الجميع بالصمت، وأخذوا يتبادلون الإشارة باللحظ، ولا خفاء أن فكرة قتل ذلك الشيطان الذي يمقتونه ويزدرونه، ويعرفون طرقه الملتوية المتعرجة، تقابل بسرور وابتسام من أولئك الرجال الذين مرنوا على القسوة، وشبوا — منذ نعومة أظفارهم — على القتل وسفك الدماء، لذلك لم تبد على وجوههم علامات الدهشة، ولم تلح عليها أمارات الاستنكار والاشمئزاز، وكان من بين هؤلاء جميعًا رجل واحد معتدل المزاج والتفكير قد غلا في رأسه الدم لهذه الفكرة الخاطئة، والخيانة الدنيئة، ذلك الرجل هو معاذ بن أبي قرة أحد أقارب أمير رندة فقد تطاير من عينه الشرر، وأظهر امتعاضًا واشمئزازًا واحتقارًا لفكرتهم هذه المنافية للمروءة وكرم الضيافة، ورد عليهم في تؤدة وثبات بصوت متهدج يغض منه ويخفضه قليلًا قائلًا: «إياكم أيها القوم أن ترتكبوا هذه الفعلة الشنعاء، إن هذا الأمير بزيارته لنا ومجيئه عندنا، قد وثق بنا وأمن جانبنا واعتمد على إخلاصنا ووفائنا له. ومسلكه هذا يدل على أنه يقطع بأنا غير أهل لأن نخونه، أو نخفر ذمته، ولدينا من الشرف وطيب العنصر ما يدعونا لأن نحقق ظنه فينا، وثقته بنا. وبماذا تتحدث عنا القبائل غدًا إذا علموا أننا وطئنا بأقدامنا قداسة حقوق الضيافة، فقتلنا ضيفنا؟ ففكروا أيها القوم مليًّا، وثوبوا إلى رشدكم، ولعنة الله على من يهم بارتكاب هذه الجريمة.»

•••

وقد ترك هذا الكلام في نفوس البربر أثرًا عميقًا، وحرك ما ردده عليهم من واجب الضيافة — في قلوبهم — وترًا حساسًا، يندر أن يتنبه عند أمثال أولئك الطغام من شعوب أفريقية.

وقد مثلوا هذا الفصل والمعتضد في يقظة تامة — وإن كان متناومًا — وقد سمع كل ما دار بينهم من الحديث، ولما حمد الأثر الذي أحدثه كلام معاذ في نفوس الآخرين، واطمأن إلى النتيجة، تظاهر بأنه بدأ يستيقظ، ومضى سريعًا إلى السماط. فوقف الجميع وعانقوه وقبلوه قبلًا مقرونة بالاحترام وإظهار المودة والعطف. وكانت حركاتهم تدل على أن ضمائرهم لم تكن مرتاحة لما هموا به، وأنهم ينطوون على سر مهانتهم من تلك اللحظة التي فكروا فيها بالغدر بضيفهم. ثم تكلم المعتضد فقال: «يجب أيها الأصدقاء، أن أتعجل العودة إلى إشبيلية ولا يفوتني أن أشكر لكم حفاوتكم، وأذكر لكم مبلغ سروري بحسن مقابلتكم لي وترحيبكم بي، وكان يجمل بي أن أقدم لكم بعض هدايا نفيسة تكون عنوانًا على اعترافي بفضلكم وتقديري لكرمكم، ولكني آسف جد الأسف لأن الهدايا — التي كان يحملها خادماي — قد نفدت أو كادت، ولا بأس من إحضار دواة وقرطاس، وليمل علي كل منكم اسمه، وما تميل إليه نفسه من كسى تشريف أو صرر نقود أو جوار أو عبيد أو غير ذلك — مما يدخل في باب التحف وسني الهدايا — وليرسل إلي عند استقراري بعاصمة مملكتي ليأخذ ما يخصه من نفيس تلك الهدايا.» ولما استقر بحضرة ملكه جاءته رسلهم تترى، وعادوا محملين بصنوف الهدايا الثمينة، والحلل الفاخرة، وبذلك توثقت الروابط المتينة، والعلائق الحسنة بين المعتضد والبربر، وتنوسيت الأحقاد والإحن القديمة، وحل محلها الوداد والوئام والصفاء والسلام.

•••

مضت على ذلك ستة أشهر دعا المعتضد بعد انقضائها أمير رندة و«ابن مرين» إلى مأدبة فاخرة أدبها لهما، زعم أنها اعتراف منه بجميل إكرامهما وحسن استقبالهما له، وكذلك دعا من البربر ابن خزرون، وأميري «أركش» و«شريش»، فبادر الأمراء ثلاثتهم إلى إجابة الدعوة، ووصلوا إلى إشبيلية (١٠٥٣) فاستقبلهم المعتضد بحفاوة بالغة، وأعد لهم أسباب النعيم والراحة. وبعد أن ألقوا عنهم وعثاء السفر دعاهم وأكابر أتباعهم إلى الاستحمام بحمامه، وانتحل سببًا لإبقاء معاذ الشاب معه، وكانوا نحو ستين من البربر دخلوا الحمام الذي أعد لاستحمامهم، وبعد أن تجردوا من ملابسهم في الباب الأول، تطرقوا إلى باب الحمام نفسه وهو مماثل لما يوجد الآن من نظائره في البلاد الإسلامية، مغطاة أرضه وجدرانه بالرخام الملون، مكسوة قبابه بأنصاف كرات جوفاء من زجاج غير صقيل لإرسال الضوء إلى أسفل، في وسطه نافورة تمج الماء إلى أعلى، وفي جوانبه مغاطس مملوءة بالماء الساخن، وصنابير بارزة في الجدران، بعضها يصب منه ماء بارد، وبعضها متصل بمرجل الحمام يصب منه ماء ساخن قد وصل إلى درجة الغليان.

وبينما المستحمون يلتذون بهذا النعيم الذي هيأ لهم أسبابه المعتضد إذ شعروا بحركة خفيفة غير عادية ظنوها حركة بنَّائين أو وقَّادين منصرفين إلى عملهم، فلم يعيروها اهتمامهم — لأول وهلة — ثم صارت الحرارة بعد برهة قليلة تتزايد إلى أن شعروا بالدوار وأحسوا بالضيق، فتلمسوا الباب يفتحونه، فوجدوه محكم الإرتاج وكأنما بني عليهم من خلف، ولما يلبثوا إلا قليلًا حتى ماتوا جميعًا نتيجة الاختناق.

ومكث معاذ طويلًا يترقب عودة الأمراء والصحب ثم انتهى به الأمر إلى القلق والضجر، ثم تجاسر فسأل المعتضد عن السبب الذي من أجله تأخروا هكذا مدة طويلة، فأفضى إليه المعتضد بالسبب وصرح له — وقد اربد وجهه، وشاع فيه الغضب — بقوله: «لا خوف عليك، أما أولئك الخونة من أهلك وعشيرتك فقد استأهلوا العقاب، واستحقوا ما حل بهم من هلاكهم خنقًا في الحمام لتآمرهم على قتلي حين كنت بضيافتهم. وثق أنني كنت متناومًا إبان تآمرهم على قتلي، وقد سمعت كل ما دار بينهم من الحديث في هذا الموضوع الخطير، كما استحسنت كلامك في هذا الصدد، ولست أنسى ما حييت ما أنا مدين لك به من هذا الجميل الذي طوقتني به، وأنت مخير الآن بين البقاء هنا حيث أقاسمك جميع ما أملك — إن شئت — وبين العودة إلى وطنك، وإذا اخترت العودة ورغبت في الإقامة برندة، فلك مني أن أغمرك بسني الجوائز ونفيس الهدايا.»

فقال معاذ بصوت يشف عن حزن عميق: «وكيف العودة يا مولاي إلى الوطن، وكل ما فيه يمثل لي ذكرى من فقدتهم؟» فقال المعتضد: «عليك إذن أن تقيم بإشبيلية آمنًا لا تخاف شيئًا.» وكلف بعض رجال حاشيته أن يعمل على إعداد قصر لإقامة معاذ وأمر له بألف قطعة من الذهب نقدًا، وعشرة من صافنات الجياد، وثلاثين جارية، وما يقرب من هذا العدد من العبيد، ثم توجه إليه بقوله: «وسأمنحك فوق هذا عشرة آلاف دوكا مرتبًا سنويًّا.»

•••

وبقي معاذ بإشبيلية، وهو محل عناية المعتضد وعطفه، فكان يبعث إليه كل يوم بهدايا غالية نفيسة بالغة في الإبداع، يندر أن توجد إلا في خزائن الملوك، وكان في غالب الأحيان التي يجتمع فيها بوزرائه ومشيريه للاستشارة في أعمال الدولة يجعل لهذا الذي أنقذ حياته المكان الأول في الشورى والرأي.

•••

وبعد أن انتهى المعتضد من تمثيل هذا الدور ووضع رءوس القتلى في صندوق بين رءوس ضحاياه التي كان يتمتع بإلقاء نظرات السرور عليها، أرسل جيشًا للاستيلاء على بني مرين وأركش وشريش وجهات أخرى. وقد نجح الجيش في مهمته من غير أن يعاني صعوبة بفضل مساعدة أهل تلك الجهات من العرب، والخونة الذين اشتراهم المعتضد بالمال. إلا أن الاستيلاء على رندة حيث خلف أبو النصر أباه فيها لم يكن من السهل، فقد كلف جيش المعتضد جهدًا وعناء أكثر من غيرها، ولأنها كانت قائمة على ربوة جبل شاهق تحيط بها وهاد وطرق وعرة تجعل الوصول إليها صعبًا.

ولكن حدث أن العرب ثاروا على البربر وتحمسوا لقتالهم وأعملوا فيهم سيوفهم. وحاول «أبو النصر» نفسه الفرار — طلبًا للنجاة — فتردى في هوة عميقة، إذ بينما كان يتسلق السور زلت به قدمه فهلك.

•••

وقد أحدث الاستيلاء على رندة وحدها في نفس المعتضد سرورًا عظيمًا، فبادر إلى تحصينها، وجعلها أقوى منعة مما كانت عليه. ولما تم له ما أراد من تحصينها، وذهب بنفسه لمعاينتها تملكته نشوة سرور وارتياح جعلته ينظم فيها شعرًا مضمونه: «أنت الآن قد بلغت في التحصين الغاية، ولا شك أنك قد صرت أثمن درة في تاج المملكة، وقد استولى عليك جنودي البواسل بأسنة الرماح، وظبا السيوف.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤